الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجه العظمة ونستخلص مدى الأثر حين نعرض لتلك المرأة وما نالها في هذه الدول من خير أو شر. وننتقل بمعونة الله وتوفيقه إلى ذكر
الديارات
المنبئة في بلاد العرب وما أنشئت له من غاية، وما كان لها من أثر.
الديارات
كان الفرس فيما قصدوا إليه من نشر وبث حضارتهم ينزعون إلى غاية واحدة هي إخماد العصبية العربية ليتم لهم ما أرادوا من إعادة مجدهم الغابر، وملكهم القديم، وما عليهم من سبيل أن يرتدوا لبوس الدين طائعين أو خادعين؟.
أما الروم والسريان ومَنْ سواهما من نصارى المشرق والمغرب، فقد كان همهم من العرب غيرهمَّ الفرس منهم. غاية هؤلاء أن ينقُضوا دعامة الإسلام ليشقوا الصفوف للنصرانية في بلاد العرب، فأخذواُ يقلبون للإسلام وجوه الحيلة ويفوَّقون عليه سهام الغيلة، ويحشدون عليه جيوش التدبير، ولكنهم قوم أولو سياسة ودهاء، فهم لا يخطبون في حفل، ولا ينطقون في جمع، ولا يبعثون كتابا، ولا ينمقون صحيفة، ولا يبادهون أحداً برأْي، ولا يشافهون أحداً بمكروه. بل أخذوا يمزجون العسل المصفى في السم المذاب، وأنشئوا يبثون الشكوك والشبهات في مزاج من المآرب والشهوات. وذلك ما أعدوه في ديارتهم التي نثروها في كل مكان من بلاد العرب.
وكانت عناية القوم بتنظيم ديارتهم وتنسيقها واختيار مواطنها الصالحة لها مما يفوق كل عناية، وأكثر ما تكون في أربض المدن وبين شتات القرى وعلى طرق القوافل، وفي منقطع الصحراء، وفوق سفوح الجبال، وفي كل مكان يكون انتياب الناس له وتواردهم عليه.
وعلى الرغم من تكاثر الديارات وانشعاب مواطنها وترامي قواصيها وتباين بلادها كانت كلها على نسق واحد من الجمال الغض الذي تنساق النفوس الزكية إليه ويحلو العيش فيه. فهنالك في نجوة من الأرض تجد خميلة من الزهر فعكفت عليها ظُلة من الكرم وانبعثت من ورائها أصوات ندية بجَمَّلها إيقاع جاوز غاية الإبداع؛ منظر يستهوي السمع والبصر ويستخف الأجسام والأحلام، حتى إذا دخلها الداخل - وهي لا تمتنع على قاصد - وجد النسيم بارداً خفاقاً والماء صافياً
سلسالاً والخمر صرفاً معتقة، ووجد فوق ذلك كله إن شاء طعاماً هانئاً ومناماً هادئاً، وليس ذلك بشيء في جانب ما يسلب نهاهم من وَلهَ العشق وفتنة الجمال.
