المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٣

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث/ في الرموز والكنايات والصور)

- ‌الباب الأول

- ‌تمهيدطبيعة القصيدة

- ‌تعريف القصيدة:

- ‌أطوار أوزان القصيدة:

- ‌السجع والتقفية:

- ‌الأوزان:

- ‌ما قبل الشعر وأثره في النثر العربي:

- ‌أثر القرآن على البلغاء:

- ‌شاعرية النثر العربي:

- ‌الباب الثانيطبيعة الشعر العربي

- ‌معنى الاختلاس:

- ‌الحركات والسكنات والحروف:

- ‌ القافية

- ‌طور التنويع:

- ‌الرجز والهزج:

- ‌القصيدة والقافية الواحدة:

- ‌حالة الجذب

- ‌منزلة الشاعر:

- ‌الصعلكة والفروسية:

- ‌بطولة الشاعر:

- ‌طريقة القصيدة ووحدتها:

- ‌شكل القصيدة:

- ‌المبدأ والخروج والنهاية:

- ‌الباب الثالثالمبدأ والنسيب

- ‌(1) الرمزية المحضة

- ‌تمهيد:

- ‌رموز الأنثى ورمزيتها:

- ‌(2) رمزية الشوق والحنين

- ‌تمهيد:

- ‌رمزية المعاهد والديار:

- ‌البرق وتوابعه:

- ‌الحمامة والحنين:

- ‌ الأصل النوحي

- ‌الأصل اليمامي:

- ‌الأصل الهديلي:

- ‌الحمامة وبكاء العشاق

- ‌الأثافي والرماد والحمام

- ‌الليل والنجوم:

- ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

- ‌الوداع والظعائن:

- ‌تتمة في الحركة والحيوية:

- ‌أوصاف النساء ومداخل الغزل:

- ‌مدح النساء وذمهن:

- ‌مقاييس الجمال:

- ‌الخمصانة:

- ‌نموذج بين بين:

- ‌النموذج العظيم:

الفصل: ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

‌الباب الثالث والرابع

الغزل والنعت

جعلنا هذين البابين معًا لأن الفصل بينهما قد يقبح معه التكلف. ومرادنا بالغزل ما يطلق عليه المعاصرون لفظ «الجنس» وهو لفظ قد سار ولا أحبه ولا يخلو من قذع، ومع هذا فلفظ الغزل غير دال كل الدلالة عليه. ومرادنا بالنعت ما يكون من أوصاف النساء في ضوء المقاييس الجمالية التي يتواضع عليها المجتمع ولا سيما عند أصحاب الفن والذوق.

وقد كانت العرب أمة غزلة. ولا نريد أن نخرج بعد إلى دعوى من دعاوي العصبية لا تقوم على أساس من منطق، إذ قلت أمة لا تدعي لرجالها أنهم أفحل الرجال، ولنسائها أنهن أجمل النساء، ولبيانها أنه أنصع البيان. وحقيقة الغزل انه اشتهاء وبينٌ، ثم تعبير عما يكون من تمازج نازع الاشتهاء ووازع البين. وهذا التعبير في الغالب شكوى من الحرمان وتعز بذكرى منالة كانت أو متوهمة، وإيحاء بما يلابس هذين من يأس أو تأميل. وأزعم أنه كلما زاد الحرمان في حدود الإمكان، كان ذلك أشد للوعة وأنطق بها، وأقول في حدود الإمكان، لأنه مع الاستحالة القاطعة يكون اليأس القاطع، ومع اليأس القاطع تكون البغضاء. وقد فطنت شعراء العرب لهذا المعنى، فادعوه في مخاطبة المحبوب على وجه الوعيد والحزم في سياسة الهوى. قال لبيد:

فاقطع لبانة من تعرض وصله

ولشر واصل خلة صرامها

ولقد كان ما يزيد به الحرمان عند العرب كثيرًا. ذلك بأن البيئة العربية

ص: 263

صحراوية جافة، لابد لقاطنها من طلب النجعة والحل والمرتحل. ولم يكن النساء يصطحبن في أكثر ذلك، إنما كن يصطحبن عند الظعن إلى المربع، وعند الانصراف منه إلى المقام، وحين يدعو داع من دين أو عرف أو معرة جوع أو خوف.

وكأن أهل القرى من العرب -وقد يتبادر إلى الظن أن يؤثروا الإقامة- كثيري الأسفار وكان منهم من هم أشد إبعادًا لمدى الرحلة، من أبدى البدو، وأقل اصطحابًا للنساء مثل أهل مكة والطائف. ولقد كان أهل يثرب وهم فلاحون -والإقامة والفلاحة صنوان- مما يرتحلون كثيرًا بين صنمهم مناة وبني عمهم غسان في مشارف الشام، وقد كانوا بعد على صلة بتجارة قريش ومن إليها في طريقها إلى الشام:

ولقد كان من العرب كما قدمنا من ركبوا البحر وألفوا سفره ووصفوه كأهل عمان والبحرين. قال طرفة:

عدولية أو من سفين ابن يامنٍ

يجور بها الملاح طورًا ويهتدي

وكانت قريش، كما ألمعنا، تركب البحر وتعرفه، ولم يكن سبيلها إلى الحبشة إلا عليه وذكر البحر في القرآن كثير، ونعته بليغ، قال تعالى في سورة هود من صفة السفينة {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} وقال تعالى في يونس {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} - وموضع ضمير المخاطب لا يخفي. وقال تعالى في الشورى {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} وفي الدخان {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} وفي الصافات {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . وما أحسب ما يذكر من نعت عمرو بن العاص للبحر كأن أول المامة له به كانت بمصر إلا باطلاً لما نعلمه من ركوبه البحر إلى الحبشة، وكيده لعمارة بن الوليد ثم كيده للمسلمين هناك وأرى أن عبد الله بن أبي السرح إنما نبهه إلى عمل الأسطول

ص: 264

سابق خبرته بتجارة قريش في البحر ومثل هذا قد يقال في معاوية رضي الله عنه أيضًا:

هذا وقد كانت العرب، مع ما تدعوهم إليه من دواعي الاقتصاد والبيئة والحج، أو قل من أجله، مولعين من حيث هم أفراد بالسفر. وكان مما يزيد ولعهم به -على ما فيه من كلفة ومشقة وحرمان وخطر- ما تعلموه في ألفته من معنى الحرية الفردية والمساواة الإنسانية، إذ السفر يتيح من ذلك ما لا يتيحه غيره، ولاسيما سفر الصحراء. ولقد أجمع الرحالون الإفرنج الذين صحبوا البدو وعاشروهم في هذا القرن وفي الذي قبله، على قريب من هذا الذي نذهب إليه من كلف العرب بالرحلة وتعلقهم بالحرية الفردية، وذكر سيذجر في معارض ملاحظاته أن العربي من أحرص شيء على رحلة يرتحلها وحده أو في جماعة، وقطع بأن علة ذلك طلبه للحرية لا غير.

ولم يكن العربي ليخلو بحال من ذريعة يتذرع بها إلى السفر من نذر أو حج أو عمرة أو زيارة صنم أو حكم أو عراف أو طلب غارة أو قصد سوق. وذكر التوحيد في الأمتاع والمؤانسة أن أسواق العرب كانت تقام فيما بين دومة الجندل إلى حجر فعدن أبين فصنعاء فعكاظ. وكانت العرب تجتمع إلى هذه الأسواق من كل صوب. ولا يبعد أن بعضهم ربما قصدها جميعها أو أكثرها.

ثم الوفادة كانت من أدعى ما يتوصل به إلى السفر، وقد يفدون جماعة كما في خبر عبد المطلب وقومه إذ وفدوا على سيف بن ذي يزن، وأشياخ القبائل إذ أوفدهم النعمان على كسرى، وامرئ القيس وصحبة إذا وفدوا على قيصر. وقد يفدون أفرادًا كما وفد النابغة إلى الغساسنة والمناذرة، وحسان، وكما كان يفد عروة الرحال والأعشى- قال أمية بن أبي الصلت يمدح سادات من قتلوا ببدر:

من كل بطريق لبط

ـريق نقي اللون واضح

دعموص أبواب الملو

ك وجائبٍ للخرق فاتح

ص: 265

فمدح كما ترى بالوفادة وأبعاد مدى الأسفار، وزعموا أن دعموصًا هذا كان دليلاً ماهرًا، فضُرب به المثل فقيل أهدى من دعيميص.

ولقد كان من أمر الوفادة أن العربي إذا سمع بسيد سمح جزل، ملكًا كان أو غير ملك، شد الرحال إليه، فإن أنجح مدح، وإن أخفق ذم، وقد يعطى صفة الرحلة أكبر نصيب إن كان شاعرًا ونظم في ذلك قصيدة. وهذا باب سنعرض له إن شاء الله.

وفي مصداق هذا الذي نقول به من حب الوفادة بعض ما كتبه سذجر. وقال الأعشى، وكان ممن يفدون على الملوك والسوقة، يذكر قيس بن معد يكرب:

ونبئئت قيسًا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

فجئتك مرتاد ما خبّروا

ولولا الذي خبّروا لم ترن

فهذا نص كما ترى. ولا يقدحن فيه أنه للأعشى، إن احتج محتج بالمشهور من وفادة ذلك الشاعر. فقد كان بلسان دهره وبيئته ينطق، وكانت منزلته تحل له من ضروب القول، وتحبوه من القة ما لا يتأتى لغيره. ولقد رام تقليده ذو الرمة حيث قال:

سمعت: الناس ينتجعون غيثًا

فقلت لصيدح انتجعي بلالاً

فعيب عليه. وإنما لحقه العيب من حيث إنه تردد فلم يستشعر في نفسه مثل ثقة الأعشى، وأبهم فلم يصرح ببعض ما هم به كتصريحه، على أن بيته هذا لا يخلوا من معنى حسن، إن صرفت جانبًا منه إلى أنه سمع بانتجاع الناس لغيث من الغيوث، فآثر ألا ينتجعه معهم ولكن ينتجع بلالاً. ومثل هذا لا يبعد تصوره في مذهب ذي الرمة.

ولجرير في نحو من نمط الأعشى، وكانت منزلته مما تجرئه على ذلك:

إليك رحلت يا عمر بن ليلى

على ثقةٍ أزورك واعتمادا

ص: 266

تعود صالح الأعمال إني

رأيت المرء يفعل ما استعادا

تزود مثل زاد أبيك فينا

فنعم الزاد زاد إبيك زادا

وهذا كأنه تعريض بما كان استحدثه عمر من حرمان الشعراء.

هذا ولا يخفى على القارئ الكريم بعد أن العربي قد كان في أكثر هذه الرحلات التي يتجشمها، طائعًا مختارًا، أو خاضعًا لدواعي البيئة الصحراوية لا سبيل له إلى ما يحل له من النساء فضلاً عن غيرهم، وأتى بذلك مع العنق المسيطر، والإدلاج بعد التأويب، أو كما قال علقمة:

هداني إليك الفرقدان ولا حبٌ

له فواق أصواء المتان علوب

بها جيف الحسرى فأما عظامها

فبيض وأما جلدها فصليب

تراد على دمن الحياض فإن تعف

فإن المندى رحلة فركوب

وما كان ما تلقاه ناقة علقمة إلا طرفا مما كان يلقاه هو، وإنما كنى بها عن نفسه.

فإذا أضفت إلى هذ الذي قدمنا -مما فرضته ظروف البيئة ومذهبهم في حب السفر- ما كانوا عليه أيضًا من التشدد في الغيرة على النساء، تبين لنا مدى الحرمان الذي كان يحيط بهم، وما كان يقاسيه أولو الإحساس والذوق المرهف خاصة.

ولا يكاد يداني العرب أحد في شدة الغيرة. وذلك أنهم اجتمعت فيهم عوامل عدة مما يدفع إليها دفعًا. من ذلك مثلاً أنهم كانوا يرون المرأة كالمتاع، فيحرصون عليها كما يحرص على المتاع، ومن شواهد هذا من رأيهم أنهم كانوا يسمونها «ثقلاً» . ومنها أنهم كانوا يؤلهون الخصوبة، ويعبدونها في أمثال اللات والعزى ومناة، ويتقربون إليهن بالضحايا، فكانت العبادة مما يضفي على الحرص الاقتصادي ألوانًا من التقديس. وقد كان لهم من العادات في باب الخصومة ما يناقض معنى الغيرة في

ص: 267

ظاهره، كالإستبضاع والضماد وبغاء الشريفات. وهذا من قبيل الشذوذ الذي تزيد به قوة القاعدة إذا الاستبضاع مثلاً من قري طلب الأطبة يستحل فيه ما لا يستحل في سواه، من تقبل احتمال الرزء العظيم لدرء أعظم منه، وقد كان العقم يعد لديهم من كبريات الكوارث ومن شواهد سخط الآلهة وقال القرآن يهاجم هذا من عقيدتهم:

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (سورة الشورى)، وقال في الرد على من عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعيش له مولود ذكر ونبزوه بذلك:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وفي قوله تعالى {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} تحدِّ للأصنام ولمن كانوا ينحرون عند غبغب العزى وصاحباتها. وقد كان الضماد مما يعاب ويستهجن، قال الهذلي:

تريدين أن تضمديني وخالدًا

وهل يجمع السيفان ويحك في غمد

وما سلم بغاء الشريفات من أبنٍ وتجريح، على أنه فيما يبدو قد كان من عمل عبادة الخصوبة، وله مشابه فيما كانت تفعله بعض غابرات الأمم ومازالت تفعله بعض حاضراتها، من تضحية بكارات العذارى في بيوت الأصنام أو ما يجري مجراهن آية ذلك ما تجده من إلحاق أخبارهن بأخبار المثالث. وقد طعنوا في عمروا بن العاص وقالوا ابن النابغة كأنهم يبغون بذلك أن يعدلوا به عن نسب العاص بن وائل. وقد طعنوا في عقبة جد أبي معيط وزعموا أن نسبة لذكوان، عبد رومي. وقالوا «أسر من نكاح أم خارجة» ولا يخلو قولهم هذا من الزراية مع الذي حمل عليه من معنى التعجب.

وقد يلحق بهذا الباب من الشذوذ ما كانوا يكرهون عليه الفتيات من البغاء -وذلك أن الإماء لم يكن عندهم بمنزلة الحرائر وكل ما كان ينقص به قدر الأمة، كان يزيد به قدر الحرة. ومثل هذا الازدواج في القيم الأخلاقية من أخص خصائص

ص: 268

المجموعات التي تقتني الرقيق، ومما يكون بمثله متنفس، للرجال دون النساء، من ضغط الحرمان. وقد كره الإسلام هذا من صنيعهم واستهجنه لما فيه من ضيم الإنسانية والدنس، فقال تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فدل بهذا على حقهن عند الله. وقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فحث على المساواة بين الرقيق والأحرار في مبدأ الطهارة والعفة كما ترى (1) وأمرهم بأن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال:{إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} - ثم أمر بالعفة لمن لا يتيسر له مهر الزوجة وأداة العيش قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ولم يفرق في ذلك بين عبد وحر. وقال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فأوجب الحد على الأحرار والعبيد كما ترى. قال الطبري، حدثني أبو السائب، قال ثنا حفص بن غياث، قال ثنا أشعث، عن أبيه، قال أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة، وقد أحرج جارية إلى باب الدار، وقد زنت، فدعا رجلاً، فقال اضربها خمسين، فدعا جماعة ثم قرأ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أ. هـ (2)

وهذا الذي صنعه الإسلام من التخفيف على الأرقاء والأخذ بساعدهم قد ضاقت به ربقة الحرمان على العربي أضعاف ما كانت عليه في الجاهلية.

وقد بقيت مع ذلك عند العرب بقية من ازدواجيتهم الخلقية الأولى مما كان يزيد به معنى الغيرة على الحرائر. من ذلك أنهم مع الذي صاروا إليه من إلحاق الهجناء

(1) تفسير الطبري 18/ 126.

(2)

نفسه 18/ 70.

ص: 269

بالأنساب، كانوا يأنفون من توريثهم. وخبر الأعرابي مع القاضي إياس معروف.

وقصة بني أمية في إقصاء الهجناء عن إرث الخلافة مشهورة. وقد روى عن عقيل بن علفة أنه أبدى أنفة من مصاهرة عبد الملك بن مروان خشية أن يكون الصهر أحد هجنائه. وهذا خبر معروف. ومهما يكن من شيء فقد كان مدلول البغيِّ عند عرب الجاهلية قبيحًا مذمومًا، شنيعًا كل الشناعة، يدلك على ذلك قوله تعالى في سورة مريم:{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} - وإنما أصل البغي من الأمة المباغية ثم صار يطلق على الحرة من باب التشبيه. وقالت هند لما بايعت فيما روى الطبري (1)«وهل تزني الحرة يا رسول الله، قال، لا والله ما تزني الحرة» أ. هـ.

هذا ومن العوامل التي كانت تحث على الغيرة وتزيدها، ما كان عليه العرب من عرف الفروسية، وكان مما يقتضيه حماية الحرم ولقاء الموت دونهن. ولقد مر بك خبر عثمان بن طلحة كيف صنع مع سيدتنا أم سلمة على شركه وإسلامها. وقد رووا عن ربيعة بن مكدم أنه حمى الظعن حيًا وميتًا ولهم في ذلك أخبار، تجد بعضها في كتاب الأغاني (2). وأنشدوا له إذ هو يقاتل عنهن ويرتجز:

جررن أطراف المروط وأربعن

فعل حييات كأن لم تفزعن

إن يمنع اليوم نساءٌ تُمنعن

وقوله:

سيري على رسلك سير الآمن

سر رداحٍ ذات جأشٍ ساكن

(1) تفسيره- 28/ 78.

(2)

الأغاني (مطبعة التقدم) 14/ 125 فيما بعد.

ص: 270

وبعض هذا روى لغيره (1)، ولعله مما كان يجري مجرى الأناشيد. فقد روى الطبري للمختار حين استقتل:

قد علمت بيضاء صفراء الطلل

أني غداة الروع مقدامٌ بطل

وقريب منه رواه صاحب السيرة لبعض العرب (2).

ومما رثى به ربيعة بن مكدم، يذكرون حميته، قول ضرار بن الخطاب، وينسب لحسان:

نفرت قلوصي من حجارةٍ حرةٍ

بُنيت على طلق اليدين وهوب

لا تنفري يا ناق منه إنه

شريب خمرٍ مسعرٌ لحروب

لا يبعدن ربيعة بن مكدم

وسقى الغوادي قبره بذنوب

لا يبعدن ربيعة بن مكدمٍ

وسقى الغوادي قبره بذنوب

وما رثى به كثير.

وقال عنترة بن شداد، وكان من حماة الظعن، يذكر يوم الفروق، حين طمعت بنو سعد في عبس لما رأته من قلتها، فاستقتل عنتر وأصحابه، حتى ردوا بني سعد مهزومين شر هزيمة:

ألا قاتل الله الطلول البواليا

وقاتل ذكراك السنين الخواليا

وقولك للشيء الذي لا تناله

إذا ما هو احلولى ألا ليت ذاليا

ونحن منعنا بالفروق نساءنا

نطرف عنها مشعلاتٍ غواشيا

أبينا أبينا أن تضب لثاتكم

على مرشقاتٍ كالظباء عواطيا

فما وجدونا بالفروق أشابةً

ولا كشفًا ولا دُعينا مواليا

ولا يخفى عليك تعرض عنتر بها تمنته بنو سعد في البيت العتيق ولا فخرهم ولا تحديه لهم في البيتين الخامس والرابع.

(1) السيرة 4/ 62.

(2)

السيرة 4/ 62.

ص: 271

هذا وسباء النساء كان مما يدخل في عرف الفروسية على طريقة عكسة بالنسبة إلى ما سبق. ذلك بأن الفارس إنما كانت تميزه الغارة. وكان أشجع الفرسان يعتمدون أعز ما ينهب فيقصدونه. ولم يكن شيء أعز من النساء. قال الحماسي (1).

والحرب لا ييبقى لجا

حمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النـ

جدات والفرس الوقاح

كشفت لهم عن ساقها

وبدا من الشر الصراح

فالهم بيضات الخدو

رهناك لا النعم المراح

وخبر طسم وجديس من أفظع أخبار الفحولة والسباء. وذلك أن طمسًا لما غلبت جديس وملكتها، فرضت عليها فيما يذكرون، ألا يبنى فيها بعروس قبل أن يفتضها سيد طسم. وقد أنفت جديس من هذا الخزي آخر الأمر، فدبرت لطسم تدبيرًا اصطلمتها به. وبلغ ذلك حسان ملك حمير، فغضب للذي أصاب طسما، وسار إلى جديس فغزاهم كما مر بك في خبر الزرقاء، فلم ينج منها إلا رجل واحد هو الأسود بن عفار، وفر هذا إلى الجبلين، فاحتالت عليه طيء فقتلته فكان ذلك آخر العهد بجديس.

