الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مرتبة دون الشعراء، وذلك قوله (1):«ويمر بأبيات ليس لها سموق أبيات الجنة. فيسأل عنها، فيقال: هذه جنة الرجز، يكون فيها أغلب بني عجل والعجاج ورؤبة وأبو النجم وحميد الأرقط وعذافر بن أوس وأبو نخيلة وكل من غفر له من الرجاز، فيقول: تبارك العزيز الوهاب، لقد صدق الحديث المروي، إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها، وإن الرجز من سفساف القريض، قصرتم أيها النفر فقصر بكم ا. هـ» . ومقالة المعري هذه تنبئ عن حقيقة رأي العرب في القصيد، من أنه قد كان عندهم ذروة المنظوم، ومعرض الجد فيه، وما سواه من أصناف المشطور وقصار الأسماط إنما كانت تراد به ناحية الترنم دون حاق التأليف البياني النغمي الشعري، وقد قارب المرزوقي هذا المعنى في ذيل مقدمته لشرح الحماسة حيث قال (2):«فلما اختلف المبنيان -يعني مبنى الشعر ومبنى النثر- كما بينا، وكان المتولي لكل واحد منهما يختار أبعد الغايات لنفسه فيه، اختلفت فيهما الأصابتان لتباين طرفيهما، وتفاوت قطريهما (3). وبعد على القرائح الجمع بينهما، يكشف ذلك أن الرجز وإن خالف القصيد مخالفة قريبة ترجع إلى تقطيع شأو اللفظ فيه، وتزاحم السجع عليه، قل عدد الجامعين بينهما، لتقاصر الطباع عن الإحاطة بهما إلخ» .
القصيدة والقافية الواحدة:
هذا وأصل القصيد فيما أرى من التقصيد الذي هو التكسير (4). ألا تراهم يقولون: «قصد القنا» بكسر القاف وفتح الصاد، جمع قصدة بكسرها وسكون الصاد، أي ما يكون من الرماح المتكسرة بعد القتال. وما أحسبهم سموا القصيدة قصيدًا إلا من أجل ما يقع في أوزانه من تقطيع الضربات الذي ينتهي عند معقد
(1) رسالة الغفران تحقيق ابنة الشاطئ.
(2)
الحماسة، شرح المرزوقي، دار الترجمة والتأليف والنشر، 1951 - 1.
(3)
كان أجود لو قال: لتباين أطرافهما وتباعد أقطارهما. والله أعلم.
(4)
رأيت بأخرة في كتاب الزينة تأويلاً لمعنى القصيدة غير هذا فليرجع هذا.
القافية، وتتابع الأبيات الذي يمتد من المطلع إلى المقطع. وقول العروضيين في حلقات الدرس:«قطع البيت الآتي» مما يقوي هذا المعنى. وعندنا في عامية السودان يقولون «فلان بيقطع» أي يقول الشعر. كأنهم عنوا أنه يقطعه قطعًا متساويات. وعسى أن يكونوا عنوا أنه يقتطعه من نفسه بدليل قولهم: «فلان يقطع من رأسه» من تأليفه لا من حفظه (1).
وكأن القصيدة إنما سميت قصيدة على سبيل التشبيه بالقنا ذي الكعوب والأنابيب المتناسبات الأبعاد، إذ القصيدة كالقناة وحدة من قطع الأبيات المتلاحقات تلاحق الأنابيب. والقافية تعقد آخر كل أنبوب بما يليه.
وقولهم القريض عندي من هذا الباب نفسه إذ أصله من القرض. وهو أحسبه أريد به وصف صياغة الشعر ثم أطلقه المجاز على الشعر نفسه. وكأن الشاعر عندهم يقرض الكلمات قرضًا ثم ينظمنا في نطاق الوزن.
هذا ولقد ترى ما في لفظي القصيد والقريض من الإراغة إلى وصف المجهود الذي يكون من الشاعر، إذا قابلتهما بقولهم «هزج» أي غناء و «رجز» أي حركة. ومنشأ هذا المجهود بلا ريب هو ما يعانيه الشاعر من كلفة التأليف بين الوزن واللفظ والقافية. أو قل ما يعانيه من كلفة إبراز الوحدة الكمينة فيهن إلى حيز العبارة الناصعة والبيان الواضح.
