المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌النموذج العظيم: لقد تذكر، في حديثنا عن مقاييس الجمال، أنا استشهدنا - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٣

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث/ في الرموز والكنايات والصور)

- ‌الباب الأول

- ‌تمهيدطبيعة القصيدة

- ‌تعريف القصيدة:

- ‌أطوار أوزان القصيدة:

- ‌السجع والتقفية:

- ‌الأوزان:

- ‌ما قبل الشعر وأثره في النثر العربي:

- ‌أثر القرآن على البلغاء:

- ‌شاعرية النثر العربي:

- ‌الباب الثانيطبيعة الشعر العربي

- ‌معنى الاختلاس:

- ‌الحركات والسكنات والحروف:

- ‌ القافية

- ‌طور التنويع:

- ‌الرجز والهزج:

- ‌القصيدة والقافية الواحدة:

- ‌حالة الجذب

- ‌منزلة الشاعر:

- ‌الصعلكة والفروسية:

- ‌بطولة الشاعر:

- ‌طريقة القصيدة ووحدتها:

- ‌شكل القصيدة:

- ‌المبدأ والخروج والنهاية:

- ‌الباب الثالثالمبدأ والنسيب

- ‌(1) الرمزية المحضة

- ‌تمهيد:

- ‌رموز الأنثى ورمزيتها:

- ‌(2) رمزية الشوق والحنين

- ‌تمهيد:

- ‌رمزية المعاهد والديار:

- ‌البرق وتوابعه:

- ‌الحمامة والحنين:

- ‌ الأصل النوحي

- ‌الأصل اليمامي:

- ‌الأصل الهديلي:

- ‌الحمامة وبكاء العشاق

- ‌الأثافي والرماد والحمام

- ‌الليل والنجوم:

- ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

- ‌الوداع والظعائن:

- ‌تتمة في الحركة والحيوية:

- ‌أوصاف النساء ومداخل الغزل:

- ‌مدح النساء وذمهن:

- ‌مقاييس الجمال:

- ‌الخمصانة:

- ‌نموذج بين بين:

- ‌النموذج العظيم:

الفصل: ‌ ‌النموذج العظيم: لقد تذكر، في حديثنا عن مقاييس الجمال، أنا استشهدنا

‌النموذج العظيم:

لقد تذكر، في حديثنا عن مقاييس الجمال، أنا استشهدنا بقول عمرو بن كلثوم:

ومأكمةٍ يضيق الباب عنها

وكشحًا قد جُننت به جنونا

في باب ما يبالغ فيه من ضخامة العجيزة. وقلنا إن هذا قد يكون أدخل في باب ما يبالغ الشعراء في أبعاده من نماذج الجمال، وقد تذكر أيضًا أنا استشهدنا بقول الأعشى:

هركولةٌ فتقٌ درمٌ مرافقها

كأن أخمصها بالشوك منتعل

فقلنا فيه نحو من ذلك.

والشعراء مما يعمدون إلى المبالغة في أبعاد نماذج الجمال، خُمصانها وبادنها وما يُخلط فيه بينهما، يريدون بذلك إظهار العجب والفتنة، كما يريدون نوعًا من التأليه. ولعل هذا العنصر الثاني أقوى، وكأنه مستمد من عبادة الخصوبة الأولى. وهم في صنيعهم هذا، كأنهم ينظرون إلى بعض ما كان يصنع أهل الرسم والنحت -ومازالوا يفعلون- من المبالغة في أبعاد التماثيل والتصاوير. ومن ذلك مثلاً عذارى يونان الحاملات سقف الأكروبوليس، ومن ذلك أيضًا تماثيل أفروديت نفسها متجردة، أو ذات قلادة أو ذات ثوب. ولا ريب أن مناة واللات والعزى قد كن أحجارًا ضخامًا. هذا، وصناعتا الرسم والنحت كلتاهما تتيحان من ضبط نسب الأبعاد، وإن بولغ فيها، ما لا تتيحه صناعة البيان. ذلك بأن هذه أداتها اللسان والسمع، وتينك أداتهما اليدان والبصر، ولليدين والبصر من المقدرة على إيقاع النسب المكانية وتحدديها لدى الإدراك، ما ليس للسمع واللسان، إلا مع الجهد البالغ وإعمال الخيال.

وأحسب أنه من أجل هذا ما اضطر الشعراء، حين يبالغون في أبعاد نماذج ما

ص: 496

يصفون، إلى المقارنة بين بادنها وخمصانها. وكان الخلط أيسر لديهم كما سترى عند الأعشى، إن شاء الله. ومهما يكن من شيء، فالتبدين يغلب الخمص عند المبالغة، لأن الخمصانة حين يزاد في معنى طولها، تحتاج من التبدين، إلى أكثر مما تحتاج إليه الفارهة حين يزاد في معنى فراهتها من التضمير، لكيما يتم التناسب.

والآن حين نأخذ في الأمثلة. قال عمرو بن كلثوم:

تريك إذا دخلت على خلاءٍ

وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطلٍ أدماء بكرٍ

هجان اللون لم تقرأ جنينا

وثديًا مثل حق العاج رخصًا

حصانًا من أكف اللامسينا

ومتنى لدنةٍ سمقت وطالت

روادفها تنوء بما يلينا

ومأكمةً يضيق الباب عنها

وكشحًا قد جننت به جنونا

وساريتي بلنطٍ أو رخامٍ

يرن خشاش حليهما رنينا

وضخامة هذا النموذج بينة. والمنعوتة كاعبٌ بكر، مؤلهة الخصوبة، يدلك على نأليهها أنه شبهها أول شيءٍ بالناقة العيطل أي الطويلة، الأدماء الهجان، أي البيضاء الكريمة الخالصة اللون. وبياض الإبل كما تعلم يضرب إلى صفرة الرمل. وقوله «لم تقرأ جنينا» شاهد بكارتها.

والتمثال تمثال متجردة. إلا أن الشاعر يوهمنا أنها لابسة بقوله «تريك إذا دخلت على خلاءٍ» . كأنها تتراءى. وداعي الإيهام أن نظرته فيها إسراع لمحٍ، لا تأمل متريث كالذي رأيت عند امرئ القيس. وهذا اللمح السريع أشبه بالوافر الذي منه هذه القصيدة، وبالغناء الخطابي المندفع الذي يريده الشاعر منه.