وخبر ذي شناتر لاحق بخبر طسم وجديس وشبيه به في فظاعة ما تبلغه الفحولة. وذلك أن ذا شناتر استلب ملك اليمن ولم يكن من بيت الملك. فعمد إلى سياسة من البغي الفاحش، يخضع بها أبناء الأذواء وهم صغار، حتى لا تحدثهم أنفسهم بالانتقاض عليه وهم كبار وغبر دهرًا يفعل ذلك. فأنف ذو نواس لما هم به فأراده على ما كان يريد عليه غيره. فقتله ذو نواس وملك حمير دهرًا. ثم خد الأخدود لنصارى نجران فيما زعموا. فغضبت لذلك الحبشة فغزته. فلما انهزم اقتحم

(1) شرح الحماسة للتبريزي، بولاق، 2/ 30 - 31.

ص: 272

بفرسه البحر، فكان ذلك آخر العهد به وبالتبايعة أيضًا: والخبران كما ترى يبتدئان بطرف من سرف الفحولة، وينتهيان بأنفة الغيرة وانتصارها. ثم كأن الله لم يرضه ما كان من الفاحشة أن يدع له بقية. فأصار طسمًا وجديس وتبعًا والحبشة جميعًا إلى الهلاك. والعبرة في جميع هذا لا تخفى.

وكان نحو هذا من صنيعهم يعد من الفحولة. وليس أحد من الناس بأشد ادعاء للفحولة، أو أعلق بفضيلتها منهم، حتى لقد قالوا كلام فحل وشعر فحل وشاعر فحل. وكأن الفحولة كانت ردًا منهم يردون به على احتدام الغيرة. ولقد تكون الغيرة من شواهدها أو دوافعها فيختلط الأمران، من ذلك أن ربيعة بن مكدم حين قتل الفوارس دون ظعائنه كان فحلاً كما كان غيورًا حمى الأنف. والذين قاتلوه كانوا يرومون أن يكونوا أفحل منه، بأن يغلبوه على الظعائن أو يقتلوه ثم ينتبهوهن ودمه يسيل وأنف غيرته راغم.

وبعد فجميع هذا العوامل التي ذكرنا اقتصاديها، ووئنيها، وعرفيها وسواها مما لم نذكره قد اختلطت فنشأت منها عند العرب غيرة عارمة، قال الأعشى يصف زوج امرأة وشبب بها:

لها ملكٌ كان يخشى القراف

إذا خالط الظن منه الضميرا

إذا نزل الحي حل الجحيش

شقيًا غويًا مبينًا غيورا

هذا في الجاهلية.

وقال عبد الله بن الدمينة يذكر امرأة وواليها:

ولما لحقنا بالحمول ودونها

خميص الحشى توهي القميص عواتقه

قليل قذى العينين يعلم أنه

هو الموت إن لم تصرعنا بوائقه

عرضنا فسلمنا فسلم كارهًا

علينا وتبريح من الغيظ خانقه

ص: 273

فسايرته مقدار ميلٍ وليتني

بكرهي له مادام حيًا أرافقه

فلما رأت ألا وصال وأنه

مدى الصرم مضروب علينا سرادقه

رمتني بطرفٍ لو كميًا رمت به

لببل نجيعًا نحره وبنائقه

ولمحٍ بعينيها كأن وميضه

وميض الحيا تهدى لنجدٍ شقائقه

هذا في الإسلام.

وصورة ابن الدمينة رهيبة مفظعة، وصورة الأعشى مهيبة ممتنعة وكلتاهما من بليغ الغيرة.

وقد رووا أن همام بن مرة همّ بقتل بناته إذ شكون إليه التعنيس فأفصحن، غيرة منه عليهن. ولقد دخل الوأد، وأسبابه كما ذكرنا من قبل اقتصادية ووثنية في أصلها، في معنى الغيرة، حتى لقد عدها بعض أهل التفسير سببًا من أسبابه. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى من سورة التكوير {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} «فإن قلت ما حملهم على وأد البنات قلت الخوف من لحوق العار بهم من أجلهن أو الخوف من الإملاق كما قال الله تعالى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ}، وكانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهن أ. هـ» فقدم الغيرة على السببين الآخرين الجوهريين كما ترى.

ومما شاع قوله في البنات على وجه النهي عن الجزع عليهن إذا متن، وفيه أشعار بالنقص فيهن، والخشية من العار الذي هو أبدا ملابس لهن ما دمن حيات:«دفن البنات من المكرمات» ، وهذا معنى جاهلي بلا ريب، ولا يمكن أن يكون حديثًا لمناقضته صريح القرآن. وقال المعري ونظر إليه:

ودفنٌ والحوادث فاجعاتٌ

لإحداهنَّ إحدى المكرمات

فتأمل.

ص: 274

وقال الفرزدق:

يقولون زر حدراء والترب دونها

وكيف بشيء وصله قد تقطعا

ولست وإن عزت علي بزائرٍ

ترابًا على مرسومة قد تضعضعا

وأهون مفقودٍ إذا الموت ناله

على المرء من أصحابه من تقنعا

يقول ابن خنزيرٍ بكيت ولم تكن

على امرأةٍ عيني إخال لتدمعا

وأهون رزءٍ لامرئٍ غير عاجزٍ

رزية مرتج الروادف أفرعا

وهذا على خشونتنه ومزحه الغليظ في البيت الأخير لا يخلو من معاني الرقة والحسرة، وأن أمرًا يضطر مثل الفرزدق عند الرقة والحسرة إلى الخشونة والغلظة لأمر عظيم.

وقد روى ابن سلام (562) أن يزيد بن عبد الملك تزوج أم عمر وبنت عقيل ابن علفة، فلما أهداها، تمثل جثامة بن عقيل فقال:

أيعذر لاهينا، ويلحين في الصبا

وهل هن والفتيان إلا شقائق

فرمان عقيل بسهم، وقال «تمثل بهذا عند بناتي؟ » فخرج جثامة مراغمًا لأبيه، فأتى يزيد بن عبد الملك، فكتب عقيل إلى يزيد:«أنه قد أتاك أعق خلق الله وكان يزيد قد أعطاه وحباه، فأخذ ذلك منه وحبسه. أ. هـ» .

فانظر كيف همّ عقيل بقتل ابنه ثم لاحقه بالعقوبة عند الخليفة، لا لشيء إلا أنه زل فتمثل أمام البنات يبيت قد تشتم منه الإباحة.

وقد ذكر سذجر أن البدو لا يعرفون في عقاب من تزل غير القتل. ومثل هذا من صون الحرائر قد ظل معمولاً به إلى عهد قريب عند أهل الحفاظ في كثير من البلدان العربية وقد يكون لا يزال معمولاً به.

ومن غرائب ما روي من أخبار الغيرة حديث سليمان بن عبد الملك إذ سمع

ص: 275

شاديًا يشدو وقد طربت لشدوه إحدى جواريه فأرسل في طلبه ظنًا منه أن بينه وبين الجارية علامة، فلما اطمأن لبراءته تمثل بأمثال في معنى الغيرة ثم أمر به فخصي. وعسى أن يكون هذا من باب ظلم الملوك ولكن دافع الغيرة فيه لا يخفى. وخبر الرشيد وأختيه عليه والعباسة مشهور. ومقالة ابن خلدون في نفس خبرة العباسة، هي أيضًا مما يدخل في الذي نحن بصدده من معنى الغيرة.

هذا وقد كانت العرب لغيرتها وحرصها على إظهار الرجولة والفحولة مما تذمر أنفسها عند القتال ولا سيما قتال الثأر باستصحاب النساء. وقد أخذت قريش معها نساءها إلى أحد، وخبر ذلك مشهور. وقد خرجت هوازن إلى حنين ومعها النساء والذراري، وقد عاب هذا دريد إذ لم يكن القوم طلاب ثأر، وكان يخشى على العقائل السباء وقد وقع ما خشية لولا أن منَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما تشفعت إليه أخته الشيماء. وذكر ابن خلدون في المقدمة أن من تدبير العرب في الحرب استصحاب النساء يجعلونهن مرجعًا يفيئون إليه، فإن لم تكن معهم النساء جعلوا الإبل والمتاع بتلك المنزلة. ومما يذكر أن أصحاب الغافقي إنما أتوا في يوم بلاط الشهداء (732 م) من جراء غارة شارل مارتل على الحرم، فاختل لذلك نظامهم.

وهذا بعد باب يطول.

ومما كان يفتخر به العربي صحة النسب. وكانوا يغلون في ذلك. وكل هذا لاحق بمعنى الغيرة.

وكان الطعن في الأنساب والأعراض من قبيل الغارة والسباء. «وجرح اللسان كجرح اليد» ولذلك ما كانوا يأنفون أن ينالوا به، ومما كان العدو يجتهد في الكيد من طريقه لعدوه. ولقد حارب المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حاربوه من هذا الوجه، فلهجوا بحديث الإفك، وكان ذلك من أعظم محنة وقعت به صلوات الله عليه: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ،

ص: 276

وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} - وكانت براءة أمنا عائشة رضي الله عنها في التنزيل من أعلى ما انتصر به الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد نستطرد ههنا فنشير إلى ما يزعمه بعضهم من أن الذي كان بين علي وعائشة يوم الجمل مرده إلى حديث الإفك. ولقد كانت عائشة أوثق بما عند الله في ذلك الشأن من أن تجعل من رسيس الإحن ذريعة إلى سفك الدماء وخوض الفتن.

ولقد عفت عن حسان وكان ممن أفكوا وزعم بعض المفسرين أنه المشار إليه بقوله تعالى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، وأن العذاب العظيم الذي أصابه ذهاب بصره وأنه كنع بالسيف (1). وما أحسب إلا أن حسّان قد لمح إلى ما كان منه في ذلك حين مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح وقال:

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

وإن يك حسان لا يقاس بعلي، فإن الذي جاء به لا يكون عنه عفو إلا مع غاية العمق من الإيمان، وذروة المحتد من الشرف. وكذلك كانت أم المؤمنين.

وما أشك أن الذي أخرج عائشة يوم الجمل كراهيتها ما كان من انتهاك الغوغاء لحرمة عثمان رضي الله عنه وحرمة المدينة، وبالغوغاء سمتهم هي، وكانت رضي الله عنها من أعرف المؤمنين بحقوق المؤمنين وأدراهم بفضيلة قريش والأنصار. وقد تعلم أن أباها هو الذي وقف يوم السقيفة فذكر سابقة الأنصار والمهاجرين ثم أفصح بحجة قريش. ثم بقريش وبالأنصار وأهل القرى الثلاث ومن حولهم صد ريعان الردة وفل شوكتها وقتل صناديدها. وكان أكثر الناهضين بأمر الفتنة من أشلائهم وأبنائهم. وقد كان يسوء عائشة غلبتهم وهو ما هم على أمر علي، كما قد ساءها موقف أخيها محمد منهم، وكانت تحبه بلا أدنى ريب. ولم يكن رأي علي كرم الله وجهه في هؤلاء الذين أطافوا به وأحدقوا بأرفق أو ألين من رأيها. شاهد ذلك ما قاله

(1) تفسير القرطبي 18/ 88.

ص: 277

لابن عباس قبيل خروجه من المدينة من أن أهل الكوفة لا يزال منهم من يطول إلى ما ليس ببالغه ومن شواهد ذلك أيضًا خطبه بالكوفة، ومقالته عندما بلغه موت الأشتر «لليدين وللفم». وليست ببعيد من مقالة معاوية:«إن لله جنودًا منها العسل» وإنما اختلف علي وعائشة رضي الله عنهما، من حيث اختلف طريقاهما في الاجتهاد ولله درُّ اللقاني حيث قال في جوهرة التوحيد:

وأول التشاجر الذي ورد

إن خضت فيه واجتنب داء الحسد

هذا،

وقد كانت الأعراض تتجاوز معرتها الفرد إلى العشيرة والقبيلة. ولذلك حرم الحديث عرض المؤمن. ونهى القرآن عن التنابز بالألقاب. وشرع حد القذف وتشدد فيه وألحق به ما شرعه في الملاعنة. وقد روي عن سعد بن عبادة أنه دافع الوحي في أمر الشهداء الأربعة. قال الطبري: «قال سعد بن عبادة، لهكذا أنزلت يا رسول الله؟ لو أتيت لكع قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيجه أو أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها. قال سعد: يا رسول الله: بأبي وأمي، والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق، ولكن عجبت لو وجدت لكاع إلخ. أ. هـ» (1).

وقد خفي عن سيدنا سعد بن عبادة في غيرته أن الوحي إنما كان يرمي إلى أمر غير مجرد إثبات الجرم حتى يصح إيقاع الحد. ذلك بأن حفظ الأعراض من جهة الزلات قد تكفلت به قيود الغيرة وعرفها، ولم يكن حد كائنًا ما كان بأفعل أثرًا منها. والذي لم تتكفل به قيود الغيرة وعرفها هو حفظ الأعراض من أن تقذف. وكانت

(1) تفسير الطبري: 18/ 82.

ص: 278

العرب من أفعل شيء لذلك، وكانوا إذا أُحفظوا في هذا الباب حكموا السيف ولم يتردد سيدنا سعد بن معاذ حين سمع حديث الإفك أن أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بضرب أعناق الآفكين، فدافعه سعد بن عبادة عن ذلك، إذ كان جماعة منهم من قومه، خشية أن تلحق الخزرج من ذلك سبة الدهر. وكادت تكون فتنة.

ولكيما يقر الشرع أمر القذف عند قرار تسلم به المجموعة من ألاحن والفتن وتجتمع معه وجوه صيانة العرض والشرف عند جامع من العدل والحق والوئام، فرض الحد ولم يبلغ به ضرب الأعناق، وجعله شديدًا قاهرًا رادعًا، وجعل الوقوع في طائلته قريبًا يسيرًا إذ لا سبيل إلى تحصيل أربعة شهداء كل منهم يقول رأيت وسمعت. فكان الشرع بفعله هذا معززًا لقانون الغيرة -وهو كما قدمنا وحده كفيل بدرء الفاحشة- بما يقيه أن يضيمه لجاج الشقاق والحمية والغرور وما كان من مذاهب الفحولة والعصبية الجاهلية.

ولقد احترز الشرع في باب العشرة بالملاعنة. فسدّ بذلك الثغرات جميعها ومما يدلك على أهمية ما احتاط له الشرع من شرف الأسرة والعشيرة والقبيلة بتشديده في أمر الشهداء الأربعة، أن أول قضية للملاعنة كان فيها جانب المرأة ضعيفًا بحسب ما يبدو من سياق الرواية ونصها، فأما زوجها فمضى في الشهادات الأربع الأوليات ثم لما استوقف عند الخامسة التي ذكر فيها اللعنة وهي الموجبة، لم يتردد ومضى كما مضى في سابقاتها. وأما هي فلما استوقفت عند الخامسة، وذكرت بأنها الموجبة، وأن معها عذاب الله الذي هو أشد من عذاب الناس، تلكأت ثم قالت «والله لا أفضح قومي» (الطبري 18 - 83) كأنها تعتذر بذلك إلى ربها، ثم أقدمت على الخامسة. وشاهدنا ههنا ما اضطربت فيه تلك المرأة بين داعي العقيدة والقبيلة ثم احتالت لنفسها مخرجًا بينهما. ولقد كان الدين آنئذ غضًا والإيمان غير ذي أمت ولا عوج. ولا احتجاج بأن داعي البقاء هو الذي لواها عن الخامسة، فإن الذي بلغنا من استرخاص أولئك

ص: 279

الجيل من الأنصار للحياة من خوف عقاب الله أو رجاء ثوابه لا يدع مجالاً لمثل هذا. وإنما كان يمسك بالحياة منهم آنئذ أهل النفاق. وما كان رجال الحديث ليغفلوا عن هذا من أمرها لو قد كان لها منه أدنى نصيب.

هذا ولعلك بعد سائل عن موقع نقائض جرير والفرزدق مما احتاط له الشرع. والجواب عن ذلك غير عسير. أوله أن العصبية القبلية بالكوفة والبصرة لم تكن كالعصبية الجاهلية في الصرامة والعرامة، ولكنها كانت بقية منها، وذكرى من ذكرياتها وشبحًا من أشباحها، وربما داخلتها أحيانًا مبالغة وغلو- ولكن ذلك مما يعن في سائر ما يجري مجرى الذكرى والبقية والشبح. وثانيها أن القوام سلكوا بالنقائض مسلك الهزل، وكانت لهم مندوحة عن أن يتهموا بحاق القذف في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} . فكان كلامهم يجري مجرى اللغو في نظر الناس. وربما فرّ أهل الورع منهم إلى الاستغفار ليجعله الله كاللغو فلا يؤاخذهم عليه. من ذلك ما رووه عن جرير، وكان ذا دين، أنه كان يستغفر من مقالته في جعثن أخت الفرزدق. وخبر جعثن كالنص في هذا الذي نقول به، إذ الرواة مجمعون على أنها كانت امرأة صدق وأن حديث جرير عنها باطل. ثم هم لا يذكرون أن أحدًا اتهم جريرًا بقذف أو طالب فيه بحد. وما كانوا ليترددوا عن ذلك لو حملوا قوله محمل الجد، وقد كاد الفرزدق يؤخذ أعنف أخذ لمقالته التي قال بالمدينة. وما كان رهط جرير أيضًا ليكفوا عن الفرزدق في مزاعمه عنهم، وقد تمكن جماعة منهم ذات مرة منه فأرادوه على ما كان يصمهم به من أمر الأعيار، فتخلص منهم ببادرة من بوادر الفكاهة هجاهم فيها بشر مما كان هجاهم به من قبل. وارجع إلى خبر ذلك في الأغاني. (الأغاني ج 19 - 40).

وقد جاءت أخبار في أنفة قوم من قذف الهجاء وانتقامهم من أصحابه، وهذا مما يصحح ما قلناه، وليس ههنا موضع استقصائه، وبعد فالحديث عن كل هذا مما يطول.

ص: 280

وعسى القارئ الكريم أن يكون قد استخلص كما استخلصنا نحن من جميع ما تقدم أن حياة العرب بضرورتها في التنقل. ومزاجها في الكلف بالأسفار، وقلة استصحابها النساء، ومذهبها في الغيرة وما إليها، كل أولئك قد أحطن العرب بحرمان عظيم، وقد زاد الإسلام هذا الحرمان أيما زيادة بما أحدثه من تحريم البغاء، ومنع السباء، وأبطال ما كانت تتسع له وثنية الجاهليين أحيانًا من نادر التبرج (1)، وعزيز اللهو. ولقد أزعم أن المسيحية في تاريخها الطويل لم تبلغ ما بلغه العرب والإسلام في هذا المضمار. لا بل لم تكد تقاربه قط إلا في أصقاع قليلة وفي أزمنة محدودة وعند أقوام بأعيانهم، هذا بالرغم مما كانت عليه من مبادئ الرهبنة والتبتل وتوحيد العشير، وبالرغم مما أباحه الإسلام من ملك اليمين وتعدد الحلائل. وهذا باب يطول استقصاؤه، فنكتفي فيه بالإشارة دون البسط، إذ ذلك قد يخرج بنا عن غرض هذا الكتاب. وإنما أربنا أن ندلل على مكان الحرمان من حياة العرب، وعلى أثر ذلك في الشعر، وفي باب الغزل بوجه خاص.

هذا، وإذ دعوة ما بين الزوجين الذكر والأنثى أقوى من كل حرمان، فإن هذا الذي وصفناه قد كان مما يشجي ويهيج إلى الإفصاح وينطق بالشكوى أيما أنطاق. وقد كان كل ما ينطق به المرء جادًا في حديث النساء، بحسب الذي ذكرناه ووصفنا منه، -والشكوى لا يمكن أن تخرج من هذا النطاق على أية حال- مما يخشى فيه أن

ص: 281

ينتحى، ولو عن غير قصد، إلى مس الأعراض، فيحمل محملاً من القذف والثلب، فترعد لذلك الحفائظ وتثور توائر الغيرة. ومن أجل هذا كان موقف الشاعر في باب الغزل حرجًا أيما حرج، ولابد له من أن يقول: فلجأ إلى طريقه من التقية صارت هي من بعد المذهب المقبول، وأجازها العرف، ورضيتها الأذواق، على أن الزلل عن صراطها الضيق، وما يتبعه من بوائق، لم يكن قط بمأمون.

