المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

شد النهار ذراعا عيطلٍ نصفٍ … قامت فجاوبها نكدٌ مثاكيل نواحةٌ - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٣

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث/ في الرموز والكنايات والصور)

- ‌الباب الأول

- ‌تمهيدطبيعة القصيدة

- ‌تعريف القصيدة:

- ‌أطوار أوزان القصيدة:

- ‌السجع والتقفية:

- ‌الأوزان:

- ‌ما قبل الشعر وأثره في النثر العربي:

- ‌أثر القرآن على البلغاء:

- ‌شاعرية النثر العربي:

- ‌الباب الثانيطبيعة الشعر العربي

- ‌معنى الاختلاس:

- ‌الحركات والسكنات والحروف:

- ‌ القافية

- ‌طور التنويع:

- ‌الرجز والهزج:

- ‌القصيدة والقافية الواحدة:

- ‌حالة الجذب

- ‌منزلة الشاعر:

- ‌الصعلكة والفروسية:

- ‌بطولة الشاعر:

- ‌طريقة القصيدة ووحدتها:

- ‌شكل القصيدة:

- ‌المبدأ والخروج والنهاية:

- ‌الباب الثالثالمبدأ والنسيب

- ‌(1) الرمزية المحضة

- ‌تمهيد:

- ‌رموز الأنثى ورمزيتها:

- ‌(2) رمزية الشوق والحنين

- ‌تمهيد:

- ‌رمزية المعاهد والديار:

- ‌البرق وتوابعه:

- ‌الحمامة والحنين:

- ‌ الأصل النوحي

- ‌الأصل اليمامي:

- ‌الأصل الهديلي:

- ‌الحمامة وبكاء العشاق

- ‌الأثافي والرماد والحمام

- ‌الليل والنجوم:

- ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

- ‌الوداع والظعائن:

- ‌تتمة في الحركة والحيوية:

- ‌أوصاف النساء ومداخل الغزل:

- ‌مدح النساء وذمهن:

- ‌مقاييس الجمال:

- ‌الخمصانة:

- ‌نموذج بين بين:

- ‌النموذج العظيم:

الفصل: شد النهار ذراعا عيطلٍ نصفٍ … قامت فجاوبها نكدٌ مثاكيل نواحةٌ

شد النهار ذراعا عيطلٍ نصفٍ

قامت فجاوبها نكدٌ مثاكيل

نواحةٌ رخوة الضبعين ليس لها

لما نعى بكرها الناعون معقول

تفري اللبان بكفيها ومدرعها

مشققٌ عن تراقيها رعابيل

وقول تأبط شرا:

وإني قد لقيت الغول تخدي

بسهبٍ كالصحيفة صحصحان

ليس ببعيد من هذا الباب، والله تعالى أعلم.

‌مقاييس الجمال:

الذي ذكرناه آنفًا، مجملاً ومفصلاً، من أوصاف النساء داخل كله في مقاييس الجمال. وأوصاف الطبيعة وحيوانها والمدح لأصناف من أجساد الرجال وهيئاتهم وسمتهم يدخل أيضًا في باب مقاييس الجمال. والحديث عن كل أولئك مما يستفيض فلا يتسع له هذا الباب. فنحن نختصره اختصارًا لنخلص إلى أمثلة منه عليها مدار الغزل، ثم نلحق بها ما يشابهها أو يتصل بها على وجه من المقاربة أو المفارقة من أمثلة الأوصاف التي مضت إن شاء الله.

وقد كانت العرب ترى النعمة وخفض العيش من الجمال، وغير العرب يشارك العرب هذا الرأي. وقد كانت مما تفطن إلى ضروب من الجمال النفساني الذي يلابسه العطف والرثاء وما هو بهذا المجرى من العواطف الإنسانية، إن عرضت لتصوير البؤس، نحن قول أوس بن حجر في مرثية له:

وذات هدمٍ عارٍ نواشرها

تُصمت بالماء تولبًا جدعا

فهذه صورة تحدب على مأساتها النفس كما ترى. وهذا ونحوه سنلم به إن شاء الله بمعرض الحديث عن نماذجه في هذا الباب أو في باب الأغراض أو الخروج- أيا اتفق ذلك.

ص: 403

وقد كانت، فيما عدا الذي قدمنا من النعمة، توشك أوصافها لجسد المرأة التام الحسن أن تنحصر في نموذجين: أولهما الخمصانة السمهرية القوام، قال امرؤ القيس:

مهفهفةٌ بيضاء غير مفاضةٍ

ترائبها مصقولةٌ كالسجنجل

وقال طفيل الغنوي:

كريمه حر الوجه لم تدع هالكًا

من القوم هلكًا في غدٍ غير معقب

أسيلة مجرى الدمع خمصانة الحشى

برود الثنايا ذات خلقٍ مشرعب

أي ذات طول مع أنها خمصانة فهذا يجعلها كالقناة السمهرية

تري العين ما تهوى وفيها زيادةٌ

من اليمن إذ تبدو وملهى وملعب

وألفت القارئ إلى قوله «وفيها زيادة من اليمن» فهو داخل في قريّ ما كنا فيه من نعت الأخلاق. والشاعر كما ترى جعل يمن الطلعة وإشراق الروح مما تم به صفة الجمال ومما يتفاءل به ويتوسل به إلى السادة.

وقال عبيد بن الأبرص:

وفوق الجمال الناعجات كواعبٌ

مخاميص أبكارٌ أوانس بيض

وقال:

ناطوا الرعاث لمهوى لو يزل به

لا ندق دون تلاقي اللبة القرط

فذكر طول العنق وبالغ وفي طول العنق كناية عن طول القامة.