فأول ما لمح ذراعيها كذراعي القلوص. ثم لونها، وكلية أنوثتها وضمرها ونضجها المبتكر. ثم لمح ثديًا منها كأنه حق عاج. وقوله «ثديا لا ثديين» مما يدل على ثوب كان ملقى على الجانب الآخر، على النحو الذي رأينا في بعض نعت النابغة، وعلى

ص: 497

النحو الذي كانت عليه بعض تماثيل أفروديت. وكون الثدي كحق من عاج يدل على ضخامته وأنه مقعدٌ ثابت قوي في موضعه غير رهلٍ أو متداعٍ. وقوله «رخصًا» يُنبئ عن طبيعة أنوثته اللينة الناعمة. ثم احترس من أن يظن أنه مسه فعرف لينه، فقال «حصانًا من أكف اللامسينا» يدلك بذلك على أن قوله «رخصًا» نعت على التوهم لا على الاختبار. ثم إذ بالغ في هيئة الذراعين والحقين وهيئة المرأة كلها حيث شبهها بالناقة الطويلة العنق، الطويلة الجسم، ولا يخفى أن في قوله عيطلاً كالدلالة على أن جيدها أيضًا كان متجردًا مثلها لا قلادة عليه (إذ اشتقاق العيطل فيه معنى العطل) بالغ في نعت طول القامة، فشبهها باللدنة التي سمقت وطالت. وجعل متنيها كمتنى هذه اللدنة التي سمقت وطالت. ومراده باللدنة النخلة. والنخل الطوال، إنما يشتد طوله مع تقادم العهد. فقوله اللدنة ههنا احتراس مما يكون مع تقادم العهد من معاني الجساوة والخشونة. وكأن هذه المرأة نخلة شابة طالت فجأة بما فيها من غضارة ولين وتماسك حتى صارت في سموق ما تبلغه العتاق من النخل الجبار. وإذ طال بالمتنين -وهما جانبا الظهر- هذا الطول، جعل الروادف تنوء بما يلينه، من حملها. وفي نوء الروادف تبدينٌ لها، وتنبيهٌ على أنوثتها. ثم إنه أجمل صورة العجز وما تضم المآزر بقوله:

ومأكمةً يضيق الباب عنها

واحتاج هنا إلى الكساء ليوحي بمعنى الحركة. والباب هنا باب الخيمة، ذراعان أو دونهما. والتمثال بعد متجرد في موضعه لم يتحرك. وعلى هذا، فإن التضخيم الذي ضخمه للعجز لا يضيع معه روح الضمر الذي في النموذج الخمصان، لأن الطول كما رأيت نحوٌ من ثلاثين أو أربعين ذراعًا.

وقد نبه هو على الضمر في قوله:

وكشحًا قد جُننت به جنونا

ص: 498

والكشح منقطع الأضلاع عند الجنب. وفي ذكره بعد المأكمة، إشعار بأن الذي جن به جنونًا حين نظر إليه، إنما هو تناسب انسيابه ضامرًا إلى حيث المأكمة التي يضيق عنها الباب. وذكر حيلةٍ من نحو الانفتال أو القلق ههنا لا يجدي. لأن الجسم المجدول المنصلت الخمصان يتمايل معًا، وهو الذي يصفه ههنا واضطراب القلق والانفتال وما بمجراهما لا يلائمه.

ولكي يكمل الصورة، جعل الساقين اللذين يسندان المأكمة كساريتي بلنط أي عاج أو رخام. ومعنى الارتفاع الهائل ههنا لا يخفى. واستدرك بقوله «يرن» خشاش حليهما رنينًا

لينفي ما يلابس البلنط والرخام من معنى الجمود، لا ليدل على أنها كانت تسعى، تضرب برجليها والحلي يرن. وكأنه يريد أن يقول إنها لو سعت لحدث هذا. وفي ذكره الخشاش مع الحلي، ما يناسب ما ذكره من معنى النخلة، لأن الذي له خشاش ووسوسة حين تتمايل هو أعلاها حيث الذوائب. هذا، وإنما ضخّم عمرو بن كلثوم صاحبته لأن الغرض الذي ساق معلقته من أجله هو الفخر بقبيلته، والادعاء لها أنها كثيرة غزيرة عزيزة قاهرة قال:

وقد علم القبائل من معد

إذا قُببٌ بأبطحها بنينا

بأنا المطعمون إذا قدرنا

وأنا المهلكون إذا ابتلينا

وأنا المانعون لما أردنا

وأنا النازلون بحيث شينا

وأنا التاركون إذا سخطنا

وأنا الآخذون إذا رضينا

وأنا العاصمون إذا أطعنا

وأنا العارمون إذا عُصينا

ونشرب إن وردنا الماء صفوًا

ويشرب غيرنا كدرًا وطينا

ومثل هذه الخصوبة التي يفخر بها لقبيلته -وقد ترى أنه بلغ بها مبلغ التأليه- إنما يلائمها في رمزية النسيب، نعت إلاهةٍ خصبة مساوية لمقدارها، بقوام كالنخلة، وردف كالباب، وساقين كالأسطوانتين من العاج والرخام. وكأن هذه الإلاهة هي بكر قبيلته تغلب التي ولدتها.

ص: 499

ومما يحسن التنبيه إليه ههنا، أنه حين صار إلى نعت نساء قبيلته أنفسهن، بمعرض تذميرهن لهم في ساحة القتال، جعلهن بوادن يضطربن في مشيتهن كاضطراب، متون الشاربين. وإنما جعلهن هكذا، لأنه يريد أن يكنى عن الوصل، ويجعل هذا ذريعة إلى معنى الغيرة، التي من أجلها يستبسل الرجال في الحروب قال:

على آثارنا بيضٌ حسان

نحاذر أن تقسم أو تهونا

أخذن على بعولتهن عهدًا

إذا لاقوا فوارس معلمينا

ليستلبن أفراسًا وبيضًا

وأسرى في الحديد مقرنينا

ترانا بارزين وكل حي

قد اتخذوا مخافتنا قرينا

إذا ما رحن يمشين الهويني

كما اضطربت متون الشاربينا

يُفتن جيادنا ويقلن لستم

بعولتنا إذا لم تمنعونا

ظعائن من بني جشم بن بكر

خلطن بميسمٍ حسبًا ودينًا

وما منع الظعائن مثل ضربٍ

ترى منه السواعد كالقلينا

والآن نصير إلى مثال آخر. قال الأعشى:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعًا أيها الرجل

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهويني كما يمشي الوجى الوحل

كأن مشيتها من بيت جارتها

مشي السحابة لا ريثٌ ولا عجل

تسمع للحلي وسواسًا إذا انصرفت

كما استعان بريحٍ عشرقٌ زجل

ليست كمن يكره الجيران طلعتها

ولا تراها لسر الجار تختتل

يكاد يصرعها لولا تشددها

إذا تقوم إلى جاراتها الكسل

إذا تعالج قرنًا ساعةً فترت

وارتج منها ذنوب المتن والكفل

ملء الوشاح وصفر الدرع بهكنةٌ

إذا تأتي يكاد الخصر ينخزل

صدت هريرة عنا ما تكلمنا

جهلاً بأم خليدٍ حبل من تصل

ص: 500

أأن رأت رجلاً أعشى أضر به

ريب المنون ودهرٌ مفندٌ خبل

نعم الضجيج غداة الدجن تصرعه

للذة المرء لا جاف ولا تفل

هركولةٌ فنقٌ درمٌ مرافقها

كأن أخمصها بالشوك منتعل

إذا تقوم يضوع المسك أصورةً

والزنبق الورد من أردانها شمل

ما روضةٌ من رياض الحزن معشبةٌ

خضراء جاد عليها مسبلٌ هطل

يُضاحك الشمس منها كوكب شرقٌ

مؤزر بعميم النبت مكتهل

يومًا بأطيب منها نشر رائحةٍ

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

وهذه الأبيات مشهورة. واستشهدنا منها آنفًا بقوله «هركولةٌ فنقٌ إلى آخر البيت» - بمعرض التمثيل لنموذج البادنة أول حديثنا عن مقاييس الجمال. وهريرة المنعوتة هنا بادنة بلا ريب. والأعشى مما كان يكلف بالبوادن .. قال:

