الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يعقل من مثله خوف الفقر فقد كان سيدًا في قومه ذا مال، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه باعتاق البدنات يُؤكد ذلك.
وبعد فما سقنا لك هذا التمهيد إلا من أجل أن نثبت عندك مرادنا من قولنا الرمزية المحضة- وذلك أنها تتضمن أغراضًا وثيقة الارتباط بعقائد الجاهليين الأولين في تقديس الأنثى وتأليه الخصوبة، وهذا التقديس والتأليه يدخلان في مضمون النسيب خفية فيحدثان فيه إيحاء بروح أخاذ من نوع العبادة الغامضة. وهذه العبادة الغامضة فيها بلا شك ألوان من اشتهاء للحياة وتجريد لحاق الذات ثم إلقاء لها على مظاهر ما يشتهي حتى يسهل التغني به. والله أعلم.
رموز الأنثى ورمزيتها:
هذا، وقد كان الجاهليون يمثلون ما يؤلهونه من ذكور وإناث بصور الرجال والنساء، ثم بصور الحيوان الذي يتمثلون معناه فيما يؤلهون، كالذي ذكره الزمشخري في تفسير سورة نوح من أن ودًا كان على هيئة رجل وأن سواعًا كان على هيئة امرأة وأن يغوث كان على هيئة أسد وأن يعوق كان على هيئة فرس وأن نسرًا كان على هيئة نسر. وقد زعم بعض المفسرين أن جميع هؤلاء كانوا بشرًا صالحين من ولد آدم ثم ألهم الناس من بعد.
هذا، ويبدو أن العرب لضعفها في الصناعة عدلت عن تمثيل الآلهة بما يشبهها من الصور إلى مجرد الرمز لها بالأصنام، تقام من الحجر والطين والخشب (1). وهذا
(1) ذكر ابن الكلبي- كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي باشا، مصر، 1924، ص 28 أن هبل صنم قريش قد كان «من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب» وقوله: «أدركته قريش كذلك» يدل على أنها لم تصنعه والراجح أنه استجلب من الشام، مما صنعه الروم، من شواهد ذلك كسر اليد. وهذا من طريقة الروم في صنع التماثيل. وخبر عمرو بن لحى في كتاب الأصنام يدل على هذا (ص 8 نفسه).
التطور المعنوي (وإن يك تدهورًا من حيث الصناعة) يؤيده ما يذكره المفسرون من أن الأصنام التي تحدثنا عنها آنفًا، كانت في اليمن، وفي اليمن كما تعلم الحذق العربي والصناعة وغير قليل من تراث المدنية والحضارة.
هذا، ويبدو أن هذه الأصنام لما صارت هي أو نظائرها إلى شمال الجزيرة، حيث البداوة والصحراء الجدبة، اعتيض عن إتقانها بمجرد الرمز لها. يقوى هذا الوجه الذي نراه أن الرواة لا يذكرون لمناة أو العزى أو اللات صورًا معينة، وإنما كن أصنامًا لإلهة مؤنثات. وابن إسحق يذكر أن اللات كانت عليها حلي من ذهب وجزع ولا يذكر أنه كان لها وجه امرأة (1) ولا يستبعد أنه كان لها وجه ما، وقفًا ما، وإشعارها بالأنوثة، على النحو الذي يكون في الرموز الوثنية البدائية. وقد يقوى هذا الحدس ما ذكره ابن إسحق في خبر أصنام الكعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جعل يهدمها، فما أشار إلى صنم منها في وجهه إلا وقع لقفاه ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه (2) فهو كما ترى يذكر ههنا للأصنام وجوهًا وظهورًا.
هذا، وكما رمزت العرب لإلهتها بالأصنام، رمزت لها أيضًا بكائنات محسوسة من الحيوان والنبات. فمما رمزوا به من الحيوان للمرأة العقاب، ولا ريب أنهم كانوا يؤلهونها كما يؤلهون النسر. وقد ذكرت الشعراء العقاب في الكناية عن المرأة، قال نصب (3)
ألا يا عقاب الوكر وكر ضرية
…
سقتك الغوادي من عقاب ومن وكر
تمر الليالي والشهور ولا أرى
…
مرور الليالي منسياتي ابنة العمر
نقول صلينا واهجرينا وقد نرى
…
إذا هجرت أن لا وصال مع الهجر
وقد ذكرت أيضًا القلوص في الكناية عن المرأة. وقد كانت الناقة مما ألهته
(1) السيرة 4 - 199.
(2)
نفسه 4 - 27.
(3)
الأمالي بولاق 2/ 206.