والنموذج الثاني الممتلئة المكتنزة قال امرؤ القيس:

برهرهةٌ رودةٌ رخصةٌ

كخرعوبة البانة المنفطر

والأولى منظر، وهذه الثانية اشتهاء. قال عبيد:

ص: 404

وغيلةٍ كمهاة الجو ناعمةٍ

كأن ربقتها شيبت بسلسال

قد بت ألعبها طورًا وتلعبني

ثم انصرفت وهي مني على بال

فجعل الغيلة للفراش كما ترى. وقال الأعشى:

عهدي بها في الحي إذ سربلت

هيفاء مثل المهرة الضامر

قد نفج الثدي على صدرها

في مشرقٍ ذي صبحٍ نائر

لو أسندت ميتًا إلى نحرها

عاش ولم ينقل إلى قابر

فجعل الهفاء منظرًا ونسب إليها حداثة السن وتبلج ريعان الصبا مع ما يلابس ذلك من جذل النفس ولهوها كما ترى.

وقد يتوسطون بين النموذجين، فيجعلون الأعلى صعدة، والأسفل كثيبًا وهذا شاهد على أن قد قر رأيهم على استحسان القوام الممشوق، كما قد قر أيضًا على استحسان الردف المفعم.

قال عبيد:

صعدةٌ ما علا الحقيبة منها

وكثيبٌ ما كان تحت الحقاب

وقال الأعشى:

وقال الأعشى:

عسيب القيام كثيب القعو

د وهنانةٌ ناعمٌ بالها

إذا أدبرت خلتها دعصةً

وتقبل كالظبي تمثالها

وقال الآخر وبالغ في وصف الأعلى بما بالغ فيه من بعد مسافة مهوى القرط من العاتق:

ومن يتعلق حيث علق يفرق

وقال عمرو بن كلثوم وبالغ في نعت الردف:

ومأكمةٍ يضيق الباب عنها

ص: 405

على أن وصف عمرو في جملته داخل في صفة الأنثى المثالية المبالغ في كبر أبعادها وسنعرض له إن شاء الله.

وقال الآخر وهو من شواهد النحويين.

لطيفات أبدانٍ دقاقٌ خصورها

وثيرات ما التفت عليه المآزر

وبين التوسط فيما بين النموذجين ضروب من النماذج تدنو من الخمصانة طورا وتدنو من البرهوهة طورًا آخر، وقد يخلط الشاعر من أوصافهما معًا، وهذا يتعمد، وقد يقع عن غير تعمد من غير الحذاق ولاسيما عند المتأخرين.

على أن المتأخرين مما كلفوا أنفسهم «في واقع حياتهم» مضاهأة مثال نموذج الجمال الفاره، من نماذج الجاهليين، لما فيه من قوة الإشعار بالنعمة وخفض العيش وما يصاحب هذا من السناء ورفعة القدر وهلم جرا.

قال جرير:

والتغلبيون بئس الفحل فحلهم

فحلاً وأمهم زلاء منطيق

فهجا أباهم بالحقارة وحقر معه أمهم بما وصفها به من أنها زلاء أي لا عجز لها، وأنها تصطنع لنفسها عجزًا من الخرق تُراكمها ليضخم منظر ما وراءها.

والناس مما يكلفون بتقليد المثل العليا البيانية إن كان يصيبهم منها فخر «مادي» وقصة «إرم ذات العماد» في الزراية بصاحبها وقومه الذين حاولوا تقليد الجنة بشيء يصنعونه على الأرض معروفة. وقد كان الهلاك والبوار نصيبهم العاجل. ومع ما لهذا الخبر من العظة وما فيه من التذكير لم يفتأ جماعة من خلفاء المسلمين ووزرائهم يرومون مضاهأة الجنة. من ذلك حوض الوليد بن يزيد وقد رأيت كيف مصيره كان. ومن ذلك افتضاض جعفر بن يحيى العذارى كل ليلة جمعة، وقد أخذه سيف هارون.

ص: 406

وقد اجتهدت أحلام غير الملوك أن تضاهئ مثل الجنة في خرافات الأقاصيص. وألف ليلة وليلة في هذا الباب معروفة. والعجب أن قومًا قد جاءوا من بعد فما انفكوا يرومون مضاهأة ألف ليلة وليلة. وهي نفسها تعكس جانبًا من ترف العلية والملوك زمن الخلافة العباسية. وقد افتن نبلاء فرنسا وملوكها في هذا المذهب من لدن لويس الثاني عشر إلى أن طوحت بهم الثورة، وما خلا نابليون من رجعة إلى بعض أساليب من طوح بهم من مهدوا له. وليس ما يفعله نجوم هليوود وكواكبها ولفهم من أهل الترف، في زماننا هذا، عنا ببعيد.

ولقد قالت سيدتنا عائشة أم المؤمنين، في مجرى قصة الإفك، «فإذا عقد لي من جزع ظافر انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه. قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافًا، لم يهبلهن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام إلخ» (1) وكأن أمنًا عائشة بحديثها هذا كنت تنعي ما آض إليه الناس بعد الفتوح من تلحيم النساء وتشحيمهن قالوا وضعت جارية إصبعها على شيء بعيد ما وراء عائشة بنت طلحة تروزه أهو منها أم لا، فإذا هو كفلها وقال أبو الطيب:

بانوا بخرعوبة لها كفلٌ

يكاد عند القيام يقعدها

فتأمل.

وفريق من العرب وممن يحذو حذوهم ما زالوا إلى عهدنا هذا يطعمون الفتيات لتيت الخبز ويأمرونهن بالاستلقاء على أوجههن لتضخم من ذلك أكفالهن فيكن مثلاً في النعمة الدالة على عتق الأصل. ولا يخفي أن الإماء قد كن من أفعل شيء لهذا، ليضاهين به سيداتهن.

(1) تفسير الطبري، 18 - 90.

ص: 407

وفي تعبٍ من يحسد الشمش ضوءها

ويجهد أن يأتي لها بضريب

ونحتار بعد كيف اهتدى شعراء العرب إلى نماذج الفارهة والخمصانة ومزاوجة أصناف ما بينهن على نمط وسنة من القول مع أن واقعهم كانت أغلب عليه النساء الضاويات، وكان التنحيف مذهبا من مذهبهم كما ذكرت أمنا عائشة رضي الله عنها في حديثها من طعام العلقة. وكان أيضًا كثيرًا فيهم اللائي يلوحهن نصب الكدح لشدة عيش الصحراء وحواضرها عند الماء أو ملقى القوافل- قال النابغة (قد مر بك البيت):

ليست من السود أعقابًا إذا انصرفت

ولا تبيع بجنبي نخلة البرما

وجعلهن سود الأعقاب لكثرة مشيهن حافيات وكدحهن، وظاهر قوله أن منعمته قليل بالنسبة إلى كثرتهن.