هذه الطريقة من التقية مرت بك أصناف منها في معرض الحديث عن رموز الخصوبة وكنايات الشوق والحنين. ثم ثم كنايات غير هذا، كأن يكنى عن المحبوبة باسم غيرها، قال الجعدي:

أُكني بغير اسمها وقد علم الله خفيات كل مكتتم

وأكثر ما يذكره الشعراء من أسماء يجري هذا المجرى. ولقد بلغ بهم أن ارتضوا أسماء من أعلام النساء فجعلوها كنايات ثابتة، مثل سعدى وأسماء وفاطمة والرباب وسلمى، وأشهر هذه الأعلام ليلى وقد خلصت إلى اللهجات العامية واتصلت برموز المتصوفة فأكسبها ذلك قدسية لا تبلى. قال كثير

عشية سعدى لو تبدت لراهبٍ

بدومة تجرٌ دونه وحجيج

قلى دينه واهتاج للشوق إنها

على الشوق إخوان العزاء هيوج

وقال الحرث بن حلزة:

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاوٍ يمل منه الثواء

وقال زهير:

وقال زهير:

إن الخليط أجد البين فانفرقا

وعُلق القلب من أسماء ما علقا

وقال المرقش الأصغر:

ألا فاسلمي بالكوكب الطلق فاطما

وإن لم يكن صرف النوى متلائمًا

ص: 282

وزعموا أن فاطمة ههنا هي ابنة المنذر. وعسى أن يكون هذا من باب التصريح الذي يغلب فيه العشاق على أمرهم فيقدمون عليه ويهلكون. وفي شعر طرفة، وكان المرقش فيما ذكروا عمه، أن أسماء هي التي تيمت المرقش. قال:

كما أحرزت أسماء قلب مرقش

بحب كلمح البرق لاحت مخايله

ومر بك البيت. وعسى أن يكون طرفة قد جاء بأسماء على الكناية.

وقال امرؤ القيس، وهو كناية بلا ريب:

أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

والدليل ذكر عنيزة من قبل. وكلتاهما معًا قد تكونان كناية عن اسم ثالث مكتوم.

وقال المخبل السعدي:

ذكر الرباب وذكرها سقم

فصبا وليس لمن صبا حلم

وقال النابغة الجعدي في رسالة الغفران (219 - 220) يعرض للأعشى بما كان يذكره من دعاوي المنالة: «أهذه الرباب التي ذكرها السعدي هي ربابك التي ذكرتها في قولك:

بعاصي العواذل طلق اليدين

يعطي الجزيل ويُرخي الإزارا

فما نطق الديك حتى ملأ

ت كأس الرباب له فاستدارا

إذا انكب أزهر بين السقا

ة تراموا به غربًا أو نضارا

فيقول أبو بصير، قد طال عمرك يا أبا ليلى، وأحسبك أصابك الفنذ فبقيت على فندك إلى اليوم. أما علمت أن اللواتي يسمين بالرباب أكثر من أن يحصين؟ أفتظن أن الرباب هذه هي التي ذكرها القائل:

ص: 283

ما بال قومك يا رباب

خزرًا كأنهم غضاب

غاروا عليك وكيف ذا

ك ودونك الخرق اليباب

ولعل أمها أم الرباب بمأسل.

فيقول نابغة بني جعدة: أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليع بني ضبيعة إلخ ما قال».

وليلى وسلمى في الشعر كثير، وما يجري مجراهن ومجرى ما سبق كثير، كلميس وزينب وهند ودعد وريا ورعوم وخولة وفرتني وبوزع. وقد كره المتأخرون بعض هذه الأسماء استثقالاً للفظها كالذي يذكر أن أحد خلفاء بني أمية، أظنه يزيد بن عبد الملك كان هشًا مرتاحًا لإنشاد جرير، حتى بلغ قوله:

وتقول بوزع قد دببت على العصا

هلا هزئت بغيرنا يا بوزع

لما سمع بوزع. وليس نحو هذا مما ينبغي أن يؤبه له إذ هو من قبيل مصطلحات الذوق التي نسميها الآن «بالمودة» ، وبقاؤها على الدهر قليل. هذا وربما كانت فرتني مما يكني به عن الإماء خاصة، وكذلك معناها في بيت المعري:

وسيّان من أمه حرةٌ

حصانٌ ومن أمه فرتني مما يكنى به عن الإماء خاصة، وكذلك معناها في بيت المعري:

وسيّان من أمه حرةٌ

حصانٌ ومن أمه فرتني

وقد كان رحمه الله يعلم ما يقول، ويقوله على علم.

هذا،

ومما كانوا يكنون به أسماء نساء الأعداد. وقد أشرنا إلى هذا المعنى من قبل في الجزء الأول. وهذا الضرب من الكناية يجري في ظاهرة مجرى التحدي، كأنهم يريدون أن يقولوا، به، سنغير ونسبي فلانة ونقتل أولياءها.

قال عنترة:

علقتها عرضًا وأقتل قومها

زعمًا لعمر أبيك ليس بمزعم

ص: 284

وفي باطنه إنما هو كناية عن امرأة من نساء الحي، والتصريح، لا بل ما دون التصريح، في نحو هذا نائرة. قال حتم طيء:

وما ضر جارًا يا ابنة القوم إن يكن

يجاورني ألا يكون له ستر

بعيني عن جارات قومي غضةٌ

وفي السمع مني عن أحاديثهم وقر

وقوله أحاديثهم رد فيه الضمير على جمع المذكر كما ترى. ومراده أن يلمح إلى أنه لا يتسمع إلى ما قد يعن من اغتياب امرأة، حتى لا يطمع إليها فؤاده بعد غياب أوليائها. وهذا كله من شريف الكلام الذي يجاوز مجرد خشونة الغيرة والحفاظ إلى ذروة من مثل الفضيلة الأعلى. ومثل هذا قد أمر به أهل الكتابين. ولا يستبعد أن تكون الفروسية العربية قد تأثرت به على وجه من الوجوه. والذي لا مدفع له أن الذي حدث في الفروسية الأوربية من مبدأ المروءة والتحنن إزاء الكرائم (1) والضعاف، قد كان من تأثير القسسة والقساوسة والرهبان وتعاليم الكنيسة.

ومما يشبه كلام حاتم، إلا أن صاحبه قد أشر به معنى الفحولة والتحدي، فجاء ببعضه جاهليًا كالحًا، قول عنترة:

أغشي فتاة الحي عند حليلها

وإذا غزا في الحرب لا أغشاها

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي

حتى يوارى جارتي مأواها

والجاهلي الكالح ما افتخر به على مذهب الفحولة في البيت الأول. والثاني جار على مذهب حاتم، ودونه في مرتبة الشرف، إذ حاتم قد ادعى أن جارته لا تحتاج معه إلى ستر إذ طرفه أبدًا مغضوض، لا تأخذه فجاءة ولا تخالسه الريب.

هذا، وقد ذكرت لنا القصص كيف غلب الناس على أمرهم، فصرحوا باسم

(1) تقول الكرائم نعني بذلك نساء الأشراف، إذ نساء العامة قد كن عند الإفرنج عرضة لضروب من الهوان وراجع كتبهم في التاريخ ثم لعل أكثر أمر الفروسية إنما أخذته أوروبا من المسلمين في الأندلس وغيرها والله تعالى أعلم.

ص: 285

من يهوون، ولم يتجاوزوا في ذلك قصد العفاف، ومع هذا حيل بينهم وبين ما كانوا يشتهون، حينما طلبوه من طريق الخطبة المشروعة -وما كان ذلك إلا أنفة أن يظن بالفتاة أمر من ريبة يراد ستره بالخبطة. من ذلك خبر المرقش وعروة بن حزام ومجنون ليلى. وقد تعلم ما صار إليه هؤلاء من الضيعة والتلف فيما ذكروا. وخبر جميل قريب من أخبارهم، إلا أنا نراه أدخل في مذهب الغزل الحجازي الذي كان عليه عمر وابن قيس الرقيات والأحوص وكثير عزة وأضرابهم. وهؤلاء قد كانوا مما يصرحون بأسماء عقائل بأعيانهن كما قد كانوا يكنون كنايات غيرهم. وعندي أنهم في هذا التصريح على مذهب مقارب لما جرى عليه جرير والفرزدق ولفهما في القذف -وأعني بقولي مقارب ههنا معنى المقاربة في المأتى غير الجاد، من حيث حاق التعرض لمساس الأعراض. وهذا باب نأمل أن نفيض فيه من بعد إن شاء الله.

هذا ومما كانوا يكنون به الزوجة والجارة والجار والبنت، وقد ألمعنا ببعض هذا من قبل. والعاذلة مما يجري مجرى الزوجة والقريبة في الكناية. وقد كان زهير في الجاهليين مما يكنى بزوجته، وقد يكون كثير من هذا من باب التصريح، ونحوه يحل، لأن الزوجة وليها زوجها كما لا يخفى. وقد يكون بعضه من باب الكناية عن علائق ما بينه وبين زوجته، مما لا يتسع له مجال التصريح، فيورده الشاعر مورد النسيب. وقد كان زهير لم يوفق في صحبة أم أوفى، فطلقها. وقد قال فيما قال وهو يحن إليها:

لقد باليت مظعن أم أوفى

ولكن أم أوفي لا تبالي

وقلده في هذه الطريقة الفرزدق حيث يذكر النوار.

وقد كان جرير مما يكثر الكناية بزوجته يتحصن بذلك أن يظن به إرادة غيرها، ومكان ذلك لا يخفى من شعره، وربما فصّلناه بعد. قال:

وخالدة زوجته أم حرزة. وعسى أن تكون هند زوجة أخرى له. وأما الخوالد

ص: 286

والهنود فلا يعقل أن يكن جميعهن زوجات له، والله أعلم.

وفي الجارة يقول امرؤ القيس:

أيا جارتا إنا غريبان ههنا

وكل غريبٍ للغريب نسيب

ويقول الشنفري:

فيا جارتا وأنت غير مليمةٍ

إذا ذُكرت ولا بذات تقلت

وسنعرض لهذا من بعد إن شاء الله.

وقد سبق الحديث عما يجيء في البنت وأكثره من باب الحنين.

وفي العاذلة قول الآخر:

وعاذلةٍ هبّت بليلٍ تلومني

وفي كفها كسر أبحٌ ردوم

وهذه زوجته لا ريب. وقال زهير في حصن بن حذيفة:

بكرت عليه غدو فوجدته

قعودًا لديه بالصريم عواذله

وهؤلاء قد يكن زوجات أو قرائب أو جميع ذلك معًا.

وباب الزوجة والعاذلة مما يستقل وحده، فما دخل منه في الباب فصلناه لك في موضعه إن شاء الله.

هذا، ومما كانوا يكنون به صفات يصفون بها المحبوبة وساعات اللقاء وذكريات اللهو وما يجري هذا المجرى. وهذا هو باب النعت الذي ذكرنا لك في أول كلامنا هذا، أنه لا يمكن فصله عن الغزل إلا على قبح من التكلف.

أما هذه الصفات فهي نماذج اتفقوا عليها، بعضها متعلق بمعاني الشوق وبعضها متعلق بمعاني الجمال، وبعضها متعلق بمعاني الوصل واللهو واللذة. وسنعرض

ص: 287

لبعضها بتفصيل إذ ليس إحصاؤها كلها مما يمكن. وليكن ما نذكره منها بمنزلة التمثيل والتقريب.

ونرى، أنهم إنما لجأوا إلى هذه النماذج أول الأمر أربا في أن يتشابهوا في القول.

فمتى تشابهوا في القول، أمنوا أن يظنوا بريبة فيه. وكيف يظن بريبة من يقول ما يقوله سائر الناس «قال حميد بن ثور»:

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحةٍ

من السرح مسدودٌ عليّ طريق

وقال الآخر فبالغ في الفكاهة والسخرية:

عليّ هدايا البدن إن كان بعلها

يرى لي ذنبًا غير أني أزورها

وأني إذا ما زرتها قلت يا اسلمي

وهل كان قولي يا اسلمي ما يضيرها

وقال جرير:

أمن خوفٍ تراقب من يلينا

كأنك ضامنٌ بدم طريد

لعزّ علي ما جهلوا والوا

أفي تسليمةٍ وجب الوعيد

ولم يكُ لو رجعت لنا سلامًا

مقالٌ في السلام ولا حدود

وقال امرؤ القيس، وهو المقتدى به في هذا الباب:

وماذا عليه أن ذكرت أوانسًا

كغزلان رملٍ في مخاريب أقوال

هذا ثم أنهم لما اتلأب بهم التشابه طلبًا للتقيه، جعلوه طريقة من طرائق الفن والتمسوا له التجويد والأحكام. ثم إن طلب التجويد والأحكام نفسه دفعهم دفعًا إلى التمسك بهذه الطريقة والحرص عليها. وينسب لزهير أنه قال:

ما نراها نقول إلا معارًا

أو معادًا من قولنا مكرورا

ص: 288

لبعضها بتفصيل إذ ليس إحصاؤها كلها مما يمكن. وليكن ما نذكره منها بمنزلة التمثيل والتقريب.

ونرى، أنهم إنما لجأوا إلى هذه النماذج أول الأمر أربا في أن يتشابهوا في القول.

فمتى تشابهوا في القول، أمنوا أن يظنوا بريبة فيه. وكيف يظن بريبة من يقول ما يقوله سائر الناس "قال حميد بن ثور":

وهل أَنا إن علَّلْتُ نَفْسي بسَرْحَةٍ

من السَّرح مسْدُودٌ عليَّ طَرِيق

وقال الآخر فبالغ في الفكاهة والسخرية:

عليَّ هدايا الْبُدْنِ إِن كان بَعْلُها

يَرى ليَ ذَنْبًا غَيْرَ أَنِّي أَزُورها

وأَنِّي إِذا ما زرتها قلت يا اسلمي

وهل كان قولي يا اسلمي ما يضيرها

وقال جرير:

أَمِنْ خَوْفٍ تُراقبُ من يَلينا

كَأَنَّك ضامنٌ بدم طَريدُ

لعزَّ عليَّ ما جَهلُوا وآلوا

أَفي تَسليمَةٍ وَجب الْوَعيدُ

ولم يكُ لَو رَجعْتِ لنا سَلامًا

مقَالٌ في السَّلامِ ولا حُدود

وقال امرؤ القيس، وهو المقتدي به في هذا الباب:

وماذا علَيهِ أَن ذَكَرتُ أَوانِسًا

كغزْلانِ رَمْلٍ في محَارِيبِ أَقوالِ

هذا ثم إنهم لما اتلأب بهم التشابه طلبًا للتقية، جعلوه طريقة من طرائق الفن والتمسوا له التجويد والأحكام. ثم إن طلب التجويد والأحكام نفسه دفعهم دفعا إلى التمسك بهذه الطريقة والحرص عليها. وينسب لزهير أنه قال:

ما نَرانا نَقول إلا مُعارًا

أو مُعادًا من قَولِنا مَكْرورا

ص: 289

ففي هذا من الثورة على التشابه ما ترى.

وزعموا أن عنترة أول ما أرادوه - على وجه التحدي - أن يجلي عن نفسه فيقول شعرا ليثبت أنه فصيح كما هو فارس، نظم المعلقة، ومطلعها:

هل غادرَ الشعراءُ من مُتَردَّم

أَم هل عَرَفْتَ الدَّارَ بعد تَوَهُّم

وفي هذا من الثورة على النماذج ما فيه.

وقال الحماسي:

خَيالٌ لأُمِّ السَّلْسَبيل وبيْنَنَا

مَسافَةُ شَهْرٍ للْبَريدِ المُذبْذَبِ

معاذَ الإلَهِ أَن تَكُونَ كظبيَةٍ

ولا دُمْيَةٍ ولا عَقيلَةِ رَبْرَب

ولكنَّها زِيْدت على الْحُسْن كُلِّه

كَمالًا ومن طِيبٍ عَلى كُلِّ طِيِّب

فضاق هذا الحماسي ذرعا كما ترى بتشبيه الدمية والظبية وعقيلة الربرب، ومع هذا فإنه لم يستطع كما لم يستطع عنترة ولا زهير قبله أن يخرج عن مذهب التشابه.

ونحو هذه الثورة في شعر الإسلاميين والمولدين إلى عصرنا هذا الحاضر كثير.

والحق أن تشابه النماذج مما يخشى معه ضياع الصدق والحرارة اللذين يكونان في تجربة الشاعر الفردية. ولكن الشعر العربي لا يمكن أن يؤبن في هذا الصدد ولذلك أسباب سيرى القارىء منها في التفصيل. ونكتفي ههنا أن نجملهن في اثنين على وجه التمهيد: أولها أن التشابه في نماذج القول العاطفي أبدا يكون مستمدا من التشابه العاطفي بين الناس، ومرميا فيه إلى تشخيص مثل أعلى تضمحل معه أوجه الخلاف بين التجارب الفردية والشاعر وهو فرد يعمد إلى أن تتحد تجربته الخاصة مع المثل الأعلى النموذجي. فعلى مقدار صدقه وحرارته ومقدرته على البيان، تكون معاني الصدق والحرارة والإبانة في النموذج الذي يعرضه.

ص: 290

وثانيهما: أن الشعراء العرب اعتمدوا الإيحاء والإيماء، في حيز النموذج المتشابه. وكلا هذين مما يكونان أفعل من التصريح. وأعظم بها من نشوة تلك التي يجدها متلقي القريض حين يجد نفسه مستطيعا، من جراء الإيحاء والإيماء، أن يحس تباين الأفراد والتجارب من خلال النماذج المتشابهة، حتى أن كلا منها يصير عنده لما يجده منه، مختلفا عن الآخر كأشد ما يكون الاختلاف.

ومن عجب ما يصح ذكره في هذا الباب وفي أبواب غيره مما يلي مما تقدم أنك تقرأ المطلع من قصيدة ما فتجده كمطلع آخر. ثم إذا مضيت فيها وعدت إلى المطلعين مرة أخرى وجدتهما حق مختلفين. خذ على سبيل المثال قول النابغة:

يا دَارَ مَيَّة بالعلياءِ فالسَّنَدِ

أَقْوَت ودَامَ عليها سَـ الأمد

فهذا كمطالع كثيرة أخريات:

يا دار مَيّة بين الْحَزْنَ فالجَردِ

يا دار عَمْرَة منْ مَحْتَلِّها الْجَرعا

يا دار عَبْلَةَ بالجواءِ تَكَلَّمي

يا دار سلمى بَعيدًا ما أُكلِّفُها

وهلم جرا.

ولكنك بعد أن تقرأ القصيدة كلها لا تملك أن تحس فيه وفي ما يليه من الصفات استشعارًا لمعاني العتاب فيما بين النابغة والنعمان بن المنذر. فلأمر ما - مثلا - اختار النابغة اسمي العلياء والسند في مستهل المطلع. ثم زعم أن ذلك قد أقوى ومر عليه زمن بعيد. ولأمر ما وقف هو عند الدار أُصَيْلالًا بعد أن مضى الضحا والظهر والعصر جميعا ثم لم يجد جوابا ولم يلق في الدار أحدا. ولأمر ما جعل الوليدة ترد أعالي النؤى وتضربه حتى لبده ذلك. ثم شبه النؤى "كالحوض بالمظلومة الجلد" وهل كان النابغة

ص: 291

إلا مظلوما ذا جلد. ثم ختم وصف الربع الرمزي بقوله:

أَمَسْت خَلاءً وأمسى أَهْلُها احْتَملوا

أَخْنَى عَلَيْها الذي أَخْنَى على لُبَد

وَكل ذلك مِمَّا يؤسف له، كما يؤسف على عهدِ العلاقة والمودة أزمان لم يفرق الوشاة بينه وبين النعمان، ولم يضطر هو إلى أن يهاجره، ويلتمس العطف عند أعدائه.

وخذ قول امرىء القيس:

أَلا عم صَباحًا أَيُّها الطَّلَلُ الْبَالي

وهل يَعِمَنْ من كان في الْعُصُر الْخَالي

فهذا كسائر ما يُسْتَهَلُّ به في ذكر الأطلال فيما يبدو، إلا أن امرأ القيس له فضيلة السبق. ولكنك إن مضيت في القصيدة ثم عدت إلى المطلع وقر عندك أن الشاعر إنما عنى نفسه. وما يتعلق بها من ذكريات الماضي في قوله "الطلل البالي".

