الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يكن الرجال وحدهم هم المغرين للنساء باقتحام الآثام بل إن الجواري قلن في ذلك أشد مما قال الرجال وأغرين النساء بأكثر مما أغروا! ولو أن ذلك كله مما لا يستجيز القلم ذكره لأثبتناه منه ما يدل على باقيه.
حلول الكارثة
كذلك توالت النُّذُر المؤذِنة بانصباب الخطْب وهبوب العاصفة، وأي نفس تقدحها تلك المحن ولا تهن؟ وأي قلب تبلوه تلك الفتن ولا يميل؟ وأي عزم ترضخه تلك المآثم ولا يُفلّ؟ وأي ضمير تترهقه تلك المحارم ولا يأثم؟ زأي عين تأخذها تلك المخاويل ولا تطمح؟ وأي قدم تدفعها تلك المزالق ولا تزال؟ وكذلك حقت كلمة الله على الأمة المترففة أن يندفع نساؤها في تيار الزمن، وكان سبيلهن أن تبرجن كما تبرج الإماء، وتصدين للرجال كما تصدين، وبذلن من الزمام كما بذلن إلا قليلا منهن أمعنّ في الفرار فلزمن المنازل، واتخذن المسابح، وانقطعن إلى المحاريب، وكذلك كانت بلاد العراق مسارح للتبرج والتهتك ومعابد للتزهد والتنسك وفي كلا المواطنين فقدت المرأة أنوثتها التي تنهج لها سبيل الزوجية السعيدة والأمومة
الرشيدة، وكان للبيتين الكبيرين في هذا العهد - بيت العباسيين وبيت العلويين - أثر واضح في توجيه المرأة إلى ناحية من تينك الناحيتين.
بيت بني العباس
وكان المهدي أول ناشئ في مهاد الدعة وبين ظلال النعيم من بني العباس، وقد ترك له أبوه من ذخر المال ما لا يُنْفِذ سرف ولا يفنيه تلف فاتسع له بذلك مجال اللهو والترف ولقد علمت ما حدثتك ممن نفاذ جواريه إلى ذات نفسه
وعلى شؤون ملكه، وعلمت ما كان من صرف وجوه الرعية إلى دار الخيزران حتى فشت فيها القالة وأرجفت بها الألسنة وساء عنها الحديث.
ولم يكن المهدي في غيرة أبيه بل كانت الغيرة أضعف نواحيه. سمع أبا العتاهية ينشد مدحه فيمن أنشده من الشعراء فكان أول قصيدته غزلا واضحاً وتشبيباً صريحاً بفتاة من جواري قصر الخلافة، وذلك ما يقول:
ألا ما لسيدتي ما لها
…
أدَلاًّ فأحملَ إدلالها
وإلا ففيم تجنت وما
…
جنيت سقي الله أطلالها
ألا إن جارية للإما
…
م قد أُسكن الحسنُ سربالها
مشت بين حور قصار الْخُطَا
…
تجاذب في المشيِ أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها
…
وأتعب في اللوم عذالها
فلم يرى الغضب على وجهه! بل لقد اختص هذا الشاعر دون غيره من سائر الشعراء بالجزيل من جائرته، وأشد من ذلك أنه حاول أن يستوهب ابنته عُلَيَّة تلك الجارية ليمنحها الشاعر وكاد يتم ذلك لولا أن توسلت الفتاة بألا يجعلها منحة لهذا الشاعر الدميم المنظر الداني من الموت، وشفعت فيها ابنته فبدله الخليفة منها مالا كثيراً.
