الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أيضًا:
إن الخليط أجد البين فانفرقا
…
وعُلق القلب من أسماء ما علقا
ولزهير أنفاس حرار. ومن آياتها هذه الملاحقة المذهلة بين الرمز والمرموز إليه، في ذكره الخليط والبين أولاً، ثم ذكره أسماء وما عُلقه من الشغف بها والرغبة إليها ثانيًا.
البرق وتوابعه:
هذا، ومن رموز الشوق الكبرى البرق. وقد قدمنا لك طرفًا من الحديث عنه
قال امرؤ القيس:
أعني على برق أراه وميض
…
يضيء حبيا في شماريخ بيض
وهو رمز بعيد الغور، شديد العمق. وذلك أن فيه معنى النار يرمز إلى خصوبة الأنثى، كما أن فيه معنى السحابة والسقيا. قال عبيد بن الأبرص:
فيهن هند وقد هام الفؤاد بها
…
بيضاء آنسة بالحسن موسومة
فإنها كمهاة ألجو ناعمة
…
تُدني النصيف بكف غير موشومة
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه
…
في مكفهر وفي سوداء مركومة
فبرقها حرق وماؤها دفق
…
وتحتها بارق وفوقها ديمة
فذلك الماء لو أني شربت به
…
إذًا شفى كبدًا شكاء مكلومة
فالبرق هو هند كما ترى.
والشعراء مما يتخذون البرق وسيلة للاتحاد مع الطبيعة. وما إلى نعت الطبيعة يريدون. لكنما يريدون إلى الإفصاح عن اللواعج التي في القلوب.
قال طرفة:
كما أحرزت أسماء قلب مُرقش
…
بحب كلمع البرق لاحت مخايله
وقال امرؤ القيس:
نشيم بروق المُزن أين مصابه
…
ولا شيء يشفي منك يا ابنة عفزرا
واجعل قوله في المعلقة:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب
…
أمال السليط بالذبال المُفتل
قعدت له وصحبتي بين ضارج
…
وبين العُذيب بعد ما متأمل
على قطن بالشيم أيمن صوبه
…
وأيسره على الستار فيذبل
فأضحى يسح الماء حول كتيفة
…
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
…
ولا أطمًا إلا مشيدًا بجندل
كأن ثبيرًا في عرانين وبله
…
كبير أناس في بجاد مُزمل
كأن ذرا رأس المُجيمر غُدوة
…
من السيل والغثاء فلكة مغزل
كأن مكاكي الجواء غدية .. صبحن سلافًا من رحيق مفلفل
كأن السباع فيه غرقى عشية
…
بأرجائه القصوى أنابيش عُنصل
من قبيل التفريع والتفصيل للمعنى الموجز الواضح الذي في قوله «نشيم بروق المزن أين مصابه» ذلك بأن أمرأ القيس في مستهل أبياته هذه إنما يصف برقًا بعيدًا جدًا، كبعد النار التي تنورها من أذرعات وهو بيثرب. ثم إن هذا البرق جعل يدنو من عدوته المقاربة للوهم بين ضارج والعذيب، حتى صار إلى الستار ويذبل، فرأى الشاعر صوبه وارتاح إليه وجعل ينعته النعت الدقيق. وكأن امرأ القيس قد احتال على شوقه وهيامه وحنينه ولاعج آماله المرموز إليه بالبرق البعيد حتى صير كل
ذلك غيثًا قريبًا، وهذا الاحتيال مكنه من أن يلتمس العزاء من تأمل الغيث والفناء في ذلك التأمل. وقد يخيل إليك أول الأمر أن أبيات امرئ القيس هذه إنما هي مجرد تصوير ونعت ليس إلا ولكن فيها كما ترى مع ذلك روحًا قويًا أخاذًا. فإذا التمست أن تؤول هذا الروح القوي الأخاذ بأنه من براعة الصورة أو جودة التشبيه، فأعلم أن التماسك غير بالغ بك إلا إلى فهم جانبي مقارب للسطحية، إذ منشأ هذا الروح القوي الأخاذ هو من المعاني الكامنة تحت رمزية البرق: تلك المعاني التي تمت إلى الشوق والحنين وحب الأنثى واستحسان الجمال مع اليأس من أخذه كاملاً واستصفائه. وقد حولها الشاعر كلها من مسلكها ثم سما بها من مجاريها في أعماق النفس إلى تأمل الغيث والطبيعة وروم الاتحاد معهما.