ومن شواهد ذلك ما يروى له في هذه القصيدة من قوله:

أَلا إِنَّني بَالٍ جَمَلٍ بَال

يسيرُ بنا بالٍ ويَتْبَعُنا بالِ

وقال في آخر القصيدة، كأنه يعتذر عما ألقى بنفسه فيه من عنت الغربة، حتى تصرمت أيامه وهو بعيد عما يشتهي:

ولو أَنَّما أَسْعَى لَأدْنى معيشةٍ

كفاني ولم أَطْلُبْ قَلِيلٌ من المال

ولكنَّما أَسعى لمَجدٍ مُؤَثَّلٍ

وقد يُدْرِكُ الْمَجْدَ المُؤَثَّل أَمثالي

ونحو هذا أعاليل بأضاليل، وقريب من مأتاه قول أبي الطيب:

ومُراد النُّفوس أَصغَرُ من أَنْ

نَتَعَادَى فيه وأَنْ نَتَفانَى

غَيْر أَنَّ الْفَتَى يُلاقي المَنَايا

كَالِحاتٍ ولا يُلاقي الهَوانا

وقال زهير بن أبي سلمى واستهل بمعنى التحسر على الشباب:

ص: 292

صحَا الْقَلْبُ عن سَلْمَى وأَقْصَر باطِلُهْ

وَعُرِّيَ أَفْراسُ الصِّبا، وَرواحِلُهْ

وأَقْصَرْتُ عَمَّا تَعْلَمِيْن وسُدِّدَتْ

عَلَيَّ سوَى قَصْدِ السَّبيل مَعَادِلُهْ

وقال العذارى إنما أَنْتَ عَمُّنا

وكانَ الشَّبابُ كالْخَلِيط نُزايلُهْ

وأَصبَحْتُ ما يَعْرفن إِلا خليقتي

والأسوادَ الرَّأْس والشيْبُ شاملُهْ

لمن طَللٌ كالْوَحْي عافٍ منازله

عفا الرسُّ منه فالرسيس فعاقِلُهْ

ومضى في نعت الطلل، وغير خاف ههنا أن الطلل إنما كنى به زهير عن نفسه بدليل موقعه بعد صفة نفسة بالتبدل عما كان عليه عصر الشباب. وقد ألمعنا إلى هذا المعنى في ذيلنا على كتابنا الحماسة الصغرى (1) - وهذا الوجه يؤيد ما قدمناه آنفا عن طلل امرئ القيس ويقويه.

ومما يحسن ذكره ههنا أن زهيرا في قصيدتيه اللتين استهل فيهما بذكر الصحو، هذه التي قدمنا، والأخرى التي مطلعها:

صَحا الْقَلْبُ عن سلمى وقد كاد لا يسلو

وأَقْفَر من سَلْمَى التَّعَانيقُ والثَقلُ

قد سلك مذهبا من المدح الجاد. والمطلع مشعر ببعض هذا، لادعاء الشاعر فيه أنه قد غادر زمان اللهو وراءه فلم يبق إلا الجد واتباع المآثر والدفاع عنها.

وقال علقمة بن عبدة:

طحا بك قَلْب في الحسان طَرُوب

بُعَيْدَ الشَّباب عَصْر حَانَ مَشِيبُ

وفي هذا المطلع اختلاف عن مذهب زهير، وذلك أن علقمة لا يدعي لنفسه الحزم والإقلاع عن اللهو كما أقلع زهير، ولكن يذكر صبوة ورَوْمًا لوداد النساء بأصيل من الشباب. والنساء لا يأبهن لنحو هذا إلا مع الغنى، ومفهوم ضمنا أنه لم يكن ذا يسار. وقد لام علقمة نفسه على ما كان من صبوتها واستحثها أن تستيقظ

(1) طبعة الدار السودانية سنة 1969 م

ص: 293

لطلب المكارم وقصد الكرام والاستجابة لدعوة من نوائب الحق قد أهابت به، وذلك بالسعي في أمر أخيه شاس واستنقاذه مما وقع فيه من ذل الأسر.

ولا تخلو مقدمة علقمة النسيبية من معاني الرمز بغناء الغزل إلى ما هو بصدده من استعطاف الملك واستدرار رحمته. ألا ترى أنه كما لم يقدر على التحبب والتودد والتماس الوصل من حسنائه الربعية (وربيعة قد كانوا أعداء قومه تميم) بأكثر من أن يرقق لها في المقالة ويستجديها ويدعو لها بالسقيا أو كما قال:

فلا تَعدلي بيني وبَيْن مُغمَّرٍ

سَقَتْكِ روايا الْمُزْن حين تَصُوبُ

سقاكِ يَمانٍ ذو حَبيٍّ وعارضٌ

تَرُوحُ به جُنْح الْعَشيِّ جنوب

كذلك لم يقدر من المفاوضة مع الحرث الغساني في أمر فداء أخيه بأكثر من الترقيق في القول والاستجداء والمدح الذي يقوم مقام الدعاء؟ ولقد كان الحرث الغساني سيد قوم عدو لقومه بني تميم ومن كان إليهم ضلعهم من ملوك الحيرة.

على أن بين المقامين فرقا واحدا وهو أن استجداء الحسناء قد ييأس منه المستجدي بغير ذريعة من مال أو شباب، ولذلك قال علقمة:

فَدَعها وسلِّ الهمَّ عنك بِجَسْرَةٍ

كهمك فيها بالرِّداف خبيب

ولكن استجداء السيد الملك ليس كذلك. ولا سيما إن كان فحلا جزلا أريحيا:

مُظاهر سِرْبالَي حَديدٍ عليهما

عَقيلا سُيُوفٍ مِخْذَمٌ ورسُوب

فمن عند مثله ينتظر العطاء والمن والحباء. وذلك قوله:

إلى الحَرثِ الْوَهَّاب أَعمَلْت نَاقتي

لكَلْكَلِهَا والقُصْرَيَيْن وَجيب

وأَنْتَ امْرؤٌ أَفضَت إليك أَمانتي

وقَبْلَكَ ربَّتْني فَضعتُ ريوب

وفي كلِّ حيٍّ قد خبطتَّ بنعمةٍ

فحُقَّ لشأْسٍ من نداك ذَنوب

ص: 294

فلا تَحرمَنِّي نائلا عن جَنَابَةٍ

فإِني امْرؤ وَسْطَ الْقِباب غريب

فلست لإنْسِيٍّ ولكن لملْاكٍ

تنزَّل من جَوِّ السَّماءِ يصوب

ولا يخفى شبه ما بين كلام علقمة ههنا وكلامه إذا خاطب المحبوبة، من حيث الرقة والاستجداء والتلطف في الدعاء.

وألفتك خصوصًا إلى قوله في المحبوبة:

مُنَعَّمة لا يُسْتَطاع كِلامُها

على بَابِها من أَنْ تُزارَ رَقيبُ

فهذا سوى قوله "منعمة" على غير مألوف ما توصف به نساء البادية. وفيه بعد معنى الملك بالذي ذكره من باب وحجاب مضروب. ولا إخال أنك تباعد عند تذكيره هذه الصفة أن تصيب جانبا من نعت الحرث نفسه إذ قد كان ملكا محجوبا لا يستطاع كلامه.

وإذ ألفتك لهذا، ألفتك أيضا إلى قوله "فلست لإنسى الخ" - فهنا كما ترى نعت للحرث بصفة الملك، وبأنه بسماويته فوق ما عليه أملاك الأرض من القسوة في الانتقام، والتشدد في مال الفداء. وعلقمة آمل بعد ألا يصيب المن عن أخيه، فحسب، لكن يصيب معه بسطا من قبول وحباءٍ جميل.

والشبه التلميحي بين صفتي الحرث والمحبوبة في البيتين لا أحسبه عنك بعد بغائب.

هذا، وقال مزرد بن ضرار (1):

صحا الْقَلْبُ عن سلمى ومل العواذل

وما كادَ لْأيًا حُبُّ سلمى يُزَايل

ومثل هذا المطلع تتساءل عنده من لدن سماعه، فلماذا ملت العواذل إن صحا

(1) المفضليات 76.

ص: 295

القلب حقا عن سلمى؟ ولا يلبث الشاعر أن يجيبك بما سمعته من عجز بيته "وما كاد لأيا حب سلمى يزايل".

وهذا الاضطراب منذ البداية يحدث في نفسك توقعًا لاضطراب عاطفي من تجربة الشاعر، مَشُوبَةٌ فيه ناحية الجد والحزم من نفسه التي يشعرك بها قوله "صحا القلب عن سلمى" بنواح أخريات بشعرك بهن سائر البيت. وما هو إلا أن تمضي قليلا في القصيدة حتى تجد أن الشاعر يذكر أنه قد ودع غي الشباب، وأن الشيب قد شمله. ثم ما هو إلا أن يعود إلى ذكر الشباب والتحسر عليه، ووصف الحسان اللواتي يزعم أنه قد ظفر بلهوهن:

وبيضاءَ فيها للمُخَالِم صَبْوَةٌ

ولْهوٌ لمن يرنو إِلى اللَّهوِ شاغل

ليالِيَ إذ تُصبي الحلِيم بدَلِّها

ومشْيٍ خَزِيل الرِّجْل فيه تَفَاتُل

وأَسحمَ ريان الْقُرون كأَنَّه

أساوِدُ رمَّانَ السِّباطُ الأطاول

ثم ما هو بعد ذلك إلا أن ينتقل إلى قري من الجد، فيفتخر:

فمن يك مِعزالَ الْيَديْنِ مكانُهُ

إذا كَشَّرتْ عن نابِها الحرْبُ خامل

فقد عَلِمتْ فِتْيانُ ذُبيانَ أَنَّني

أَنا الفارسُ الحامي الذِمار الْمقاتل

ثم يصف عدتهِ للحرب، حصان طويل القرا، ويطيل في نعته، وفرس سلهبة ويطيل في نعتها، ودرع مسفوحة فضفاضة ويطيل في نعتها، وتسبغة وترس وسيف ورمح ويطيل في أوصافهن جميعا - ثم ينهى نفسه عن هذا الفخر ويقبل على عصبة أعداء نالته منهم قوارص:

فَدع ذا ولكن ما ترى رَأْي عُصْبَةٍ

أَتَتنِيَ مِنْهُم مُنْدِياتٌ عَضائل

يهُزُّون عِرضي بالمغِيبِ ودونَه

لقَرْمِهم منْدُوحةٌ ومآكل

على حِينَ أَن جُرِّبت واشْتَدَّ جانبي

وأُنْبِح مِنِّي رَهْبَة من أُناضل

وجاوزتُ رأْس الأربعينَ فأَصبحتْ

قناتي لا يُلْقى لها الدهر عادل

ص: 296

ثم يمضي في الوعد ويتهدد أعداءه بالشعر، حتى إذا بلغ من ذلك مبلغا، أضرب عنه وقال:

فعدِّ قريض الشِّعر إِن كُنْت مُغْزِرًا

فإِنَّ غزير الشِّعر ما شاءَ قائل

لنَعْتِ صُباحِيٍّ طويلِ شقاؤُه

له رَقَمِيَّاتٌ وصَفْراءُ ذَابِل

وليس لعمري غزير الشعر ما شاء بقائل على غير نهج وفي غير وحدة من نظام. ولكن آخر هذا الكلام متصل بأوله. إذ الشاعر من ههنا يأخذ في نعت صورة من الصور التقليدية، هي صورة الصياد وامرأته الحمقاء التي لا تعد له طعاما ولا تعينه بعزاء وربما تناولته بالقوارص ثم هي من شر النساء، طوافة على البيوت، كأن ليس لهاء فيه ولا في أطفالها الشعث الغِراث من أرب.

وهذه الصورة التقليدية داخلة عندنا في باب الغزل كما ستذكر من بعد. ولا أرتاب أن الصائد ههنا هو الشاعر نفسه. وقد استكمل بهذه الصورة من أداة الحرب ما غفل عنه آنفا وذلك السهم والقوس، ثم إن شئت أضفت إلى ذلك الكلاب.

وهذه الصورة تكشف لنا ما استشعرناه من غموض المطلع واضطرابه غير قليل، إذ أقرب شيء أن تكون امرأة الصائد هي امرأة مزرد، لا غيرها وأن تكون أيضا هي سلمى وهي العواذل، وهي ما دعاه لأن يقول ويجمجم مترددا بين فنون ما تواضع عليه الشعراء، وإنما مراده أن يشكو من سوء العشير ليس إلا. قال واختتم القصيدة في نعت الصائد:

فَطَوَّفَ في أَصحابه يسْتثيبُهم

فآب وقد أَكَدَتْ عليه المسائل

إلى صِبْيةٍ مِثل المغَالي وخِرْمِلٍ

رَوادٍ ومن شَرِّ النِّساءِ الخَرامِلُ

فقال لها هلْ من طعَامٍ فإِنَّني

أَذُمُّ إِليك النَّاس أُمُّك هابِل

ولكنها ليست ممن يعين أو يغيث.

فقالت نعم، هذا الطويُّ وماؤُه

ومُحَترق من يابس الجلدِ حائل

ص: 297

أي الْبِئْر وماؤها والدلو ذو الجلد اليابس.

فلما تناهَتْ نَفْسُه من طعامه

وأمسى طَلِيحًا ما يُعانيهِ باطل

تَغَشَّى يُريدُ النوْمَ فَضْل ردائه

فأَعيا على الْعَين الرُّقادُ البلابل

وهنا تقدر أن تنشد:

صحا القلب عن سلمى وملَّ العواذل

وما كاد لْأيًا حُبُّ سلمى يزايل

وعسى سلمى ألا تكون امرأته، ولكن امرأة أخرى لا سبيل إليها، وإنما السبيل إلى ما هو فيه من ضنك العيش وقلق المصير.

وعسى ألا تكون إلا آماله المنحطمات

وهذا باب واسع وإنما الشعراء العرب في ارتضائهم مذهبا واحدا من تشابه القول، لا في الغزل وحده كما قدمنا ولكن في غيره أيضا من أبواب الخروج والأغراض. كأصدق ما يكون ذوبيان في الإفصاح عما حولهم من تشابه الكون ثم تباينه داخل هذا التشابه، أو قل من جرائه. أليست صحراؤهم شيئًا واحدا، متشابه المناظر من حرار وأعلام وأودية وسهوب متواصيات وأنواع بأعيانهن من النبات والحيوان؟ أليس النهار حين يحتدم عليها أواره بلبسها ثَوْبًا تختلف به كل الاختلاف عنها حين يغمرها الليل الدامس بالسحب، أو الزاهر بالنجوم، أو السافر بالقمر، أو الآلق بالبرق؟ أليست الوجوه المتباينات التي تعرضها على تباين الفصول واختلاف العصور إنما هي في الحقيقة وجه واحد؟ ثم أليس هذا الوجه الواحد تختلف تقاطيعه وقسماته في نهار اليوم الواحد بله الفصول؟

ولقد نظرت في مقدمات النسيب فوجدت أصنافا منها كأنما نشير إلى دوائر من المعاني لا يكاد يقدّم بهن في غيرها. وقد مرّ بك من هذا المعنى بيتا زهير. ورأيت كيف افتن مزرد، فحور في المطلع الزهيري شيئا، ولاءم بين ذلك وبين الذي شاء أن يقول

ص: 298

هو من معان تلائم هذا التحوير في اضطرابها وإيحائية غموضها.

وأحسب أن ذكر البين في مطالع الشعر مِمَّا يجيء غالبا معه المدح الصريح الذي تتحد فيه بطولة الشاعر مع بطولة الممدوح أو الفخر ذو التحدي والوعيد أو هما معا - كقول زهير:

بان الخَلِيطُ وَلَم يأْووا لمنْ تركوا

وزَوَّدوك اشْتياقًا أَيَّةً سلكوا

فافتخر وأوعد.

وقال النابغة:

بانَت سُعادُ وأَمسى حبلُها انجذما

واحتَلَّت الشَّرعَ والأجزَاع من إِضما

فافتخر وانتصف.

وبين المطلعين بعد فرق، إذ أشعرك زهير بحاجة بائنة فهو يطلبها، فلابد من ذكر شيء في معنى ذلك في القصيدة - وقد ذَكَرهُ حيث قال:

يا حَارِ لا أُرْمَيَنْ منكم بِدَاهيَةٍ

لم يلْقَها سُوقَةٌ قَبْلي ولا ملك

فاردد يسارًا ولا تَعنُف عليه ولا

تَمْعك بعرْضِكَ إِن الغادِرَ المَعِكُ

وقد كان الحرث الصيداوي وقومه احتبسوا غلاما لزهير، فهنا زهير يتوعدهم كيما يردوه إليه قبل أن يفسد الأمر ويضطر هو إلى هجائهم والتذمير عليهم، وعسى أن كان بنو الصيداء هؤلاء متسرعين إلى الشر، واحتباس ما يقع بأيديهم يعدونه من باب النهب، فقد قال فيهم زيد الخيل:

يا بني الصَّيداءِ رُدُّوا فرسي

إِنَّما يُفْعل هذا بالذليل

عوِّدوهُ مثلما عوَّدته

دلَج اللَّيل وإِيطاءَ القتيل

فاتهمهم بأنهم لن يحسنوا القيام عليه كما يحسنه هو.

ص: 299

وإما النابغة فقد زعم أن حبل سعاد قد انجذم، فليست له من حاجة بائنة إلا أن يكتفي بنفسه ويتعزى عزاء الكرام - قال:

هلا سألت بني ذُبْيَانَ ما حَسَبي

إِذا الدُّخان تَغَشَّى الأشمط الْبرَما

يُنْبئك ذو عرضهم عنِّي وعالمُهم

وليس جاهلُ شيءٍ مثْلَ من علما

أَنِّي أُتِّممُ أَيساري وأَمنِحهم

مَثْنَى الأيادي وأَكْسُو الْجفْنَةَ الْأدُما

وأَقْطَع الْخَرق بالْخَرْقاءِ قد جعلَتْ

بعد الكلال تشكي الأينْ والسأَما

وفي المطلع بعد، في الماعِهِ بالعزاء، وتصرم الحاج، كالإيحاء بأن في أغوار النفس حاجة لم تنقض. وهذا المعنى من هذه الكلمة سنذكر لك عنه شيئًا من بعد، عما قليل إن شاء الله.

وقال زهير:

إنَّ الْخَليطَ أَجدَّ الْبين فانفرقا

وعُلِّق الْقَلْبُ من أَسماءَ ما علِقَا

وجاء من بعد وصف للروضة ومدح رائع لهرم بن ستان - وفي قوله "وعلق القلب من أسماء ما علقا" رمز واف في تضمن معنى هذا. وقال ابنه كعب:

بانت سعادٍ فقلبي اليوم متبول

متيم أثرها لم يُفْدَ مكبول

وبعد أن تقرأ القصيدة تجد لقوله "لم يفد" ولقوله "مكبول" تضمنا لمعنى ما أخذ فيه بعد من الاعتذار، ورجاء أن من رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بعد أن قد أحاط به إساره:

نُبِّئْتُ أَنَّ رسُول الله أَوعدني

والْعفْوُ عِنْد رسُول الله مأْمُول

وقدْ أَتَيتُ رَسولَ الله مُعتَذِرًا

والْعُذْرُ عنْد رسُول الله مقبُول

مهلًا هداكَ الَّذي أَعْطاك نافلَة الْـ

ـقُرآن فيها مواعيظ وتَفْصيلُ

لا تَأْخُذَنِّي بأقوال الْوشاهِ ولم

أُذْنِبْ وقَد كَثُرَتْ فيَّ الأقاويل

ص: 300

وقال الحارث بن حلزة اليشكري:

آذَنَتْنَا ببينها أَسْمَاءُ

رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ منْهُ الثواءُ

فجاء بكلام مشكل في عجز البيت الذي استهل به - إذ ما معنى التحسر على البين إذا كان هو قد ملها؟ أليس فيه إشعار بأن قربها ربَّما كان مِمَّا لا يرغب فيه، وأن لا أسف إذا تولت، إذ أقل ما يخشى من مكثها الملال، وقد عكس هذا المعنى كثير على عادته في السرق فقال:

نُرِيدُ الثَّواءَ عِنْدها وأَظُنُّها

إذا ما أَطَلْنا عندها الْمُكْثَ ملَّتِ

وكأنه أراد ليظهر بمظهر أرق من الحارث إذ جعل المحب هو الملول لا المحبوب. ولا يعقل في مثله أنه لم يفطن إلى ما كان يرمي إليه الحارث من حاق الرمز، اللهم إلا إذا صح ما يزعمه الرواة عن حماقته.

وقصيدة الحارث كما يعلم القاريء أصلحه الله إنما هي في باب الخصومة، لا يعطي الحرث أعداءه بني تغلب خطة من خطط اللين، ولا يعترف لهم بسابقة فضل أو عز أو سيادة. ويكاد بهجوهم مما يعدد من أيام قومه عليهم وأياديهم على الملك - ويضمن حجته أنهم مقبلون على السلم الكريمة إن أقبلت بها عليهم تغلب. وإلا فإنهم كما قال:

فَبقينا على الشَّناءَةِ

تنْمينا حصُونٌ وعِزَّةٌ قَعْساءُ

ولن يبالوا أن تستمر الخصومة وأن يبين عنهم التغلبيون كل البين "فرب ثاو يمل منه الثواء".

