الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دور المآثم
وامتد لسان الفتنة وأمعنت وسائل العبث حتى انبثت بيوت الدعارة وهي التي كانوا يدعونها بيوت الكشاخنة بين دور الحرائر في أشتات الحواضر، وكانت أثراً محتو ما من آثار أحكام الترف وتفاقم الشهوات وازدياد الجواري عن حاجة المحتاج، وكان ظهور تلك الدور في دار السلام أكفى دليل على عتوّ ريح الشهوة وإمعان سلطانها في النفوس. وقد بسط الجاحظ في رسالة القيان حديث تلك البيوت وذكر كيف تستباح فيها الأعراض وتنتهك فيها الحرمات. والعجب أن ترى رجلا من سمار الملوك وندمائهم وذوي المنزلة الدانية منهم مثل إسحاق الموصلي يذيع شعره في رثاء امرأة من صواحب تلك البيوت، وذلك ما يقوله في هشيمة الخمارة:
أضحت هشيمة في القبور مقيمة
…
وخلت منازلها من الفتيان
كانت إذا هجر المحب حبيبه
…
دبت له في السر والإعلان
حتى يلين لما يريد قياده
…
ويصير سيئه إلى الإحسان
هذا إسحاق نديم الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق ومغنيهم وشاعرهم فمن منهم تنكر له أو تغير عليه من أجل ذلك؟!
وكما ذاعت بيوت الدعارة في حواضر البلاد ذاعت كذلك الحانات في غير سر ولا استخفاء، وما ظنك بالخليفة الواثق يعقد حانتين إحداهما في دار الحرم ليغشاهما ويمتع نفسه بما يقال وما يدار فيهما، وإليك فاسمع حديث صاحب مسالك الأبصار في سياق ذلك:
قال محمد بن حمدون: كان الواثق يحب المواخير وما قيل فيها وما غنى به في ذكرها، فعقد حانتين إحداهما في دار الحرم والأخرى على الشط وأمر بأن يختار له خمار جميل المنظر حاذق بأمر الشراب ولا يكون إلا نصرانيا من أهل قُطْرَبُلّ فأتى بنصراني له بنان نظيفان مليحان وابنتان بهذه الصفة، فجعلهم الواثق في الحانتين وضم إليهم خدما وغلماناً وجواري رومية وأخدم النساء حانة الحرم وعلق
عليهما الستور وجعل فيها الأواني المذهبة والدنان المدهونة فكأننا أحسن منظر وأبهاه.
فلما فرغ منهما أمر بإحضار المغنين والجلساء ولم يدع أحداً من ضُرَّاب الطنابير إلا أحضره وحضرنا وخرج الخمار هو وأولاده معه عليهم الأقية المسهمة وفي أواسطهم الزنابير المحلاة ومعهم غلمان يحملون المكابيل والكيزان والمبازل في الصواني. وأخرجت تلك الدنان المذهبة فأقيمت بإزاء المجلس الذي كان فيه جالساً فُبزلت كما يفعل في الحانات وجعل يُؤتي بالأنموذجات فيذوقها ويعرض ذلك على الجلساء فيختار كل منهم ما يشتهيه فيأخذ دنّاً إلى الخمار ويكتال منه بمكيال في إنائه كما يفعل في المواخير ويوضع على رأس الحضور أكاليل الآس وما أشبهه من الرياحين.
فشرب الواثق شرباً كثيراً وأمر للخمار بألف دينار ولزوجته بألف دينار ولكل واحد من أولاده بخمسمائة دينار.
وحكى الحسين بن الضحاك قال: قال لي الواثق: هل لك في حانة الشط؟ فقلت إي والله يا أمير المؤمنين! فقام إليها فشرب وطرب وما ترك أحداً من الجلساء
والمغنين والحشم إلا أمر له بصلة، وكان من الأيام التي سارت أخبارها وذكرت في الآفاق.
فلما كان من الغد غدوت عليه فقال: أنشدني يا حسين شيئاً قلته في يومنا هذا الماضي فأنشدته.
يا حانة الشط قد أكرمت مثوانا
…
عودي بيوم سرور كالذي كانا
لا تفقدينا دَعابات الإمام ولا
…
طيب البَطالة إسراراً وإعلانا
ولا تخالُعَنَا في غير فاحشة
…
إذا تُطَرَّبُنا الطيور أحيانا
وسلسل الرطلَ عمرو ثم عم بنا الس
…
قيا فألْحَقَ أخرانا بأولانا
سقيا لعيشك من عيش خصصت به
…
دون الدساكر من لذات دنيانا
قال فأمر الواثق بِصلة سنية مجددة واستحسن الشعر وأمر أن يغَنَّى فيه.
ومن ذلك الغور العميق أصيبت الدولة العباسية بالداء الدويّ والنازلة المُضنية. والحق أن هذا العصر العباسي سما بالعقل الإنساني من طريق العلم والتفكير. إلى أبعد الآماد وأقربها من الكمال، فهم قد ترجموا علوم الأمم السالفة وناقشوا مسائلها وابتكروا علوماً سواها في أقل من خمسين عاماً، وهم قد تناولوا الأدب العربي فهذبوه وجّملوه وألبسوه حلة مذهبة اللفظ ضافية الخيال، وهم بحثوا في الكتاب والسنة وقيدوا منها مسائل التشريع وابتدعوا ممن العلوم ما يكشف عن أسرار القرآن الكريم ويوضح مقاصده ويبحث علومه وحقائقه، ولكن ضعف النفش يطغي على قوة العقل فيقسرها كما تشيع آفة النبات في العود الناضر فتضنيه وتقصفه ثم تسرى منه إلى المرج الخصيب فتفتك به وتذهب بريحه.
وكان في الدولة البررةُ والأتقياء، ولكن التقي والبر يكمنان في الفتنة العاصفة ويسكنان في الهيضة الجامحة ويخشيان صولة الألسنة الباغية. وماذا يقول البررة
الأتقياء في هذا العهد وهم يرون إمام العراق أبا حنيفة ينكر على الشاعر الخليع يحيى بن زياد بعض خلاعته فيجيبه يحيى بقوله:
إن كان نسْكُك لا يتم
…
بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي كيف شئ
…
ت مع الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني
…
وأنا المقيم على المعاصي
أيام نأخذها ونع
…
طي في أباريق الرصاص
فيسمع الإمام بعض هذه الأبيات فيبكي إشفاقاً على نفسه من لوثة ذلك الشعر ومن إذاعة هذا السوء ويرسل إلى الشاعر من يستوهب منه نفسه فبعد لأي يهبها له.
هذا مثل من احتكام الشر والفجور بالتقي ونموذج من غلبة صوت المجان
والخلعاء على وعظ البررة الأتقياء فأيهم بعد ذلك يقوم على النصح ويهم بالإرشاد؟ على أن الفقهاء والعلماء نالوا كذلك من طيبات هذه الحياة ونعموا بمناعمها وإن وقف أكثرهم عند حد السائغ البريء من هذه الحياة. ولكن هذا السائغ البريء إذا سرى في رجال الدين قعد بهم عن احتمال البلاء ومعاناة الأذى في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك ما كانوا عليه في هذا العصر الحافل بالمناعم والمآثم.