الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد حدّثتك حديث الخلق النسوي في هذا العصر وانه بقي في جملته مستمسكا مستقيما وإن كانت عوامل الضعف لبثت تغالبه من كل جانب وتحيط به من كل سبيل.
ومهَّد انقسام الأندلس وقيام ملوك الطوائف للعدوّ المترصد سبيل الظفر بالمنقسمين، وبدأت النازلة الفادحة والخطب الجلل يهويان على البلاد في أخريات هذا القرن منذ استباح الأذفونش طليطلة من صاحبها ابن ذي عام 478، ومن هنالك أخذ العدوّ المتغلب يجدّ في شططه وأخذ سلك البلاد ينتشر من وسَطَه كما قال الشاعر ابن العسال:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس
…
فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أَطرافه وأرى
…
سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه
…
كيف المقام مع الحيَّات في سفط
وكذلك بدأت دعائم الخلق تهتز وأنشأ صرح الحياة يمبد.
بعد القرن الخامس
ألا مسعد منجدٌ فِطَن
…
يُبَكي بدمع معين هَتِن
جزيرةُ أندلس قَدْ سَطَت
…
عليها غوائل حقد الزمن
ويندب أطلالها آسفاً
…
ويرثي من الشعر ما قد وهن
ويبكي اليتامى ويبكي الأيامى
…
ويحكي الحمام ذوات الشجن
ويشكو إلى الله شكوى شج
…
ويدعوه في السر ثم العلن
وكان رباطاً لأهل الهدى
…
فعادت مناطاً لأهل الوثن
وكان معاذاً لأهل التقى
…
فصارت ملاذاً لمن لم يدِن
وكانت شَجي في حلوق العدى
…
فأضحت لهم ما لها محتجن
ذلك بعض ما رثيت به الأندلس في القرن السادس الهجري أي قبل أن يحل بها القضاء الأخير بقرنين كاملين، فقد أخذ العدوّ يوغل في قلب البلاد وأخذ أولئك المتملكون يلقون إليه بالمودّة، ويتقدّمون إليه بالجزى، ويستعين به بعضهم على بعض، ومن لم يستعن به استصرخ المغيرين من ملوك فاس، وترك أهل الأندلس تلك القوى المتدافعة تتناجز على البلاد وراحوا يلهون ويلعبون، ويشربون ويطربون ويسبحون في مضمار الخلاعة أرسانا، ويستبقون في ميدان البطالة فرسانا، واستشرفوا إلى الجواري والروميات والمهاجرات المغربيات يتَسرّونهن ويستولدونهن، وغادروا المرأة الأندلسية تندفع فيما هم مندفعون، وتشرب بالكأس التي يشربون بها، فالتاثت الأخلاق، واضطربت الأعراق، وفترت الحمية، وضاع الحِفَاظ.
وبدءوا يتشبهون بالفرنجة فيما أمكنه أن يتشبهوا به، وماذا يملك الضعيف الذليل من التشبه بالقوى العزيز؟ ليس إلا المظاهر الجذابة من زي يبسطه عليه. أو كلمات من لغته يتقرّب بها إليه، أو إنحاء بالطعن على أهل ملته وعشيرته، أو لجاج في البراءة من آداب دينه وأمّته، فأما الدأب في العمل والإمعان في الثبات والتضحية في الواجب وفناء الواحد في عز الجماعة، والطاعة في غير ذل،
والبذل في غير رياء، فذلك ما لا يملك الضعيف أن يتشبه بالقوى فيه. لأن النفس واهنة، والعقل مضطرب. والقلب رخو مريض. وكذلك فعل الأندلسيون فقد غلوا في التشبه بالفرنج في عامة مظاهرهم، فلبسوا برانسهم، واعتمروا قلانسهم، ومضغوا ألفاظهم، وتزوّجوا الدنيات من نسائهم.