وقال المثقب العبدي:

أَفاطِم قْبلَ بينِكِ متِّعيني

ومنْعُك مَا سَأَلْتُ كَأَنْ تَبيني

ص: 301

وجرى في قصيدته كلها على طريق هذا المعنى كما سنذكر إن شاء الله، حتى لم يَكَدْ يخلص له من الخلان فيها إلا ناقته، التي كان هو يسيء إليها وتحسن هي إليه:

فَأَبْقَى بَاطلي والْجدُّ منها

كدُكَّان الدَّرابنَةِ الْمَطين

ورُحْتُ بها تُعارضُ مُسْبطِرًا

على صَحْصَاحِه وعلى المتون

ثم يقول في خطابه لصاحبه عمرو:

فإِما أَنْ تَكُون أَخِي بحَقٍّ

فأَعرِف منْك غَثِّي مِنْ سميني

وإلا فاطَّرحني واتَّخِذْنِي

عَدُوًّا أَتَّقيكَ وتَتَّقِني

وما أَدرِي إِذا يَمَّمْتُ أَرْضًا

أُريدُ الْخَير أَيُّهما يليني

أألخَيرُ الذي أَنا أَبْتَغِيه

أَم الشَّر الذي هُو يبْتَغِيني

وهذا مقطع القصيدة، وفيه روح مطلعها كما ترى.

وقال القطامي في معنى البين، وحوره ليناسب غرضه:

ما اعْتَاد حب سُلَيْمى حِينَ مُعْتَادِ

ولا تَقَضَّى بواقي ديْنها الطادي

وهذا عكس المعنى الذي استهل به كعب بن زهير، إذ جعل كعب بن زهير نفسه رهينة لم تفد بعد، وزعم القطامي أنه، وإن يك طليقا من الإسار لا زال يحمل إصرا من بقية دين واجب أداؤها - وما ذلك إلا أن عدوه زفر القيسي قد كان ظفر به، فمن عليه وأعطاه - فذلك دَيْنٌ لا ينقضي، وذلك قوله في هذه القصيدة:

منْ مُبْلِغٌ زُفَر الْقيسيَّ مِدْحتهُ

من الْقُطامِيِّ قَولًا غَير إِفنادِ

إِنِّي وإِنْ كان قَوْمِي لَيس بيْنَهم

وبيْنَ قوْمِكِ إِلَّا ضَرْبَةُ الْهادي

مُثْنٍ عَلَيك بما اسْتبقَيْتَ مَعرِفَتي

وقد تعَرَّضَ مِنِّي مَقْتَلٌ بادي

وفي القصيدة بعد فخر وتحد للشعراء ولشاعر بعينه منهم:

إِلا أُخيَّ بني الجوال يوعِدني

ماذا يريد ابنُ جَوَّالٍ لإيعادي

ص: 302

وفيها أيضا مقدمة نسيبية رائعة في نعت الظعائن يتتبعهن الشاعر بعين فؤاده حيث حللن وحيث ارتحلن حتى أقمن عند مقام أطمأن بهن. وهذا النموذج تجده عند زهير في المعلقة. وفي كلتا القصيدتين تغن بالسلم إما مصرحا به أو مُضَمَّنا في تصوير ما تجيء به الحرب من شقاق وهلاك وبوار، وفيها مع ذلك تمسك عزيز بقيم الحفاظ وإنكار الضيم. وسنفصل عن نموذج الظعائن فيها عما قليل إن شاء الله.

وفي تصوير الظعائن عند المثقب بعض التحوير إذ الشاعر لا ينفك يراهن ويخاطبهن وهن لا يكدن يستقررن عند مقام يطمئن بهن، وهذا يلائم ما أفصح به عند مخاطبة عمرو، من الملامة والدعوة إلى أن يستقر أمرهما عند قرار من المودة والخير والرفه، وكل ذلك مرغوب فيه، أو يصير إلى العداوة الواضحة التي لا يكون معها إلا القتال والشر وذلك ما يخشاه ولا يجد عنه من فرار.

وقال الشنفري:

ألا أُمُّ عمْرٍو أَجْمَعَتْ فاسْتَقَلّتِ

وما ودَّعَت جِيرانَها إِذ تَوَلَّتِ

ثم اختصر وصف الظعائن في بيتين وتحسر على فراقها بعد ذلك أيما حسرة ثم أخذ يتغنى بذكراها وافتخر بعد بالحرب والقتال، وداخل فخره هذا بشعور مر من كراهة ما هو فيه، هذا الذي يفتخر به، وفظاعته - ثم اختم بيأس تداخله ألوان من قلة المبالاة:

إِذا ما أَتَتْني مِيتَتِي لَمْ أُبالِها

ولم تُذْرِ خَالاتي الدُّموعَ وعمَّتي

ولم يجد في كل هذا عزاء إلا خويصة نفسه، وما كانت تمسك به من مباديء:

وإِنِّي لَجُلوٌ إِن أُريدَتْ حَلاوتِي

ومُرٌ إِذا نَفْسُ الْعزُوفِ استَمَرَّتِ

أَبِيٌّ لما آبي سَرِيعٌ مَباءَتِي

إلى كُلِّ نَفْسٍ تَنْتَحِي في مَسرَّتِي

ولنا إلى هذه الكلمة أيضا عودة إن شاء الله.

ص: 303

والبيتان الأخيران هما مقطع القصيدة، وفي معناهما شبه بمعاني المثقب إلّا أن ههنا وحشة أشد وكبرياء أعظم. وعسى القارىء أن يكون لمح بعد، بين هذا جميعه وبين ما اختتم به زهير معلقته من الحكم وجوها من الشبه وتقارب المذهب على ما كان من اختلاف في ظاهر الغرض:

ومن لم يذُدْ عَنْ حوْضه بِسلاحِه

يُهدَّم ومن لا يظْلِم النَّاس يُظْلَم

ومن يَجْعلِ الْمَعْرُوفَ من دُون عِرْضِه

يَفِرْهُ ومن لا يتَّق الشَّتْم يُشْتمِ

ومن يُوفِ لا يُذْمَم ومن يُهْدَ قلْبُه

إِلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ لا يتَجمْجمِ

ومَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِيءٍ مِنْ خَلِيقَةٍ

وإنْ خَالَها تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ

وبعد فكل هذه الأمثلة التي ضربناها إنما قصدنا بها أن نوضِّح ما ذكرناه آنفا من أن الشعراء مما يَتَّحِدون بتجاربهم المختلفة مع النماذج المتشابهة وَممَّا يضمنون هذه النماذج ما يشعر باختلاف تجاربهم وينبيء عن طبائعها، من طريق الإيحاء والإيماء، الذي يكون تارة بما يوقعونه في النماذج من تحوير لفظي دقيق المأتي رقيق المدخل، وتارة بالاختصار في باب مما يطال فيه أو الإطالة في باب مما يختصر فيه وهلم جرا.

وقد عمدنا - كما رأيت - إلى التمثيل ببعض ما يقع من تواشج رمزي بين أغراض المدح والفخر ومطالع النسيب، لأن ذلك قد يكون أوضح في الدلالة على ما نزعم من أنه قد يقع الإيحاء بالتجارب الغرامية الفردية داخل النموذج النسيبي المتواضع عليه نفسه أو داخل القصيدة التي يفتتح بها أو يعن فيها. وإذ النموذج النسيبي التقليدي مما يمتزج امتزاجا شديدا بإيحاء الشاعر عن تجربته الخاصة، حين تكون له تجربة خاصة، لأن الباب كله غزلي متحد السنخ والجوهر، هذا من جهة، ولأن الشاعر يعتمد هذا التوحيد طلبا للتجويد الفني وطلبا للتقية، هذا من جهة أخرى، لكل هذا، فإن التحرير الذي يجريه الشاعر في النموذج التقليدي أو يدخله

ص: 304

هذا المجرى أنه هدد ابن أبي ربيعة ولفَّه أن يذكروا اسم فاطمة بنت عبد الملك لما حجت، ولاشتهار الحجاج بالغيرة، وقد ذكرت له في ذلك أخبار، مدحه جرير بقوله:

أَم من يَغَارُ على النِّساءِ حفِيظةً

إذْ لا يثِقْن بغَيْرةِ الأزواج

وعسى أن يكون في ذكر المسك المتضوع أشعار بنوع من التبرج، من قبيل الضرب بالأرجل ليعلم ما خفي من الزينة.

ومما كأنه قد ساء الحجاج في تائية النميري، قوله:

ولما رَأَتْ رَكْب النُّمَيرِيِّ أَعرضت

وكُنَّ مَن أنْ يلْقيْنَهُ خَفِرات

وليس في هذا كبير شيء، إلا يسير من خبث. وغير بعيد أن يكون الحجاج قد أنف من هذا الخبث الطفيف أن يرويه أهل العراق، وقد رووه، فيكون ذلك كأنه هجاء له ونقص من قدره.

هذا، ومن ذلك أيضا ما رووه من تحرش أهل المدينة بالفرزدق إذ قال:

هما دلَّتاني من ثمانين قامةً

كما انْقَضَّ بازٍ أَقْتَمُ الرِّيش كاسره

وقد أشرنا إلى هذا آنفا. وقد زعموا في خبر ما كان من ذلك أن مروان بن الحكم، اضطغن على الفرزدق قولة قالها له، لما قدم هذا فارا من زياد، فمدح سعيد بن العاص وكان واليا للمدينة، وكانت بينه وبين مروان منافسة وشحناء فقال:

قيامًا ينْظُرون إلى سعيد

كأَنَّهم يَروْنَ به هلالا

فقال مروان للفرزدق "قيودا" كأنه يُنَبِّهُهُ إلى أن في قوله "قياما" افتئاتا عليه هو. وعلى غيره ممن كان في المجلس من سادة قريش فقال الفرزدق على طريقته في سرعة البادرة والجراءة "إنك يا أبا عبد الملك من بينهم لصافن" ومثل هذا يضطغن.

ص: 305

فلما عزل سعيد وصار مروان واليًا مكانه تقصد الفرزدق بالذي تقصده به من تهمة الزنا، وكتب إلى معاوية يشكوه، أملًا أن يستدعيه معاوية فيقيم عليه الحد وكان الفرزدق قد هجا معاوية. وكان صنيع زياد به من قبيل استرضاء معاوية. فرغب مروان بفعله هذا إلى نحو من صنيع زياد. ولم يكن معاوية من يؤخذ على غرة فتغيب عنه حقيقة ما كان يرمي إليه مروان. فما كان منه لما بلغته الشكوى إلا أن رد الأمر إلى مروان وأمره هو أن يكون المتولي لإقامة الحد. فسقط في يد مروان. ثم التمس لما كاد يوبق نفسه فيه مخرجا، بإبعاد الفرزدق، وإعطائه صحيفة كصحيفة المتلمس. وإخباره بما فيها كيما يحتاط لنفسه وينجو. وقد فعل. والقصة كما ترى، مع الذي فيها من طرائف العلاقات الاجتماعية والسياسية بين معاوية وولاته وأكابر الشعراء في دهرهم، فيها أيضا شيء كثير مما يجري مجرى النقد والتعليق على الشعر نفسه. والتهاون في إقامة الحد مما يقوي هذا المعنى.

هذا، ومما يجري مجرى الإيماءة والرمية في النقد ما يذكر عن سكينة بنت الحسين أنها عابت على جرير قوله:

طرَقتَك صائدةُ القلوب وليس ذا

وَقْتَ الزيارة فارجعي بسلام

وظاهر نقدها أنها تعيب المعنى العام إذ ليس الطارق الحبيب مما يرد، وتُحَدَّد له مواعيد الزيارة التي لا يعدوها - وباطنه أنها فطنت لإيماءة خفية إلى تجربة ذاتية من جرير، ففضحتها بهذا العتب الذي عتبته، والله أعلم. ومما يؤيد هذا الحدس أنه لا معنى لطرد الخيال ههنا إن لم يكن الشاعر يرمز به إلى أمر من قبيل الطرد قد وقع، وفي نفسه عقابيل من حسرته.

وشبيه بهذا من حيث الإيماء في باب النقد، ما عيب به كثير حيث قال:

أُرِيدُ لأَنْسى ذِكْرها فكأَنَّما

تُمثَّلُ لي لَيْلَى بِكُلِّ سبيل

ص: 306

فأخذوا عليه إرادته أن ينسى ذكرها - وليس هذا من قريّ ما سبق، وإنما شاهدنا فيه الإيماءة النقدية ليس إلا.

ونحن قد نَحْرَجُ ههنا من أن نفصل حيث أجملوا أو أومأوا أو أضربوا عن ذكر شيء غير مجرد الاستحسان والاختيار، ولكن يجيز لنا ما نحاوله من الكشف، قصد الدرس، وطلب التفهم لمعاني شعرهم، إذ بعيدة شقة ما بيننا وبينهم من الزمان وحجبه الكثيفة. ومع التفهم والدرس يكون التذوق. ثم عسى أن يعيننا ذلك على تصحيح كثير مما نحن فيه من قيم، فهذا هذا.

والإيحاء والإيماء في باب الغزل ونعته، كله فيما نرى، يدور حول معاني الاشتهاء والحرمان والنزاع، أو قل حول لوعة الجنس، واستماحة الود والرحمة. قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} - فهذا نهي عن فضل الشهوة. وقال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فهذا أمر بالصبر على مضض الحرمان: وقال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فهذا بيان لأسمى ما يكون من علاقات الحب بعد علاقات الزواج وقال أبو تمام ونظر إلى هذا المعنى من قوله جل وعزَّ:

وقالوا نِكاحُ الْحُبِّ يُفْسِدُ شَكْلَهُ

وكم نكحوا حُبًّا وليس بفاسد

على أن أول الحب مما تخمد جذوته بعد أن يتلئب الوصال. وتبقى الرحمة والمودة، وهما أقيم منه، وتغلبانه عندما تطيش نوازع النفس. والشعراء الصادقون مما يسجلون هذه النوازع الطائشة. والعرف يعين الرحمة والمودة. وقد يقع عند النفوس الثوّارة أن تخرج عليه، فتنكر في الخروج عليه فضل الرحمة والمودة وقد ذهب برتراند رسل إلى هذا المعنى في جانب ما كتبه عن الأخلاق والزواج، واستشهد بشعر من شلي، وقد ندّ عني موضع ذلك فلينظر ولم يخل رسل من شطط على ما

ص: 307

أحسن فيه من عرض الحجة وبسطها، وعلى ما أصابه من جوانب الحكمة.

وقال أبو تمام:

نَقِّلْ فُؤادَك حَيْثُ شِئْتَ من الهوى

ما الْحُبُّ إلَّا للحبيبِ الأوَّل

كم مَنْزِلٍ في الأرْضِ يَألَفُه الْفَتَى

وحَنينُه أَبدًا لأوَّلِ مَنْزِل

وقد صدق أبو تمام إن يكن قصد إلى معنى المودة والرحمة. أما إن قصد محض الحب، ففي قوله نظر، وكذلك في المثل الذي ضربه من ادعاء الحنين للمنزل الأول وحده. وهنا مكان حجة رسل.

هذا، وأكاد أزعم أن الذي يلهج به بعض المعاصرين من نسبة قدماء الشعراء العرب إلى أنهم ماديون في مذهب الغزل، باطل بحت. وأحسب أن هؤلاء أتوا من حيث وجدوا أوصافا للشحم واللحم مما يستحب مثله عند اللذة. وليس لعمري غزل القدماء كله في أوصاف الشحم واللحم، ولا كل الأجساد التي وصفوا تجري على هذا، ولا التي وصفوها بهذا كلها تجري على معنى إرادة اللذة. ثم إن القرآن لم يكن ليخاطب العرب، فيمتن الله عليهم فيما امتن عليهم به من آلائه، بنعم المودة والرحمة في الزواج، لو لم يكن يعلمهم مدركين لهذا المعنى. وإنما كان يخاطبهم بما يعلمون ويدركون. وليست الرحمة والمودة لعمري مما يوسم بأنه ماديّ ولقد عبروا عنها في الشعر كأصدق ما يكون التعبير.

ثم ما سميناه "لوعة الجنس" ليس كله ضربة لازب بمادي، لا ولا بعضه، إلا من حيث هو ناشيء عن غريزة متأصلة في سر الحيوان. ذلك بأن المادية انما تعلق بالغزل حين تصير اللذة الجنسية هي غرضه. أما المناغاة الملتاعة التي تكون من الحرمان، فهي تسام فوق طلب اللذة، وإن يك نيل اللذة مما يظن أنه يطفئها. والعرب في باب الجنس أعمد إلى هذه المناغاة، منهم إلى ذكر اللذة نفسها، أو ذكر طلبها، وإن كانوا لا يدعون لذلك ذكرا في موضعه وعند اقتضاء الحال له.

ص: 308

ولقد شهدنا في عصرنا هذا وفي العصر الذي سبقه كتابا يفردون التصانيف المنتقاة للحديث عن اللوعة الجنسية. وقد ثارت على بعضهم الثوائر فيما صنعوه، كالقضية التي رفعت ضد الكاتب الفرنسي فلوبير باسم الفضيلة في قصته مدام بوفاري، وكالقدح الذي قدح به لورنس في قصته عن ليدي شتلري وعاشقها. ثم انتصف لهؤلاء ما أحسه الناس في تصنيفهم من التماس الصدق، وبعدهم كل البعد عن إرادة الاستهتار بمعنى الإباحة. ولا يكون الصدق عن هذا الدافع البشري العميق الذي التوى بالناس إساءتهم إلى مدلول الغيرة وعدوانهم على كنه فضيلة العفاف، حتى أداهم إلى تشويهه، مما يؤبن بأنه مادي. واللوعة الجنسية مما تختلط فيها معاني الرحمة والمودة وغير ذلك من قريان الهيام الروحي أيما اختلاط، حتى يوشك أن يعسر التمييز والتعيين. ولأمر ما تخيّر الصوفية الرمز الغزلي فوق كل رمز، وارتفعوا به فوق كل مدلول للمعنى الجنسي إلى فيض الأثيرية المحض. والصدق الصوفي على هذا إنما يجزيء في باب الأغراض الصوفية وحدها. ويبقى بعد الصدق الجنسي ليجزىء فيما هو من خالص عمق البشرية من الأغراض، ولقد كان العرب، أهل البداوة منهم خاصة، من أصدق أمة تعبيرا في هذا الصدد، على ما بنوا عليه من خشونة الغيرة والحفاظ وشدة العفاف، بل قل من أجل ذلك. ولقد تجد في أخبار ما كان يُسْتَفْتَى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجيب في هذا المضمار شواهد كثيرة بالغة. من ذلك أخبار الأنصاريات إذ سألن عن بعض ما هو من أسرار النساء. ومن ذلك خير العزل وسياق الخبر في رواياته. وأشياء كثيرة في هذا المعنى، هي الآن من جوهر ما يتقصده العلماء ويفردون له الدراسات ولا يستحيون، على ما يتكلفونه لذلك من لاتينية الاصطلاحات، وعنت التراكيب.

هذا وقد كان الشاعر العربي، متى أراد إلى الإفصاح عن لوعة الجنس ويلابس ذلك معنى المودة والرحمة غالبين عليه أو مغلوبين، مما يلمح، طورا في وقار واستحياء، وطورا في تردد وحرج، وطورا في شوق ونشوة، وطورا في فكاهة أو

ص: 309

جسارة أو تخابث أو موارد من القول هي شوب من كل ذلك أو متفرعات عنه. وقد يخلو أداؤه أحيانا من هذا جميعه فيكون إراغة إلى محض الحنين، ومعاني اللوعة متضمنة في ذلك. وإنما يظهر هذا الوجه العسر العزيز حين يذيب الشاعر حاقّ ذاتيته إذابة فيما يعتمده من نموذج. ويوشك أن يقارب هذا المذهب مذاهب المتصوفة. قال معاوية معود الحكماء:

أَجَدَّ الْقَلْبُ من سلمى اجتنابا

وأَقْصَر بَعْد ما شابَتْ وشابا

وشابَ لِداتهُ وعَدَلْنَ عَنْهُ

كما أَنْضيْتَ من لُبْسٍ ثيابا

فإن تَكُ نَبْلُها طاشتْ وَنَبْلي

فقد نَرْمي بها حِقَبًا ضِيابا

فتَصطادُ الرِّجالَ إذا رَمتْهُمْ

وأَصطادُ الْمُخَبَّأَةَ الكعَابا

فإن تكُ لا تَصِيدُ الْيَوْمَ شَيْئًا

وآب قَنِيصُها سَلمًا وخابا

فإِنَّ لها منازِل خاوِياتٍ

على نَمَلى وَقَفْتُ بها الرِّكابا

من الأجزاع، أَسفَل من نُميلٍ

كما رجعت بالقلمِ الكتابا

كتاب مُجَبِّرٍ هاجٍ بصيرٍ

يُنَمِّقُه وحاذر أَن يُعابا

وَقَفتُ بها الْقَلُوص فلم تُجِبْني

ولو أَمْسى بها حَيٌّ أَجابا

وقال بشر بن أبي خازم، وقارب هذا المعنى ولم يصبه:

أَحقُّ ما رأَيتُ أَم احتلام

أَم الأهْوالُ إِذْ صَحْبِي نِيام

أَلا ظَعَنت لنِيَّتها إِدامُ

وكُلُّ وصالِ غَانِيَةٍ رِمامُ

جدَّدت بحبِّها وهَزَلْتَ حتَّى

كبِرتَ وقيل إِنَّك مستهام

وقد تَغنى بنا حينًا ونَغْنى

بها، والدَّهر ليس له دوام

وإنما سقنا كلام بشر هذا الندل على أن الذي ذهبه معود الحكماء نموذج وليس نسيج وحده. وقد دلنا ابن سلام الجمحي على ضياع أكثر الشعر القديم، فما وجدناه منه كالمفرد، فلا يحسنن بنا أن ندعي له حاقَّ الأصالة الشكلية، وإن وجدنا له شبيها

ص: 310

ولو على مباعدة فذلك نص في أن لا ندعي له ذلك.