العرب. من آية ذلك معجزة سيدنا صالح في الناقة وفصيلها إذ أخرجهما الله له من الحجر، وكتب على تمود أن يجعلوا لأنفسهم شرب يوم وللناقة شرب يوم آخر معلوم. وقد بغت ثمود وعتت عن أمر ربها فعقر أشقاها الناقة. ولعلهم راموا بصنيعهم هذا أن يجعلوا منها ومن فصيلها (وقد أفلت) ضحية وثنية مقدسة. فمن أجل ذلك حل بهم العقاب.
هذا، وقد قال نصيب في كلمته الرائية التي منها الأبيات السابقات:
ظللت بذي دوران أنشد بكرتي
…
ومالي عليها من قلوص ولا بكر
وما أنشد الرعيان ألا تعلة
…
بواضحة الأنياب طيبة النشر
وأوضح من جميع هذا في الكناية عن المرأة بالقلوص قول بعض أهل الجهاد كتب به إلى سيدنا عمر لما بلغه أن رجلاً يقال له جعده، من سليم، كان يخرج بالعقائل فيلهو معهن بأن يعقلهن، فإذا قمن تعثرن أو تكشفن. قال:
ألا أبلغ أبا حفص رسولاً
…
فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله إنا
…
شغلنا عنكم زمن الحصار
يُعقلهن جعدة من سليم
…
فبئس معقل الذود الطواري
وما رمزوا به للمرأة من النبات أصناف من الشجر. منها النخلة مثلاً. وقد ذكر صاحب السيرة أن أهل نجران كانوا يعبدون نخلة قبل أن يطرأ عليهم فيميون النصراني (1) ومنها السدرة، فقد ذكروا أن ذات أنواط (2) التي مر بها بعض من كانوا حديثي عهد بشرك من أصحاب الرسول، فقالوا له اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، كان سدرة، وقد اتصلت كرامة السدرة بالإسلام في سدرة المنتهى. وقد
(1) السيرة 1 - 32.
(2)
نفسه.
ظل بعض العامة عندنا إلى عهد قريب يعتقدون أن إيقاد السدر يتبعه الشؤم وربما جر الثكل واليتم.
وأحسب تشبيه الظعائن بالنخل والدوم راجعًا في أصله إلى رمزية المرأة الكامنة في النخلة، مع الذي قد يتبادر إلى الذهن من أن هذا التشبيه من وحي البيئة وظاهر ما يبديه النظر لا غير، إذ جماعات الإبل تلوح من بعيد كأنها الشجر، وإن كانت عليها الهوادج كانت شديدة الشبه بالدوم والنخل وهما إخوان. والذي يرجح عندي أنه راجع إلى الرمزية، ما قدمته لك من عبادة النخلة، وما يحيط بها من معاني الخصوبة المؤنثة في رشاقتها وبسوقها واحتفال أشطرها بالتمر. وفي الحديث ما ينبئ بأن النخلة ذات كرامة وبركة. ومن ذلك تشبيهها بالمؤمن (1)، واستحسان وضع شيء من جريدها الأخضر على قبر الميت. وعندنا في السودان يزينون سرير العروس بأقواس من جريد. النخل، وكذلك يفعلون بسرير الختان (2) وفي هذا من دلالات الخصوبة ما فيه وقول امرئ القيس في الرائية، يوشك أن يكون نصًا على قوة الصلة بين الخصوبة والتشبيه الدائر في الشعر من جعل الظعائن كالنخل والدوم وذلك هو:
فشبهتهم في الآل لما تكمشوا
…
حدائق دوم أو سفينًا مُقيرًا
أو المكرعات من نخيل ابن يامن
…
دُوين الصفا اللائي يلين المُشقرا
سوامق جبار أثيث فروعه
…
وعالين قنوانًا من البسر أحمرا
حمته بنو الربداء من آل يا من
…
بأسيافهم حتى أقر وأوقرا
وأرضى بني الربداء واعتم زهوه
…
وأكمامه حتى إذا ما تهصرا
أطافت به جيلان عند قطاعه
…
تردد فيه العين حتى تحيرا
كأن دُمى سقف على ظهر مرمر
…
كسا مُزبد الساجوم وشيًا مُصورًا
غرائر في كن وصون ونعمة
…
يُحلين ياقوتا وشذرًا مُفقرًا
(1) راجع كلمتنا
The Changing Customs of the Riverain Sudan-، SUDAn Notes & Records.
(2)
راجع كلمتنا
The Changing Customs of the Riverain Sudan-، SUDAn Notes & Records.