وأول من سن طريق الغلو في اقتفاء الهين القريب من مظاهر الفرنجة محمد ابن سعد بن مردنيش الجذامي أمير شرقي الأندلس في منتصف القرن السادس،
وذلك ما يقوله عنه الوزير لسان الدين بن الخطيب في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة وآثر ابن مردنيش زي النصارى من الملابس والسلاح واللُّجُم والسروج، وكلف بلسانهم، وألجأه الخروج عن الجماعة والانفراد بنفسه إلى الاحتماء بالنصارى ومصانعتهم، والاستغاثة بطواغيتهم، وصالح صاحب برشلونة لأول أمره على ضريبة وصالح ملك قشتالة على الأخرى، فكان يبذل لهم في السنة خمسين ألفاً من المثاقيل، وابنتي لجيشه من النصارى منازل معلومات!! وحانات للخمور! وأجحف برعيته لأرزاق ممن استعان به منهم، فعظمت في بلاده المغارم وثقلت؛ وأما رسوم الأعراس والملاهي فحالاتها عجيبة.
حدّث بعض المؤرخين عن الثقة قال: كنت بحيان مع الوزير أبي جعفر الوقشي فوصل إليه رجل من أهل مرسية كان يعرفه، فأساله الوزير عن أحوال ابن مردنيش وعن سيرته، فقال الرجل أخبرك بما رأيت من جور عماله وظلمهم، وذلك أن أحد الرعية بشاطبة واسمه محمد بن عبد الرحمن كان له بنظر شاطبة ضُيَيعة يعيش بها، وكان لازمها أكثر من فائدتها، فأعطى لازمها حتى افتقر، وفر إلى مرسية، وكان أمر ابن مردنيش أن من فرّ من الرعية أمام العدوّ أخذ ماله للمخزن، قال الرجل فلما رحلت إلى مرسية فارّاً عن وطني خدمت الناس في البنيان، فاجتمع لي مثقالان سعديان فبينما أنا أمشي في السوق وإذا بقوم منأهل بلدي شاطبة، فسألتهم عن أولادي وزوجتي، فقالوا إنهم في عافية، ففرحت فرحاً عظيماً وسألتهم عن الضييعة، فقالوا إنها باقية عند أولادك، فقلت لهم عسى أن
تبيتوا عندي الليلة، فاشتريت لحماً وشرابا وضربنا دفا، فلما كان عند الصباح إذا بنقر عنيف بالباب،
فقلت من أنت! قال أنا الطرقون الذي بيده قبالة اللهو، وهي متفقة بيدي، وأنتم ضربتم البارحة الدف فأعطنا حق العرس الذي عملت، فقلت والله ما كان لي عرس فأخذت وسجنت حتى لافتديت بمثقال من الذي خدمت به وجئت إلى الدار فقيل له إن فلاناً وصل من شاطبة الساعة فمشيت لأسأله عن الدار وعن قرابتي وعرفته بالأمر الذي طرأ على وبكيت طول ليلتي وبكى معي، فلما كان من الغد إذا بناقر بالباب، فخرجت فإذا أنا برجل فقال أنا صاحب المواريث أعلمنا أنكم بكيتم وأنه قد مات لكم ميت من قرابتكم غنى وأخذتم كل ما ترك، فقلت والله ما بكيت إلا نفسي، فكذبني وحملني إلى السجن فدفعت المثقال الثاني.
ذلك بعض ما يحدث في عهد التياث واضطرا به وانحراف الأمر وانقلابه على أن ما أصاب البلاد من فتنة ناشئة وشر وبيل لم يثن مثله هؤلاء عن الاندفاع في اللهو إلى قرار الهاوية.
وأصبح الاندماج في الفرنج بالمظاهر والعادات وبالملق والرياء سنة مسلوكة وطبعاً مألوفا عند أهل الأندلس، ومن العجب أن عالما ضليعاً كعزيز بن خطاب يُوَلي مُلك مُرسية لعلمه وفضله، فإذا جاءه الخطباء ليخطبوا له بالملك استمع أقوالهم حاسر الرأس كما كان يعمل ملوك الفرنج.
وكان ابن هود ملك الأندلس يسير في أشتات بلاده حاسر الرأس، وعلى هذا السبيل كان بنو الأحمر ينهجون.
وكان علماء الأندلس يرخون ذوائبهم، ولم يسمح لغيرهم أن يفعل ذلك سيراً على سنة الفرنج في رجال الأدب والفنون منهم.