وقد وصف لبيد بن ربيعة البرق في قصيدته اللامية «ألم تُلم على الدمن الخوالي» فقال:
أصاح ترى بُريقًا هب وهنًا
…
كمصباح الشعيلة في الذبال
أرقت له وأنجد بعد هدء
…
وأصحابي على شُعب الرحال
يُضيء ربابه في المُزن حُبشًا
…
قيامًا بالحراب وبالإلال
كأن مُصفحات في ذُراه
…
وأنواحًا عليهن المآلي
ثم وصف المطر ثم وصف السيل. ثم ختم جميع ذلك بقوله:
سقى قومي بني مجد وأسقى
…
نُميرًا والقبائل من هلال
رعوه مربعًا وتصيفوه
…
بلا وبإسمي ولا وبال
فأشعرك بهذا أنه لم يرد من نعت البرق والغيث إلا إبلاغك جانبًا من حب قومه والأماني لهم مع أشواق أخرى كثيرة، لعل هذا الحب لقومه لم يكن إلا طرفًا منها
ورمزًا إليها. ومما يقوي ما نذهب إليه من هذا المعنى قول لبيد في أخريات هذه القصيدة:
همو قومي وقد أنكرت منهم
…
شمائل بدلوها من شمال
هذا وقد كشف جرير بعض ما يكمن من المعاني تحت ذكر البرق في قوله:
وهاج البرق ليلة أذرعات
…
هوى ما نستطيع له طلابًا
وقوله:
سمت لي نظرة فرأيت برقًا
…
تهاميًا فراجعني ادكاري
يقول الناظرون إلى سناه
…
نرى بُلقًا شمسن على مهار
لقد كذبت عداتك أم بشر
…
وقد طالت أناتي وانتظاري
وقد أكثر الشعراء بعد جرير من ذكر البرق أيما إكثار، واتخذه المتأخرون من شعراء المديح النبوي رمزًا خالصًا لمعاني الوجد القدسي. قال أحدهم:
إن لمع البرق من خيف منى
…
جدد الوجد وهاج الحزنا
كُلما طرز أثواب الدجى
…
لمُعه أحرم عيني ألوسنا
وإلى الكامن من معاني الصبابة والهوى والشوق والحنين تحت البروق أشار المعري في قوله (1):
وما هاج ذكري بارق نحو بارق
…
وما هزني شوق لجارة هزان
وقوله (2):
ويُطربني بعد النهى قول قائل
…
سقي بارقًا من جانب الغور بارق
(1) اللزوميات 2/ 371.
(2)
نفسه 2/ 122.
ومما يقوي عندك ما نزعمه من ارتباط معنى البرق بالوجد والحنين أسطورة عمرو بن يربوع والسعلاة، إذ زعموا أن عمرًا هذا أخذ السعلاة وأراد أن يجعلها امرأة له، فقيل له إنك ستجدها امرأة صدق ولكن اجعل على وجهها شملة إذا رأيت البرق، لكيلا تراه، فإنها إن رأته حنت إلى أهلها وتركتك. فيقال إنه وجدها كما قالوا وكان له منها بنون وبنات وكان يستر وجهها كلما أحس البرق. فغفل عن ذلك مرة. ورأت هي البرق فنازعها الحنين إلى أهلها فقالت له:
أمسك بنيك عمرو إني آبق
…
برق على أرض السعالي آلق
ونفرت نفرة واحدة فكان ذلك آخر العهد بها. وإلى هذا المعنى أشار المعري في قوله من اللامية يصف إبله ونزاعها إلى الشام:
إذا لاح إيماض سترت وجوهها
…
كأني عمرو والمطي سعالي
هذا ومن الرموز المتفرعة عن البرق ومعاني السقيا أصناف ما يذكرونه من الرياح والنسائم والخزامي والحنوة وهلم جرا، وكل هذه شديدة العلاقة بالديار والمواضع كما أنها شديدة العلاقة بالحب والعشق وذكريات الجمال. ومن خير ما يستشهد به في هذا الباب كلمة عبد الله بن الصمة:
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
…
وريا روضه بعد القطار
وأهلك إذ يحل الحي نجدًا
…
وأنت على زمانك غير زاري
شهور ينقضين وما شعرنا
…
بأنصاف لهن ولا سرار
وقول جرير:
يا حبذا جبل الريان من جبل
…
وحبذا ساكن الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
…
تأتيك من قِبل الريان أحيانًا
هبت شمالاً فذكرى ما ذكرتكمو
…
عند الصفاة التي شرقي حورانا
ويعجبني من أقوال المتأخرين في هذا الباب قول مهيار:
يا نسيم الصبح من كاظمة
…
شد ما هجت الجوى والبرحا
الصبا إن كان لا بد الصبا
…
إنها كانت لقلبي أروحا
يا نداماي بسلع هل أرى
…
ذلك المغبق والمُصطبحا
اذكرونا ذكرنا عهدكمو
…
رُب ذكرى قربت من نزحا
واذكروا صبا إذا غنى بكم
…
شرب الدمع وعاف القدحا
قد عرفت الهم من بعدكمو
…
فكأني ما عرفت الفرحا
وروى اليافعي في روض الرياحين على لسان امرأة صالحة:
كتمت الوشاة غرامي بكم
…
وحُبكم في حشى أضلعي
وموهت عنكم بوادي النقا
…
وسكان رامة والأجرع
ولولاكمو ما ذكرت الهوى
…
ولا حن قلبي إلى لعلع
ونحو هذا كثير.