هذا ولقد يعيب بعض المعاصرين على الشاعر العربي ما وقع فيه من هذه الكلفة ولا سيما كلفة القافية الواحدة، يزعمون أنها تجحف بالمعاني من أجل تصيد الشاعر للألفاظ المتشابهة الروي، وأنها تجحف بالنغم من أجل تكرر جرسها ورتابته. وقد ذكرنا في المرشد الأول أن الشاعر العربي المُلم بمادة اللغة لا يجد عسرًا في القافية من حيث هي سجع وروي إذ اللغة العربية غنية بالكلمات متشابهات
(1) وقد يقال عندنا «يقطع من رأسه» أي يكذب.
الأواخر، وطبيعة بنيتها خصبة بالأسجاع. ونزيد ههنا أن دعوى الرتابة باطلة، تدل على وهم عظيم وفساد في الإدراك.
ذلك بأن جرس القافية، كما قلنا من قبل، ما هو إلا تكييف لرنة الوزن المجرد المبني عليه عروض البيت. ومتى كان هذا الجرس منبعثًا من روي واحد في القصيدة الواحدة، كان أدعى إلى أحكام موسيقاها وإتقانها. ولنرجع مرة أخرى إلى ما كنا تمثلنا به من دقات القدم على الأرض، وصوت القرع المكفأ وهلم جرا، فنفرع منه تمثيلاً آخر نقرب به مرادنا من دعوى الإحكام والإتقان اللذين ينشآن من توحيد الروي.
هب الوزن بمنزلة دقات ما والقافية بمنزلة صوت يصبغ هذه الدقات كما قد ذكرنا من قبل، فإن اتحاد وزن العروض في البيت الذي تقع فيه، مع جرسها، يجعلهما معًا بمنزلة آلة بعينها تحدث صوتًا بعينه على نسق معلوم. ثم إذا تكررت الأبيات آخذًا بعضها برقاب بعض، وكل منها فيه ألوان من التنويع الموسيقي الناشئ من السكنات والزحافات والحركات والسكنات بحسب ما وضحناه لك حين تمثلنا بقول جرير:
دعوتك واليمامة دون أهلي
…
ولولا البعد أسمعك المنادي
كان ذلك كله بمنزلة دُفع من التأليف الموسيقي يشرف عليهن صوت واحد متكرر يكون لهن بمنزلة الإطار، ويربط بينهن برابط الوحدة والانسجام، ويصبغ أنغامهن المختلفات بلونه الواحد المنيف عليهن. فإذا أضفت إلى كل هذا ما تحدثه ألفاظ التعبير نفسها من تلوين للحركات والسكنات بأجراسها وإيقاعها وأصباغها البيانية، تبينت مقدار الربط والانسجام والوحدة التي يحدثها اتحاد الوزن والقافية برنينه المنتظم لجميع ذلك.
ولئن شبهنا تأليف القصيدة كله بأوركسترا عامرة بأنواع الأنغام واللحون،
فإن اتحاد الوزن والقافية في هذه الأوركسترا أشبه شيء بالقرع المملوء حبًا، يُهز به على وتيرة واحدة من لدن شروعها في العزف إلى نهايته، أو بالنحاس الذي ينقر به كذلك، أو بالدفوف التي تقرع على هذا النمط وهلم جرا- ولن تخلو أنغام الأوركسترا في هذه الحال من أن تصطبغ بصوت القرع الأجش أو النحاس الطنان أو الدفوف المُتهزمة، وعسى ذلك وحده أن يفي بعنصر الربط والوحدة في تأليفها كله. وهذا بعد مجرد تمثيل وتقريب.
ولعمري إن من القوافي لما يكون له صوت أجش كالقرع أو طنان كالنحاس، أو حنان كالدفوف.
قرض الشعر:
عسى هذا الذي قدمناه أن يكون قد أوقع في نفسك أيها القارئ الكريم شيئًا مما نراه، من أن القافية والوزن معًا هما مفتاح القصيدة، بما يشيعان في موسيقاها من وحدة ارتباط.
وإذ هما كذلك فإنهما وثيقا الصلة بالمعاني التي تدور في قلب الشاعر وتنبعث من أعماق تجربته إلى محض البيان. ولقد تذكر أنا أفردنا في كتابنا المرشد الأول بحثًا مستفيضًا عن طبائع الأوزان طوالها وقصارها وما يرتبط بهن من ألوان المعاني. فالذي زعمناه هناك نريد أن نجعله ههنا أساسًا لزعم آخر قد كنا ألمعنا لك بطرف منه، وهو أن اتحاد القافية مع الوزن يحصر دائرة المعاني التي يهم بها الشاعر في نطاق أقل حيزًا من نطاق الوزن المجرد قبل أن تصحبه القافية. ثم ضروب التنويع الموسيقي من زحاف إلى سكنات وحركات وهلم جرا، يزدن في هذا الحصر حتى لا تبقى أمام الشاعر إلا وثبة البيان التي تحيل مدلول موسيقا الوزن والقافية والزحاف والحركات والسكنات والاختلاسات، كل ذلك إلى تعبير ناطق.
