الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمام وأبو عبادة البحتري على حذر إزاء الذوق الذي كان يعاصرهما، وقد كان أبو تمام أعمد إلى أن يزاحف، وأجرأ فيما يجيء به. إلا أن البحتري كان أخبر بحيث ينبغي أن يقع. وقد كان المتنبي يعرض عن ظاهر الزحاف ألا الخرم وعسى أن يكون من أسباب ذلك أنه كان رجلاً مُحاربًا تُلتمس في أشعاره السقطات، فكان لا يألو تجويدًا، على أني أرجح أنه كان أميل بطبعه إلى الاندفاع والإقدام، فهذا مما كان يحول بينه وبين السكنات الطوال، وعسى أن يكون مذهبه في الخرم من دلائل إقدامه واندفاعه كقوله:
لا يحزن الله الأمير فإنني
…
سآخذ من حالاته بنصيب
ويبدو لي أيضًا أنه قد استبدل ما يكون من سكنات الأوائل بالاختلاس. وهذا قد كان يقع في أشعارهم كالذي رواه سيبويه من قولهم (1):
له زجل كأنه صوت حاد
…
إذا طلب الوسيقة أو زمير
ومن قولهم:
وأيقن أن الخيل إن تلتبس به
…
يكن لفسيل النخل بعده آبر
معنى الاختلاس:
والاختلاس كالزحاف سواء بسواء.
وأعجب للعروضيين، إذ لم يذكروه في باب الوزن ولعلهم اكتفوا بذكر النحويين له في باب إشباع الضمائر كالذي مر بك من استشهاد سيبويه. ولا ريب أن الاختلاس مذهب موسيقي صادق التعبير عن نفس المتنبي الساخن الجارف
(1) الكتاب-1 - 11.
وإقدامه عليه، وكان معاصروه أشد له عيبًا منهم لكثير من أصناف الزحاف، مما يدلك على أصالة الرجل في موسيقا الشعر العربي وصدق فطرته وفنه.
تأمل مثلاً قوله:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
…
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
تعثرت به في الأفواه ألسنها
…
والبرد في الطرق والأقلام في الكتب
وقد جمع في قوله (تعثرت به) زحافًا خفيًا مع الاختلاس كما ترى. وهذا في قصيدة مما احتفل له وهو ناضج يعرف كيف يقول، فلا يسبقن إليك أنه قد زل (1). وقد روي أنه كان ربما أنشد «تعثرت بك» (2) فأحسبه إن فعل ذلك إنما كان يلتمس، ألا يُحرج بالسؤال من بعض من قد ينفس عليه وهذا من باب التقية اللازمة أحيانًا. وبين قوله (تعثرت به) و (تعثرت بك) بون بعيد ومكان الجودة من الأولى لا يخفى.
(1) قد يكون الاختلاس أحيانًا من الزلل وضعف الملكة بلا ريب كالذي يقع كثيرًا في شعر الشريف محمود قبادو التونسي كقوله (ديوانه، طبع تونس، رقم 4/ 31 بمكتبة العطارين بتونس ص 17 س 15).
واهتز من أهرام مصر قواعد
…
وابتز من ديوان كسرى بناء
والاختلاس في ألف كسرى. وكقوله (ص 17 س 15):
يغنيه خوفه أن تسل سيوفه
…
لكنها أغمادها الأحشاء
وقوله (ص 18):
ويكاد رأيه أن يباري رؤية
…
فتلوح قبل وجودها الأشياء
وقوله (ص 20):
قد كان في حلم الأمير وصفحه
…
ردع يظنه مثلكم إغراء
ورفع الهمزة هنا مشكل إلا أن يكون اتباعًا على الحكاية في ردع وهو بعيد. وقل أن يؤتي قبادو من جهة النحو. فليرجع إلى ديوانه، فعسى أن يكون هذا البيت من همزية منصوبة أو عسى أن تكون مقيدة. والله أعلم.
(2)
ديوان المتنبي تحقيق الدكتور عبد الوهاب عزام، مصر 1944، ص 423 هامش 4.
هذا وتأمل اختلاسه في قوله:
ولا إلا بأن يصغى وأحكي
…
فليته لا يُتيمه هواكا
هذه هي الرواية الجيدة المشهورة. ورووا «فليتك» وهي متهافتة. وهذه القصيدة آخر ما نظمه المتنبي وهي من عيون شعره.