وقال الفرزدق:

إذا القنبضات السود طوفن بالضحى

رقدن عليهن الحجال المسجف

فجعلهن قصارا سودا من الجهد والتطواف في سبيل الرزق أو خدمة من حاله أيسر منهن. والمنعمات الراقدات في ظاهر نعته قليل بالنسبة إلى كثرة هؤلاء. واذكر أن الفرزدق قال هذا في الإسلام حين كان الخفض أعم بكثير مما كان عليه في الجاهلية. ذكروا أنه كان بعد الفتوح إلى قريب من مقدم الحجاج أرق أهل الكوفة حالاً يأكل خبز البر ويشرب من ماء الفرات. فوازن بين هذا وبين حال الجاهلية من أكل قرف الحتى وشراب السدم الأواجن.

وعندي أن الشعراء العرب نظروا في مقاييسهم إلى تماثيل الروم في الدهر القديم، فاستحدثوا على ضوء نماذجهن مقاييس، ثم اتلأب بهم طريق ذلك، وأعني بكلمة الروم ههنا مدلول ما كانت تعنيه العرب بهذا اللفظ من الرومان ومن بعدهم

ص: 408

مضافًا إليه تراث الكلاسيكية من عهد يونان ومن قبلهم ولا ريب أن العرب كانوا أمة قديمة موغلة في القدم وقد لابسوا الأمم وخالطوها وأخذوا عنها وأخذت عنهم شيئًا أو استعانت بهم. وبعض المؤرخين يوشك أن يميل إلى أن هكسوس مصر كانوا عربًا.

وقصص يهود الأولين تدل على صلة واشجة بالعرب في أخبار سيدنا موسى وفي خبر سيدنا أيوب. وذكر هيرودتس أن العرب كانوا مسالمين لملوك الفرس القدماء، وقد سار في جيش كسرى ابن دارا الذي غزا أرض يونان منهم كتائب، بعضهن على الجمال، من الأرض الكائنة جنوبي مصر (1).

وقد اتصل أطراف العرب في اليمن والشأم وساحل القلزم بقديم حضارة الرومان ولا ريب أن أفرادًا وجماعات منهم قد انخرطوا في الجيوش الرومانية ولاسيما حين كان يشرئب إلى عرش رومية أحد ولاة سوريا مثل فسباسيان ونارسيس. ولقد تعلم أن أحد أباطرة الرومان قد كان عربيًا وهو فيليب وما كان ليصل إلى هذا المنصب لولا سابقة منه وسابقة من سلف عرب أخذوا بأساليب الرومان وانخرطوا في جنديتهم من قبل. وقد نشأت تحت أثر الرومان ممالك عربية على أطراف الصحراء أو ناحية من جزيرة الفرات. من ذلك ملك إياد الذي دمره أكاسرة بني ساسان بأخرة. وقصة الحضر معروفة وآثاره ظاهرة. ومنها ملك التي سماها الرومان «زنوبيا» بتدمر، وقد كان أمرها أن حاربها الرومان وقاومتهم ثم قهرها آخر الأمر أوليان الامبراطور. وبعض الناس يرى أن زنوبيا هذه هي الزباء صاحبة الخبر.

وسنلم بطرف منه فيما بعد إن شاء الله.

وقد استمرت الصلات بعد ذهاب ملك الرومان، بين العرب وبين خلفاء هؤلاء من روم بيزنطه. وأخبار وفادة امرئ القيس وأصحابه معروفة في هذا الباب. وكذلك

(1) راجع تاريخ هيرودوتس (الترجمة الإنجليزية).

ص: 409

أمر تجارة قريش، ورحلات النابغة وحسان وعلقمة بن عبدة والأعشى، وعمرو بن كلثوم القائل:

وكأسٍ قد شربت ببعلبك

وأخرى في دمشق وقاصرينا

وكثير غيرهم. وسترى إن شاء الله في باب الحديث عن الخمر والأغراض أن العرب مما كانوا يفخرون بمثل هذا من صنيعهم في إبعاد السفر، وقد تقدم إليك الماع بشيء منه.

وقد بلغ من اتصال العرب بالروم أن بعضهم كان يتعصب لهم على الفرس وأحسب أكثر هؤلاء كانوا من أصل يمني. وكان مضر فيما يبدو تتعصب لفارس وأحسب أنه تعصبها الذي حمل بعض نسابيها على أن يلحقوا مناذرة الحيرة بنسب معد ابن عدنان، إذ زعموا أنه من أشلاء قنص بن معد (1)، وقصة سورة الروم في القرآن تكشف جانبًا من أمر هذه العصبية فيما ذكره المفسرون، والله أعلم (2).

وأمر دخول النصرانية في العرب أول أمرها من طريق الاتصال بالروم معروف، وذكر الرهبان والصوامع كثير في الشعر. والمام مثقفي العرب في الجاهلية بأخبار الأمم السالفة من الروم وغيرهما الماما على وجه من الوجوه يشهد به شعرهم أيضًا كقول النابغة في خبر سيدنا سليمان:

وخيس الجن أني قد أذنت لهم

يبنون تذمر بالصفاح والعمد

وتشهد به السيرة كدعوى النضر بن الحارث أن سيربي على إبداع القرآن بما يقصه من أخبار اسفنديار ورستم (3). ويشهد به القرآن إذ قد جابه العرب مجابهة

(1) السيرة 1/ 8.

(2)

تفسير الطبري 21 - 15 إلى 22.

(3)

السيرة 1/-320.

