الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرأة الأندلسية
ابتعد العرب بانتقالهم إلى الأندلس عن أكثر ظواهر الحياة العربية الأولى، فهم من مهبطهم الجديد في خميلة نشر الله عليها من سمات الحسن وآيات الجمال ما يستقيد العين والنفس والقلب والخيال، حتى خيل لشاعرها أن يقول:
يا آل أندلس لله درّكم
…
ماء وظل وأنهار وأشجار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
…
ولو تخيرت هذا كنت أختار
لا تثقوا بعد ذا تدخلوا سقرا
…
فليس تُدخل بعد الجنة النار
وهم فوق ما نعموا به من زهو الطبيعة وجلوة الأرض، نعموا كذلك بالكثير الموفور من رفاهة العيش وإغداق النعيم، لَمِا آل إليهم من كنوز القُوط ولما حوته أرضهم وديارهم من أفانين الثراء وأسباب النعماء.
وقد أصبحوا بهبوطهم تلك البلاد في نجوة من بلادهم لا يصلهم بها إلا الوفود المتردّدة بين الشرق والغرب على بعد ونأي المزار، وأمّا جيرانهم الأدنَوْن وخلطاؤهم الأقربون فهم أهل البلاد الصميمون الذين تمتعوا بأوفى نصيب من بُلهْنية العيش ولذات الحياة وما يقتضيه كل ذلك من سرف وترف ولهو ونعيم.
وعلى الرغم من ذلك سار الأمويون في الأندلس دهراً طويلاً على مسار أسلافهم في الشرق من الاحتجاز بأنفسهم عن الأمم المغلوبة لعصبيتهم ووقاية لأنسابهم وحماية لأخلاقهم أن يوهنها الضعف والانحلال.
وفوق ذلك لبث الأمويون يطفئون الفتن ويخمدون الثورات ويدفعون العدوّ المتوثب على الثغور أمداً طويلا فلم يرخوا أعنة اللهو إلى حدّ بعيد كما كان العباسيون يفعلون، حتى إن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر وهو الذي رفع
الأندلس إلى الذروة العليا من عزة الجانب ونضارة الحضارة وطيب العيش ونعيم الحياة لم يصف له من دهره - كما قال - إلا أربع عشرة ليلة، وقد أقام في الملك خمسين عاماً.
وبحقٍّ لقد استحظى كثير من ملوك بني أمية كثيراً من الجواري الروميات والصقالبيات وبذلوا لهن أفضل ما يتمنين من رغيد العيش وبعيد الآمال، ولكنهن لم يفسدن العنصر العربي لأنهنّ لم يكنّ بالكثرة التي تمكنهن من غلبة الرجال على أمرهم وإفساد ما بينهم وبين نسائهم، ولم يكن من خلابة الفارسيات ولباقتهنّ واحتوائهن على ألباب الرجال في قليل ولا كثير، ذلك إلى أنهن لم يكنّ يعتمدن - كما كان الفارسيات يعتمدن - على فريق من الرجال يشدّون أزرهنّ، ويُنْهجون طريقهنّ، ويستثمرون نفوذهن في بيوت الخلفاء والوزراء.
لم يكن أولئك الجواري إذاً سوى وسائل لهو وأدوات زينة، لأنهنّ لم يملكن من أسباب اقتياد الرجال إلا الجمال وحده، وللمتعة بالجمال حدّ ينتهي إليه، ومهما بلغت فإن غايتها إلى ابتذال وملال.
ولم يكن ذلك العهد الأموي بالأندلس عهد لذات مجترَحَة ولا حرمات مباحة ولم يظهر من الناس من دأُبه قذف المحصنات، وإشاعة الفاحشة بين الناس كما كان يفعل ذلك شعراء الفرس وأدباؤهم في بغداد لتوهين الأعراض وإباحة الحرمات.
وكان للدين سلطان مبين على الأعلياء والدَهماء، ومما زاد الروح الديني استطارة واستفاضة تلك الشوكة العظيمة التي كان المسلمون يقابلون بها عدوان الجلالقة وغيرهم من المترصدين للعرب والإسلام.
من أجل ذلك لم يكن طريق المرأة الأندلسية وعراً ولا ضيقاً حرجا، بل كان واضحاً قصداً وصراطاً قويما، لا لغو فيه ولا تأثيم، فلم يكن بدعا أن تسير