ولعلك تقول هي جارية تشري وتمنح فليس من شأن المهدي أن يستشعر الحفيظة
لها والغيرة عليها، قلت فهلا حق له الغضب من نسبتها إليه وقرن اسمها باسمه! وأي الخلفاء كان يستمع قول أبي العتاهية:
ألا إن ظبياً للخليفة صادني
…
ثم يتركه وفيه عين تطرف
ودعنا من الجارية: هذه ابنته البانوقة أعز الناس عليه وأحبهم إليه وأوحد أهل دهرها أنقاً وجمالا، فهل يجول في خيال أو يخطر ببال أن يلبسها أبوها ثياب
الجند ويقدّمها بين يدي موكبه في طريقه إلى الحج، وهي في نضرة العمر وربيع الشباب! أو كما يقول الطبري كان المهدي في موكبه يسير وابنته البانوقة تسير بين يديه في هيأة الفتيان عليها قَباء أسود ومنطقة وشاشية متقلدة السيف وقد رفع ثدياها القباء لنهودهما. . .!.
فهل رأيت كيف أبرز المهدي ربيبة الخلافة وسليلة العباس وعقيلة بني هاشم ونصبها للعيون في زي يجتذب الأبصار ويستقيد النظار؟!
ولم تطل حياة البانوقة بل هصرها الموت في مقتَبل الشباب فأخلت الطريق لأختيها عُليَّة والعباسة.
فأما علية فكانت شاعرة مغنية جميلة متجملة، روت لها كتب الأدب كثيراً الشعر الغنائي، وفي كثير ما رووا تشبيبها بفتيين من مماليك الرشيد يُدعى أحدهما طَلاّّ والآخر رشا، وربما زجرها الرشيد فصفحت اسميهما وجعلت أولهما ظِلاًّ والثاني زينب وهما تصحيف طل ورشا
ومن قولها في طل:
أيا سروة البستان طال تشوقي
…
فهل لي إلى ظل إليك سبيل
متى يلتقي من ليس يُقْضَى خروجه
…
وليس لمن يَهوى إليه دخول
عسى الله أن نرتاح من كربة لنا
…
فيلقى اغتباطاً خلةٌ وخليل
ومن قولها فيه كذلك:
سلم على ذاك الغزال
…
الأهيف الحلو الدلال
سلم عليه وقل له
…
يا غل ألباب الرجال
خليت جسمي ضاحكا
…
وسكنت في ظل الحجال
وبلغتَ منَّي غايةً
…
لم أدر فيها ما احتيال
ومن قولها في رشا:
وجد الفؤاد بزينبا
…
وجداً شديداً متعبا
أصبحت من كلفي بها
…
أدعى سقيما منصبا
ولقد كنيت عن اسمها
…
عمداً لكيلا تغضبا
وجعلت زينب سترة
…
وكتمت أمراً معجبا
قالت وقد عز الوصا
…
ل ولم أجد مذهبا
والله لا تلث المودّ
…
ة أو تنال الكوكبا
ومن قولها فيه وقد حلف ألا يشرب النبيذ:
قد ثبت الخاتم في خنصري
…
إذ جاءني منك تجنيك
حرّمتُ شرب الراح إذ عفتها
…
فلست في شيء أعاصيك
فلو تطوعت لعوضتني
…
منه رضاب الريق من فيك
فيالها عندي من نعمة
…
لست بها ما عشت أجزيك
يا زينباً قد أرَّقَتْ مقلتي
…
أمتعني الله بُحبيَّك
وكان الرشيد يستمع غناءها غير متحرج، وذكر صاحب الأغاني أنها تغنت وأخزها يُزمر لها بقولها:
تحبب فإنّ الحب داعية الحب
…
وكم من بعيد الدار مستوجب القرب
تَبصَّر فإن حُدَّثْتَ أن أخا هوى
…
نجا سالما فارج النجاة من الحب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
…
فأين حلاوات الرسائل والكتب
وكان في جبين عُلية سعة غير مستحسنة فاخترعت له العصابة وهي شُقَّة من الحرير محلاة بصنوف الجوهر فسترت عيبها وزادتها جمالاً.