ص: 410

هداية وتذكير وعظة وعبرة وزجر ناقد فكشف مما كانوا عليه أيما كشف. وخبر سيدنا سليمان في القرآن خاطب العرب بما يعهدون من الإعجاب في صنائع الأمم المجاورة والسالفة في نحو قوله تعالى من سورة النمل {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} - قال الطبري (1) «واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله خص سليمان مسألة الملأ من جنده إحضار عرش هذه المرأة من بين أملاكها قبل إسلامها- فقال بعضهم إنما فعل ذلك لأنه أعجبه حين وصف له الهدهد صفته، وخشي أن تسلم، فيحرم عليه مالها، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين، قال، ثنا أبو سفيان، عن معمر عن قتادة، قال: أخبر سليمان الهدهد أنها خرجت لتأتيه، وأخبر بعرشها فأعجبه. كان من ذهب وقوامه من جوهر مكلل باللؤلؤ إلخ».

وقال تعالى: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} - والتنكير صناعة وافتنان كما ترى. قالوا (2)«أمرهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه» .

وقال تعالى {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} - وفي هذا من الإشارة إلى عجب الصنعة ودقتها ما ترى.

وقال تعالى في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ (3) وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} قال الطبري وروي فيما رواه «وتماثيل- يعني أنهم يعملون له

(1) تفسير الطبري 19 - 160.

(2)

نفسه.

(3)

كالجوابي بالياء وصلا في قراءة أبي عمر ولا وقفًا.

ص: 411

تماثيل من نحاس وزجاج» (1) وقال يرويه عن مجاهد (2)«وتماثيل، قال من نحاس. حدثنا عمرو بن عبد الحميد، قال ثنا مروان، عن جويبر، عن الضحاك، في قول الله {وَتَمَاثِيلَ} قال الصور. قوله «جفان كالجواب، يقول وينحنتون له ما يشاء من جفان كالجواب إلخ» .

وفي الشعر -عدا أمر الأخبار- كما في القرآن ما يدل على أنهم قد أعجبوا كما جعلوا يستجلبون بعض ما شهدوه من عمارة الروم والفرس. ومن ذلك خير القبطي الذي عمل في تجديد بناء الكعبة واستعانة قريش بخشب سفينة رومية تحطمت ناحية جدة، يؤثرون ذلك على سدرهم وأضرب طرفائهم وعضاههم (3) ومنه أن بعضهم جعلوا يتخذون لبيوتهم أبوابًا وسررًا. وقال تعالى في سورة الزخرف {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} .

وقال طرفة يصف ناقته:

كقنطرة الرومي أقسم ربها

لتكتفن حتى تشاد بقرمد

والقنطرة هي العقد، بحسب ما ذكر المبرد، ولا يخفى أن العقد روماني.

وقال ثعلبة بن صعير:

تضحي إذا دق المطي كأنها

فدن اب حية شاده بالآجر

ولم يذكر ابن الأنباري في شرح المفضليات من ابن حية هذا. ويغلب على

(1) نفسه 22/ 70.

(2)

نفسه.

(3)

السيرة 1 - 209.

ص: 412

الظن أنه كان نصرانيًا أو متأثرًا بالنصرانية وأن حية نمط من «يحيى» وعسى أن تكون «حنة» بالنون، على ما نستبعد هذا، وإن كان التحريف لممًا يقع في الرواية.

وخبر الخورنق والسدير والمشقر والحضر كل ذلك معروف، بله قصور اليمن.

وقد كانت العرب مما تعجبها تماثيل الروم، يدلك على ذلك خبر عمور بن لحي حيث ذكروا أنه جاء بالأصنام من الشأم.

وفي التفسير ما ينبئ عن أن العرب كانت تستملح وتستقبح فيما تتخذه لأصنامها من أحجار فهذا يقوي الاستشهاد بما قدمنا من خبر عمرو بن لحي. قال تعال {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} في سورة الجاثية. قال الطبري يرويه (1)«كانت قريش تعبد العزى وهو حجر أبيض حينًا من الدهر. فإذا وجدوا ما هو أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الآخر. فأنزل الله أفرأيت من اتخذ إله هواه» . وقال عنترة في تشبيه المرأة وقد مر بك:

كأنها صنمٌ يُعتاد معكوف

ولا ريب أن هذا الذي شبه به كان صنمًا جميلاً لإلاهة معبودة، مما استجلب على عهد عمرو بن لحي أو بعده. إذ لا تجد العرب يشبهون بمناة واللات والعزى وأضرابهن ولو قد كن جميلات لفعلوا- وقد كانت ضخامتهن مما يجعل استجلاب ما يصلح لهن من مشارف الشام عسيرًا، فكانوا يكتفون بما يقوون عليه من ضعيف النحت ويزينونهن كالنساء، كما تقدم منا الإلماع إليه (2) وربما استجلبوا فانكسر عضو مما استجلبوه ولا يقدرون على إصلاحه، فيجعلون مكان ما انكسر بديلاً من ذهب، كأنهم يرمزون بذلك إلى نفاسة ما فقدوه (3).

(1) الطبري- 25 - 150.

(2)

راجع قبله (رموز الأنثى ورمزيتها) والسيرة 1/ 32 وكتاب الأصنام-8.

(3)

كتاب الأصنام- 28 ومر في هامش رموز الأنثى من قبل.

ص: 413

وقال عبيد بن الأبرص:

ومراحٍ ومسرحٍ وحلولٍ

ورعابيب كالدمى وقباب

فذكر الدمى كما ترى. وإنما هن دمى الكنائس، وما تبقى من تماثيل في خرائب القدماء.

وقال امرؤ القيس:

كأن دمى سقفٍ على ظهر مرمرٍ

كسا مزبد الساجوم وشيا مصورا

فذكر ما يجعل على سقوف الهياكل والمعابد والكنائس من دمى. وقد علمت خبر تطوافه.

وقال أيضًا:

ويا رب يوم قد لهوت وليلةٍ

بآنسةٍ كأنها خط تمثال

فذكر التمثال وشبه به آنسته، وهذا يشبهه قول عنترة الذي تقدم «كأنها صنمٌ يُعتاد معكوف» .