هذا، وقد يخلو كلام الشاعر من جميع ما قدمناه، فلا يبقى له إلا ظاهر النموذج الشكلي السنخ، وحينئذ نتلمس، فإن أصبنا للكلام ماء، وحرارة من فصاحة، حكمنا للشاعر أنه أذاب طرفا من تجربته فيما احتذاه ولم يبلغ به حظه من الملكة أكثر من ذلك، أو كان غرضه، مما يستلزم نحو هذا الصنيع. مثال هذا قول بشر بن أبي خازم في الكلمة التي قدمنا منها وهو بعد الأبيات التي مرت من مفضليته:

لياليَ تَستَبيكَ بذي غُروب

يُسَنُّ على مَرَاغِمه القسام

تَعرُّضَ جَأْيةِ المدْري خَذُول

بصاحةَ في أَسِرَّتها السِّلام

وصاحبُها غَضيضُ الطَّرْفِ أَحْوَى

يَضُوع فؤادَها منْهُ بُغامُ

ونحو هذا عند الجاهليين كثير. وقلما ينحطون فيه إلى حضيض الكلام المغسول.

وقد قدمنا لك أن مع البداوة الصدق. ثم أضف إلى ذلك قوة الثقة من تلك اللغة، وهذا لاحق بما ذكرناه من معنى التجويد والإتقان لمحض الفن.

ومما يجري مجرى الحنين ولا يبلغ ما بلغه معاوية معود الحكماء من التحليق والتجرد قول المرقش الأكبر (1).

سرى لَيْلًا خيالٌ من سُلَيْمَى

فَأَرَّقني وأَصحابي هُجود

فبتُّ أُدير أَمري كُلَّ حَالٍ

وأَرْقُب أَهْلَها وَهُم بَعيدُ

وهذا من زعم مراقبة الأهل وهم بعيد شاهد في الذي نحن بصدده:

على أَن قد سَما طَرْفي لنارٍ

يُشَبُّ لها بذَي الأرطَي وَقُود

حوالَيها مهًا جُمُّ التَّراقِي

وآرامٌ وغزلان رُقُود

(1) مفضليته: 46.

ص: 311

وفي قوله رقود أشعار جنس لا يخفى تنزاعه ولوعته.

نَواعمُ لا تُعالجُ بُؤس عَيْشٍ

أَوانسُ لا تُراحُ ولا ترود

يَرُحْنَ مَعًا بطاءَ المَشْي بُدًّا

عليهنَّ المجاسد والْبُرود

وفي قوله "بدا" تخابث، حور به النموذج التقليدي شيئا ما، إلى تصوير ما نقلته إليه نظرته بعقلهِ وظنه أو بعين رأسه. وسترى من تصديق ذلك في هذا المعنى من بعد إن شاء الله.

سكنَّ ببلدةٍ وسكنت أُخرى

وقُطِّعت الْمَواثقُ والْعُهود

فما بالي أَفي ويُخَان عهْدي

وما نبالي أُصاد ولا أَصيدُ

والعجز فيه معنى احتجاج بالغ على ما هو ملازم له من سنة العفاف أو الحياء، وفيه أيضا تلميح إلى تجربة عاطفية.

ورُبَّ أَسِيلةِ الخَدَّيْنَ بِكْرٍ

مُنَعَّمَةٍ لها فَرْعٌ وجِيدُ

وذُو أُشُرٍ شَتِيت النَّبْتِ عَذْبٌ

نَقِيُّ اللَّوْنِ بَرَّاقٌ بَرُودُ

لَهوْتُ بها زَمانًا مِن شَبابي

وزارَتْها النَّجائِبُ والْقَصِيدُ

وهذا على ما ترى من نموذجيته وشكليته فيه إيحاء علامة ونظر إلى الحبيب الأول، لو قبلنا على سياقه أن في هذه الكلمة حبيبين لا واحدا، وما أحرى أن لم يكن إلا واحدا.

أُناسٌ كلَّما أَخْلَقْتُ وَصْلًا

عَنانِي منهُمُ وَصْلٌ جَدِيدُ

وهذا يحقق ما نزعمه، على أي المحملين حملته، أهو حبيب واحد من يتحدث عنه، أم حبيب آخر عن له بعد الأول، ووفاؤه للأول يصده والأول غير واف.

ومما هو نموذجي محض، ولكنه ذو رونق من الفصاحة والترنم والتأمل المستفاد

ص: 312

من التجارب قول سويد بن أبي كاهل:

بَسَطَتْ رَابِعَةُ الْحَبْل لنا

فوَصلْنَا الْحَبلَ مِنها ما اتَّسع

حُرَّةٌ تَجلُو شَتِيتًا واضحا

كشعاع الشَّمسِ في الْغَيْمِ سطع

صَقَلَتْهُ بِقَضِيبٍ ناضِرٍ

مِنْ أَراكٍ طَيِّبٍ حتَّى نَصع

أَبيضِ اللَّونِ لَذِيذٍ طَعْمُه

طَيِّب الرِّيقِ إِذا الرِّيقُ خَدَعْ

تَمنحُ الْمِرآةَ وجهًا واضِحًا

مثْلَ قَرْنِ الشَّمسِ في الصَّحوِ ارتفع

ناصِع اللَّوْنِ وطَرْفا ساجيًا

أَكْحلَ الْعَيْنَيْنِ ما فيه قَمَع

وقرونًا سابِغًا أَطْرافُها

غلَّلتها رِيحَ مِسكٍ ذِي فَنَع

هيَّجَ الشَّوق خيالٌ زائرٌ

مِن حبِيبٍ خَفِرٍ فيه قدع

شاحِطٍ جَازَ إِلى أَرْحُلِنا

عُصب الْغَابِ طُرُوقًا لم يُرَع

آنِسٍ كان إِذا ما اعْتادنِي

حال دونَ النَّوْمِ مِنِّي فامْتنَع

وكذَاكَ الْحُب ما أَشْجَعهُ

يَرْكَبُ الهَوْلَ وَيَعْصِي مَنْ وَزَع

فأَبيتُ اللَّيل ما أَرْقُدُه

وبِعَيْنَيَّ إِذا نَجْمٌ طَلَع

وإِذا ما قُلْتُ لَيْلٌ قد مضى

عَطَف الأَوَّلُ مِنْهُ فَرَجَع

يَسْحَبُ اللَّيْلُ نُجُومًا ظُلَّعًا

فَتَوالِيهَا بَطيئاتُ التَّبَع

ويُزَجِّيها على إِبطائِها

مُغربُ اللَّون إِذا اللَّوْنُ انقشع

فَدَعانِي حبُّ سلْمَى بَعْدَما

ذَهَبَ الْجِدَّةُ مِنِّي والرَّيع

خَبلَتْني ثُمَّ لما تُشْفِني

ففؤادي كُلَّ أَرْب ما اجتمع

ودَعَتْني بِرُقَاها إِنَّها

تُنزِلُ الأَعْصَم من رَأْسِ اليفَع

تُسْمِعُ الْحُدَّاث قَوْلًا حَسَنًا

لو أَرادوا غَيْرَهُ لم يُسْتَمَع

ثم أخذ في الخروج. وهذه مقدمة جمعت فأوعت. ذكر اللذة الغابرة، ونعت المحبوب في ثناياه ووجهه وشعره، وذكر الطيف وذكر الحب، وذكر الليل والنجوم.

ص: 313

وذكر رقي الغرام وأنس الحديث. ومراد الشاعر بعد واضح من أنه مقبل على جد وحفيظة إذ ذهب ريعان الشباب، ولكن فيه بعد بقية سيصرفها إلى ما هي أهله من حماسة، - كما قد فعل علقمة ببقية شبابه حين اهتدى باللاحب والفرقدين وقصد الحرث الوهاب.

ورابعة المحبوبة ههنا كأنها مصدر إلهام يستغيث به الشاعر ويذمر به نفسه، إذ هو مقبل في قوله على مفاخرة ومنافرة وتحد تمازجه حسرة وألم وخصومة، كما يذمر أهل الحزب أنفسهم باستصحاب النساء.

وقد مضى الشاعر في الخروج شوطًا ثم افتخر بقومه فأطال وهاج به هيج الحماسة. فلما بلغ هذا المبلغ أمسك شيئا والتفت إلى رابعة ليستلهمها ويذمر نفسه مرة أخرى كيما يندفع في شوطين جديدين من خروج وفخر أشد وأحد وأقوى إبانة عما في نفسه.

قال:

أَرَّق الْعَيْنَ خيالٌ لم يَدَعْ

من سُلَيْمى ففُؤادي مُنْتَزَع

حَلَّ أَهلي حَيْثُ لا أَطْلُبها

جانِبَ الحِصْن، وحلَّتْ بالفَرَعْ

لا أُلاقيها وقَلْبِي عِنْدها

غَيْرَ إِلمَامٍ إِذَا الطَّرْفُ هجع

كالتُّؤاميَّة إِن باشرتها

قَرَّتِ الْعينُ وطاب المضطجع

بكَرت مُزْمِعة نِيَّتَها

وحدا الحادي بها ثُمَّ انْدفَعْ

وكريمٌ عِنْدَها مُكتَبلٌ

غَلِقٌ إِثر الْقَطِين الْمُتَّبع

والنسيب هنا أحر، وليست حرارته تجربة خاصة، فهو نموذجي من قريّ ما سبق، ولكن حرارته مستمدة من حرارة التَّحمُّسِ الذي اسْحَنْقَرَ معه الشاعر. وقد أشرب نموذجه معاني من اللذة والشهوة. لا يريد بذلك إلى لوعة الجنس ولا إلى هذا

ص: 314

الذي يسمونه مادية الغزل، ولكن ليحمش نفسه بروح الغيرة والفحولة كما يفعل أهل الحروب - أو كما قالت هند في أحد:

إِن تُقْبِلوا نُعانِقْ

ونَفْرش النَّمارق

أَو تُدبروا نُفارقْ

فراق غَيْر وامقْ

وقد حمي وحمش، فاختصر الخروج كما اختصر الغزل، ثم اختصر الفخر بقومه ثم أقبل على التحدي، والخصومة والمصارحة بما عند نفسه ثم افتخر وقص قصة نضاله وانتصاره الذي كان أو الذي توهمه قد كان أو سيكون، ثم صاح صيحة الظفر على جثة ثأر:

هلْ سُويْد غَيْرُ لَيْثٍ خادِرٍ

ثَئِدَتْ أَرْضٌ عَليْهِ فَانْتَجع

ولكنها هنا صيحة تمازجها مرارة، إذ سويد الغالب، سويد الصخرة التي تعضب قرن الناطح، سويد ذو اللدد والهجاء القامع، سويد الذي أجبر شيطانه شيطان عدوه على الفرار، سويد الغالب هذا كله، هو الذي اضطر إلى الهجرة لا عدوه المغلوب. ولعل هذا يكشف لك سر الكناية المستكنة في مقدمته الطويلة، ورابعته التي بسطت الجبل، ومنته بعد أن دعته برقاها وتيمته، ثم بانت بعد ذلك كل بين.

ولقد وهم ليال في تعليقه على المفضليات (1) فقال ما معناه إن قصيدة سويد هذه إنما هي قصيدتان بلا ريب، بحرهما واحد وقافيتها واحدة، ومبدأ الثانية من البيت الخامس والأربعين. وهذا وهم في الذي ذكرناه ما يدفعه. وإنما أُتِي ليال من جهة التصريع، واستئناف النسيب بعد ما كان من خروج وأغراض. والنسيب والخروج والأغراض كل ذلك مما يختلط - إذ الجوهر عند الشاعر هو كل القصيدة، ومبدؤها

(1) المجلد الثاني من تحقيق ليال للمفضليات (الترجمة الإنجليزية) ص 139.

ص: 315

المطلع ونهايتها المقطع، وما بين ذلك من أقسام يتصرف فيه نفس القريض ووثباته. فيداخل ويحاجز، ويقدم ويؤخر، ويحذف ويثبت وقد يكرر ويعيد وقد يستغني بنسيب عن خروج وبخروج عن نسيب وبغرض عن خروج، وقد يدمج أشياء من ذلك بعضها في بعض أيما إدماج، وهلم جرا. وسترى من هذا المعنى أمثلة إن شاء الله، وقد سبق لنا أن أشرنا إليه ومثلنا بعض التمثيل.

هذا، ومما هو نموذجي مخض، رونقه من الفصاحة، وحرارته من مستسر الكناية والحنين التقليدي: قول ربيعة بن مقروم الضبي:

أَمِنْ آلِ هنْدٍ عرفْتَ الرُّسوما

بجُمْرانَ قَفْرًا أَبتْ أَن تريما

تَخَالُ معَارفَها بعدما

أَتَتْ سنَتَان عليْها الْوُشُوما

وَقَفْتُ أُسائلُهَا نَاقَتي

وما أَنا أَم ما سُؤالِي الرُّسوما

وذَكَّرني الْعهْد أَيَّامها

فَهَاجَ التَّذكر قَلْبًا سَقِيما

ففاضتْ دموعي فَنَهنْهتها

على لحيتي وردائي سُجُوما

وهذا مما يرفعه التجويد والأحكام عن أن يكون مغسولا.

هذا، ومن النسيب ما يختصر اختصارًا وكأنه استعجال إلى الخروج أو إلى الغرض والنموذج في مثل هذا قلنا يحمل إيحاء بتجربة غزلية ذاتية - وإنما يحمل الكناية القريبة المأتي عما سيلي. وربما داخله تفسيرها.

قال تأبط شرا:

يا عِيدُ ما لَكَ مِنْ شَوْقٍ وإيراق

ومِرّ طَيْفٍ على الأهْوالِ طَرَّاق

يَسْرِي على الأيْنِ والْحَيّاتِ مُخْتَفِيا

لله دَرُّكَ من سارٍ على ساق

وإنما الساري على الأين والحيات تأبط شرا نفسه، والساق ساقه التي يعدو بها لا ساق خدلة من فتاةٍ رداح أو من طيفها الزائر. ومن أجل هذا جاز لتأبط شرا أن

ص: 316

ومثال الثاني قول النابغة:

بانَت سُعادُ وَأَمْسى حَبْلُها انْجَذَ ما

واحتَلَّت الشَّرعَ فالأَجزاع من إِضما

إِحدى بَلِيٍّ وما هام الفؤاد بها

إِلا السَّفاه وإِلا ضلَّةً حُلُما

لَيستْ مِنَ السُّودِ أَعقابًا إِذا انصَرَفَتْ

وَلا تَبيعُ بِجَنْبَيْ نَخْلَة البُرما

غَرَّاءُ أَكْمَلُ من يَمشي على قَدمٍ

حُسْنًا َأَمْلَحُ من حاورْتهُ الكَلِما

قَالتْ أَراكَ أَخا رَحْلٍ وَراحِلَةٍ

تَغْشَى مَتالِف لن يُنْظِرنك الْهرما

حيَّاكِ ربِّي فَإِنَّا لا يحِلُّ لنا

لَهْوُ النِّساءِ وإِنَّ الدِّين قد عزما

مُشمرين على خوصٍ مُزممةٍ

نَرجُو الإِلَهَ وَنَرجُو البِرَّ وَالطُعما

هَلّا سَأَلتِ بَني ذُبيانَ ما حَسَبي

إِذا الدُّخانُ تَغَشَّى الأَشْمَط البَرَما

وَهَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلقاءِ ذي أُرُلٍ

تُزْجِي مع الَّليلِ من صُرَّادها صِرما

صُهبَ الظِّلالِ أَتَيْنَ التِّينَ عَن عُرُضٍ

يُزْجِينَ غَيمًا قَلِيلًا ماؤُه شَبمَا

يُنْبِئْكِ ذو عِرْضِهِم عَنِّي وَعالَمُهُم

وَلَيسَ جاهِلُ شَيْءٍ مِثْل من علما

أَنِّي أُتَمِّمُ أَيساري وَأَمنِحهُم

مثْنى الأيادي وأكْسُو الجَفْنَةَ الأُدُما

وأقْطَعُ الخرقَ بِالخَرْقاءِ قَد جَعَلَتْ

بعْدَ الْكَلالِ تشكّى الأَينَ وَالسَأما

كادَت تُساقِطُني رَحْلي ومِيثرتي

بذي المجازِ ولم تَسْمع به نَعَما

مِن قَولِ حِرمِيَّةٍ قالَت وَقَد ظَعَنُوا

هَل في مُخِفِّيكم مَن يشتري أَدما

قُلْت لَها وَهيَ تَسعى تَحتَ لَبَّتِها

لا تَحطِمَنَّكِ إِنَّ البَيْعَ قَد زَرِما

أي انتهى وانقطع

فكلام زهير مخالطة تجربته للنموذج حتى لا تكاد تبين. ولولا ما يصدمك من لفح الحرارة والشوق الزائد على مجرد الحنين العرفي وأرب الكناية لأوشك أن يغيب عنك مكانها من كلامه كل مغيب.

وزهير ههنا يذكر انفراقًا من الخليط. وعلوقا من قلبه بإحداهن فيه، وحالا

ص: 317

خاصة في الوداع ألهبت لوعته وذهبت بفؤاده، وخلقا من موعد كان قبل ذلك وصرما وبينا، وترائيا وجلوة ما وشوقا هيجه هذا الترائي، ثم ينعت من محاسن هذه الغانية، جيد الغزالة ذات الرشأ المتناعس وهي تراعي سربها وتلتفت عنه لتنظر إلى ولدها، والثغر الريان الذي لا يغيره الكرى وكأنه راح شجت بماء صاف من بئر لينة، ثم إنه بعد هذا الوصف يرمي إليها بطرفه وهي ظاعنة ويتبعها والركاب تهوي بها، ثم يلاحقها بخياله وقد اتلأب بها السير من مرحلة إلى مرحلة. وهو كأنه يرى بعينه هذه المراحل حين تحل وحين تستقل. ثم ما هو إلا أن يغلب على أمر نفسه فيبكي بدموع غزار، ويأخذ في تشبيه هذه الدموع بماء السانية، وينتقل من هذا التشبية إلى وصف السانية، وهذا كما ترى من باب امتزاج النسيب بالخروج وسنذكره في موضعه إن شاء الله، والذي حوّره زهير، وهو يجوّد نموذجه، ليوحي إليك بتجربة خاصة قوله:

قامت تراءي بذي ضالٍ لتحزنُني

ولا محالةَ أن يشتاق من عَشِقا

فأنت بمجرد سماعه تتساءل، فلماذا تحزنه حين تتراءَى. والجواب عن ذلك كما مر بك في معرض حديثنا عن هذا البيت آنفا في باب طريقة القصيدة ووحدتها أنها لم تحزنه، ولكن أعجبته، ومنالها عزيز، وقلبه قد تعلق بها، فهذا هو الذي يحزنه. وكأنها إذ أرته من نفسها ما أرته، من إنصلات جيد، وبريق ثغر، ورقة نظر، وخلجات ود، كل ذلك ما فعلته إلا لتحزنه. وهذه كما ترى إلمامة رقيقة لطيفة بمعنى التجربة الفردية، تلقي عليك ظلا كثيفا من حب الاستطلاع ورغبة الكشف، وتشعرك لفحا ما من حرارة الإدراك لبعض ما كان. وزهير لا يعطيك أكثر من ذلك ولك إن شئت من بعد أن ترجع إلى شعره في أم أوفى، فتحدس في نفسك، أهو يريد أم أوفى بعد أن صارمته وتبعها قلبه أم هو يريد غيرها أم هو نظرة ولقاءة وصورة مما لا يئل من مثله. ذو إحساس مرهف ذو ذوق دقيق مع نبل في النفس وعفاف؟ ومهما يكن من شيء فإن الذي يصفه زهير ليس بشكل نموذجي بحت قصارى ما يرتفع به عن أن يكون مغسولا كونه مُجَوَّدًا ناصع الفصاحة - فليتأمل هذا.