وأقول وثبة البيان، لأن الوزن والقافية وما يتبعهن كل ذلك في الإمكان
تصوره مجردًا غير مصحوب بتجربة الشاعر. ولنا أن نزعم أن محض القدرة على تصنيع الإيقاع كفيل بأن يهيئ هيكلاً، ذا وزن وقافية وأصناف من الزخارف النغمية. ولكن هذا الهيكل يكون باردًا خاليًا من الروح هامدًا حتى تصحبه وثبة البيان المنبعثة من حاق التجربة والرغبة في التعبير عنها. ووثبة البيان هذه هي ما كان يسميه القدماء «نفس الشاعر» ، يعنون به الروح الذي ينتظم رنة نظمه من المطلع إلى المقطع. ويربط بين سائر أجزاء كلامه ويشيع فيها وحدة عميقة ذات جرس مبين ووحي نافذ.
وإذ بلغنا هذا المبلغ فإنا نجسر فنقول إن القصيدة العربية شكل وهيكل ذو وحدة تامة مصدرها إطار موسيقى السنخ ونفس حار ينبعث منه هذا الإطار الموسيقي حتى يكون مفتاح التعبير له، ووسيلة تأتيه إلى البيان.
ذلك بأن الشاعر العربي يُقبل على القول إقبالاً مباشرًا ولا يتكلف التماس الوسائط، وأعني بهذا أنه يروم إيصال تجربته إلى السامع حتى يشاركه السامع فيها مشاركة تامة، وحتى يصير كأنه هو نفسه قد اجتاز بمراحلها وأحس نشواتها وحرقاتها. وهذا المرام من الشاعر العربي يضطره إلى الصراحة الصلتة، وإلى أن يكافح نفس سامعه كفاحًا، حتى يتصل بها اتصالاً لا تشوبه شائبة من حجاب.
وإذ الصراحة الصلتة طريق عسر، فإن الشاعر العربي قد طلب لها التذليل بإيرادها في إطار من الوزن والقوافي والزخرفة النغمية، مصنوع من مادة الموسيقا والغناء. ذلك بأن الموسيقا والغناء مما يحركان النفوس ويسموان بها- يسموان بنفس الشاعر حتى يملك الشجاعة التي يقوى بها على الصراحة وعلى مكافحة نفوس السامعين، ويسموان بالسامعين حتى يتجردوا من حجب الذاتية إلى لقاء الشاعر في تجاربه.
والشاعر يُرزم في أعماق فؤاده بالموسيقا والنغم والحركات والسكنات قبل أن تُسمح نفسه إلى طريقه من الوزن والتقفية. وهذا الإرزام يكون أول مراحل التعبير،
وأول مراحل الوثبة البيانية. ومن طريقه ينتقل الشاعر من أرض الحجاب الذي يكون بينه وبين السامع المنتظر، إلى سموات من الإسفار، وتصحبه في انتقاله هذا نشوة نفسية تزداد عُنفًا كلما قارب البيان والإفصاح- هذه النشوة النفسية إنما هي ضرب من الجذب الروحي الذي يعتري الكهان والعرافين وأمثالهم من أهل الوجدان والتطلع إلى الملأ الأعلى.
والشاعر تعتريه هزة الجذب الروحي والنشوة الشعرية قبل أن تتفتح نفسه إلى موضوع بعينه. وقد تعتريه بعد أن يصدم نفسه حادث ما أو موضوع ما. فإذا اعترته قبل أن يكون قد استثاره موضوع يعرف أمره، فإن حاله النفسية تكون في ظلام من الانقباض أشبه شيء باليأس الخانق. على أنه وهو في هذه الحال، يدرك أنما هي إرهاص بالتعبير الذي لا بد أنه تاليها. ثم ينكشف عنه الظلام إما رويدًا إلى نور الإفصاح، وإما بفجاءة بعد عسر طويل. والغالب عليه في هذه الحالة أن يتخبط في التماس سبل البيان آخذًا بهذا الوزن وتلك القافية. وآنا بهذاك الوزن وهاتيك القافية، وربما نظم قصيدة كاملة ثم وجدها لا تحمل كبير معنى من نفسه فاطرحها، ولا يزال في نحو من هذا العناء حتى يفرج عنه.