وقال النابغة:

أو دميةٍ من مرمرٍ مرفوعةٍ

بُنيت بآجر يشاد وقرمدٍ

فذكر ههنا دمية مرفوعة على قاعدة كما ترى، على نحو مما يقع في تماثيل الروم وأسلافهم من متبعي مذهب يونان ومن قبلهم، أو ما قد يكون خلص على عهد النابغة من آثار هؤلاء إلى بعض القصور إذ عسى أن يكون رآه في بعض الخرائب.

وقال:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

ص: 414

وهذه صورة تقترح الحركة، وعسى أن يكون النابغة قد رأى بعض تماثيل «أفروديت» أو «فينوس» تعالج قطعة من ثوب. وهذا النموذج في تماثيل يونان ومن تبعهم معروف، ومنه الآن مما اكتشف في المتاحف.

وعسى أن يكون النابغة نظر إلى نموذج بياني نظر إلى ذلك التمثال، إذ عهد عمرو بن لحي ناقل الأصنام بعيد من عهده، وقد سبقت عمرو بن لحي عرب رأت تماثيل الروم وأعجبوا بها بلا شك، كالذي قدمنا من أخبار تدمر وغيرها. مما لم ينتقل هو ذاته إلى أرض العرب، وما لم يبق حتى يشاهده متأخر وهم أمثال النابغة، قد بقيت نعوته في الأوصاف التي يديرها البيان ويتلئب عليها عرف الفن. وأحسب من أجل هذا ما كثر ذكر الدمية في الشعر، حتى قد تبرم به بعض الشعراء الإسلاميين الأوائل كالذي مر بك من قول الحماسي:

معاذ الإله أن تكون كدميةٍ

ولا ظبية ولا عقيلة ربرب

ونموذج النصيف كثير في الشعر وأشياء مفرعة عنه. من ذلك مثلاً قول عبيد وقد مر:

تدني النصيف بكف غير موشومة

أي ككف التمثال لا كأكف ما كانت عليه نساء العرب من عادة غرز الإبر وهلم جرا مما ذكر طرفة في قوله:

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

وقال علقمة:

بعينٍ كمرآةٍ الصناع تديرها

لمحجرها من النصيف المنقب

وقد نعلم سوى هذا الذي قدمناه أن فن يونان مما تسامعت به الأمم وتناقلته منذ عهد الإسكندر وخلفائه فيما بين وراء النهر وطرف الهند إلى مصر فما ملك

ص: 415

الرومان. وقد ألمت به أطوار واقتبست منه اقتباسات حتى في بعض ما نحت الهندوس في آفاقهم القصية.

وقد بدأ نحت يونان ضعيفًا ساذجًا كما يعلم القارئ أصلحه الله. ثم قد صار إلى أسلوب رياضي محكم بعد أن داخلت الحركة تمثال الفتى، فجُعل ماشيًا بعد أن كان واقفًا لا يريم.

وقد بلغ اليونان بتمثال الفتى ذروته. ثم جارى هذا في طور نضجه الافتنان في تمثال الفتاة المتجردة. وكانت أول أمرها مجدولة القوام، مع التناسب الرياضي والصحة والشباب.

ثم استحدث اليونان في هذه التماثيل الحركة بالثياب والمشاهد، وافتنوا ما شاءوا. وقد كان يبلغ بهم حذق التناسب أن يغالوا في أبعاد التمثال، فوق ما عليه مألوف النساء والرجال. فلا تند العين عن شيء من ذلك ولا تحس فيه إلا التناسق وإلا الانسجام كالفتيات حاملات السقف عند الأكروبوليس. ولقد كانوا في حرصهم على التناسب مما يحيدون عن واقع تكوين الأعضاء أحيانًا ليذهبوا بها مذهبًا رياضيًا. من شواهد ذلك عمدهم إلى تربيع ما عند خصر الرجل إلى أدى ثنته. وأحسبهم اقتبسوا ههنا من طريقة قدماء المصريين في الميل بتصاويرهم أبدًا إلى سمت مثالي والله أعلم.

وقد داخل متجردات اليونان بأخرة تنعيمٌ من بدن كما داخل تماثيل الفتيان تأنيث وحدور. وعرائس أفروديت الثلاث وهن مما يقال إنه كشف الطريق أمام فجر النهضة بإيطاليا مما كان يخالطهن من صنعةٍ ونعمة وأقواس.

وقد أخذ فنانو النهضة وما بعدها بنماذج فيما بين المجدولة والمتماسكة. وقد بلغ روبنز بالبدانة مبلغًا. وقد تزيد فنانو «الباروك» في الأبعاد ما شاءوا.

وقد كان فن بيزنطة فيما قبل النهضة مزخرفًا شكليًا ليس كما كان عليه عهد

ص: 416

يونان. ولا ريب أن العرب قد رأوا منه وتأثروا. ولكن ما بقى في أنفسهم من المقاييس كان من أصل تماثيل يونان أنفسها، أو ما حذى عليها في عهود مقلديهم إلى آخر ما كان من اندراس ذلك. ومن آيات ذلك نعت النابغة للنصيف، الذي ينص نصًا على الأخذ من تمثال أفروديت ذات الثوب، من طريق مباشر أو غير مباشر كما ذكرنا. وسترى بعد شواهد آخر إن شاء الله.

ولقد بقي فن اليونان الناحت، في بيان العرب الذي احتذى مقاييسه، بقاء أطوال مما بقيه في حاق صناعة النحت بعد أن طوحت بأواخر آثارهم في هذا الباب أعاصير الزمان منذ سقوط رومية ثم ضرب الفن البزنطي حيث ضرب بجران. ولقد كانت صناعة العرب، صياغة القول وروايته، يتناقلونها حظًا وقد يخطون منها، فبقي من أجل ذلك في نماذجهم من المقاييس الجمالية «الكلاسيكية» ما بقي بعد ما اندرس في أصولها كما رأيت.