وأما العباسة فقد قال المؤرخون في أمر صلتها بجعفر بن يحيى البرمكي ما قالوا،
وذكروا أن هذه الصلة هي التي حملت الرشيد على قتله وإيقاعه بالبرامكة؛ كذلك كان الناس يعرفون قبل ابن خلدون، فلما أنشأ هو مقدمة تاريخه جعل هذا القول من أوهام المؤرخين وقال في سبيل ذلك: وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبوتها وجلالها وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده العباسة بنت محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد السَّجَّاد بن علي أبي الخلفاء بن عبد الله ترجمان القرآن ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ابنة خليفة، أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز وصحبة الرسول وعمومته وإمامة الملة ونور ومهبط الملائكة من سائر جهاتها، وقربة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين البعيدة عن عوائد السرف ومراتع الفواحش، فأين يُطلب الصون والعفاف إذا ذهب عنها أو أين توجد الطهارة والذكاء إذا فقد من بيتها أو كيف تلحم نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي الأعاجم بملكة جده من الفرس أو بولاء جدها الرسول وأشرف قريش، وغايته أن جذبت دولتهم بضعة وضبع أبيه واستخلصتهم ورقتهم إلى منازل الأشراف. وكيف يسوغ للرشيد أن يصهر إلى موالي العجم على بعد همته وعظم آبائه؟ ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف لاستنكف لها عن ثلة مع مولى من موالى دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج في تكذيبه. وأين قدر العباسة والرشيد من الناس؟ وإنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية حتى كان الرشيد يطلب من المال فلا يصل إليه فغلبوه على أمره وشاركوه على سلطانه. .؟
ذلك قول ابن خلدون؛ وما كان أولانا بما رآه وأذهبنا فيما ذهب إليه لولا أنه ناقش المؤرخين بمشاعره وبعض عقله، وراح يعتمد على فخامة اللفظ ورنة
الإيقاع
وكل ذلك ليس خليقاً بأن يمحو خبراً ذاع ويقطع حديثاً نمى، وكان أولى بابن خلدون حين ذكر للعباسية شرف المنصب وعلوّ النسب أن ينظر نظرة إلى الأمم فهي وحدها مرجع ما عليه البنت من علو أو هوان، بل مرجع ما عليه الولد من بعد همة أو فترو عزيمته، تلك الأم التي نزع الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم إليها بقوله أنا ابن العواتك من سُليم. وكل ما يتصل به من الأبناء من عظمة البيت وشرف الأسرة ونبل العشيرة إنما يتضاءل فيما يرتضعونه من أمهاتهم من لؤم وخمول. ومَن أم العباسة؟ أليست مغنية من القيان اشتراها المهدي وكان من أمرها أن أصبحت أم ابنته؟ أفي قدرة هذه أن تنشئ قناة تحفظ ما لبيتها العظيم من سموّ وجلال!
وإن النفس لا تطمئن لما ذكر ابن خلدون عن نكبة البرامكة، فإن المثْلَة الشنعاء التي مثلها الرشيد بجثمان جعفر من تمزيقه ثلاث فلذات وصلب كل واحدة على باب من أبواب بغداد بعد ما كان من فرط حبه له وتقريبه منه تقريباً لم يكن بين أخوين أليفين كل ذلك لا يكون إلا حين تتقد الغيرة وتهتاج الحفيظة ويصاب العرض، وما أظن ما قال القائلون من احتجان الأموال وممالأة بني علي بن أبي طالب إلا تمويهاً للأمر وإبلاغاً للعذر. ولو كان ذلك حقا لقتل البرامكة على سواء ولم يختص واحداً بالقتل ويترك الباقين رهائن السجن، بل لكان أولى بالقتل يحيى أبو جعفر لأنه هو الذي استنّ لبنيه سياسة الرفق والمودّة للعلويين.
وكان بيت المأمون يقوم وعلى العلم والحكمة، وعلى المرح والدعابة كذلك، وكانت ابنته خديجة تجدّ في أثر عمة أبيها عليه من إرسال الشعر في التشبيب وابتكار الغناء والتلحين، ومن قولها في خادم من خدم أبيها.
بالله قولين لمن ذا الرشا
…
المثقل الردف الهضيم الحشا