ص: 318

وإذ زكنت هذا من مذهب زهير، فإنك واجد له في نسيبه نظائر، بعضها يخفى حتى لا تكاد تحس منه إلا موسيقا أثيرية ساخنة الأنفاس بعيدة الأصداء، وبعضها يداني الوضوح شيئا ما. فمن أمثلة الأول قوله:

لمِنْ طَلَلٌ برامة لا يريم

عفا وخلاله حقُبٌ قديم

تحمَّل أهْلُه منْهُ فبانوا

وفي عرصاته منْهم رسوم

يلُحْن كأَنَّهن يدا فَتاةٍ

تُرجَّعُ في مَعاصمها الوُشُوم

وإنما يذكر يد الفتاة ذات الوشم حين تعالج القدر، ولعلها أم أوفى ولو قد كان يريد تشبيه الرسوم بالوشوم وحدها وهو المذهب النموذجي لكان قد استغنى عن ذكر اليدين أو كان جعله لاحقا بالوشوم لا مقدما عليها وهي تابعة له لاحقة به، وأنت تذكر قول طرفه في هذا الباب "تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد".

عفَا من آل لَيلَى بَطْنُ سَاقٍ

فأَكْثِبَةُ العجائز فالقصيمُ

فهذا نص في أنه آنفا إنما كان يذكر الفتاة وعهد تجربة من النظر ولا يَبْغي مجرد نموذجيّ التشبيه.

تُطَالِعُنا خَيالاتٌ لسلْمَى

كما يتطَلَّعُ الدَّيْنَ الغريمُ

وهي الدين وهو الغريم.

لَعمرُ أبيك ما هرمُ بْنُ سلْمى

بملْحيٍّ إذا اللُّؤماءُ ليموا

وهذا الاقتضاب بينه وبين ما تقدم وثبة طويلة، والرابط الترنم باسم سلمى، كما يقع في باب تداعي المعاني وقد جمجم الشاعر ما في نفسه ليصل إلى العزاء عند صديقه الممدوح.

ص: 319

ومن أمثلة الأول أيضا قوله:

قِف بِالدِّيارِ الَّتي لَم يَعْفُها القِدم

بلى وغيَّرَها الأَرواح والدِّيم

لا الدارُ غيَّرها بعدي الأنيسُ ولا

بالدار لَو كَلَّمت ذا حاجةٍ صَمم

دارٌ لأسماءَ بِالغَمْرَيْنِ ماثلةٌ

كالْوحي ليس بها مِن أهلها إرَمُ

وقد أراها حديثًا غَير مُقَوِيَةٍ

السِّرُّ منها فؤادي الجفْر فالهدَمُ

فَلا لُكانُ إِلى وادي الغمار ولا

شرقي سلْمى ولا فيْد ولا رِمَمُ

شطَّت بهم قَرقَرى بِركٌ بأيمُنهم

والعالياتُ وعن أيسارهم خيمُ

عَوْمَ السَّفين فلمَّا حال دُونَهُمُ

فنْدُ القُرَيّاتِ فالعتكان فالكرمُ

كأن عيني وقد سال السَّليلُ بهمْ

وَعَبرَةٌ ما همو لو أنَّهُم أممُ

غربٌ على بكْرة أو لُؤلُؤٌ قَلقٌ

في السلك خان به ربَّاته النُّظُمُ

وهذا تجربته سحيقة الخفاء، وإنما هي بقايا تجربة صار بها التذكر والشجن إلى ضرب من الهيام التائه. والشاعر يستهل لك بذكر الريع ووقفة الوفاء عنده ويذكر أنه ظاهر مستبين ثم يضرب عن ذلك وينفيه يذكر أنه قد حال وتغير، ثم يكاد يضرب عن ذلك ما يذكره من أن في الدار بيانا وإفصاحا لو أرادت - وألفتك إلى قوله "لا الدار غيرها بعدي الأنيس" - وفي كل هذا من الكناية عن أم أوفى ما لا يخفى - إذ قد بانت عنه ولم تصر عند آخر، ولو شاءت لرجعت إذ هو على رجوعها حريص. وهذه الوقفة منه وهذا الإلحاح في طلب الإبانة شبيه بما قال في المعلقة:

أمنْ أُمِّ أوفى دمنَةٌ لم تَكَلَّم

بحومانةِ الدُّراج فَالمُتَثَلَّمِ

ثم أخذ يترنم بذكر المواضع - ثم صار إلى البكاء وهذا من أشد خروج ملاءمةً لنسيبه. وقوله: "وعبرة ما همو لو أنهم أمم" مما ينبغي أن يتأمل، لأنه كاد يصير به إلى قريّ من الإفصاح.

ص: 320

خاصة في الوداع ألهبت لوعته وذهبت بفؤاده، وخلفًا من موعد كان قبل ذلك وصرمًا وبينًا، وترائيًا وجلوة ما وشوقًا هيجه هذا الترائي، ثم ينعت من محاسن هذه الغانية، جيد الغزالة ذات الرشأ المتناعس وهي تراعي سربها وتلتفت عنه لتنظر إلى ولدها، والثغر الريان الذي لا يغيره الكرى وكأنه راح شجت بماء صاف من بئر لينة، ثم إنه بعد هذا الوصف يرمي إليها بطرفه وهي ظاعنة ويتبعها والركاب تهوى بها، ثم يلاحقها بخياله وقد اتلأب بها السير من مرحلة إلى مرحلة. وهو كأنه يرى بعينه هذه المراحل حين تحل وحين تستقل. ثم ما هو إلا أن يغلب على أمر نفسه فيبكي بدموع غزار، ويأخذ في تشبيه هذه الدموع بماء السانية، وينتقل من هذا التشبيه إلى وصف السانية، وهذا كما ترى من باب امتزاج النسيب بالخروج وسنذكره في موضعه إن شاء الله. والذي حوّره زهير، وهو يجوّد نموذجه، ليوحي إليك بتجربة خاصة قوله:

قامت تراءى بذي ضالٍ لتحزنني

ولا محالة أن يشتاق من عشقا

فأنت بمجرد سماعه تتساءل، فلماذا تحزنه حين تتراءى. والجواب عن ذلك كما مر بك في معرض حديثنا عن هذا البيت آنفًا في باب طريقة القصيدة ووحدتها أنها لم تحزنه، ولكن أعجبته، ومنالها عزيز، وقلبه قد تعلق بها، فهذا هو الذي يحزنه. وكأنها إذ أرته من نفسها ما أرته، من انصلات جيد، وبريق ثغر، ورقة نظر، وخلجات ود، كل ذلك ما فعلته إلا لتحزنه. وهذه كما ترى المامة رقيقة لطيفة بمعنى التجربة الفردية، تلقي عليك ظلاً كثيفًا من حب الاستطلاع ورغبة الكشف، وتشعرك لفحا ما حرارة الإدراك لبعض ما كان. وزهير لا يعطيك أكثر من ذلك ولك إن شئت من بعد أن ترجع إلى شعره في أم أولى، فتحدس في نفسك، أهو يريد أم أوفي بعد أن صارمته وتبعها قلبه أم هو يريد غيرها أم هو نظرة ولقاءة وصورة مما لا يئل من مثله ذو إحساس مرهف ذو ذوق دقيق مع نبل في النفس وعفاف؟ ومهما يكن من شيء فإن الذي يصفه زهير ليس بشكل نموذجي بحت قصارى ما يرتفع به عن أن يكون مغسولاً كونه مجودًا ناصع الفصاحة - فليتأمل هذا.

ص: 321

وإذا زكنت هذا من مذهب زهير، فإنك واجد له في نسيبه نظائر، بعضها يخفى حتى لا تكاد تحس منه إلا موسيقا أثيرية ساخنة الأنفاس بعيدة الأصداء، وبعضها يداني الوضوح شيئًا ما. فمن أمثلة الأول قوله:

لمن طلل برامة لا يريم

عفا وخلاله حقب قديم

تحمل أهله منه فبانوا

وفي عرصاته منهم رسوم

يلحن كأنهم يدا فتاةٍ

ترجع في معاصمها الوشوم

وإنما يذكر يد الفتاة ذات الوشم حين تعالج القدر، ولعلها أم أوفى ولو قد كان يريد تشبيه الرسوم بالوشوم وحدها وهو المذهب النموذجي لكان قد استغنى عن ذكر اليدين أو كان جعله لاحقًا بالوشوم لا مقدمًا عليها وهي تابعة له لاحقة به، وأنت تذكر قول طرفه في هذا الباب «تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد» .

عفا منآل ليلى بطن ساقٍ

فأكثبتة العجائز فالقصيم

فهذا نص في أنه آنفًا إنما كان يذكر الفتاة وعهد تجربة من النظر ولا يبغى مجرد نموذجي التشبيه.

تطالعنا خيالات لسلمى

كما يتطلع الدين الغريم

وهي الدين وهو الغريم.

لعمر أبيك ما هرم بن سلمى

بملحي إذا اللؤماء ليموا

وهذا الاقتضاب بينه وبين ما تقدم وثبة طويلة، والرابط الترنم باسم سلمى، كما يقع في باب تداعي المعاني وقد جمجم الشاعر ما في نفسه ليصل إلى العزاء عند صديقه الممدوح.

ص: 322

ومن أمثلة الأول أيضًا قوله:

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بل وغيرها الأرواح والديم

لا الدار غيّرها بعدي الأنيس ولا

بالدار لو كلمت ذا حاجةٍ صمم

دارٌ لأسماء بالغمرين ماثلةٌ

كالوحي ليس بها من أهلها إرم

وقد أراها حديثًا غير مقويةٍ

السر منها فؤادي الجفر فالهدم

فلا لكان إلى وادي الغمار ولا

شرقي سلمى ولا فيد ولا رمم

شطت بهم قرقرى بركٌ بأيمنهم

والعاليات وعن أيسارهم خيم

عوم السفين فلما حال دونهم

فند القريات فالعتكان فالكرم

كأن عيني وقد سال السليل بهم

وعبرةٌ ما همو لو أنهم أمم

غربٌ على بكرة أو لؤلؤٌ قلقٌ

في السلك خان به رباته النظم

وهذا تجربته سحيقة الخفاء، وإنما هي بقايا تجربة صار بها التذكر والشجن إلى ضرب من الهيام التائه. والشاعر يستهل لك بذكر الربع ووقفة الوفاء عنده ويذكر أنه ظاهر مستبين ثم يضرب عن ذلك وينفيه يذكر أنه قد حال وتغير، ثم يكاد يضرب عن ذلك بما يذكره من أن في الدار بيانًا وإفصاحًا لو أرادت -وألفتك إلى قوله «لا الدار غيرها بعدي الأنيس» -وفي كل هذا من الكناية عن أم أوفى ما لا يخفى- إذ قد بانت عنه ولم تصر عند آخر، ولو شاءت لرجعت إذ هو على رجوعها حريص. وهذه الوقفة منه وهذا الإلحاح في طلب الإبانة شبيه بما قال في المعلقة:

أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم

حبومانة الدراج فالمتثلم

ثم أخذ يترنم بذكر المواضع -ثم صار إلى البكاء وهذا من أشد خروج ملاءمةً لنسيبه، وقوله:«وعبرة ما همو لو أنهم أمم» مما ينبغي أن يتأمل، لأنه كاد يصير به إلى قريّ من الإفصاح.

ص: 323

ومما يداني الوضوح من أمثلة زهير قوله في نسيب الهمزية:

عفا من آل فاطمة الجواء

فيمن فالقوادم فالحساء

فذروة فالجناب كأن خنس النـ

ـعاج الطاويات بها الملاء

فذو هاشٍ فميث غريتناتٍ

عفتها الريح بعدك والسماء

يشمن بروقه وييرش أرى الجنوب على حواجبها العماء

ويعجبني قوله «أري الجنوب» وتخصيصه الحواجب، ولا أستبعد أن يكون أشرب معنى النساء ظباءه هذه اللاتي خلفتهن على الربع. والبيت التالي مشعر بذلك:

فلما أن تحمل آل ليلى

جرت بيني وبنيهم ظباء

جرت سنحًا فقلت لها أجيزي

نوى مشمولةٌ فمتى اللقاء

تحمّل أهلها منها فبانوا

على آثار من ذهب العفاء

وههنا كالوحي برحيل أم أوفي.

كأن أوابد الثيران فيها

هجائن في مغابنها الطلاء

لقد طالبتها ولكل شيءٍ

إذا طالت لجاجته انتهاء

وهنا كالتصريح بأمرها كما ترى:

تنازعها المها شبهًا ودر البحور وشاكهت فيها الظباء

وهذا تفسير لما تقدم من ذكر الظباء وأرى الجنوب. وقد تعلم أن النعاج مما يكني به عن المرأة.

فأما ما فويق العقد منها

فمن أدماء مرتعها الخلاء

وأما المقلتان فمن مهاةٍ

وللدر الملاحة والصفاء

فصرم حبلها إذ صرمته

وعادى أن تلاقيها العداء

ص: 324

وهذا تفسير لقوله «على آثار من ذهب العفاء» ، إذ قد مضت هي مغاضبة واستمر مريرها على ذلك. فلم يبق إلا أن تعفو الدار وتنمحي الآثار.

هذا،

أما قول النابغة «بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما» ففيه ما زعمنا من مباعدة ما عن النموذج، تلقى على ظلال التجربة شعاعًا من وضوح.

أولها الإيماء بأن هذا الذي علقه من سعاد وهي إحدى بليٍّ إنما كان سفاهًا وضلة، وخبالاً كخبال الأحلام، ومثله ما يحسن أن ينسى ويجذم حبله. على أن سعاد هذه راقته -والراجح كما سيدل على ذلك بعض مقالته من بعد- أنه رآها في موسم الحج بين البائعات، ولم تكن مثلهن في الشقاء وسواد الأعقاب، ولم تكن كشبيهات البرم، اللاء يبعن البرم. ولكن كانت غراء وقد حاورته فالتذ حوارها وقد رنا إلى قدمها فرآه كأحسن ما يكون من قدم. وقد فاكهته إذ نازعها الحديث، فأما أظهرت له رحمة لما رأته يعانيه من نصب السفر وبعد شقته وهذا هو المعنى القريب، وأما عرضت له بما حولها من متعة بلسان الحال إلا بلسان المقال وهذا هو المعنى البعيد ولا يستبعد. وقد هش لها وطرب، وذكر أنه إنما قدم الحج، حج المشركين، الذي كان مما يعن يه لهو النساء وتبرجهن:

اليوم يبدو جله أو كله

وما بدا منه فلا نحله

وكان هو ممن يتأله أو قد نذر أوس نه وشرفه وسيادته يجعله بتلك المنزلة فلا يحل له لهو النساء «وأن الدين قد عزما» . وهنا حين يلتفت إلى الجد والمكرمات وذكر المآثر، ويكاد يخرج كما يخرج الشعراء، بل يفعل ذلك ويمضي فيه شيئًا فيصف حال القافلة من التشمير، ويصف ما ترجوه من فعل البر في الحج ومن شهود المنافع، ثم يفخر بالكرم ونحر الكوماء زمن الشتاء، حين تهب الريح من بلاد التين يزجين الغيم القليل ذا الماء البارد- ولا يخلو هاذا الالتفات إلى أرض الشام من ذكرى لها وتأمل وود

ص: 325

لطبيعتها واستشعار لغوامض من تجارب تمت إليها. ثم يذكر النابغة نبل نفسه عند أوقات المطمع، كيف يتمم الأيسار، ويتفضل عليهم بالفرص ولا يتعجل فواتها، ثم هو بعد ذلك سيد ذو أسفار وفّاد إلى الملوك، معمل للناقة المدى الطويل حتى تكل وتشكي وتنصب وتسأم- وهذا الذي تلقاه الناقة قد كان طرفًا مما يلاقيه هو، بل لعله كنى به عن كلال هذه الحياة وما يتصل بها أبدًا من ملال وشكوى وسأم.

ثم التجربة التي لقيها بالحرم مازالت عالقة بنفسه أي علوق. فهو يدع هذا الذي أخذ به من قريّ الخروج الذي لم يؤده إلا إلى السأم ليرجع إليها ويتعزى بتلذذ ذكراها حينًا ولو قليلاً. وقد نعت لنا كيف اضطرب من بغام تلك الحرمية وهي تقول: «هل من مخفِّيكم من يشتري أدمًا» أو هذا كان ضربًا مما تقول. وقد بلغ من اضطرابه أن كادت ناقته تساقطه مع الرحل والميثرة جميعًا، وأن لم يجد في الاعتذار عن هذا الذي كان من اضطرابه إلا أن يحذر الحرمية لتبتعد حتى لا تحطمها الناقة. ولعمري لقد كان الموشك أن يتحطم هو لا الحرمية. ثم قال كأن يزجرها على ما كان منها فاضطرب له «أن البيع قد زرم» أي قد انتهى ونحن قد تقضت حاجتنا في الحرم وسبيلنا إلى البين والمضاء. وهذا الزجر منه لها، كما يلوح من ظاهر المعنى، ما كان في الحقيقة إلا زجرًا منه لنفسه، وترديدًا لمعناه الأول:

حياك ربي، فإنا لا يحل لنا

لهو النساء وإن الدين قد عزما

وإنما حياها وانصرف وفي القلب حسرات، فذلك معنى الرجز.

وهذه الكلمة من النابغة من أعز وأنبل وأشرف ما قيل في بابه. وفيها من امتزاج لوعة الجنس ورحمة المودة والتزام أدب الحصانة والعفاف ما ترى. ولا أكاد أشك أن التجربة التي فيها هي بعينها تلك التي جاء بها في قصيدته المعلقة:

عوجوا فحيوا لنعمٍ دمنة الدار

ماذا تحيون من نؤي وأحجار

ص: 326

وذلك حيث قال:

رأيت نعمًا وأصحابي على عجلٍ

والعيس للبين قد شدت بأكوار

فكان ذلك مني نظرةً عرضت

حينًا وتوفيق أقدارٍ لأقدار

فأوردها هنا مورد النموذجية، وسما بها شيئًا إلى هواء الأثيرية- وهو مقارب لطريقة زهير وفي قوله بعد:

وقد نكون ونعمٌ لاهيين معًا

والدهر والعيش لم يهمم بإمرار

أيام تخبرني نعم وأخبرها

ما أكتم الناس من حاجي وأسراري

حلاوة وتزجية نسيب مما لا يعسر مثله على الشاعر المتقن ذي الخيال، ليس إلا.

ثم يقول:

أقول والنجم قد مالت أوائله

إلى المغيب تأمل نظرة حار

ألمحةٌ من سنا برقٍ رأى بصري

أم ضوء نعمٍ بدا لي أم سنا نار

بل ضوء نعمٍ بدا والليل معتكرٌ

فلاح من بين أضواءٍ وأستار

وهنا سمو فوق محض التجربة، أو محض ذكراها، إلى النشوة الصرف والطرب الموفي على التصوف في هذا الصعود باللوعة والحنين إلى أجرام السماء ورموز التأليه.

ثم يقول:

تلوث بعد افتضال الدرع مئزرها

لوثًا على مثل دعص الرملة الهاري

وهذا على نموذجيته فيه نفس الميمنة، من الإيحاء بذاتية النظرة، والإشعار بالارتياح من النزاع تلقاء أضواء السماء، إلى مهد من الأمن في ظلام الأرض.

ص: 327

ولا أجزم أن الرائية نظمت بعد الميمنة، فإن كانت نظمت قبلها فتكون كأنها جمجمة وترنم بنشوة التجربة قبل الإفصاح الكامل، الذي ربما كان تحول دونه رياضة القول ومعاناة التقية، وإن كانت نظمت بعدها فتكون بمنزلة الذكرى والعطف والشجن وكلا الوجهين جائز، والثاني أشبه لكمال السلامة والرونق اللفظي في الرائية، وهذا في الغالب مما يتأتى في المحاولة الثانية، لما يغلب فيها جانب التجويد الفني، جانب الاندفاع العاطفي، والله أعلم.