ولم يكونوا حين اقتبسوا من مقاييس يونان في بيانهم مقلدين لا يتصرفون. ولكنهم لما رأوا فأعجبوا راموا أن يضاهئوا بما وهبهم الله من أداة الكلمة المعبرة اتقان ما رأوه، بإتقان مثله من عندهم، يزيدون فيه أن قدروا ويُربون. ولقد تهيأ لهم من القدرة حظ عظيم كما سيرى القارئ إن شاء الله. ولعلنا بعد أن فطنا لهذا نعرض شيئًا عما يُزعم من حسية العرب في الوصف، أن تبينا أنهم ما الحسبة كانوا يبغون ولكن الفن والإتقان وخالص التعبير عن الجمال.

ولعمري أن النحت من الحجر والزجاج لأقرب من الحس، لو جاز الجدل وجازت الخصومة في هذا الباب مما صنعوا.

ولقد بقيت في تقاليدنا وفي تقاليد الإفرنج بقايا مردها إلى ما كان من صنيعهم ومن صنيع قدماء يونان. ذلك بأن الإفرنج مما ينفرون عن التدقيق في صفة الأجساد من طريق الألفاظ، ولا يجدون غضاضة أن يصوروا ذلك أو ينحتوه. ونحن لا نجد

ص: 417

كما يجدون من الغضاضة في التعبير اللفظي عن هذه الصفات، ولكنا نجد كل غضاضة من رسمها أو رؤيتها مرسومة. وإنما أخذنا بسبيل الرسم وتزيين المجلات بالصور منذ عهد قريب على طريقة التقليد البحت. ولا ريب أن جيلاً تقدمنا لو رأوا بعض ما نتقبله الآن من ذلك لأنكروه أيما إنكار ولا زوروا منه كل ازورار. ولا يزال كثير من هذا الجيل بين ظهرانينا. والفتيات والنساء اللائي يجلسن أو يقفن عاريات أمام الفنان عندنا آبدة، ولسن هن كذلك عند الإفرنج ومن إليهم. لا بل وجلوس اللابسة عندنا لترسم لم يكن ليسلم من هجنة إلى عهد قريب.

ولقد طهر الإسلام العرب من الأصنام بالتوحيد وبتحطيمهن كل تطهير. ثم نفر من الصور كل تنفير فقوى بهذا ما كان عليه منهج العرب في إيثار الكلمة على الصناعة في باب الفن. ولقد أوشك العرب المسلمون أن يؤثروا على بيزنطة النصرانية بالذي كانوا عليه في التجرد من مثل هذه البقية المشعرة بالوثنية في تصاوير الكنائس وتماثيلها. ولقد تعلم أن قد ثار جدل عنيف في بيزنطة فيما بين القرن الثامن والتاسع الميلادي حول تحريم صور الكنائس وتحليلها، وكانت من ذلك فتنة كادت تهدد الدولة بالانهيار. هذا ومما يقوي ما قدمناه من تأثر العرب بمقاييس يونان الجمالية في تماثيلها، وروم مضاهاتها من جانبهم ببيان اللفظ في الشعر، ثم تفريعهم من ذلك ما شاءوا من إبداع. أنهم قد ألموا مع هذا الذي نذكره من مقاييس التماثيل وقيمها الجمالية، بأصناف وأمثلة مما كان ليونان من الأساطير في باب الرمزية المتلاحمة التي تدخلها معاني الجمال ومعاني الجنس ومعاني الخصوبة والتقديس ثم الحكمة المستفادة من التجارب. من ذلك مثلاً خبر ذات الصفا، وهي الحية التي عاهدت الرجل، على جعل تجعله له أن يصافيها وينسى ثأر أخيه، فلما نال منها منالاً طمع وعمد إلى فأس فأحدها ليقتلها بها إلى آخر القصة، وهي في شعر النابغة حيث قال:

وإني لألقى من ذوى الضغن منهمو

وما طفقت تهدي من الغي سادره

كما لقيت ذات الصفا من حليفها

وما انفكت الأمثال في الناس سائره

ص: 418

وساق القصة. وهي في خرافات أيسوب:

ولقد يقال أن الخرافات مما تشابه بين الأمم لتشابه التفكير البشري، ولكن التفكير البشري مع تشابهه مما يختلف. ومن أجل هذا يكون الأخذ والاقتباس. ولا مدفع لترجيح الأخذ متى وضح السابق وكان سبيل اتصال المسبوق به ليأخذ منه ممكنًا. والأمم مما تأخذ بعضها عن بعض ما تجده يلائم ذوقها أو تجاربها أو مذهبًا من مذهب تفكيرها، ثم تحور فيه وتنقص وتزيد حتى تجعله من حاق طريقتها، وربما أخذت أمة عن أخرى عدة أشياء معًا، متباينات أو كالمتباينات في أصل ما أخذت عنه، ثم جمعت بينها على ما يكون عليه أسلوب تفكيرها. وهذا من شأن الاجتماع والعمران البشري أمثلته أكثر من أن تحصى، منذ أن الله برأ الخليقة.

ومن أخبار العرب التي كأنها أخذت من أصول يونانية كثيرة ثم أضيف إليها غيرها أو حورت لتلائم ذوق العرب، خبر الزباء الذي سبقت ما إيماءة إليه. وسياق الخبر نفسه كأنه ينص على أصل يوناني أو أصل روماني أو أصل بيزنطي مرده إلى يونان مباشرة أو من طريق الرومان. قالوا: كانت الزباء ملكة رومية من ملوك الطوائف على ناحية الجزيرة (1). وكان جذيمة الأبرش ملكًا عربيًا على شاطئ الفرات. وكان له ابن أخت يدعى عمرو بن عدي ووزير ناصح يدعى قصيرًا. وكان جذيمة قد قتل أبا الزبا. فكان مما احتالت به لتنال ثأرها منه أن عرضت عليه أن

(1) الميداني: «خطب يسير في خطب كبير» واللسان (زبب) ونص على أنها من ملوك الطوائف. أما المسعودي فقال في مروج الذهب طبعة دار الرجاء بغداد (2/ 19) الزباء بنة عمرو بن ظرف بن حسان بن أذينة بن السميدع ملكة الشام والجزيرة من أهل بيت عاملة من العماليق كانوا في سليح. وقال بعضهم بل كانت رومية وكانت تتكلم العربية مدائنها على شاطئ الفرات من الجانب الشرقي والغربي وهي اليوم خراب. وكانت فيما ذكر سقفت الفرات وجعله من فوق أبنية رومية وجعلت أنقابًا بين مداتها وكانت تغدو بالجنود» - وأول كلام المسعودي مشعر بأنها زنوبيا. وفي آخره نفس من حكاية الأمزونيات الإغريقية. وقد جعل المسعودي كلام البواب في آخر القصة بالنبطية لا بالرومية (بشتا بشتا- ص 22).