ومثلك خودٍ بادنٍ قد طلبتها

وساعيت معصيًا لدي وشاتها

وأحسبه كان يفعل ذلك ليجعل من نعت البوادن وسيلة إلى ذكر اللهو والقصص العابث، يتشيطن به، ويفتن سامعيه، ولاسيما الشبان منها. وقد كان له من عشاه، وخفة روحه، وحلاوة جرسه -أليس قد كان يدعى صناجه العرب؟ - ما يرتفع به أن يُزن بريبة أو يؤبن بفجور.

وقد بالغ الأعشى في بدن هريرة. من شواهد ذلك قوله «فرعاء» وهذا طول. وقوله «هركولة فنق» وهذا بدن، وفي الهركولة بعد ما قدمناه من معنى شبه هرقل البطل وقوله:

تسمع للحلي وسواسًا إذا انصرفت

كما استعان بريحٍ عشرقٌ زجل

لأنها تنصرف خفيفة. والعشرق ضرب من النبات إذ يبس ورقة تطاير مع الريح. والتي تكون حال وسوسة حليها مثل زجل العشرق، ينبغي أن تكون هي في

ص: 501

عظم الدوحة أو نحوًا من ذلك. ولا يخلو الأعشى ههنا من نظر إلى عمرو بن كلثوم حيث قال:

وساريتي بلنطٍ أو رخام

يرن خشاش حليهما رنينا

وأحسب الأعشى إنما تعمد المبالغة هنا ليوطئ بذلك إلى السخرية التي سيسخرها بيزيد بني شيبان في أخريات القصيدة حيث قال:

أبلغ يزيد بني شيبان مألكةً

أبا ثُبيتٍ أما تنفك تاتكل

ألست منتهيًا عن نحت أثلتنا

ولست ضائرها ما أطت الإبل

كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهنها

فلم يضرها، وأوهى قرنة الوعل

والبادنة التي تتهتك أنسب شيء لأربه من السخرية، كما كانت الطويلة ذات الساريتين من البلنط أو الرخام أنسب شيء لأرب عمرو بن كلثوم في الذي ذهب إليه من تفخيم شأن قبيلته.

وقول الأعشى «غراء فرعاء» يقابل به قوله «هركولة فنق» من بعد من قبيل ما كنا قدمناه من أن البادنة في نموذج التعظيم قد يخالطها من صفات الخمصانة، من أجل ألا يختل التناسب. وقد احتال الأعشى على صفة الخصر فقال:

ملء الشعار وصفر الدرع بهكنةٌ

إذا تأتى يكاد الخصر ينخزل

وقوله «ملء الشعار» دليل امتلاء، والشعار ما يلي الجسد، ثم قوله «صفر الدرع» دليل خلو كأنه عام، والدرع القميص كله الذي يكون فوق الشعار. والأعشى يصف هنا حركة بلا ريب. وهي حركة الدرع. وإنما ذكر الشعار، كأنه يُجردها من هذا الدرع ليوقع حقيقة الحركة عندك. وذلك أنها حين تتأتى يكاد خصرها ينخزل، فيبدو جانب من درعها وكأنه خال.

ص: 502

وروى أبو عبيدة (1)«صفر الوشاح وملء الدرع» قال: «صفر الوشاح أي وشاحها خال من دقة خصرها وإذا لبست الدرع فهي ممتلئة لضخم عجيزتها، وبهكنةٌ ضخمة الخلق إلخ» . ولا يخفى أن قوله «صفر الوشاح» يناقض «بهكنة» و «فنقا» ونحو ذلك، إلا أتجعل مقاربة الانخزال في الخصر عند التأتي عذرًا له. وليس عندي في قوة الرواية الأولى. والله أعلم.

وقد بدأ الأعشى نعته هريرة في حالتيها ماشيةً إلى بيت جارتها وآئبة منه، وذلك قوله:

غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها

تمشي الهويني كما يمشي الوجى الوحل

هذا عند الذهاب:

كأن مشيتها من بيت جارتها

مشي السحابة لا ريثٌ ولا عجل

تسمع للحلي وسواسًا إذا انصرفت

كما استعان بريحٍ عشرقٌ زجل

وقوله «من بيت جارتها» وقوله «انصرفت» شاهدان أن هذا من صفة الإياب. ثم أخذ في تفصيل الأول. فزعم أنه تزور جيرانها فلا يكرهون طلعتها، ذلك بأنه لا تفشى من أسرارهم. ولا يخفى أنها في هذا البيت برزة زءور. والشاعر ينعتها فيه عند آخر مطافها، حين بلغت الجيران فاسبتشروا بها. ثم يئوب إلى حين همت بأن تزور فيخلع عليها صفة المترفة، التي تكاد يغلبها الكسل أن تخرج من دراها. وهذه بلا شك صفة سمتٍ منها تتكلفه تكلفًا، للذي أعلمناه الشاعر من أنها زواره. ومراده من نعت هذا السمت الذي تتكلفه، أن يجعله في مقابلة أريحيتها وتبرجها حين يتلئب بها سنن المسير. ولا يخفى أنه بهذا يوحي لنا بسجية من ساحرةٍ خلوب.

(1) ديوانه ص 42، حاشية- (5 - 8).