وحقيقة الاختلاس هي تحويل الضربة التامة إلى اثنتين متلاحقتين ومن ههنا كان كأنه عكس للزحاف. إذ هذا يعوض، إيقاع المقطع بالسكوت. وأقول (كأنه) لأن هذا مجرد تقريب وتمثيل. ولزيادة الإيضاح أضرب لك ما رووه من قول المتنبي (فليتك لا) وهذا جار على ترك الاختلاس وعلى جزء الوافر (مفاعلتن) وما هو مشهور من قوله (فليته لا) وهو جار على الاختلاس وجار أيضً على جزء الوافر (مفاعلتن). فالأول بيانه عندنا شيء من هذا القبيل:
مفا ع ل تن
فليـ ت ك لا
تم تم تم تم تم
والثاني هكذا:
مفا ع لـ تن
فـ لي تُهلا
تم تم (تم) و (تم تم) معا
وهذا البيان تقريب وواضح منه ما نرمي إليه، إذ قد راث الشاعر في ضرباته الأوليات وجعل الأخيرة ثنتين متلاحقتين أو كالثنتين المتلاحقتين
رأي المعري:
هذا الذي ذكرناه من أمر الزحاف والاختلاس من أنهما من عنصر الموسيقا
الشعرية نفسه وليسا بعيب يحسن تجنبه، كما رأى أكثر المحدثين، قد تنبه أبو العلاء المعري إلى جانب كبير منه في وقفته مع امرئ القيس في رسالة الغفران إذ قال:
«فيقول، لا برح منطيقًا بالحكم. فأخبرني عن كلمتك الصادية والضادية والنونية التي أولها:
لمن طلل أبصرته فشجاني
…
كخط زبور في عسيب يماني
لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السمع كقولك:
فإن أُمس مكروبًا فيا رب غارة
…
شهدت على أقب رخو اللبان
وكذلك قولك في الكلمة الصادية:
على نقنق هيق له ولعرسه
…
بُمنقطع الوعساء بيض رصيص
وقولك:
فاسقى به أختي ضعيفة إذ نأت
…
وإذ بعد المُزدار غير القريض
في أشباه ذلك، هل كانت غرائزكم لا تحس بهذه الزيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون بما يقع فيه؟ كما أنه لا ريب أن زهيرًا كان يعرف مكان الزحاف في قوله:
يطلب شأو امرأين قدمًا حسنًا
…
نالا الملوك وبذا هذه السوقا
فإن الغرائز تحس بهذه المواضع فتبارك الله أحسن الخالقين.
فيقول امرؤ القيس: أدركنا الأولين من العرب لا يحفلون بمجيء ذلك ولا أدري ما شجن عنه. فأما أنا وطبقتي فكنا نمر في البيت حتى نأتي إلى آخره. فإذا فني أو قارب تبين أمره للسامع.
فيقول ثبت الله تعالى الإحسان عليه، أخبرني عن قولك:
ألا رب يوم لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جُلجل
أتنشده (لك منهن) فتزاحف الكف؟ أم تنشده على الرواية الأخرى؟ فأما يوم فيجوز فيه النصب والخفض والرفع. فأما النصب فعلى ما يجب للمفعول من الظروف والفاعل في الظرف ههنا فعل مضمر. وأما الرفع فعلى أن تجعل (ما) كافة. وما الكافة عند بعض البصريين نكرة. وإذا كان الأمر كذلك (فهو) بعدها مضمرة، وإذا خفض يوم فما من الزيادات ويشدد سي ويخفف. فأما التشديد فهو اللغة العالية وبعض الناس يُخفف. ويقال أن الفرزدق مر وهو سكران على كلاب مجتمعة فسلم عليها، فلما لم يسمع الجواب أنشأ يقول:
فما رد السلام شيوخ قوم
…
مررت بهم على سكك البريد
ولا سيما الذي كانت عليه
…
قطيفة أرجوان في القعود
فيقول امرؤ القيس -أما أنا فما قلت ألا بزحاف- (لك منهن صالح) - وأما المعلمون في الإسلام فغيروه على حسب ما يريدون ولا بأس بالوجه الذي اختاروه ا. هـ (1)».
وجلي من هذه المقالة أن المعري كان يرى نحوًا من هذا القول الذي نقول به من أن أوزان الشعر إنما هي نسب زمنية وضربات موسيقية. فمتى وقع عند الشاعر أنها استقامت له، فلا بأس عليه أن يختلس المقطع أو يريث به في داخل ما اختاره من قوالب الوزن والأبيات التي ذكرها المعري من شعر امرئ القيس مما يوضح هذا أجمل توضيح
…
خذ مثلاً قوله:
شهدت على أقب رخو اللبان
(1) رسالة الغفران للمعري تحقيق ابنة الشاطي- دار المعارف مصر- 1950 - ص 307 - 310.
فهذا في أجزائه الثلاثة الأول ألوان من الزحف والخطف. إذ بعد (شهدت) سكتة يسيرة وفي الهمزة من (أقب) سكتة تكاد تختفي في المد والتسهيل. وفي اللام الساكنة من «أقب إلخ» اختلاسة راقصة، سببها إتمام الجزء الثالث إتمامًا مقطعيًا، والذي يجري عليه الشعراء مزاحفته بالقبض هكذا (رخو لبان). ولابد ههنا من التنبيه على أن قلقلة اللام مما يفسد سياق الموسيقا في هذا البيت، وكثيرًا ما يقلقلها المعاصرون، وهي حرف هين لين، والقلقلة تحدث فيه سكتة يزيد بها حجم النغم.
هذا قول المعري في آخر حديثه: «فيقول امرؤ القيس أما أنا فما قلت إلا بزحاف» . هو النص الذي أردنا إليه من سياق الحديث وفي خزانة الأدب رأى عيسى صاحبه أن يكون نظر فيه إلى مقالة المعري هذه (1).
ضربات الوزن:
لعله الآن قد وضح مرادنا من القول بأن الوزن يدور على نسب وضربات لا على مجرد مقطعية، وما ذكرناه بمعرض التبيين عن ألوان الزحاف الظاهر، التي حسبها المحدثون خللاً وليست به، مما يساعد على إبراز هذا المعنى.
والآن نلفت القارئ إلى ألوان الزحاف الخفي والعلل مما تقبله المحدثون ولم يعيبوه بأنه تنبو عنه الآذان كالذي تمثلنا به من قول دريد:
أخب فيها وأضع
وكالذي في بيت عنترة:
وإذا شربت فإنني مستهلك
…
مالي وعرضي وافر لم يكلم
فالذي نراه أن هذه الزحافات الخفية في (مستهلك إلخ) وفي (أخب) لم تنشأ
(1) أحسبه في أوائل الجزء الأول، وند عني موضعه.