ولابد من التنبيه بعد على مكان البرق والمطر من مطالع القصائد، وهذا باب يطول فنجتزئ منه بيسير. وقد مر بك قول امرؤ القيس:
أعني على برق أراه وميض
…
يُضيء حبيا في شماريخ بيض
وله أيضًا:
أصاح ترى بريقًا شب وهنا
…
كنار مجوس تستعر استعارًا
فجمع بين البرق والنار كما ترى.
وقال يستهل بذكر المطر:
ديمة هطلاء فيها وطف
…
طبق الأرض تحرى وتدر
والسقيا لاحقة بهذا الباب وتدخل فيها التحية كقولهم «يا اسلمي» : من ذلك قول المرقش:
ألا يا اسلمي لا صُرم لي اليوم فاطما
…
ولا أبدًا ما دام وصلك دائمًا
ومما يدلك على أن هذا لاحق بالسقيا قوله في هذه الكلمة نفسها:
ألا يا اسلمي بالكوكب الطلق فاطما
…
وإن لم يكن صرف النوى متلائمًا
وقال جرير في تفصيل هذا المعنى:
ألا حي أهل الجوف قبل العوائق
…
ومن قبل روعات الحبيب المفارق
سقى الحاجز المحلال والباطن الذي
…
يُشن على القبرين صوب الغوادق
وقد مر بك قوله في البرق. وله من الاستهلال بصريح السقيا قوله:
قل للديار سقى أطلالك المطر
…
قد هجت شوقًا فماذا ترجع الذكر
وقوله:
سقيًا لنهي حمامة وحفير
…
بسجال مُرتجز الرباب مطير
وقوله:
متى كان الخيام بذي طُلوح
…
سُقيت الغيث أيتها الخيام
وله من نحو هذا كثير.
وللمولدين في البرق والمطر والسقيا والتحية مطالع كثيرة مما يؤثرونها أي إيثار، وأحسب أبا تمام ممن عبدوا هذا الطريق، وله في السقيا نحو قوله:
أسقى طُلولهم أجش هزيم
…
وغدت عليهم نضرة ونعيم
وفي البرق:
يا برق طالع منزلاً بالأبرق
…
واحد السحاب له حُداء الأينق
وكأنه قد كان له في الاستهلال بذكر المطر ولع خاص، وفي ما رأيت شاهد، وأوضح وأدل قوله:
سقى عهد الحمى سبل العهاد
…
ورُوض حاضر منه وبادي
وقوله:
ديمة سمحة القياد سكوب
…
مستغيث بها الثرى المكروب
لو سعت بُقعة لإعظام نُعمى
…
لسعى نحوها المكان الجديب
ولاحق بهذا الباب قوله في الربيع:
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر
…
وغدا الثرى في حليه يتكسر
وشبيه بهذا قول المتنبي:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
…
بمنزلة الربيع من الزمان
هذا والنار مما يلحق بالبرق في باب الشوق، كما قد رأيت البرق يلحق بها في رمزية العبادة الغامضة، من ذلك قول النابغة:
ألمحة من سنا برق بأي بصرى
…
أم وجه نُعم بدا لي أم سنا نار
وقد مر بك قول امرئ القيس «كنار مجوس تستعر استعارًا» ، وقول عدي بن زيد:
يا لُبيني أوقدي النارا
…
إن من تهوين قد حارا
وقال جرير:
أهوى أراك برامتين وقُودًا
…
أم بالجزيرة من مدافع أُودا