ص: 503

ثم يرجع بنا إلى حال لقائها مرة أخرى، ليقابل به ما ذكره من سمت تشددها:

إذا تعالج قرنًا ساعة فترت

وارتج منها ذنوب المتن والكفل

وفتورها ههنا تفتر. وارتجاج متنها وكفلها -أو كما قال- «ذنوب المتن والكفل» تراءٍ منها ذو ثقةٍ بما تعلم من نفسها من حسن منظر وشباب. والذنوب الدلو. وأراد أن ارتجاجها كما ترتج الدلو مملوءة يضطرب ماؤها ويتحدر من جانبيها. وفي هذا كالنظر إلى قول امرئ القيس: «إذا استحمت كان فيض حميمها البيت» . ثم كأن الأعشى مر بهريرة وهي في هذه الحال. من ترائيها إذ قوله «ملء الشعار وصفر الدرع بهكنةٌ» كأنما هو تأملة مارٍّ. ثم كأنه إذ حياها أعرضت عنه إعراضة متجاهلة مزدرية. وهنا يذهب الأعشى قريبًا من مذهب الملاحاة، كالذي رأيت عند عبيد، ويفتعل مسرحية من الرثاء لنفسه إذ يقول:

أأن رأت رجلاً أعشى أضر به

ريب المنون ودهرٌ مفندٌ خبل

ثم يتخابث بكالوحي إلى سابقة من تجربة كانت بينها وبينه:

نعم الضجيع غداة الدجن تصرعه

للذة المرء لا جافٍ ولا تفل

وهنا نظر إلى قول امرئ القيس «هونةً غير مجبال» و «مرتجةً غير متقال» . وظاهر الأداء يحتمل أن يكون الأعشى جاء بوحيه هذا ليهون من أمر الصدود الذي كان. ولا يخفى بعد مراده من محض الأرب إلى مفاكهة سامعيه بما ينعت لهم من أمر اللذة واللعاب.

ثم يعود إلى تفصيل شيء ما أجمله إذ وصف الأوبة فيقول:

هركولةٌ فنق درمٌ مرافقها

كأن أخمصها بالشوك منتعل

ومن يكون أخمصه منتعلاً بالشوك، يحمل على أمشاطه، وكأنه مندفع في شيء

ص: 504

من إسراع. وإذ حالها آئبة ليست بحال من تقبل على افتنان تعمده من تراء وتبرج، فالشاعر يصف هيئتها كاملة مدبرة تسعى. واجعل هذا. كما قدمنا -ازاء قوله «غراء فرعاء» إذ الغراء مقبلة دالفةٌ. وكونها هركولة، في قامتها ومشيتها- طبعٌ طبعته، وهو سر جمالها المنعوت، وليس في ذلك فضل تزيد متعمد كالذي كان منها حين حيت صاحباتها ففترت وارتج منها ذنوب المتن والكفل.

ثم رجع الأعشى من هذه النظرة التي نظرها إليها وهي مولية كالسحابة لها عشرقٌ زجل كالرعد، إلى عهدها حين أول ما غادرت الجارات، يجعل ذلك في مقابلة تشددها حين كان يصرعها الكسل وأول ما همت بالزيارة:

إذا تقوم يضوع المسك أصورةً

والزنبق الورد من أردانها شمل

وإنما احتاج الأعشى إلى أن يجعل المسك أصورة لأن هريرة عظيمة الجسم، مع ما يدل عليه هذا من ترفها، ولا يخفى ما في قيامها على هذا الوجه من تثاقل وونى. وقد نظر الأعشى إلى قول امرئ القيس في بادنتيه:

إذا قامتا تضوع المسك منهما

ثم لا يخفى أيضًا ما ستتركه أصورة المسك هذه وأردان الزئبق من أريج يستمر بذكرى هريرة بعد خروجها إلى حين.

ثم يجيء تشبيه الروضة.

والشاعر يجعله إجمالاً لما سبقه، كما أجمل بأبيات المشية تفصيله بعدها. وإشراق الروضة ومضاحكتها للشمس -وذلك قد كان ضحًا كما ترى من السياق- أظهر لبهجتها وأبهتها. وهذا كأنه تمثيل لحال هريرة حين تزور. ونشر ريا الروضة واختضابها بالأصيل. كأنه تمثيل لحالها حين تئوب وهي هركولةٌ فنقٌ إلى آخر ما قال. ثم عاد إلى معنى ما كان ذكره من صدودها، وإلى ما افتعله من الملاحاة ومسرحية

ص: 505

الرثاء لنفسه، ففرع من ذلك صورة أيما هازلة:

عُلقتها عرضًا وعُلقت رجلا

غيري وعُلق أخرى غيرها الرجل

وعلقته فتاةٌ ما يحاولها

من أهلها ميتٌ يهذي بها وهل

وعلقتني أخيرى ما تلائمني

فاجتمع الحب حب كله تبل

فكلنا مغرمٌ يهذي بصاحبه

ناءٍ ودانٍ ومحبولٌ ومحتبل

وكأن في هذه الصور شيئًا من قصة «أوبرون» و «تيتانيا» و «بك» ذي رأس الحمار التي جاء بها شكسبير في روايته «حلم ليلة منتصف الصيف» .

ثم ضمن الأعشى ما كان تخابث به من نعت الوصل وفاكه به سامعيه في قوله:

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

ومن ههنا تستدل أن ما كان نعته من زيارتها لجاراتها وأوبتها منهن، إنما كان جميعه تمثيلاً- ولم يكن صدودها إلا هذا الذي قالته له حين زار. وقد تعلم أن الرواة زعمت هذا أخنث بيت قالته العرب.

ثم انتقل بعد إلى وصف العارض وألبس صفته له ألوانًا من دعة هريرة وبذخها:

له ردافٌ وجوزٌ مفأم عمل

منطق بسجال الماء متصل

وقوله بعد:

لم يُلهني اللهو عنه حين أرقبه

ولا اللذاذة عن كأسٍ ولا الكسل

إنما هو تذكير لنا، بأنه بالذي ذكر من نعت هريرة وبالذي سيذكر من نعت البرق ومجلس الخمر إنما يتشاغل، كأنه غير آبه ليزيد بني شيبان. ثم إنه من بعد سينزل به عقوبته كشر ما يكون العقاب. والتشاغل بالنظر ولهو الحديث ومطايبة

ص: 506

الغزل مع القراه البوادن. وبالتأمل والشجن والذكريات إذ يلوح العارض السبحل، وبالمرح والسكر والشواء يحمله المشل الشلشل، كل ذلك مع الهزل والتشيطن والمفاكهة مما يكون أبلغ في التنبيه على معنى فحولته هو، حين يُقبل على الجد وينازل الأقران:

قالوا الطعان فقلنا تلك عادتنا

أو تنزلون فإنا معشرٌ نزل

وحسبنا بعد هذا القدر عن لامية هريرة.

وقد جاء الأعشى بنموذج البادنة العظيمة متجردة في كلمته التي مطلعها:

صحا القلب من ذكرى قتيلة بعدما

يكون لها مثل الأسير المكبل

وفيها يقول يصف ردفها:

ينوء بها بوصٌ إذا ما تفضلت

توعب عرض الشرعبي المغيل

أي الواسع. والشرعبي ثوب ذو أذيال يخرج به ولا يتفضل، فكأن هذه لا تتفضل ولكن تتجرد، لأنها متى تفضلت ضاق عنها الشرعبي الواسع وهو لبسة خروجها، أو كأنها تتفضل حين تتفضل بالشرعبي، الذي يخرج به غيرها، لأن ضخامة عجيزتها لا يصلح لها غيره، وهو نفسه عنها يضيق:

روادفه تثني الرداء تساندت

إلى مثل دعص الرملة المتهيل

ومثل هذه تكون كزوجة أنتفاتس، التي اختطفت هي وزوجها أحد رفاق أوذيسوس الثلاثة ليتعشيا به (1). والمبالغة في صورتها وأبعادها لا تخفى.