والحق أن الشاعر في هذه الحالة إنما يكون قد ألمت به دوافع تجارب من الماضي طال اختباؤها حتى إذا حان أوان بروزها اجتذبته بعنفها فلم يجد بدا من الانقباض والضجر حتى يستذكرها إلى أن تشرق عليه واضحة جهيرة. هذا وإذا اعترت الشاعر حالة الجذب بعد حادث بعينه أو موضوع بعينه، فالغالب أن يكون اعتراؤها اياه يسير المس أول الأمر، ضعيف الإلمام، وربما وجد نفسه ينطق برنة الوزن والقافية أو بيت كامل أو عدة أبيات.
وقل أن يتصل له الإسماح بعد ذلك إلى أن يستوفي التجربة حقها. فإذا أعرض بعدما تأتي له أولاً، فإنه لابد أن تعاوده دوافع هذه التجربة ولو بعد أمد
طويل، وتصنع به نحوًا مما قدمنا نعته من قبل. وإن لم يُعرض، وأقبل على إيفاء التجربة حقها من التعبير، فإنه لابد أن تلم به حالة الضجر والقلق والظلام بعد انقطاع أوائل الأبيات أو أوائل التعبير عنه. ولا تزل هذه الحال تشتد به وهو يلتمس السبل إلى البيان حتى يجد مسالكه إليه. ومن هنا تتشابه حالة الجذب في مظهريها- أي حين تعر وبلا سابق حادث، وحين تعرو بأثر صدمة حادث بعينه أو موضوع. وعندي أن منشأ هذا التشابه من أن الشاعر في كلتا الحالتين يروم استخراج خبئ تجارب الماضي التي توحي إليه بالبيان. ولعل صدمة الحادث المُعين أو الموضوع المُعين إن هي إلا مجرد سبب مباشر لإنارة التجارب المودعات. وكثير، من حالات الجذب تقع في طرائق وسط بين مجرد الانبعاث من دون سابق حادث، أو مجرد الاستجابة إلى صدمة حادث أو موضوع، من ذلك مثلاً أن يتذكر الشاعر حادثًا مضى ثم يعتريه انقباض ما إلى أن يقول فيه بيتًا أو بيتين، ثم يُقطع به. ثم يراجعه القول بعد ذلك.
هذا وإن من تجارب الشاعر ما يندفع به إلى البيان اندفاعًا. ومنها ما يستتر إلى حين. ومنها ما يروم مخرجًا من سبيل الجهد والإعمال المتواصل. وأكثرها يختمر ويتعتق ويمكث دهورًا، ثم يحدث في نفس الشاعر ما سبق لي نعته من انقباض وإظلام ثم وضوح وانبلاج وإفصاح.
وهذا الوصف كله تقريبي لا أزعم أنه يصدق على أحوال الشعر جميعها. وأراني غير واجد بدًا من أن استثني ضروب القول المتعمد، وهو الذي يصطلح له المعاصرون قولهم شعر المناسبات. إذ الشاعر لا يصدر فيه عن دافع منبعث من الأعماق، ولكنما يستجيب إلى دعوة من الخارج يسخر لها ملكته.
على أنه حين يجمع أطراف ملكته ويتخير مفتاح التعبير في الوزن والقافية، ويُمد بنانات فكره إلى شتى قطوف المعاني، لا يخلو في كل ذلك من رجعة إلى ماضي تجاربه، ومن وثبة إلى قُنن من الخيال. وحينئذ يبطل عامل المناسبة، ويتلئب التعبير
على طريقة مستقيمة من طرق البيان الأصيل. ومتى تأتي للشاعر ذلك أمكنه أن يصعد بالنفس الخطابي. وهو النفس الغالب على أصناف البيان المتعمد بمعرض المناسبات، إلى مراق من الإفصاح الرحب المدى، الذي ربما استثار همم مجموعة بأسرها. على أنه لابد من الاحتراس ههنا بأن النظم في المناسبات مزلة أقدام. وربما وثق الشاعر بملكته ثقة أعمته عن حقائق عوامل الأصالة في نفسه. فتكون هجيراه أن يترنم أنغامًا بما أوتيه من ملكة ودربة، ويحكم نظامًا من المعاني، ثم لا يصاحب ذلك جميعه عنصر الجذب الروحي الذي لابد من لحياة الإطار الموسيقي والعبارة البيانية.
وقد كان أحمد شوقي رحمه الله كثيرًا ما يزال هذا الذلل، وتشفع له مقدرته على النظم والتنغيم. ولقد سبق لي أن ضربت من ذلك في المرشد أمثالاً، ولا أهاب ههنا أن أصف سائر مراثية بأنها من شعر المناسبات وأنها خالية من الروح كل الخلو، لا أكاد أستثني من ذلك شيئًا إلا بيته في سعد رحمه الله:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها
…
وانثنى الشرق عليها فبكاها
والصناعة في الشطر الأول لا تخفى، إذ ضمنه قوله تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} على أنها صناعة خفية التكلف، ورنة النغم تشفع لها.