ص: 419

يخطبها. فنهاه قصير فلم يسمع له. ومالت نفسه إلى ما دعته إليه فمضى إليها. قالوا، فلما راته «تكشف، فإذا هي مضفورة الإسب» يعنون شعر عانتها «فقالت يا جذيمة أدأب عروس ترى» ؟ فذهبت مثلاً. فقال جذيمة: «بلغ المدى، وجف الثرى، أمر غدرٍ أرى» فذهبت مثلاً. ودعت بالسيف والنطع. ثم قالت: «أن دماء الملوك شفاء من الكلب» . فأمرت بطست من ذهب قد أعدته له وسقته الخمر حتى سكر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت براهشية فقطعا. وقدمت إليه الطست. «وقد قيل لها أن قطر من دمه شيء طلب بدمه» (1).

ثم إن قصيرًا صاحب جذيمة سعى في ثأره وجد. وكان من أوائل سعيه أن ألف بين عمرو بن عدي، ابن أخت الملك المقتول، وبين سيد من سادات قومه كان مخاصمًا له هو عمرو بن عبد الجن اللخمي. ثم إن قصيرًا جدع أنفه وصار إلى الزباء يزعم لها أنه قد فارق قومه لما صنعوا به، وإنما كان يريد أن يطلع على سرها ليقوي بذلك تدبير صاحبيه إذ قد أجمعوا ثلاثته على غزو الزباء في عقر دارها.

قالوا وكانت الزباء سألت كاهنة تستطلعها الغيب فعلمت أن سيكون عمرو ابن عدي سبب مصرعها، وأنه لن يقتلها بيده، ولكن ستقتل هي نفسها بيدها هي، ويكون سبب ذلك من قبل عمرو.

فعمدت الزباء، لما سمعت هذا إلى نفق فاحتفرته لتتخذه مهربًا ولم يخف أمر هذا النفق عن قصير لثقتها فيه. ثم أنها جهزت مصورًا من أجود أهل بلاده تصويرًا فأرسلته إلى عمرو ليثبت صورته لها، كي تحذره، ففعل.

ثم إن قصيرًا لما استوثق من أمره جاء بصاحبه عمرو وجيشه على إبل يزعم

(1) ما بين الأقواس من الميداني مصر 1352 - 244 في المسعودي (21) - «فجعل دمه يشخب في النطع كراهية أن يفسد مقعدها» وهذا غير خبر الميداني وفيه معنى الكتابة الحسية التي سنذكر.

ص: 420

للزباء أنها قافلة تجارة. وكان قد أخفاهم في غرائر تحملها الإبل ومعهم السلاح (1). قالوا «ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبل وقوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها، فقالت يا قصير:

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلاً يحملن أم حديدا

أم صرفانًا تارزًا شديدا

فقال قصير في نفسه:

بل الرجال قبضًا قعودا

فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها بعيرٌ مر على بواب المدينة وكان بيده منخسة فنخس بها الغرارة، فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها، فضرط، فقال البواب بالرومية «بشنب ساقا» - يقول: شر في الجوالق. فأرسلها مثلا».

ثم أن الزباء لما حاصرها القوم رامت أن تلجأ إلى النفق الذي أعدته للهرب. وإذا بعمرو بن عدي في يده السيف. «فعرفته بالصورة التي صورت لها، فمصت خاتمها، وكان فيه السم، وقالت «بيدي لا بيد ابن عدي، فذهبت كلمتها مثلاً.»

وفي هذه القصة كما ترى خبر خرافة طروادة صار حصانه الخشبي جمالاً تحمل غرائر وسلاحًا ورجالاً. وفيها خبر مقتل قيصر تجعل جذيمة مكان قيصر وابن أخته عمرو مكان اكتافيان ابن أخت قيصر وعمرو بن الجن مكان ليبدوس وقصيرًا مكان أنطونيوس على أن القصة العربية لا تفرق بينه وبين عمرو فيما بعد كما فرقت القصة الرومانية في تسلسل حوادثها فيما بعد بين أكتافيان وأنطونيوس، ولكنه تؤلف بينه وبين عمرو كما كان من ألفة ما بين أكتافيان «وأقريبا» فهو على هذا بمنزلتهما

(1) نفسه 245.

ص: 421

معًا مُزجت قصتهما في شخصه مزجًا، ولعل قصة قيصر نفسها لم تخل من لون خرافي فقد تعلم أنه كان ينتسب إلى الملوك طورًا وإلى الآلهة أنفسهم طورًا آخر (1).

وفي القصة أيضًا نفس من خبر كليوبترة إذ مصرع الزباء كمصرعها واجعل عمرو بن عدي كما قدمنا كأكتفيان.

ثم ذكر المصور ههنا لا ينبغي أن يغفل عنه، لأن هذا خبر أخبرته العرب في معراض أمثالها أو من رووه عنهم. وهو يقوي ما كنا ذهبنا إليه من أمر إعجاب العرب بما كان عند الروم من حذق في التصاوير والتماثيل.

ورواية خبر البواب بالرومية إشعار بأصل القصة كما ترى. وخبر الثأر ستر عربي طبع القصة بطابع عربي وكذلك إراقة الدم في الطست وتمثل الزباء متهكمة أن دم الملوك يشفي من الكلب- ثم في هذا رمزية سنعرض لها إن شاء الله. وخبر استشارة الكاهنة في استطلاع الغيب يوناني عربي معًا. ثم أمر الأسب المضفور.