فالشاعر كما ترى ههنا وقف وقفة غير قصيرة عند فروع النخل الأثائث وبسره الزاهي، وحمله المُكتنز، وخصبه الذي تردد فيه العين حتى تتحير ثم خلص من ذلك إلى ذكر الدمى، فكأنه أراد أن يوقع عندك أن هذا النخل الموصوف هو الدمى التي في السقف ذي المرمر، وهو أيضًا الغرائر اللواتي في الصون والنعمة وكما تصون بنو الربداء من آل يامن نخيلها بالسيوف، فهي كذلك يحوطهن من يُذبب عنهن بالسيوف.
وقريب من قول امرئ القيس في الدلالة على الخصوبة قول عبيد بن الأبرص:
كأن ظُعنهم نخل موسقة
…
سُود ذوائبها بالحمل مكمومة
وقول الهذلي:
صبا صبوة بل لج وهو لجوج
…
وزال لها بالأنعمين حُدوج
كما زال نخل بالعراق مُكمم
…
أمر له من ذي الفرات خليج
والشاهد هنا تخصيصه نخل العراق. وفي هذا دلالة على أن مراده معنى اللين والخصب في النخلة (1). لا مجرد مرآها من بعد، وشبهها في الحسن المظهري بالهودج. وقال أبو دؤاد الأيادي:
هل ترى من ظعائن باكرات
…
كالعدولي سيرهن انقحام
والعدولي ضرب من السفن
واكنات يقضمن من قضب الضرو
…
ويُشفى بدلهن الهيام
وسبتني بنات نخلة لو كنـ
…
ـت قريبًا ألم بي إلمام
(1) راجع السيرة «1 - 32» يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة، إذا كان ذلك العبد علقوا عليها كل ثوب وجدوه وحلى النساء فهذا شاهد في رمزية النخلة للمرأة.
يكتبين الينجوج في كبة المشـ
…
ـي وبله أحلامهن وسام
ويصن الوجوه في الميسناني (1)
…
كما صان قرن شمس غمام
وتراهن في الهوادج كالغزلان
…
ما إن ينالهن السهام
أي السموم
نخلات من نخل بيسان أينعن
…
جميعًا ونبتهن توأم
وتدلت على مناهل بُرد
…
وفليج من دونها وسنام
وفي قول أبي دؤاد ما ترى من تسميته النساء الألى يشبب بهن ههنا «بنات نخلة» . وعسى أن تكون نخلة موضعًا كما يذكر بعض الشراح. ولكن هذا لا يدفع ما نذهب إليه إذ الدليل عليه واضح في قول أبي داؤد: -
نخلات من نخل بيسان أينعن جميعًا ونبتهن توأم
والنخلات يكن «بنات نخلة» و «بنات نخل ونخيل» ضربة لازب. ولا شك أنه عنى بقوله «نخلات» ههنا نساءه المنعوتات. ولا أكاد أرتاب أن مراده من قوله «بنات نخلة» التشبيه لهن بالنخلات اليوانع المتفرعات من نخلة شيخة أم لهن. وعسى أن يكون الموضع «نخلة» إن صح قول الشراح مكان عبادة لنخلة بعينها. وعسى أن كانت لها بغايا كما لبيوت الأوثان بغايا فشبه الشاعر نساءه بهن، كأن مراده أنهن من حسنهن يصلحن أن يكن من بغاياها. وعسى أن يكون قد توهمهن بنات لنخلة كانت امرأة الاهة ثم صارت نخلة ذات قداسة وثنية وهن مثلها نساء وآلهة ونخلات وبنات نخلة. ومهما يكن من شيء فالرمزية في قوله «بنات نخلة» و «نخلات» لا تخفى.
هذا وألفت نظر القارئ الكريم إلى تشبيه السفينة في هذه الأبيات من أبي
(1) الميسناني نسبة إلى ميسنان بالشام، قال سحيم:«وما دمية من دمى ميسنان معجبة نظرًا واتصاقًا» .
دؤاد، وفي أبيات أمرئ القيس، فهو أيضًا مما يترجح عندي دخوله في رموز الخصوبة، إذ لا ريب أن السفينة قد تكون من أداة الخصب والخفص عند مقاربي البحر من العرب كأهل عمان وقريش. وصلة البحر بالخصوبة وعبادتها أمر موغل في القدم (1). وفي القرآن الكريم «وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» (2)، والجوار ههنا جمع الجارية بمعنى السفينة- قال تعالى {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)}. ولكنك تعلم أيضًا أيها القارئ الكريم أن الجارية من أوصاف النساء وأسمائهن. والإنشاء فيه معنى التهيئة والزخرفة. وقد ذكره الله تعالى في قوله ينعت النساء:
«أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين» . والتخفيف قراءة أبي عمرو والتثقيل قراءة عاصم، والمعنى واحد أو متقارب.