هذا، ومما يقارب شعر المناسبات في خطورة المرقى، ومقارنة الزلل، شعر المجاريات، وأحسب أن المجاراة الجيدة لا يقدر عليها إلا ملهم موفق أو تجئ على محض الاتفاق والمصادفة.
ذلك بأن الوزن والقافية كما قدمنا لك هما مفتاح التعبير. فالذي يجاري شاعرًا آخر، إما أن يكون قد اتفق له ذلك اتفاقًا وأما أن يكون قد تعمده. فمن أمثلة الأول كلمة أبي الطيب:
يا أُخت خير أخ يا بنت خير أب
فهذه لا يعقل أن يكون هو قد تعمد بها مجاراة أبي تمام حيث قال:
السيف أصدق أنباء من الكتب
ومن أمثلة الثاني كلمة شوقي
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب
فإنه جاري كلمة أبي الطيب:
أُغالب فيك الشوق والشوق أغلب
ومحل النظر هو هذا الضرب الثاني، لأن الشاعر الذي يوافق آخر قبله في الوزن والقافية على سبيل الاتفاق والمصادفة، إنما يشابهه في أمر واحد فقط، وهو أن كلامه في جملته داخل في حيز المعاني العامة العاطفية التي تشير إليها طبيعة الوزن والقافية: كاستشعار البطولة مثلاً، إذ غير خاف أن أبا الطيب أسبغ على خولة ألوانًا من البطولة، واستشعر ذلك منها، وحسبك شاهدًا صريحًا قوله:
فما تقلد بالياقوت مُشبهها
…
وما تقلد بالهندية القضب
ولا تصح المجاراة المتعمدة من الضرب الثاني إلا إذا احتدم جانب العاطفة والروح وغلب على الشاعر غلبة جعلته يتخذ من وزن الشاعر الآخر الذي هو يجاريه، ومن قافيته نموذجًا يحتذى، ومجري يرتاد فيه مسالك تجربته وانفعاله ومقاصد تعبيره. ولا ريب أنه تصاحب هذا النوع من التعمد حالة من حالات الجذب شبيهة بما يعانيه الشاعر حين تُظلم نفسه قُبيل إشراق الشعر عليه. وذلك أنه بالتماسه للنموذج يكون كالمتحسس في الظلمة. فمتى وقع خاطره على كملة شاعر بعينها نزلت عنده بمنزلة المفتاح لما يعلتج في نفسه. ولا أكاد أمتري أن عبدة بن الطبيب قد لاقى عناء من هذا الضرب في قصيدته التي أولها:
هل حبل خولة بعد الهجر موصول
…
أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
إذ قد نظر فيها إلى كلمة كعب بن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
ولعلنا لا نباعد أن عددنا هذا القري من قُريان المجاراة أدخل في باب الاتفاق والمصادفة منه في باب التعمد البحت الكالح، الذي استشهدنا له بكلمة شوقي في مجاراة المتنبي.
ذلك بأن المتعمد تعمدًا بحتًا إنما يروم مباراة الوزن والقافية بالاجتهاد وقوى الملكة. ولا أشك أنه يرتكب الكلفة والصناعة بادئ أمره. وربما عمد إلى ألوان من التدليس بما هو من بضاعة الشعراء كالافتنان في التنغيم والمحسنات البلاغية واصطياد المعاني الشاردة، كل ذلك يروم أن يضاهئ به ما لابد للشعر الصالح منه، من حرارة النفس، واندفاق الطبع.