هذا، ولولا ما في القصيدة من تخابث بالتفصيل الفاحش لجئنا بها كاملة

(1) الأوديسا 158 الترجمة الإنجليزية طبعة بنجوين.

ص: 507

ههنا. فليرجع إليها في موضعها من الديوان، لقوة دلالتها على ما نحن بصدده من نموذج البادنة العظيمة.

ونصير الآن إلى مثال ثالث نختم به. وهو من قصيدة المرار التي مطلعها:

عجبٌ خولة إذ تنكرني

أم رأت خولة شيخًا قد كبر

والقصيدة من المفضليات، والمرار شاعر إسلامي. والقصيدة كلها مسوقة من أجل النعت للمتجردة العظيمة أو قل المعظمة التي في آخرها. والشاعر يستهل بنموذج من الملاحاة لا يقف عنده غير قليل ريثما ينتقل إلى نعت حصان:

سائلٍ شمراخهُ ذي جببٍ

سلط السنبك في رسغٍ عجر

وقد تبطن به واديًا جاده الغيث عازبًا. ثم يفتن في نعت هذا الحصان ويبالغ في أرنه ونشاطه:

ذو مراحٍ فإذا وقرته

فذلولٌ حسن الخلق يسر

بين أفراسٍ تناجلن به

أعوجيات محاضير ضبر

ثم ينتقل من الحصان إلى صفة ناقةٍ عيدية مرحة نشطةٍ كهذا الحصان «رسلة السموم سبنتاة جسر» .

راضها الرائض ثم استعفيت

لقرى الهم إذا ما يحتضر

ويشبهها بحمار فحل أقب بين آتن قب، وقد نشت عنها المياه لما اتقد حر الصيف فهيجها وجعل يخبط بها الأماعز في طلب الماء. وهذا الحمار أشبه شيء به هو في فحولته، إن بك الحصان ذو الشمراخ، والسبنتاة البازل أو التي جاوزت البازل، مما يشبهان روعة فتاته، ونزق حبه لها.

ثم إذ مهد بفحولة الحمار الوحشي لفحولة نفسه، جعل يفتخر-فذكر أول

ص: 508

شيء أنه يدخل أبواب الملوك مقبولاً مكرمًا لا يحتاج في ذلك إلى أن يرشو حاجبها. ثم ذكر أن له حسادًا يحسدونه على هذا من منزلته. وأن من أرباب الملك من تحدثه نفسه بالتعالي عليه، وهو لعزة نفسه لا يبالي به، ولا يهوله وعيده:

أنما من خندف في صيابها

حيث طاب القبص منه وكثر

ولي النبعة من سلافها

ولي الهامة منها والكبر

مولي الزند الذي يورى به

إن كبا زند لئيم أو قصر

وأنا المذكور من فتيانها

بفعال الخير إن فعلٌ ذكر

أعرف الحق فلا أنكره

وكلابي أنسٌ غير عقر

لا ترى كلبي إلا آنسًا

إن أتى خابط ليلٍ لم يهر

كثر الناس فما ينكرهم

من أسيفٍ يبتغي الخر وحر

وحين يبلغ هذه الذروة من نشوة الافتخار بنفسه بين نادي قومه من خندف، تميمها وأسدها وهذيلها وكنانتها وقريشها جميًا، يلتفت إلى النسيب:

هل عرفت الدار أم أنكرتها

بين تبراك فشسى عبقر

جرر السيل بها عثنونه

وتعفنها مداليج بكر

يتقارضن بها حتى استوت

أشهر اليف بسافٍ منفجر

وترى منها رسومًا قد عفت

مثل خط اللام في وحي الزبر

قد نرى البيض بها مثل الدمى

لم يخنهن زمان مقشعر

وقد وهم «ليال» فحسب أن قوله «هل عرفت الدار أم أنكرتها» أول قصيدة أخرى أقحمت في القصيدة التي قبلها لمكان الروي والوزن. وإنما أتى «ليال» في وهمه هذا من جهة ابن قتيبة إذ قال في الشعر والشعراء عن المرار (1) «وهو القائل في

(1) الشعراء 679.

ص: 509

الخيل قصيدته التي أولها:

هل عرفت الدار أم أنكرتها

بين تبراك وشسى عبقر

قال ليال (1):

Ibn Qutaybah evidently knew the second poem as a separate piece، for the quotes (Shi'r-439) V.53 the first verse of qasidah though he carelessly says that it is about horses).

وإنما جئنا بنص ليال للتنبيه على هذا الذي جعله بين الأقواس منه.

وفحوى كلام «ليال» أن ابن قتيبة كان يعلم من أمر القصيدة الثانية، فيما زعم، التي مطلعها «هل عرفت الدار أم أنكرتها» ، ولكن قوله أنها في الخيل، «قول لم يتدبره» . وهذه جسرةٌ من «ليال» أحسب جرأه عليها ما كان وطن عليه نفسه من دعوى الاختلاف في الروح والموضوع بين شطري هذه القصيدة من قوله «عجبٌ خوله إلخ» وهو أولها إلى قوله «كثر الناس إلخ» وهو الثاني والخمسون»، ومن قوله «هل عرفت إلخ» وهو الثالث والخمسون، إلى قوله «ما أنا الدهر بناس ذكرها» وهو المقطع.

ولعمري لم يكن ابن قتيبة بمن يقال عنه «لا يتدبر» . وما كان ليقول إن هذه القصيدة في الخيل إلا وهي عنده في الخيل. على أنه يُحمد «لليال» أن قد فطن إلى ما يكون من وحدة النفس واتصال أطراف الموضوع في القصيدة العربية، بشاهد هذا الذي ادعاه من الاختلاف ههنا حتى جعله ذريعة إلى النقد الذي نقده. وقد نبهنا إلى هذه الحسنة منه أول حديثنا في التمهيد عن وحدة القصيدة، ثم حين عرضنا لعينية سويد، وقد توهم فيها من الانقسام قريبًا مما توهمه ههنا، كما مر بك.

(1) الترجمة- 49.