ولا أحسبنا نباعد أن زعمنا أن في نعت السفائن بالجوار المنشآت أشعارًا بالتأنيث لهن. هذا وقد ألغز مسلم بن الوليد بهذه العلاقة بين معنى السفينة ومعنى الجارية في بيتيه المشهورين:
وملتطم الأمواج يرمي عُبابه
…
بجرجرة الآذي للعبر فالعبر
قطعت إلى معلومه منكراته
…
بجارية محمولة حامل بكر
هذا، ومما نصت به الشعراء على إرادة المرأة من ذكر شجرة بعينها قول الآخر (3).
ألا يا نخلة من ذات عرق
…
عليك ورحمة الله السلام
(1) غير خاف عن القارئ أن الودع، وهو من أصداف البحر، قد كان مما يؤلهه قدماء المصريين، تأليه خصوبة ولتشبيهه بالمرأة نصيب وافر في أصل تأليهه عنصر التشبيه في السفينة لا يخفى.
(2)
الجواري بإثبات الياء وصلاً في قراءة أبي عمرو.
(3)
هذه الأبيات منسوبة للأحوص وروايتها كما ترى مضطربة، وإنما نسقناها معًا لمكان البيت الأول منها وهو من مشهور أبيات الشواهد، ولعله من نفس الميمية التي منها قوله:
سلام الله يا مطر عليها
…
وليس عليك يا مطر السلام
والبيتان: «سألت الناس إلخ» يترجح عندي أنهما دخيلان- الخزانة 2/ 167.
سألت الناس عنك فخبروني
…
هنا من ذاك تكرهه الكرام
وليس بما أحل الله بأس-
…
إذا هو لم يُخالطه الحرام
قال صاحب الخزانة: «قال ابن أبي الأصبع، ومن مليح الكناية النخلة، فإن هذا الشاعر كنى عن المرأة بالنخلة، وبالهناة عن الرفث، فأما الهناة فمن عادة العرب الكناية بها عن مثل ذلك، وأما الكناية بالنخلة عن المرأة فمن ظريف الكناية وغريبها. انتهى.
«وأصل ذلك: أن عمر بن الخطاب كان نهى الشعراء عن ذكر النساء في أشعارهم لما في ذلك من الفضيحة، وكان الشعراء يكنون عن النساء بالشجر وغيره ولذلك قال حميد بن ثور الهلالي:
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة
…
من السرح مسدود علي طريق
أبى الله إلا أن سرحة مالك
…
على كل أصناف العضاه تفوق
«وعلم بهذا سقوط قول اللخمي: سلم على النخلة لأنها معهد أحبابه أو ملعبه مع أترابه، لأن العرب تقيم المنازل مقام سكانها، فتسلم عليها وتكثر الحنين إليها، قال الشاعر:
وكمثل الأحباب لو يعلم العا
…
ذل عندي منازل الأحباب
ويحتمل أن يكون كنى عن محبوبته بالنخلة لئلا يشهرها، وخوفًا من أهلها وقرابتها انتهى (1)».
(1) نفسه 167/ 168 - وقول ابن أبي الأصبع «من ظريف الكتابة وغريبها» عجيب إذ ما أكثر الكناية بالنخلة والشجرة عن المرأة.
قلت، هذا هو الوجه إن شاء الله.
ومثل الأبيات التي قدمناها قول الحماسي (1):
ولا غرو إلا ما يخبر سالم
…
بأن بني أستاهها نذروا دمي
ومالي من ذنب إليهم جنيته
…
سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
نعم فأسلمي ثم اسلمي ثُمت اسلمي
…
ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
قال التبريزي (2): «جعل السرحة وهي شجرة كناية عن امرأة فيهم» - قلت وكلام التبريزي هذا أقوى في الدلالة على ما نحن بصدده. هذا ومما هو نص صريح أيضًا في أن السرحة يكنى بها عن المرأة قافية حميد بن ثور الهلالي (3) التي مر بك منها البيتان اللذان ذكرهما صاحب الخزانة آنفًا «وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة إلخ.» ومنها قوله:
سقى السرحة المحلال والأبطح الذي
…
به الشري غيث مُدجن وبُروق
بأبطح راب كل عام يُمده
…
على الحول عراص الغمام دفوق
عراص الغمام أي الغمام الكثيف المهتز.