وقد يتفق الشاعر المجيد بعد هذا التكلف أن تنفسح بعض آفاق نفسه فيصدق في التعبير، على أن هذا إن تأتي إنما يجئ كالفلتة، وفي الأبيات القلائل. وأكثر مجاريات المرحوم أحمد شوقي من هذا الضرب، كهذه البائية التي استشهدنا بمطلعها فإنها في جملتها ليست بشيء، وكسينيته التي جارى بها البحتري وليته لم يفعل. ومن أغرب ما قرأت من المجاريات كلمة للأديب الغزي أوردها صاحب الخريدة في اختياراته، يجارى بها تائية أبي العلاء التي في سقط الزند:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا
…
وموقد النار لا تكرى بتكريتا
وهي كلمته:
أمط عن الدرر الزهر اليواقيتا
…
واجعل لحج تلاقينا مواقيتا
ولا أدري لماذا يطلب المواقيت إذ تيسر له التلاقي، ولكنه أتي من طلب المؤاخاة بين الحج والمواقيت فأفسد هذا المعنى كل الإفساد، وخور الشطر الأول يخفي على القارئ
فثغرك اللؤلؤ المبيض لا الحجر الـ
…
مسود لاثمه يطوي السباريتا
واللثم يُجحف بالملثوم كرته
…
حاشا ثناياك من وصم وحوشيتا
والمقابلة ههنا بين اللؤلؤ المبيض والحجر المسود اجتهاد مرهق. ولعمري لو قد شبه ثغرها بالحجر الأسود لكان أبلغ، إذ يسبغ عليه قداسة ونورًا، ولكنه اندفع مع الطباق، ورام المقابلة بذكره أن لاثم الحجر الأسود يطوي السباريت، وهذا كما لا يخفى معنى سرقة من أبي العلاء المعري إذ هو كثير الدوران في لزومياته وما على من يريد لثمًا من ثغر محبوب أن يطوي إليه السباريت؟ أليس كعب بن زهير يقول:
أمست سعاد بأرض لا يبلغها
…
إلا العتاق النجيبات المراسيل
هذا ولقد جمح خيال الغزي رحمه الله اللهم غفرًا، بل إغرابه حتى أخذ ينعي على الحجر الأسود أن الشفاه أجحفت به وأثرت فيه، وثغر المحبوب بزعمه يزداد حسنًا على اللثم فهو ههنا يُربي على الحجر الأسود، فتأمل هذا العنت.
ولعمري أن قوله «واللثم يُجحف بالملثوم كرته» آبدة من الأوابد لجساوة عباراتها وخشونتها. وما للكر واللثم. ولا أحمد قوله «الملثوم» كما لا أحمد قوله «يجحف» - وأما «حاشا» و «حوشيتا» وما إليها فتذكير لنا بأنه يجاري المعري. وويل للكوادن من مجاراة العراب. وإنما أراد إلى قول المعري:
ذم الوليد ولم أذمم دياركم
…
فقال ما أنصفت بغداد حوشيتا
فإن لقيت وليدًا والنوى قذف
…
يوم القيامة لم أُعدمه تبكيتا
ثم قال الأديب الغزي:
قابلت بالشنب الأجفان مُبتسمًا
…
فطاح من ناظريك السحر منكوتا
فكان فُوك اليد البيضاء جاء بها
…
موسى وجفناك هاروتًا وماروتا
جمعت ضدين كان الجُمع بينهما
…
لكل جمع من الألباب تشتيتا
جسمًا من الماء مشروبًا بأعيننا
…
يضم قلبًا من الأصلاد منحوتا
وإنما نظر في هذه الأبيات إلى قول أبي العلاء:
يا دُرة الخدر في لُج السراب أرى
…
مُقلدًا بعقيق الدمع منكوتا
إلى آخر ما قاله. ولقد بالغ في التكلف. وإنما سقنا هذا الذي سقناه من تاتئيه لنضرب مثلاً على المجاراة التي يُراد بها إظهار البراعة، فإنها أكثر ما تؤول إلى نقيض ما يريده صاحبها.
هذا والنقائض في الشعر مما يدخل في باب المجاراة المتعمدة كالذي تجده في مناقضات جرير والفرزدق. غير أن هذين كانا يُجريان كلاهما الخطب وقد سبق لهما قبل المباراة أن حددا لأنفسهما مجال القول، فإذا استهل أحدهما بوزن ما وقافية ما كان ذلك كالمؤذن لصاحبه بأن مجال القول ههنا. فمتى جاراه صاحبه في وزنه وقافيته لم يكن بالمبعد كل الإبعاد عن طريقة الإسماح التي تنشأ من الانفعال والنفس العاطفي الحار. ولقد نرى عند جرير والفرزدق أنه ربما عمد أحدهما إلى مخالفة صاحبه في القافية لا في الوزن ليجعل ذلك أقرب إلى ما يهم هو بقوله، من ذلك ما فعله جرير في مجاراة الفرزدق إذ يقول:
إن الذي سمك السماء بني لنا
…
بيتًا دعائمه أعز وأطول
فإنه قد خفض الروي لينحو بالقول عن التفخيم إلى ما هو من طريقه ومذهبه من الوثب والاندفاع. تأمل في التدليل على هذا الذي نذهب إليه قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا
…
بيتًا دعائمه أعز وأطول
بيتًا زُرارة محتب بفنائه
…
ومُجاشع وأبو الفوارس نهشل
أحلامنا تزن الجبال رزانة
…
وتخالنا جنا إذا ما نجهل
وتأمل بعده قول جرير:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعا
…
وبنى بناءك بالحضيض الأسفل
بيتًا يُحمم قينكم بفنائه
…
دنس مقاعده خبيث المدخل
أبلغ بني وقبان أن حلومهم
…
خفت فما يزنون حبة خردل
ولعمري إذ عمد الفرزدق إلى التفخيم والرفع، فلا شيء أبلغ في نقض ذلك من التحقير والخفض، وهذا ما عمد إليه جرير فأجاد.