ههنا فيما نزعم كناية جنسية. وقد بالغت بعض الروايات في أمر هذا الأسب حتى نسب بعضها إليه قوة خارقة. وقد عاد إليه الميداني بعد أن أتم القصة كلها قال: «وفي بعض الروايات مكانقولها أدأب عروس ترى؟ أشوار عروس ترى؟ فقال جذيمة: أرى دأب فاجرة غدور بظراء تفلة. قالت: لا من عدم مواسٍ، ولا من قلة أواسٍ ولكن شيمةٌ من أناسٍ. فذهبت مثلاً» وفي عوده كما ترى شاهد اهتمام. وقريب من عوده عاد المسعودي في سياقه أيضًا (2). والكناية الجنسية فيها نفس من خرافتين إغريقيتين: خرافة نارسيسوس الذي أحب نفسه، وخرافة بيجماليون الذي صنع تمثالاً بيده ثم أحبه، وكلاهما تكنيان على وجهين مختلفين عن الامتناع

(1) راجع ترجمة قيصر في تاريخ كمبروج القديم.

(2)

راجع المسعودي 20/ 21.

ص: 422

الجنسي وتدليه لوعته معًا مضافًا إلى ذلك ما يحدثه الجمال في الأنفس من غرور وحداءٍ إلى هذين المعنيين.

ثم فيها نفس عربي ألف بين هاتين الخرافتين فجمعهما جمعًا وهو نفس الغيرة والفحولة شاهده هذا الدم المراق ممن وفد ليريق منها دمًا. وفي قتله والدها آنفًا شيء من الكناية عن أنه سباها بالقوة إلا بالفعل كما يقول المناطقة.

ونعت الأسب فيه الكناية الصارحة، كالتعريض ببعض عادات الروم إذ قد كانت الختانة والاستحداد من عادات العرب وهذا التعريض لا يخلو من بعض الرغبة.

وفي القصة بعد كثير من أوجه الحدس والتحليل مما لا يتسع له هذا المجال.

وقد عكست العرب خرافة الزباء من حيث السياق والمغزى في خبر ابنة الضيزن ويدعى أيضًا الساطرون وكأن هذا كان اسمه الرومي. إذ زعمت أن أباها كان ملك الحضر وكان عربيًا من إياد. وكان يحب ابنته هذه ويغذوها أجود الغذاء ويكسوها الناعم ويفرش لها الوثير وأنها كانت كالدرة صفاء ونقاء وجمالاً. وأطاف كسرى شاهبور بقصر أبيها فحاصره وطال حصاره له وقيل له أن فتحه لا يكون إلا من طريق سر سخري. وكانت ابنة الضيزن نظرت يومًا فرأت شاهبور فوقع من نفسها. فراسلته بأن ستدله على سر الحصن وتفتحه له. وما هو إلا أن خانت أباها فاقتحم شاهبور الحضر وأوقع بمن فيه وقتل أباها. وكانت تريده ليتزوجها. وقيل أنها كانت على سرير أعده لها قبل بنائه بها فأرقت، فلما سئلت عن أرقها علم أنها جفوة أحستها من السرير. ففتشت أطباقه وإذا بين أثنائها ورقة آس. فعجب شاهبور لهذا من رقتها. وسألها عن حالها وعن عيشها. فقصت ما كان يصنعه لها أبوها. فقال أو قيل له إن كانت هذه قد خانت أباها وكانت تلك حاله معها، فما يؤمن من أن تخون بعلها. فأمر بها شاهبور فربطت إلى الخيل فاجتذبتها فتمزقت شر ممزق.

ص: 423

والقاتل هنا كما ترى هو الرجل وهو أمير فارسي، والمقتولة هي المرأة وهي أميرة عربية. وقد قتل أباها من قبل فهذا بمنزلة سبائها. وقد كانت بتنظفها وتنعمها قبل أن يقتل أبوها بكيدها وبعده كأنها إنما تعد نفسها لتملك، على خلاف ما كانت عليه حال الزباء من طول الحداد وشعثه، «لا من عدم المواس، ولا قلة أواس ولكن شيمة من أناس» . وكأن العرب بعد أن نظفت ابنة الساطرون وهيأتها غارت من أن ينالها الأعجمي شاهبور، فجعلت الموت يسبقه إليها. وغيرة العرب وأنفتها من خيانتها ظاهرة، في هذا العقاب الفظيع الذي أوقعته بها.

وفي القصة بعد ما ترى من الامتناع الجنسي مع التهالك إلى اللوعة وطلب الوصل على وجه من جنون العشق لا يخلو من مدخل روحاني مجازف مستشهد. وهذا يوحي بعطف على الفتاة أو يكاد.

ولا يخفى عليك بعد ما يربط قصة ابنة الساطرون بقصة الزباء من رابط معدن المأساة الكمين في نزاع ما بين عز النفس وذل الهوى وامتناع الذات واستسلام الجنس. وقصة زرقاء اليمامة في خصوبتها ومصيرها ليست ببعيدة كل البعد عن هذا المعنى.

هذا، ومن أمثلة خرافات يونان التي لها مشابه عند العرب، قصة هيلين التي تحارب من أجلها الملوك. وقد جعلت العرب رصيفتها عندهم في هذا الشؤم عوانًا شمطاء هي البسوس وضربوا بها المثل فقالوا اشأم من البسوس واشأم من سراب وسراب ناقتها وهي كناية عنها والسراب كما تعلم مما يفر ولا ينال. وكأن العرب كرهت أن تربط جمال الشباب الوادع الرائع -وكذلك كان نعت هيلين- بمعنى المشأمة والتشتيت. وهذا أشبه بما كان من شأنها في تأليه خصب الشابة وخفضها وتقديس وصونه مع الغيرة عليه. وما كانوا إلا قاتلي «هيلين» لو قد وقعت في خبر من أخبارهم كما وقعت في خبر يونان من خضوعها لباريس وتبعها له حين اجتالها إلى ذلك.

على أن العرب لم تباعد الشباب والجمال الهيليني من قصة البسوس، إذ قد

ص: 424