فما ذهبت عرضًا ولا فوق طولها
…
من السرح إلا عشة وسحوق
أي ليست بعريضة ثم ليست فاحشة الطول، بل لا تطولها إلا السحوق المفرطة الطول والعشة أي الضعيفة القليلة الأغصان. وهذا النعت مع أنه في شجرة كما ترى يشعرك بأن حميدًا يريد إلى نعت فتاته بأنها ممشوقة القوام ممكورة لا مفاضة
(1) من أبيات الحماسة، وهي في ديوان حميد بن ثور، طبعة دار الكتب، 1951 - ص 133 - والراجح أنها مجهولة القائل لأن التبريزي في شرحه لا ينسبها إلى قائل بعينه، وقد كان رجلاً محققًا بلا ريب.
(2)
شرح الحماسة، 3، 175.
(3)
ديوانه.
مترهلة ولا عشة زائدة الطول:
تنوط فيها دُخل الصيف بالضحا
…
ذُرى هدبات فرعهن وريق
ودُخل الصيف طيوره الصغار. وتنوطها هو اتخاذها أوكارًا أو مهابط على أغصان تلك الشجرة- وهذا الوصف أشبه بالشجرة منه بالمرأة وجاء به الشاعر لكيلا تخرج معاني كنايته من الغموض اللطيف إلى الوضوح المكشوف (1).
علا النبت حتى طال أفنانها العلا
…
وفي الماء أصل ثابت وعروق
أي أفنانها علت سائر النبات وطالته- وقوله «العلا» فيه نظر إلى نعت أمرئ القيس للشعر حيث قال «غدائره مستشزرات إلى العلا» :
فيا طيب رياها ويا برد ظلها
…
إذا حان من حامي النهار ودُوق
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة
…
من السرح مسدود علي طريق
هذا البيت كما ترى فيه رجعة واضحة إلى معنى المرأة:
حمى ظلها شكس الخليقة خائف
…
عليها غرام الطائفين شفيق
وهذا نحو البعل والأخ ومن يجري مجراهما في الغير:
فلا الظل منها بالضحا تستطيعه
…
ولا الفيء منها بالعشى نذوق
وما وجد مُشتاق أُصيب فُؤاده
…
أخي شهوات بالعناق نسيق؟ (2)
بأكثر من وجدي على ظل سرحة
…
من السرح إذ أضحى علي رفيق
ولولا وصال من عُميرة لم أكن
…
لأصرمها. إني إذن لطليق
(1) وعسى أن يكون ههنا تعريض ببعض من هو أقرب إلى وصلها منه هو.
(2)
كذا بالديوان وفي هامشه (ص 40 هامش 41) ولعله لبيق وأقول لعله مشوق ولعل العناق بالتاء لا النون ورواية البيت فاسدة على أية حال وإنما ذكرناه من أجل السياق.
قلت هذه الأبيات فيها فكاهة وتخابث. والشاعر في البيت «ولولا إلخ .. » يريد أن يزعم أنه قد نال وصلا من هذه المحبوبة، دليل ذلك أنه هجرها والذي لم ينل وصلا لا يصح الحديث عنه بأنه هجر وصارم- ودليل آخر أنه مشغوف بها، ولو كان لم ينل منها وصلاً، لم يكن في قلبه كل هذا الشغف والشوق، لأن المرء إنما يشتاق إلى ما كان عنده ثم حرمه- وهذا معنى قوله «إني إذن لطليق» أي لولا سابق الوصال وما تلاه من هجر لكنت امرأ طليقًا خالي القلب من الصبابة. هذا وفي ذكره «عميرة» ما يبطل حديث صاحب الخزانة عن هذا الذي زعمه من نهى سيدنا عمر عن ذكر أسماء النساء، ولا يخالجني شك في أن هذا الخبر منظور فيه إلى قصة المهدي العباسي حين نهى بشارًا وأضرابه عن ذكر أسماء جواريه. وهذا، كما ترى، فإن عميرة ههنا تفسير للرمز بعد أن بلغ الشاعر أقصى غاياته، على أنها عندي في ذاتها قد تكون كناية عن اسم المحبوبة الحقيقي أو ربما كانت رمزًا أراده الشاعر علمًا لعدة محبوبات ألبسهن هو صورة محبوبة واحدة، ليرتقي بهن من أرض الواقع إلى سماء الخيال والمثل الأعلى. ثم يقول عائدًا إلى الرمز بعد أن فسره:
أبى الله إلا أن سرحة مالك
…
على كل أصناف العضاه تفوق
وهذا البيت كما ترى يجمع لك معنى المرأة والشجرة معًا، ويعطيك ذلك الروح المثالي المفعم بالصبابة ومعاني الخصوبة الذي منه نبع وجدان الشاعر وبيانه.