وقد تجد أحد هذين الشاعرين ربما عدل عن وزن صاحبه ورويه متى بدا له أن يغير مجال القول نفسه، فأما تبعه صاحبه وأما خالفه، وجرير مما يروم جذب الفرزدق إلى الوافر والكامل والقوافي الذلل المنطلقات.
والفرزدق ما يجنح إلى الطويل وإلى ما يكون حزنًا من ضروب الروي.
شيطان الشعر:
هذا ونعود بك أيها القارئ الكريم إلى ما كنا فيه من نعت حال الشاعر حين يروم القول ويلتمس أسبابه في أصناف النغم الذي يصير من بعد مفتاحًا للتعبير وطريقة للبيان والإفصاح.
إن حال الجذب والانفعال التي ترافق تطلع الشاعر إلى اقتناص الوزن المناسب والقافية المؤاتية، هي التي تصبغ كلامه كله بصبغ واحد، وتشيع فيه روحًا واحدًا، وتجعله ذا نفس واحد تصل، وهي في رأينا سر الوحدة عند الشاعر العربي وجوهر الروح العاطفي في كلامه، تفيض أول أمرها نغمًا صرفًا، ثم تنسرب بعد ذلك في مسارب القول الناصع.
وقد بينا لك آنفًا أن طريقة الشاعر العربي في التعبير الجهير المباشر هي التي ألجأته إلى أن يصعد بنفسه إلى قمم من الانفعال حتى يقدر على التصريح غير هائب، لأن همه الاعتراف، وحتى يتقبل السامعون ذلك من صنيعه قبولاً حسنًا. وهو إذ يصعد بنفسه إلى علياء الانفعال، ويُهمهم في أعماقها بالنغم ملتمسًا للتعبير، يصير كما قدمنا إلى شيء من حالة الجذب والُهيام، يرتفع به عن مطلق الفردية البشرية إلى شيء من البطولة. ولذلك زعمت العرب أن الشاعر يصاحبه شيطان يلقي إليه، قال
سويد بن أبي كاهل:
وأتاني صاحب ذو غيث
…
زفيان عند إنفاد القُرع
قال لبيك وما استصرخته
…
حاقرًا للناس قوال القذع
ذو عُباب زبد أذيه
…
خمط التيار يرمي بالقلع
زغربي مُستعز بحره
…
ليس للماهر فيه مُطلع
هل سُويد غير ليث خادر
…
ثئدت أرض عليه فانتجع
وغير خاف ههنا أن شيطان سويد هو سويد نفسه بدليل البيت الأخير، وهذا يقوى ما نزعمه من حالة الجذب. وقضية شيطان الشعر معروفة فلا تحتاج إلى بسط ههنا. ويحسبك شاهدًا على إيمان العرب بها أن الدين ألمع إلى مذهبهم هذا في قوله تعالى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)} . والمنعوتون بالإفك والإثم والكذب ههنا هم الكهان، ثم أضيف الشعراء إليهم بسبيل المشابهة والمضاهاة ومنهم من استثنته الآيات كما ترى. وفي الأثر أن حسان بن ثابت أُعين بروح القدس بعد أن أسلم، وهذا أيضًا دليل على إثبات الهاتف الذي يجذب الشاعر ويجيش في صدره.
ويحسن بنا هنا أن نوازن بين مزاعم الفرنجة أخذًا عن يُونان في نسبة الشعر إلى «الميوازت» أو «عرائس الشعر» وبين مزاعم العرب في الشيطان والرئي. ألا ترى أن الذي تلهمه العرائس جدير أن يكون في بيانه ذا ريث ومهل وانفصاله بنفسه شيئًا ما عن طبيعة الموضوع الذي هو بصدده، حتى يجئ كلامه نعتًا أو كالنعت، لا اعترافًا ولا تصريحًا ولا رومًا إلى إيصال تجربة بعينها إيصالاً مباشرًا إلى نفس السامع.