ولشدّ ما غشيت تلك الديار بذوي الأخطار من خلفاء الودلة وأمرائها وساستها ووزرائها وكتابها وشعرائها، فكان لهم منها مآرب طيب وجدوا فيه كل ما تشتهي النفس من مطاعم ومشارب وأغراض ومأرب ينبئك عنها ما سار من شعرهم في وصف تلك الديارات وأفنائها وحسناتها وما أصابهم تحت ظلالها من حب شرد أحلامهم وسهّد أجفانهم وأحرق أكبادهم، وبين هذه المنايا وتلك النمى أثيرت روح الشبهات على الإسلام وعصفت ريح الزندقة والإلحاد. وليس من الحق أن نتهم العلم الذي نقله العرب عن أمم الحضارة بإثارة الشكوك والرَّيبِ فما عرف عن أئمة هذه العلوم إلا الدين الصريح الصحيح، وإنما الملحدون جماعة من الشعراء والمتأدبين والمتبطلين وأشباه المتعلمين ممن ألفوا غشيان تلك الديارات وأقاموا فيها ما أقاموا ثم انثنوا عنها بلا قلب ولا لب ولا دين ولا عقيدة. على أن الذي يعنينا الآن من هذه الديارات أن العرب أصيبوا فيها بنوع من الفتنة أشجى قلوبهم وأطال عناءهم لأن هذا الجمال الذي رأوه لم يكن مما ابتذله عيونهم وملكته أيمانهم. وكثير من ذوي الرأي والعلم كان يذهب إلى تلك الديار فيقيم فيها ما شاء
أن يقيم فإذا انصرف عنها شغفه الحب وشغله النوح عن بيته وآله. وما ظنك برجل من خاصة رجال الملك يسير في ركاب مولاه سميراً ونديماً حتى يبلغ ديراً فينفتل إليه ليلهو بالنظر إليه لحظة ثم يعاود فما هو إلا أن قدّموا له الشراب والطعام والكأس والنَّدام حتى ينسي الملك فيشرب وينام، وذلك ما يحدث به إسحاق بن إبراهيم الموصلي فيما رواه عنه صاحب الأغاني، قال:
خرجنا مع الرشيد يريد الرَّقة فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا وخرج يتصيد وخرجنا معه فأبعد في طلب الصيد، ولاح لي دير فقصدته وقد تعبت
فأشرفت على صاحبه فقال هل لك في النزول بنا اليوم؟ فقل إي والله وإني إلى ذلك لمحتاج، فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني - وكان شيخاً كبيراً وقد أدرك دولة بني أمية - فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض عليّ الطعام فأجبته، فقدم إليّ طعاماً من طعام الديارات نظيفاً طيباً فأكلت منه، وأتاني بشراب وريحان طري فشربت منه، ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أرَ أحسن وجهاً منها ولا أشكل، فشربت حتى سكرت ونمت وأنبهت عشاء فقلت في ذلك:
بدير القائم الأقصى
…
غزال شادن أحوى
بَرَي حُبَّي له جسمي
…
ولا يعلم ما ألقى
وأكتم حبه جهدي
…
ولا والله ما يخفي
وركبت فلحقت بالعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد، وأخبرت بذلك فغنت في الأبيات ودخلت إليه، فقال لي أين كنت ويحك! فأخبرته وغنيته الصوت فطرب وشرب حتى سكر وأخّر الرحيل في غد ومضينا إلى الدير ونزله فرأى الشيخ واستنطقه ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه ودعا بالشراب وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن
تتولى خدمته وسَقيه ففعلت، وشرب حتى طابت نفسه، ثم أمر للدير بألف دينار وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين فرحلنا، فلما صرنا من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها فأقمنا بها أياماً وطلبني الرشيد فلم يجدني، فلم رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي أين كنت؟ طلبك أمير المؤمنين فأخبرته بنزهتنا فغضب وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت:
إن قلبي بالتل عزاز
…
عند ظبي من الظباء الجوازي
شادن يسكن الشآم وفيه
…
مع ظَرف العراق شكل الحجاز
يا لقومي لبنت أصابت
…
منك صفو الهوى وليست تجازي
وغنيت فيه، ثم دخلت على الرشيد وهو مغضوب فقال أين كنت؟ طلبتك فلم أجدك! فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه فتبسم وقال عذر وأبيك أي عذر، وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر، فلما وصلت إلي رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا فوافيت فدخلت وإذا ابن جامع يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ، فقال لي يا ابن الموصلي أتدري ما جاء بنا فقلت لا والله ما أدري، فقال لكن والله أدري دراية صحيحة جاءت بنا نصرانيتك. . . عليك وعليها. . . وخرج الآن فأذن لنا فدخلنا، فلما رأيت الرشيد تبسمت فقال لي ما يضحكك فأخبرته بقول ابن جامع فقال ما صدق ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه، فعودوا بنا فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا.
ذلك مثل من حديث الديارات، ومثله جم كثير، وما نحاول أن نتهم تلك المعابد بأنها كانت من مباذل القوم ودور خلاعتهم، ولا بأن رهبانها أباحوهم ما أرادوا من لهو ومجانة، ولكنهم وجدوا فيها فنّاً من الجمال لم يحوزوه في بيوتهم،