هذا وروى صاحب الأمالي (1)، مما يجري قريبًا من مجرى أبيات حميد هذه:
أمن أجل دار بين لوذان فالنقا
…
غداة اللوى عيناك تبتدران
فقلت ألا لا بل قذيت وإنما
…
قذى العين لي ماهيج الطللان
فيا طلحتي لو ذان لا زال فيكما
…
لمن يبتغي ظليكما فننان
وإن كنتما هيجتما لاعج الهوى
…
ودانيتما ما ليس بالمتداني
(1) الأمالي- 2 - 35.
وجلي ههنا من الكناية بالطلحتين عن امرأتين أو امرأة واحدة أو معان متصلة بامرأة. وقد نظر مطيع بن إياس إلى هذا القرى في كلمته المشهورة التي يذكر فيها نخلتي حلوان.
ومما رواه صاحب الأمالي أيضًا:
ألا يا سيالات الدحائل باللوى
…
عليكن من بين السيال سلام
وإني لمجلوب لي الشوق كلها
…
تغرد في أفنانكن حمام
والكناية بالسيال والطلح في ما رواه صاحب الأمالي أخفى من كناية النخلة والسرحة في المتقدم من استشهادنا، لجواز أن يكون الشاعر أراد سيالات بأعيانها وطلحتين بأعينهما. على أن توهم مثل هذا الجواز مما يفسد مراد الشاعر إن حمل عليه، ولكن يزيده حسنًا إن استشعره القارئ والسامع وهما على علم موقن بما يريده الشاعر. وهنا يكمن سر القوة في سائر أصناف الكناية والرمز.
هذا ومما رمزت به العرب للمرأة، أو قرنته بمعناها، من غير الحيوان والنبات أصناف كثيرة، قدمنا لك منها السفينة على سبيل الاستطراد بمعرض ذكر النخلة والدوم والظعائن. وقد نثثنا لك ثم طرفا من رأينا في صلة السفينة بالعبادة وطقوس الخصوبة القديمة ولا بأس ههنا من الإشارة إلى قصة سيدنا نوح وسفينته.
ومنها النار. وقولهم «أحسن من النار الموقدة» نعت معروف. وذكر صاحب السيرة أنه كانت لأهل اليمن نار يحتكمون عندها (1 - 33/ 34) حتى جاءهم وافد من أهل الكتاب فأطفأها الله به (1). وعسى إن كانت هذه النار من رموز الشمس، فقد كان السبئيون من اليمن يعبدون الشمس بدليل قوله تعالى في سورة النمل عن الهدهد يخبر عن بلقيس وقومها {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
(1) وراجع تفسير سورة قاف في الطبري عند قوله تعالى (وقوم تبع).
وكان غيرهم من العرب والسامين يعبدونها أيضًا. ومهما يكن من شيء فالنار رمز قديم في العبادة، من شواهد ذلك قصة ابني آدم إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وكانت علامة القبول أن أكلته النار.
واتصال معنى الخصوبة بالنار عند العرب بين جلي في رمزيتها المشهورة للكرم.
قال المعري:
نار لها ضرمية كرمية
…
تأريثها إرث عن الأسلاف
تسقيك والأري الضريب ولو عدت نهي الإله لثلثت بسلاف
وقال الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة
…
إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تُشب لمقرورين يصطليانها
…
وبات على النار الندى والمحلق
ونار الحرب لا تخرج عن هذا المعنى لاتصال ما بين الفروسية والكرم، قال الفرزدق:
وأضياف ليل قد نقلنا قراهم
…
إليهم فأتلفنا المنايا وأتلفوا
قريناهمو المأثورة البيض قبلها
…
يُثج العروق الأيزني المثقف
وقال القطامي:
حتى إذا ذكت النيران بينهم
…
للحرب يُوقدون لا يُوقدن للزاد
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا
…
كما تعجل فراط لوراد
نقريهم لهذميات نقد بها
…
ما كان خاط عليهم كل زراد
وأحسب أن النار قد كانت مما يُرمز به من قريب أو من بعيد إلى خصوبة الأنثى وحيويتها وحرارة ما يكون من اشتهائها. وقد قرنت العرب قرنًا قويًا بين