ذلك بأنه من طبيعة المستلهم إلى العرائس أن يتأملهن ويعجب بهن ويتأتى إليهن، وفي كل هذا شوق وطرب مع تقية وانفصال.
أما من كان قرينه شيطانًا فإنه يخالطه مخالطة لا يدع معه له انفرادًا بنفسه أو انفصالاً بذاتها. وعلى هذا فإن تعبيره يكون ضربة لازب ألوانًا من الاعتراف يتدافعن تدافعًا وينفجرن انفجارًا. فعسى هذا التمثيل أن يعين شيئًا على إدراك بعض حقيقة الفوارق بين مذاهب الشعر الإفرنجي والشعر العربي.
هذا وإذ نحن بصدد الحديث عن شيطان الشعر، فقد لا نبعد عن تثبيت معاني ما نحن بمعراضه، إذا استطردنا بالقارئ شيئًا إلى نعت بعض شعراء العرب المشاهير بنعوت شياطينهم. أليس معلومًا أن كل شاعر قد كان يدعي لنفسه شيطانًا؟ أم لم يمر كلام سويد بن أبي كاهل من قبل؟ أم لا تعلم قول حسان:
ولي صاحب من بني الشيصبان
…
فطورًا أقول وطورًا هوه
وقول الأعشي:
دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له
…
جهنام جدعا للهجين المذمم
فأبو العتاهية مثلاً شيطانه من الحن بالحاء المهملة، وهم أمة خسيسة من الجن شديدو الخبث مع ضعف وتخاذل. ويخيل لي أن أكثر شياطين الشعر «المتعاصر» (1) من هذه القبيلة. وآية الضعف والتخاذل في أبي العتاهية أنه تنكب الجزالة في التعبير بدعوى الزهد، والناس يذكرون أنه كان زنديقًا وكان جشعًا أشد خلق الله حرصًا على المال، والذي في أسلوبه من الركاكة والهجنة لا يخفي. وأحسبه لو لم يتخذ الزهد طريقة ما كان لينفق في زمان كان يستمع إلى أبي نواس وبشار ومروان ابن أبي حفصة.
(1) أي المجتهد أن يوصف بأنه عصري.
ودعبل شيطانه من الجن الآبدين، سكان الفلوات الذين يلمون بالناس أحيانًا ليصرعوهم. وقد ذكر الرواة أنه كان يألف القفار وربما صاحب جماعة الشطار واللصوص وربما قطع الطريق، وهو في كل ذلك يلم بالحضر. وما كان يفعل ذلك إلا ليفتك بعظيم أو خليفة، بهجاء يصمه به آخر الدهر.
وديك الجن، وهو من معاصري دعبل، قد كان شيطانه من العُمار وهم الجن الذين يسكنون البيوت. وقد كان صاحب طريقة من النظم عسى أن يكون سبق بها أبا تمام لما كان يستعمله من البديع والإغراب. وروي له ابن رشيق أنه ألم به دعبل فأنشده قوله:
كأنها ما كأنه خلل الخلة
…
وقف الحبيب إذ بغما
وإنما أراد أن يروعه بهذا، فأنكره دعبل عليه وسخر منه.
وقد كان ديك الجن قبيح المذهب فاجرًا. ويذكر عنه إنه اتخذ جارية وغلامًا للذاته، ثم لما أنست الجارية إلى الغلام وزنها هو بريبة قتلهما، وجعل يرثيها ليكفر عن ذنبه. وذلك لا يكفره. ولعله نظم مرثيتهما وهما حيان ثم قتلهما بعد ذلك. وحسبك هذا من شره.
والحسين بن الضحاك الخليع من العمار أيضًا، إلا أن شيطانه أسكن حالاً وأنعم بالاً من شيطان ديك الجن، وقد غبر زمانًا طويلاً، وقد كان رحمه الله مبتلى بالغلمان، وله فيهم أشعار ذكرها صاحب الأغاني غاية في الرفث والخبث وأعجب كيف غفل النقاد المعاصرون عنه، واتهموا أبا نواس دونه.
ولك بعد أيها القارئ الكريم أن تجمع بخيالك، فتتمثل لأبي تمام شيطانًا تظاهر بالإيمان واتخذ سمت القضاة، وهذا ما نعته به ابن رشيق، وتتمثل لبشار شيطانًا تظاهر بالإيمان واتخذ سمت القضاة، وهذا ما نعته به ابن رشيق، وتتمثل لبشار شيطانًا من قبيل الغيلان، وللبحتري عفريتًا سمع القرآن وآمن، ولأبي الطيب آخر