وقال النابغة أيضًا:

أتاركةٌ تدللها قطام

وضنًا بالتحية والسلام

فجاء بنسيب نموذجي، خرجت فيه التجربة الأولى من بابي الحرارة الفردية والنشوة المتصوفة إلى الشجن العام المنحى وطلب الجمال الفني، بأحكام الصور وإتقانها -ومع ذلك فمن التجربة الأولى عقابيل تستبان وإشارات لا تخفى- قال:

فإن كان الدلال فلا تلجّي

وإن كان الودع فبالسلام

فلو كانت غداة البين منت

وقد رفعوا الخدور على الخيام

صفحت بنظرةٍ فرأيت منها

تُحيت الخدر واضعة القرام

ترائب يستضيء الحلي فيها

كجمر النار بذر بالظلام

وهذا من قول امرئ القيس «كأن على لباتها جمر مصطل» وليس بتكرار له، على قوة الأخذ، لما فيه من صفة الحلي والترائب معًا، وقوله «بذر بالظلام» تأمل دقيق -ومع هذا فهو كأنه تفريع من معاني الميمنة التي في سعاد، وتجربتها التي ذكرنا. وفيه بعد تلذذ باشتهاء يجري مجرى قوله في الرائية «تلوث بعد افتضال الدرع مئزرها، » البيت.

وقد مضى النابغة فشبه قطام بالغزالة أم الغزال أو كما قال طرفة:

ص: 328

خذول تراعي ربربًا بخميلة

تناول أطراف البربر وترتدي

وفصل شيئًا في هذا المعنى. وشبه ثغرها بخمرة من بيت رأس شجت بماء مزن غريض أو كما نظر إليه حسان فقال:

كأن سبيئةً من بيت رأسٍ

يكون مزاجها عسلٌ وماء

وفصل شيئًا في هذا المعنى ثم قال:

فدعها عنك إذ شطت نواها

ولجت من بعادك في غرام

وهنا عود إلى أصداء التجربة الأولى.

وأنفاس زهير أحر من أنفاس النابغة حين يحملان كلاهما أنفاس التجارب اللاتي أوحيا بها فيكررانها على نماذج النسيب ليذيباها فيها. ذلك أن زهيرًا لا يكاد يقارب التصريح بإيحائه أو يفارق ملازمته النموذج منذ البدء كما رأيت، والنابغة مما يقارب ويفارق. وأحسب من قدموا زهيرًا -وفيهم سيدنا عمر- قدموه لذلك. وأنفاس زهير يدانين أنفاس امرئ القيس إلا أنهن أقصر وأوشك مرًا وأضيق مدى، وجرير مما ينظر إلى زهير والنابغة معًا ونظره إلى الأول أشد. والفرزدق مذهب وحده قد نلم به، وفي الجزء الأول شيء من ذلك. والأخطل مما ينظر إلى زهير ولكن احتذاء النابغة عنده أقوى وأبين، ونفس النابغة قد يخالطه عنده برود وإن خالطته نشوة نسيمية جذلة من الترنم والتلذذ بالجمال. وبعد فعسى هذا الذي ذكرناه أن يكون تمهيدًا صالحًا.

هذا، وللشعراء معان يأتون بها في داخل إطار النموذج النسيبي بغرض أن يوحوا أو يومئوا إلى التجارب. وهذه المعاني كثيرًا ما يغلبهم عليها قصد التجويد الفني وعرفه، فتنخرط في النموذج وتصير ضربًا من أطلاله وبروقه ودياره وأثافيه ورموزه العديدات. ولكنها تبقى مع ذلك تحمل في غلقها شدوًا عميقًا بلوعة الجنس

ص: 329

ومودة النساء وأرب الوصال. هذا الشدو دليل ما قدمناه لك في أول حديثنا عن زيادة الحرق وحرارة البيان عنها، مع زيادة الحرمان. وقد رأيت بعد كيف أن حرمان العرب المزدوج، من أثر البيئة وقانون الغيرة، قد حملهم أن يسيروا بالتعبير الغزالي على مسلك مثل ظبة السيف.

وظبات السيوف مما يشتبهن وجميعهن قواطع، ومما يختلفن مع هذا، في البريق والمعدن والهيئة وحالي الإرهاب والإرهاق. وكذلك مسالكهم في القول الذي يسلكون، ومعانيهم التي يتداولون.

فمن هذه المسالك والمعاني نعت النظرة والثغر والترائي وموافاة الطيف واعتلاج الذكرى. وسنذكر من هذه باختصار لنمثل ليس إلا، لأن أكثرها مما يقع في باب الجمال وأوصاف النساء، وهذا سنفصل فيه شيئًا وسيشمل بعض ما ههنا. فمما نعتوا به النظرة التشبيه الدائر بعين المهاة والغزالة الخذول. وهذا يراد به التنبيه على مكان اللطف والرقة والحنين وعمق اللوعة عند المرأة، والتشبيه الدائر بالرمية وهذا يراد به وصف الهوى وعلاقته بالنظر وسرعة إصابة النظر للأفئدة والوصف الدائر بالنعاس، وهذا فيه إشعار بمناغاة الحب ودلاله وإدلاله وتفتيره ورغباته وهلم جرا. ومما نعتوا به الثغر التشبيه بالأقحوانة، وصفة بريق الأسنان، وتمثيلها بالبرد، ومقارنة طعم الثغر ونكهته بالراح تمزج بالماء والعسل. وقد بلغوا بهذا من النموذجية أن جعلوه وسيلة إلى الخروج بنعت الراح ونعت العسل أنفسهما وشرعاء هذيل مما يطيلون إذا أخذوا في هذا القريّ، وموضع الحديث عنه باب الخروج. ومما نعتوا به الترائي إظهار الشعر وإتلاع الجيد، وأكثر ما يذكرون هذا في معرض الحديث فيصفون الحديث نفسه ويدخلونه في نعت الثغر أو يدخلون نعت الثغر فيه، أو يجعلونه حوارًا مغنيًا عن كثير من ألوان النعت -هذا إذا ذهبوا مذهب القصص أو راموا رومًا من تشخيص. ومما نعتوا به الطيف -وقد مضى طرف منه- نعته بتكلف الأهوال ليصل إلى من يصل

ص: 330

إليه، والغرض من هذه الصفة الإلماع بضعف المرأة وتهالكها وما يحيط بذلك من معاني الشهوات. قال معاوية معود الحكماء:

أني طرقت وكنت غير رجيلةٍ

والقوم منهم نبةٌ ورقود

وقال الحارث بن حلزة:

أني طرفت وكنت غير رجيلةٍ

والقوم قد قطعوا متان السجسج

والأول معنى ما نريده فيه أوضح.

ونعتوا من يوافيه الطيف بالشعثة فكنوا بذلك عن عدة معان، كالرثاء لحال الغربة والضيعة بلا مأوى- قال المرقش الأصغر:

أمن بنت عجلان الخيال المطرح

ألم ورحلي ساقط متزحزح

فلما انتبهت للخيال وراعني

إذا هو رحلي والبلاد توضح

تأمل عنف التجربة هنا -المرق سار وقد عرس هنيهة عند الفجر ورحله متزحزح ساقط أو كاد يسقط وهو معي أي إعياء وقد أخذته السنة فساعفه الخيال، فإذا هو مع الوصل في جنة النعيم ثم انتبه إذ لفحته حرارة الشمس، فإذا هي الصحراء والبين والواقع المر كما يقولون والضوء المتوضح على الرمل، وفي النفس لذة ما كان حقيقة فصار باطلاً، والرحل المتزحزح والشعثة والغبرة كل أولئك شواهد.

وقال زياد بن حمل:

زارت وريقة شعثًا بعدما هجعوا

لدى نواحل في أرساغها الخدم

فقمت للزور مرتاعًا فأرقني

فقلت أهي سرت أم عادني حلم

وكان عهدي بها والمشي يبهظها

من القريب ومنها النوم والسأم

وبالتكاليف تأتي بيت جارتها

تمشي الهويني وما تبدو لها قدم

ص: 331

وذكر الشعث عند النواحل فيه الأشعار بأقصى البين، وأبعد ما يكون ذو هوى من النساء، وإذا برويقة تجامل بزيارة وهي المكسال السئوم، وعدم التوقع السحيق يزجر حتى هذه المجاملة الخيالية، فيصحو الشاعر ليجد النواحل -وقد رأى من رويقة ما رأى تلك التي تمشي الهويني ولا يبدو لها قدم- وفي الإشارة إلى القدم ههنا أيما إيحاء باللوعة كما في الإشارة إلى الرقود عند النواحل من قبل. ثم أضف إلى هذين ارتياع الشاعر ودهشته وسأم هذه التي تجشمت الصعاب إليه ليكتمل عندك قوة الإيحاء بالرغم من نموذجية المأتي.

وقال الأخطل.

طرق الكرى بالغانيات وربما

طرق الكرى منهن بالأهوال

حلم سرى بالغانيات فزارني

من أم بكرٍ موهنًا بخيال

أسرى لأشعث هاجدٍ بمفازة

بخيال ناعمة السرى مكسال

فلهوت ليلة ناعمٍ ذي لذةٍ

كقرير عينٍ أو كناعم بال

فهذا جرد الشعثة من معنى الرثاء، وجعل صيغة الأشعث الهاجد بالمفازة وسيلة إلى الظفر كما يظفر القرير الناعم البال. والفرق بينه وبين زياد بن حمل أنه جرد الهجود في حين أن زيادًا أضافه إلى النواحل. وأنه أفراد الأشعث فهيأ الخلوة في حين أن زيادًا جعله مع شعث مثله، وأنى لرويقة الحيية أن تجود بزيارة وصال مع ذلك، إنما تطرق فتروع وتؤرق.

هذا ونعت اعتلاج الذكرى باب فسيح يدخله جميع ما عددنا وغيره مما لا نعدد. وملابسة الذكرى لوقفة الأطلال أمر معروف، وموضع التنبيه بذلك إلى معنى الشوق والحب واضح لا يخفى. وما افتتح به مصرحًا بلفظ الذكر كثير، منه قول السعدي:

ذكر الرباب وذكرها سقم

فصبا وليس لمن صبا حلم

ص: 332

وإليه نظر أبو نواس حيث قال:

ذكر الصبوح بسحرةٍ فارتاحا

وأمله ديك الصباح صياحا

والعجز ينظر إلى قول جرير:

لما تذكرت بالديرين أرقني

صوت الدجاج وقرع بالنواقيس

قال امرؤ القيس:

أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص

وقال ذو الأصبع:

يا من لقلب طويل البت محزون

أمسى تذكر ريّا أم هرون

وقال ربيعة بن مقروم:

تذكرت والذكرى تهيجُك زينبا

وما افتتح بالتلميح إلى الذكرى أكثر ومنه الأطلال كما قدمنا والديار والشوق كما في قول امرئ القيس «سما لك شوق بعد ما كان أقصرا» ومنه نحو قول مزرد:

ألا يا لقوم والسفاهة كاسمها

أعائدتي من حب سلمى عوائدي

وقال جابر بن حني التغلبي:

ألا يا لقومي للجديد المصرم

وللحلم بعد الزلة المتوهم

وللمرء يعتاد الصبابة بعد ما

أتى دونها ما فرط حولٍ مجرَّم

وأما ما يجيء في عرض القصائد فلا يحصى. وقال المرقش ووصف حال الذكرى نفسها فأجاد لأنه أصحبها نعت حركات منه يشعرن بأثرها فيه:

صحا قلبه منها على أن ذكرةً

إذا عرضت دارت به الأرض قائمًا

ص: 333

والشعراء مما يعمدون إلى ذكر الحركة أو ما بمعناها من جولان الحيوية ليخرجوا بالتشبيه النموذجي من مدلوله العام، أو قل ليضيفوا إلى مدلوله العام وحيا بتجربة خاصة أو حالة خاصة يزيد معها معنى اللوعة. قال المرقش الأصغر:

رمتك ابنة البكري عن فرع ضالة

وهن بنا خوضٌ مخلن نعائما

وهذا تسجيل خاطف لنظرة سريعة.

حذف الشاعر تشبيه عين الفتاة بعين المهاة لعلمك به وهو متضمن ينبغي ألا يغفل عنه، وذكر الرمي وجعل العين فرع ضالة أي قوسًا من فرع ضالة ليشعرك أن النظرة كانت رشقًا، من جانب منصاع. ثم قد كانت نظرته هو التي تلقت الرشقة جانبية أيضًا يدلك على ذلك ذكر خوص المطايا ومطيته منهن خوصاء مثلهن تنظر بمؤخر عينها، وهو -وذلك مفهوم ضمنًا- ينظر كنظر ناقته- فاتصلت النظرات الثلاث جميعًا واختلطت في لحظة مفعمة انقضت ساعة كانت، وما هو إلا أن يجد الشاعر نفسه قد خلف كل ذلك وراءه وإذا هو بين إبل مرقلات في البيداء كأنهن النعام- هيهات ذات النظرة. ولا يخفى أن أسلوب المرقش ههنا في تسجيل النظرة كأسلوبه في تسجيل الطيف إذ قال «إذا هو رحلي والبلاد توضح» .

وقال امرؤ القيس:

تصد وتبدي عن أسيلٍ وتتقي

بناظرةٍ من وحش وجرة مطفل

فجاء بالتشبيه النموذجي مثبتًا، مشتملاً على كل ما توحي به معانيه، ثم خصصه بحركة الاتفاء، وجمع هذه الحركة إلى حركات أخرى، فأوحى بتجربة كاملة من الفتنة هي ضرب مما يقع فيهيج النفوس وقال أيضًا:

وما ذرقت عيناك إلا لتضربي

بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل

ص: 334

فذكر السهم وما فيه من معنى الفتك والقتل والسرعة وذكر الميسر ويلابسه الزهو والبذل والتحدي وعدم الاكتراث والمجازفة واحتقار الخطر ونفاسته في نفس الوقت، وذكر الدمع وفيه الضعف والرقة والالتماس، وطبع كل هذا بطابع من الحركة الحية، فكانت تجربة مما هو محض الشمول، كائنٌ ما كان الجنسان، ثم بعد ذلك أورد كلامه كله مورد الحوار فضمنه معنى المغازلة بما تحوي من لين مستكين ومكر متخابث.

فتأمل.

وقال عدي بن الرقاع:

وكأنها بين النساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النعاس فرنقت

في عينه سنةٌ وليس بنائم

فاجتهد كما ترى في تحريك النعاس النموذجي ليوحي إليك ما أحسه من فتنة -والاجتهاد محله أن المعنى بالنعت جفنًا أم القاسم لا الجؤذر على أية حال، وصورة الجؤذر جيء بها للتوضيح لا غير وغير مراد منك أن تلتفت إليها أو تستشعرها.

وهذا خلاف ما جاء من طريقته في صفة قرني ولد الغزالة إذ قال:

تزجي أغن كأن إبرة روقه

قلم أصاب من الدواة مدادها

فههنا التفات إلى حركة حرف القلم وأخذه من مداد الدواة بلا أدنى ريب.

وقال امرؤ القيس:

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامي ونشر القطر

يعل به برد أنيابها

إذا غرد الطائر المستحر

فجاء بالتشبيه النموذجي، وأشعر بأمنية التقبيل وجعل ترنمه كأنشودة يصدح بها تحية لتوهم نشوته.

ص: 335

وقال أيضًا:

أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص

فتقصر عنها خطوةً وتبوص

وكم دونها من مهمةٍ ومفازةٍ

وكم أرض جدبٍ دونها ولصوص

تراءت لنا يومًا بجنب عُنيزةٍ

وقد حان منها رحلة فقلوص

وهذا جيد إذ هي القلوص والنساء إنما يختار لهن البكر الذلول، وإنما دعاه إلى ذكر القلوص أنه كان هو المرتحل والقلوص قلوصه لا قلوصها وهي القلوص:

بأسود متلف الغدائر واردٍ

وذي أشر تشوفه وتشوص

منابته مثل السدوس ولونه

كشوك السيال فهو عذب يفيص

والصاد عناء وهمس. ولذلك -أحسب- ركبها امرؤ القيس إذ مراده التحسر. وهذا الذي يذكره من المراءاة ليس إلا اقتراحًا لمعنى شقة البين بينه وبين لهو الحديث، وعسى أن يكون فيه صدى تجربة، ولكنه صدى سحيق البعد، وليست الإشارة إلى التجربة هي مراد الشاعر ههنا. ويقول بعد:

فهل تسلين الهم منك شملة

مداخلة صم العظام أصوص

فهذا يدلك على حقيقة قصده إلى الشكوى ورثاء النفس وطلب السلوى ولا سلوى وقال المرقش الأصغر:

تراءت لنا يوم الرحيل بواردٍ

وعذبًا لثنايا لم يكن متراكمًا

فأشعر بتجربة، إذ ليس وصف المراءاة نفسها هي المراد ههنا، ولكن المراد، تسجيل النظرة التي نظرها الشاعر وأثرها الذي أحدثته في نفسه. وفرق ما بين هذا وكلام امرئ القيس، أن المرقش يذكر حالة رحيل، ويلحق ما كان من إظهار الشعر بلمع من الثنايا، ويومئ إلى ما لاح له فتبينه من فلج الأسنان أو تفلج الابتسام، أما

ص: 336

امرؤ القيس فيوشك أن يحيل الحركة إلى سكون، لتأمله أجزاءها، وهذا أشد ملاءمة لما كان بصدده من معنى التذكر.

وقال طرفة:

وتبسم عن ألمي كأن منورًا

تخلل حر الرمل دعصٌ له ندي

فحرك نعت الثغر بالابتسام ثم أومأ إلى اشتهاء بذكر الدعص الذي يتلألأ على أقحوانه الندى.

وقال الآخر وهو من شواهد سيبوبه:

لو ساوفتنا بسوفٍ من تحيتها

سوف العيوف لراح الركب قد قنعوا

فهذا تصوير لحالة من اختلاج الثغر مع الرغبة إليه (1).

وقال النابغة:

تجلوا بقادمتي حمامة أيكةٍ

بردًا أسف لثاته بالإثمد

فنعت افترار الشفتين بالابتسامة وسرعة مضي ما تبديانه من محاسن الفم، وقد مر بك هذا.

وقال عنترة:

إذ تستبيك بأصلتي ناعم

عذبٍ مقبله لذيذ المطعم

وكأنما نظرت بعيني شادنٍ

رشإ من الغزلان ليس بتوأم

وكأن فأرة تاجرٍ بقسيمةٍ

سبقت عوارضها إليك من الفم

وقوله «ناعم» فيه صدى تجربة ووحي من حركة -وسائر الكلام بعد نموذجي فصيح، وجعله الشاعر وسيلة إلى نعت الروضة في معرض تشبيه النكهة وطيبها وهذا في جملته داخل في معنى التلذذ المراد به الترنم ونشوته ليس غير.

(1) ويجوز أن يكون أراد مجرد معنى التحية وكنى بسوف العيوف عن ذلك إذ التحية مما تكون بالأنف.

ص: 337

وقال الحادرة:

بكرت سميه بكرةً فتمتع

وغدت غدو مفارقٍ لم يربع

وتزودت عيني غداة لقيتها

بلوى البينة نظرةً لم تقلع

وهذا نص في النظرة وصداها النفسي. ثم أخذ الحادرة بعد في تفصيل التجربة، فجاء بنموذج المراءاة عند الوداع وأشربه الحركة والحيوية- قال:

وتصدفت حتى استبتك بواضحٍ

صلتٍ كمنتصب الغزال الأتلع

وبمقلتي حوراء تحسب طرفها

وسنان حرة مستهل الأذمع

والواضح الصلت عنقها، وثغرها أيضًا صلت واضح. وهنا «استخدام» كما يقول البديعيون، مستكن، يعلمك أنما انصلات جيدها ووضوحه طرف وإكمال لانصلات ثغرها ووضوحه، وقد تحدثت بهذا لتتحدث بذاك معه. والحركة لا تخفى. وقد جعل مقلتيها متصدفتين منصلتتين واضحتين كذلك. إلا أن معهما الوسن، وهو عبء تنوء به خفة التصدف والانصلات. وهذه كما ترى حركة مقابلة لما تقدم، وبطؤها بالنسبة إليه هو الذي مكنه من تأمل المحاجر والمآقي والوجه، وذلك قوله «حرة مستهل الأدمع» - وذكر الأدمع لأن تفتير الوسن فيه إشعار باللوعة والبكاء.

ثم قال بعد، فجاء به ملائمًا لما سبق كل الملاءمة:

وإذا تنازعك الحديث رأيتها

حسنًا تبسمها لذيذ المكرع

إذ حديثها كأنما هو امتداد لهذه اللوعة وجانب من تعبيرها. وعجز البيت ينبئ بأن الابتسام الذي مازج الحديث أو قطعه تحدث إليه بالقبلات والوداد أو توهم هو ذلك. وهذه غاية ما ناله، فأداه الوهم إلى الأماني فخرج به من تجربة النظرة إلى التشبيه النموذجي لطعم الثغر بالراح يمازحها غريض السارية، ومعنى الراح متضمن أو في بيت سقط من الرواية، ثم اتلأب به من بعد طريق الخروج. وبعد فهذا باب يطول ونعت الوداع والظعائن مما يدخل فيه.

ص: 338