ذكر النار والمحبوبة في نسيبها. وغير بعيد أن يكون منشأ هذا القرن من عبادة الخصوبة الأولى في الشمس أو غيرها من النيران المؤنثات. ومما يقوى عندك أن المراد من ذكر النار رمزية الشوق الغزلي والهوى دون مجرد نعتها الحسي قول امرئ القيس مثلاً:
تنورتها من أذرعات وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
فقد جعل حبيبته كما ترى هي النار المتنورة. وفي أبيات هذه اللامية ما هو قوي الدلالة على هذا المعنى نحو قوله:
كأن على لباتها جمر مُصطل
…
أصاب غضى جزلاً وكف بأجذال
وقال النابغة:
أقول والنجم قد مالت أوائله
…
إلى المغيب تأمل نظرة حار
أي يا حارث:
ألمحة من سنا برق رأى بصري
…
أم وجه نعم بدا لي أم سنا نار
وهنا وفي البيت الذي يلي مكان الاستشهاد:
بل وجه نُعم بدا والليل مُعتكر
…
فلاح من بين أثواب وأستار
تلوث بعد افتضال الدرع مئزرها
…
لوثًا على مثل دعص الرملة الهاري
والبيت الأخير نص في الإشعار بالخصوبة:
ومما هو مشهور من وصل التشبيت بذكر النار قول عدي بن ريد العبادي:
يا لُبيني أوقدي النارا
…
إن من تهوين قد حارا
رُب نار بت أرمقها
…
تقضم الهندي والغارا
وبها ظبي يُؤججها
…
عاقد في الخصر زُنارًا
وإلى هذه الأبيات أشار أبو العلاء المعري في تأئيته السقطية التي مطعلها:
هات الحديث عن الزوراء أوهيتا .... وموقد النار لا تكرى يتكريتا
ليست كنار عدي نار عادية
…
باتت تُشب على أيدي مصاليتا
وقد حول أبو العلاء رمز النار من إرادة المرأة إلى إرادة السيف ثم مضى في نعت السيف وبريقه واتخذ ذلك سبيلاً إلى ذكر أصحابه من البدو الفاتكين ومن يحمونه من العقائل الحسان البعيدات المنال. ووقف وقفة طويلة عند حسناء منهن يتعلل بذكراها، ويسلي النفس عن بعد منالها لما يحيط بها من رجالها الغير أهل الفتك أو كما قال:
أروي النياق كأروى النيق يعصمها
…
ضرب يظل له السرحان مبهوتًا
ثم كأنه جعل هذه الفاتنة رمزًا لبغداد التي كان يحن إليها، ودون بلوغها الأهوال، من عناء السفر، ووعورة الطريق، وتعرض من يسلكه للخاربين واللصوص. والذي ينظر إلى القصيدة نظرة سطحية يخيل إليه أنها متباينة الأطراف، متعددة الموضوعات. وإنما كان موضوعها واحدًا وهو الشوق إلى بغداد، وسائر ما في القصيدة تصريح أو كناية عن هذا المعنى، ولعل بغداد نفسها قد كانت رمزًا من رموز الشاعر عن نفسه وآماله الممتنعات.
هذا، ومما يدلك على قوة اتصال النار بمعاني الهوى والعشق والمرأة، حتى صارت كأنما تراد لذاتها إذ تذكر في هذا الباب لقوة دلالتها وعظيم اشتمالها على ما يراد من هذه المعاني، قول جميل (1):
أكذبت طرفي أم رأيت بذي الغضى
…
لبثنة نارًا فاحبسوا أيها الركب
إلى ضوء نار في القتام كأنها
…
من البعد والأهوال جيب بها نقب
(1) الأمالي-2 - 208 - 209.
وأحسب أن الشاعر لم يخل من نظر في هذا البيت إلى قوله تعالى:
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} .
لأن النار إذا لاحت من نقب، كان ضوؤها قويًا بارعًا.
وما خفيت عني لدن شُب ضوؤها
…
وما هم حتى أصبحت ضوؤها يخبو
أي لاحت لي منذ بدء شبوبها ثم ظل ضوؤها منيرًا إلى الصباح لم يهم طوال الليل أن يخبو
وقال صحابي ما ترى ضوء نارها
…
ولكن عجلت واستناع بك الخطب
فكيف مع المحراج أبصرت نارها
…
وكيف مع الرمل المنطقة الهضب
ولا ريب أن النار كانت في قلب جميل، إذ كما ترى أبصرها هو وحده دون صحبه ولا تكون مثل هذه النار إلا من ذكر بثينة وتمثلها- على أن هذا القول كله راجع إلى ما قدمناه من مقالة امرئ القيس:«تنورتها من أذرعات البيت» .