ص: 510

وجلي من قول ابن قتيبة أن مطلع هذه القصيدة:

هل عرفت الدار أم أنكرتها

بين تبراك فشسي عبقر

أنه قد كان لها ترتيب آخر غير الذي في المفضليات. ولا يستبعد أن هذا الترتيب الآخر قد كان مما رتبه الشاعر نفسه ثم عدل بعد عنه. ذلك بأن القريض مما يقع فيه مثل هذا: تنثال القوافي والمعاني على الشاعر في المضمار الذي هو فيه. ثم إذا فرغ أحس أن كلامه لم يستقم بعد، وأن لا مزيد على ما قال. فيحتاج إلى أن يقدم ويؤخر وربما حذف الزوائد أو ما أحسه فيه أنه دخيل. ولا يزال في هذا المجرى، حتى ترضى نفسه عما يصنع، ويرى أنه قد استقام. وإلى هذا أو إلى نحو منه أشار عدي بن الرقاع العاملي حيث قال:

وقصيدةٍ قد بت أجمع شملها

حتى أقوم ميلها وسنادها

نظر المثقف في كعوب قناته

حتى يقيم ثقافه منآدها

وقد كان القوم في العهد الأموي مما يكتبون ما ينظمون، كما كانوا يروونه أيضًا. فربما اتفق لشاعر أن يذيع كلمة، يرى أن أمرها قد استقام، ثم يبدو له فيعود إليها بعد ذلك، يزيد أو ينقص أو يقدم أو يؤخر. ومن أمثلة هذا دماغة جرير، فقد ذكروا أن آخرها قد كان بيته:«فلا كعبًا بلغت ولا كلابًا» وبعده أبيات عدد كما تعلم في الديوان، لاشك أن جرير أضافها بعد ما كان أنشده. والحديث في هذا الباب يطول. وقد سبق أن ألمعنا إلى شيء منه في ما كنا مهدنا به، ونأمل أن نفصل فيه من بعد إن شاء الله.

ولعل الترتيب الذي عرفه ابن قتيبة من قصيدة المرار، كان هكذا: المطلع قوله «هل عرفت الدار» كما ذكر، ثم تستمر القصيدة إلى قوله «ما أنا الدهر بناسٍ ذكرها» ثم يلي هذا «عجبٌ خولة إذ تنكرني» وتستمر القصيدة بعد إلى قوله «كثر

ص: 511

الناس» فيكون هو المقطع. ويجوز أن قد كان نعت الناقة سابقًا لنعت الخيل. ونعت الخيل عشرون بيتًا من البيت السابع إلى السادس والعشرين في الترتيب الذي في المفضليات.

وإذا صح هذا أو نحو منه، وإذ النسيب مهما يطل، فهو من قري مفتتح القصيدة، فلا غرابة أن يزعم ابن قتيبة مع الترتيب الذي وقع له، أن القصيدة في الخيل. ولعمري لو قد كان وقع له ترتيبها الذي في المفضليات، لكان جعلها في الخيل شبيهًا بمذهبه، للذي كان يراه من إيثار شرف المعنى، ومعنى الفروسية الذي في صفة الخيل أشرف من معنى اللهو الذي يكون في صفة النساء. وقولنا:«وإذ النسيب مهما بطل إلخ» . مرادنا منه التنبيه على ما كان يجيء من تطويل النسيب في تضاعيف الشعر الأموي. بلغ جرير مثلاً بالنسيب سبعة وخمسين بيتًا من قصيدة ذات اثنين وسبعين بيتًا هجًا بآخرها الأخطل (1). وبلغ به واحدًا وثلاثين بيتًا من أخرى فيها نيف وتسعون بيتًا، هجا بها الفرزدق، وبلغ به الفرزدق واحدًا وثلاثين بيتًا في فائيته المجمهرة (2)، وقد نبه ابن قتيبة إلى ما يكون من نحو هذا في معرض حديثه عن ضرورة مراعاة التناسب في طول أقسام القصيدة من نسيب وغيره، من مقدمته الرائعة لكتابه الشعر والشعراء. قال: «فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام فلم يجعل واحدًا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد. فقد كان بعض الرجاز أتى نصر بن سيار، وإلى خراسان لبني أمية، فمدحه بقصيدة، تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات فقال نصر: «والله ما أبقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيفًا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فأتاه فأنشده:

(1) وهي نونيته بان الخليط ولو طوعت ما بانا- ديوانه 593.

(2)

عزفت بأعشاش وما كدت تعزف» - ديوانه 551.

ص: 512

هل تعرف الدار لأم الغمر

دع ذا وحبر مدخةً في نصر

فقال نصر، لا ذلك ولا هذا، ولكن بين الأمرين. أهـ»

هذا، وعندي أن ترتيب قصيدة المرار الجيد هو الذي في المفضليات. رواه ابن الأنباري عن أحمد بن عبيد بن ناصح وعن ثعلب وعن غيرهما من التقات. وهؤلاء فرسان الرواية. ولم يشر ابن الأنباري إلى تقدم يروي في البيت الثالث بعد الخمسين. وما كان ليخفى عنه مقال ابن قتيبة، للذي صح عنده من رواية ترتيبه (1).

وقد ذكر أن أبا عكرمة لم يرو القصيدة كلها، وهذا كان يلزمه إياه ما كان هو عليه من منهج البحث.

وقد نظر المرار -فيما أرى- إلى عينية سويد بن أبي كاهل، وقد تعلم كما قدمنا أن المرار شاعر إسلامي، وكان معاصرًا لجرير والفرزدق، وكان سويد بن أبي كاهل مخضرمًا من المتقدمين، وعينيته مما اشتهر من الشعر، وقد تمثل الحجاج بأبيات منها يوم رستقاباذ، منها قوله:

كيف يرجون سقاطي بعدما

جلل الرأس بياضٌ وصلع

(وقد أشرنا إلى هذا في كتابنا المرشد في الجزء الأول منه بمعرض الحديث عن بحر الرمل) فكل هذا مما يسوغ ما نزعمه من نظر المرار إليه هذا وكأن المرار حين نظر إليه عمد إلى شيء كأنه عكس لمذهبه، ليلائم بذلك ما كان من أربه هو. ذلك بأن سويدًا قد ذكر رابعة في مستهل حديثه، ليذمر بها نفسه على ما كان يريد أن يقدم عليه من حرب ونفار. ثم لما حمى عاد إليها مرة أخرى، ليزيد بها تذميره لنفسه مرة أخرى، كالذي قدمنا لك عند الحديث عن قصيدته. أما المرار فإنه قد بدأ بنموذج الملاحاة كما قدمنا لك في قوله:

عجبٌ حولة إذ تنكرني

أم رأت خولة شيخًا قد كبر

(1) شرح المفضليات- 142.

ص: 513

وهو كأنه نفار مدعي، والخصم، كما ترى، فيه امرأة، لا قرنٌ ألد. ثم خلص من هذا النفار المدعي إلى ذكرى الماضي التي تصحب نموذج الملاحاة فجعلها وسيلة إلى الفخر بما اكتمل عنده من أداة السراوة والفروسية والفحولة كما رأيت وكأنه بهذا الفخر قد هيأ لنفسه أن ترضى عنه الفاتنة التي سيصفها من بعد- (وخولة التي في المطلع رمز لها أو كناية عنها) ثم تؤثره على غيره فيكون لها بعلاً. فالفخر كما ترى له من مكان التذمير وإثارة النشوة في نفس الشاعر حتى يصدح بعشقه ومعاني ما استحسنه من جمال هذه الفاتنة، كما للنسيب وحديث رابعة في قصيدة سويد. وهذا تأويل قولنا آنفًا إن المرار قد عمد إلى شيء من عكسٍ لمذهب سويد.