ولبس النساء المناطق الأسبانيولية! واعتمرن القبعات الأسبانيولية، وخرج الفتيات
حواسر الرءوس كواشف الصدور على مثال الأسبان، وفي كثير من الصور
التي خلفها الأندلسيون منقورة في الجدران أو منقوشة في الزجاج أو مرقومة على الثياب أو محفوظة في الكتب والرقاع ما يدل على انسياق المرأة الأندلسية في مساق الأسبانية وانخلاعها عن تقاليد السلف الصالح من الأمهات الأندلسيات. ورغم ما تورطت فيه امرأة هذا العصر من تهور واندفاع لم تكن بنجوة من العلم والأدب، فقد نالت منهما أكثر مما نالت في عصورها السالفة، ولكن ويل للأمة من المرأة العالمة التي لا خلق لها ولا دين.
وأستاذة الشواعر في العصر الأندلسي الأخير حفصة بنت الحاج الركونية، وهي إحدى شريفات غرناطة الظاهرات بوفر المال وفرط الجمال وما تزدان به المجالس من حسن المساجلة ولهو الحديث. ولذلك لم يكن بدعاً أ، يغدو في أثرها كثير من نساء هذا العصر، وكانت نشأتها في القرن السادس وعمرت إلى منتهاه.
وكانت حفصة في شعرها متدفعة غير متجملة ولا محتشمة، لأنها إنما تحكي صورة هذا العصر وتنزع عن غايته، وكانت تذيع هذا الشعور فيرويه الناس عنها وهم بها معجبون.
ومن شعرها ما كتبته إلى فتى اشتهرت به:
أزورك أم تزور فإن قلبي
…
إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مَورد عذب زلال
…
وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أمّلت أن تظمأ وتضحي
…
إذا وافى إليك بي المقيل
فعجّل بالجواب فما جميل
…
إباؤك عن بثينة يا جميل
ومن شعرها وقد أرسلته إلى الأمير أبي سعيد في مجلسه أنسه:
زائر قد أتى يجيد الغزال
…
مطلع تحت جنحه للهلال
بلحاظ من سحر بابل صيغت
…
ورضاب يفوق بنت الدوالي
يفضح الوردَ ما حوى منه خدٌّ
…
وكذا الثغر فاضح للآلى
ما ترى في دخوله بعد إذن
…
أو تراه لعارض في انفصال
ومن شعرها:
سلام يُفَتح زهر الكما
…
م وينطق بالشدو ورق الغصون
على نازح قد ثوى في الحشا
…
وإن كان تحرم منه الجفون
فلا تحسبوا العبد ينساكم
…
فذلك والله ما لا يكون
ومما نسب إليها:
أغار عليك من عيني رقيبي
…
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني
…
إلى يوم القيامة ما كفاني
وعلى سنن ما أسلفت لك سارت المرأة الأندلسية بعد القرن السادس جامحة النفس مخلوعة العذار، ووهنت منه قوة الدين وخفر الحياء، وهدمت ركن البيت ومزقت آصرة الأسرة، وهي الغارس والأمة الغَرس، والباني والأمة البناء، فإذا صرفها اللهو واللعب عما وكلها الله به من حياطة خَلقه ورعاية حقه فما هي إلا نهلة بعد نهلة حتى ينتقض البناء، ويستحكم البلاء وترتفع صيحة القضاء، وتعصف عاصفة الفناء (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) وكذلك حقت كلمة الله على أهل الأندلس حين ائتمنهم الله على أرضه فلم يرعوا أمانته، واسترعاهم دينه فلم يوفوه رعايته، وأحلهم دار النعمة فأبطرتهم، وسوغ لهم صبابة الأمل فأسكرتهم، وكان ما أصابهم عبر العبر ومُثلةَ المُثلات، فقد ظهر عليهم العدو المستبيح فمرّق رجالهم واستعبد نساءهم وصرع بين أعينهم أطفالهم:
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
…
عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت نساهم عند بيعهم
…
لهالك الأمر واستهوتك أحزان