ويشبه هذا المذهب ما رواه صاحب الأمالي أيضًا لأحد الأعراب (1):
رأيت وقد أتت نجران دوني
…
ليالي دون أرحلنا السدير
لليلى بالعنيزة ضوء نار
…
تُشب كأنها الشعري العبور
إذا ما قُلت أخمدها زهاها
…
سواد الليل والريح الدبور
سواد الليل متنازع بين الفعلين «أخمدها» و «زهاها» أي إذا ما قلت أخمدها سواد الليل وأخمدتها الريح إذا بهما يزيدانها شبوبًا.
وما كادت ولو رفعت سناها
…
ليبصر ضوءها إلا البصير
(1) هو الشماخ، ديوانه، مصر 1327 بشرح أحمد بن الأمين الشنقيطي ص 34.
وهذا البيت يدلك على أنها كانت من نيران القلب لا من نيران القرى التي تلوح للركب.
فبت كأنني باكرت صرفًا
…
مُعتقة حُمياها تدور
أقول لصاحبي هل يُبلغني
…
إلى ليلى التهجر والبكور
وهذا البيت الأخير نص في أن النار لم تكن إلا ليلى التي اشتاق إليها هذا الشاعر الأعرابي.
هذا ومن رموز المرأة السحابة. وخصوبة السحابة لا تخفى. قال الأعشى: «مر السحابة لا ريث ولا عجل» يصف بذلك مشي هريرة محبوبته. وقال طرفة:
لا تلمني إنها من نسوة
…
رقد الصيف مقاليت نُزر
كبنات المخر يمأدن كما
…
أنبت الصيف عساليج الخضر
وبنات المخر سحائب يأتين مع الصيف قليلات المطر. وهذا من دقيق التشبيه إذ أراد طرفة أن ينعت صاحبته بالنعمة والشباب والكبرياء والصون وامتداد القامة والبهاء وقلة النائل. وبنات المخر رمز صالح لكل هذه الصفات. وفيهن خصوبة كما ترى إلا أنها خصوبة متعذرة نزرة. وقد كانت العرب مما تعد قلة الأولاد من علامات العتق والكرم. قال قائلهم:
بغاث الطير أكثرها فراخًا
…
وأم الصقر مقلات نزور
ويعجبني تقوية طرفة لتشبيه بقوله «كما أنبت الصيف عساليج الخضر» - إذ عساليج الصيف دقيقات لدنات وريات وسط الظمأ المحيط بهن مع بهاء ونضرة وبريق. هذا ومن أبين ما نعتت به المرأة في باب التشبيه بالسحابة قول القطامي المشهور:
وفي الخدور غمامات برقن لنا
…
حتى تصيدننا من كل مصطاد
والسحاب والغمام وثيق الصلة بالسقيا إذ هو مصدرها. والسقيا كأنها أصل قائم بذاته في عبادات الخصوبة القديمة كقيام الأنوثة. وقد نعلم أن البلاد الحارة الكثيرة المطر لا يزال لكهنة السقيا فيها شأن عظيم، فكيف ترى كان شأنهم في بلاد العرب الغالبة الجدب. وما أستبعد أن سقاية بني هاشم قد كانت في أصلها رسمًا دينيًا موصولاً بالسقيا. ثم أن بني هاشم قد عرفوا حتى في الجاهلية بالطهر والصلاح وكان قومهم بما يسقون بهم الغيث. من ذلك ما ذكره أصحاب السير من بركة عبد المطلب وإفاضته الماء على الركب بعد ما كادوا يهلكون من العطش ومن ذلك قول أبي طالب يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن هو ممن دخل في الإسلام، وإنما كان ينافح بحمية السيد والعم والجار:
وأبيض يستسقي الغمام بكفه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وحتى في الإسلام قد تبرك سيدنا عمر بسيدنا العباس في استسقائه المشهور، وذلك لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقر السقاية عنده فيما أقره من المآثر القديمة.
هذا والبرق من رموز السقيا وصلته بالسحابة واضحة. وقد قرنه الشعراء بذكر النار كما رأيت في قول النابغة وفي قول القطامي، فاختلطت بعض معانيه بمعانيها.
وهنا يلزمنا التنبيه إلى التمييز بين الرمزية المرادة لمحض الشوق والرمزية المرادة لمحض المرأة. فالرمزية المرادة لمحض المرأة كان أصلها في ما نرى عبادة الأنوثة وخصوبتها، من ذلك رمزية القلوص وربما كان أصلها مقتبسًا من أحوال البيئة، ثم تداخلت الرمزيتان وتفرعت منهما شتى الفروع، وهذا حين نأخذ في الحديث عن رموز الشوق والحنين.