والفخر بمشهد من النساء أو إزاء النساء بأرب منالة الرضا عندهن ثم التغني من محاسنهن معروف في مذاهب البداوة العربية وقد أشرنا إلى نحو منه بمعرض حديثنا عن الظعائن والغيرة. وقول عنترة بن شداد:

هلا سألت الخيل يا بنة مالكٍ

إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي

ونحوه، مما يشهد به.

ولبدو البقارة عندنا، من سليم وبني جرار ومن حولهم، مذهب يسمى «انتبر» أي الفخر مع التغني، كأنه بقية بقيت من هذا الذي نذكره من مذاهب البداوة العربية القديمة. يقف أحدهم أمام مجمع النساء في الأعراس وما بمجراها من الأفراح «فيتنبر» أي يتغنى ويفتخر، ثم يكون هذا منه ذريعة يتذرع بها إلى الغزل، يذكر اسم من يهواها أو يرومها أن تهواه، أو قل اسمًا يكنى به عن اسمها. من أمثلة ذلك قول أحدهم (1).

(1) أنشدت هذه القطع بأبي ركبة وهي مسجلة بأصوات منشدها ومن حوله. الحربة هايلة أي يهول منظرها. الدبوقة: شعر صاحبته. أي شعرها تتمايل ذوائبه الطوال. لابسين إلخ أي نحن لابسون أخلاق الثياب للموت أو الدروع للموت وعليها الدم، زينب: اسم صاحبته يريد أن يرضى عنه. الكوراك: الصياح من أجل الفزع والقتال. ضرب- علا: قايله: أي نصف النهار.

ص: 514

الحربه

هايله

والدبوقة

مايله

لابسين خليق الموت الدم شايله

زينب الكوراك ضرب قايله

وقول الآخر (1):

شدينا

عجنا

فراشنا غباش، زادنا غله

باسم بنيه الشام للشر بدلى

وقول الآخر (2):

بكيرة العقال

اللابسة الضهب تلال

طعن أم يد يام فلجًا ريقان بشبع الحوام

نحو هذا كثير، ودلالته على ما نحن بصدده واضحة.

هذا، وقد؟ ؟ ؟ لمرار نموذج فاتنته، ولكنه لم يبلغ بطوله أربعين ذراعًا كما فعل ابن كلثوم فيما حدثنا لا ببدانته وضخامته أن يجعله كعملاقة أنتفاتس في الأوذيسا،

(1) شدينا: أي شددنا؟ ؟ ؟ . عجنا: أي عجلنا بإخفاء اللم حتى كأنها مدغمة. فراشنا غباش: أي افترشنا الكلأ اليابس ويسمى الغبا، لأن لونه أغبش. زادنا غلة: الغلة حب الذرة يغلي مع الماء وهو زاد زهيد. يدل بهذا على حال اخشيشانهم، باسم بنية الشام: أي باسم الفتاة الشامية. للشر بدلي- أي أتدلى إلى الشر باسمها.

(2)

بكيرة العقال. أي الكرة التي في العقال شبه فتانه ببكرة من الإبل قلوص لها عقال. اللابسة الضهب -أي اللابسة حل الذهب. تلال- أي أقراطًا ثقالاً. طعن أم يد. - أي الطعن باليد من قريب يعني طعن الأعداء في الحرب. يام فلجا. - ياذات الفلج. ريقان أي صفوف، يا ذات الفلج المصفوف. يشبع الحوام. -أي يشبع الصقور التي تحوم. أي أنا أغدو إلى الحرب وأطعن هذا الطعن الذي يشبع الصقور.

ص: 515

كما فعل الأعشى، ذلك بأن نحو هذا التأليه لم يكن من أربه. وإنما كان يريد أن يظهر مدى ما فتنته صاحبته، ومدى ما تعاظمه من أمرها، بالمبالغة في تصويرها تمثالها. ولعله لم يرب بطوله على عشرة أذرع وقد جعله بين البادنة والخمصانة وأصاب بذلك آرابا شتى- منها معنى الخفض الذي كان أغلب على مذاهب الإسلاميين ومنها معنى بعد المنال الذي يكنى عنه الطول والضمر، وأماني الوصال التي يكنى عنها البدن واللين، ومنها بعد، حفظ النسبة، على النحو الذي قدمنا به لحديثنا عن النموذج العظيم في أول هذا الباب.

هذا وقد قدم المرار أمام نعته لفاتنته صورةً مجملة لأترابها بعد أن ذكر الدار وعفاءها. وقد جعل أترابها بادنات ناعمات، ليجيء بها من بعد فتفرعهن طولاً، وتبذهن فراهة حسن، ثم ليجعل من الغناء بهن نشوة تهيء له جو الغناء بها. قال:

هل عرفت الدار أم أنكرتها

بين تبراك فشسي عبقر

جرر السيل بها عثنونه

وتعفتها مداليج بكر

وهي الرياح تدلج وتبتكر:

يتقارضن بها حتى استوت

أشهر الصيف بسافٍ منفجر

وبساف متعلق بيتقارضن. أي تناوبتها هذه الرياح بسوافيها حتى استوت أشهر الصيف:

وترى منها رسومًا قد عفت

مثل خط اللام في وحي الزبر

وهذا تشبيه دائر في عفاء الديار:

قد نرى البيض بها مثل الدمى

لم يخنهن زمانٌ مقشعر

ص: 516

كالذي زعم من زمانه هو إذ بلاه بالشيب وحنا الظهر في أول الذي ذكره من الملاحاة.

يتلهين بنومات الضحا

راجحات الحلم والأنس خفر

ونومهن الضحا شاهد نعمتهن. ورجاحة حلمهن وأنسهن نعت لسجايا منهن تلائم ما سيذكره بعد من بدنهن:

قطف المشي قريبات الخطى

بدنًا مثل الغمام المزمخر

يتزاورن كتقطاء القطا

وطعمن العيش حلوًا غير مر

وليس هذا البيت الثاني، وأحسب أنا وقفنا عنده من قبل- بتكرار لسابقه. إذ فيه إيحاء بشعور المرار إزاء ما رأى من حال هؤلاء الفتيات إذ يمشين يتزاورن. شاهد هذا الإيحاء ما يلابس معنى القطا من معنى الخفة. والشعور الذي أحسه هو إنما كان خفة ونشوة طرب وعجب.

هذا ومع الإيحاء قصد إلى تصوير ما هن عليه من خلو بال إذ يتزاورن ويتحدثن لا يشغلن شاغل هم، كما تفعل القطا إذ تقطو عند جانب الغدير، وإذ تلغط وهي تقطو:

لم يطاوعن بصرمٍ عاذلاً

كاد من شدة لومٍ ينتحر

وهذا البيت ظاهر في صفتهن وحقيقته أنه صفة للشاعر نفسه، إذ هو لا يبالي أن يعذله عاذل على هذا الطرب الذي يحسه لذكرى فتاته، وهذا التخرق بالنشوة الذي سيتخرقه حين ينعتها فيبالغ في نعته لها. ومن أجل هذا المعنى المستكن، ساغ له أن يقول بعد:

وهوى القلب الذي أعجبه

صورةٌ، أحسن من لاث الخمر

وهذا مبدأ النعت. وفاتنته التي يصف، أحسبها كانت مختمرة، بدليل قوله:

ص: 517

«صورةٌ، أحسن من لاث الخمر» ، إذ لا يعقل أن هذا أراد به معنى «أحسن النساء» ، على نوع من إطناب، ليس إلا. وفي القصيدة بعد أبيات تقوي هذا المعنى الذي تذهب إليه، سنذكرها في مواضعها. والآن نذكر لك سائر نعته من قوله «وهوى القلب إلخ» إلى مقطع القصيدة، قال:

راقه منها بياضٌ ناصعٌ

يونق العين وضافٍ مسبكر

تهلك المدارة في أفنانه

فإذا ما أرسلته ينعفر

جعدةٌ فرعاء في جمجمةٍ

ضخمةٍ تفرق عنها كالضفر

والضفر بضمتين جمع ضفير وهو ضفائر الشعر، كأنه شبه سبائب خصلها بضفائر غيرها. أو الضفير الحبل يضفر ولا يمر فتله، وعليه يكون قد شبه شعرها بالحبال.

شادخ غرتها من نسوةٍ

كن يفضلن نساء الناس غر

والغرة الشادخ، المتسعة المنتشرة. وأما الدقيقة المستطيلة فيقال لها الشمراخ:

ولها عينًا خذول مخرفٍ

تعلق الضال وأفنان السمر

والمخرف التي ترعى الخريف. والضال السدر البري. والسمر ضرب من شجر العضاه:

وإذا تضحك أبدى ضحكها

أقحوانًا قيدته ذا أشر

قيدته أي جعلت لثاته حما بالنؤور ونحوه. والأشر تحزيز حسنٌ ذو بريق يكون في الأسنان، وهي بضمتين:

لو تطعمت به شبهته

عسلاً شيب به ثلجٌ خصر

ص: 518

بكسر الصاد أي بادر، وهذا من صفة الشراب الممازج العسل إذ الثلج بارد ضربة لازب:

صلته الخد طويل جيدها

ناهد الثدي ولما ينكسر

مثل أنف الرئم يُنبئ درعها

في لبانٍ بادنٍ غير قفر

بكسر الفاء. وأراد أن حلمة ثديها كأنف الغزال أو ولد الغزال وهو الرئم:

فهي هيفاء هضيمٌ كشحها

فخمةٌ حيث يشد المؤتزر

يبهظ المفضل من أردافها

ضفرٌ أُردف أنقاء ضفر

أي رمل عظيم أردف على أنقاء رمل عظيم. والأنقاء جمع نقا وهو الناعم من الرمل:

وإذا تمشى إلى جاراتها

لم تكد تبلغ حتى تنبهر

دفعت ربلتها ربلتها

وتهادت مثل ميل المنقعر

والربلة لحم باطن الفخذ، والمنقع الكئيب المنقعر:

فهي بداء إذا ما أقبلت

ضخمة الجسم رداح هيدر

بداء أي بعيدة ما بين الفخذين، هيدكر أي شابة عظيمة الخلقة:

يضرب السبعون في خلخالها

فإذا ما أكرهته ينكسر

أي لعظمها ونعمتها يضرب في خلخالها سبعون مثقالاً. فإذا أرادت لتلبسه ساقها مع هذا من عظمه، يضيق عن ساقها، فتكرهه فينكسر لامتلاء ساقها وضخامتها كما ترى. وقوتها ينبغي أن تكون فولاذية لتقدر على كسر الخلخال. أم لعلها كانت لها جوارٍ ضخام يعنها؟ وينبغي على هذا أن تكون صاحبة عمرو بن كثلوم التي ساقاها كساريتي بلنط أو رخام- وإنما نظر المرار إليه حيث يقول: «يرن خشاش

ص: 519

حليهما رنينًا». ووزن خلخالها مئون من المثاقيل.

ناعمتها أم صدقٍ برةٌ

وأبٌ برٌّ بها غير حكر

أي بخيل. وهذا كأنه من حديث أم زرع: «طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها» .

لا تمس الأرض إلا دونها

عن بلاط الأرض ثوبٌ منعفر

وهذا مما يقوي ما زعمناه من أنه رآها كاسية. وأذكر بعد قوله آنفًا يصف شعرها «فإذا ما أرسلته ينعفر» - ففي هذا صدى منه.

تطأ الخز ولا تكرمه

وتطيل الذيل منه وتجر

وقوله «وتطيل الذيل منه وتجر» شاهد آخر:

وترى الريط مواديع لها

شعرًا تلبسها بعد شعر

بضمتين جمع شعار وهو ما يلي الجسد من الثياب:

ثم تنهد على أنماطها

مثلما مال كثيبٌ منقعر

أي لعظمها تهوي منهدة على الأنماط، حين تروم الراحة. وهذا من قول امرئ القيس «تميل عليه هونةً غير مجبال» مضافًا إليه قوله:«كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه» . وبالغ المرار بقوله: «تنهد» ليناسب ذلك عظم تمثاله.

ثم في قوله «تنهد» بعد إيحاء بشعوره هو، إذ رآها قائمة تمشي، فجمح بخيال المنى إلى رؤيتها في حال آخر:

عبق العنبر والمسك بها

فهي صفراء كعرجون العمر

والعمر نخلة السكر، وقد شبه لونها بعرجونها الناعم الأصفر كما ترى. ومن

ص: 520

قبل شبه شعرها بالأفنان. فهي كأنها نفسها نخلة. هذا، وقد ذكر في مطلع نعته أن لونها أبيض ناصع. وههنا يصفها بالصفرة. والسبب فيما يبدو لنا أمران. أولهما أنه أراد أن يجعل بياض لونها في مقابلة سواد شعرها. والجعودة مما تنبئ عن شدة السواد في الشعر مع شدة البريق، كما تنبئ عن المتانة فيه والتعقص وهما معناها الأول. فتكون الصورة بهذه المقابلة أقوى. وثانيهما أنه طلب التوسط بين ما كان عليه أهل الأمصار في عصره من استحسان ألوان الجواري الروميات ونحوهن من ناعجات الألوان:

قال رؤبة:

لقد أتى في رمضان الماضي

جاريةٌ في درعها الفضفاض

تقطع الحديث بالإيماض

أبيض من أخت بني إباض

وبين ما كان عليه مذهب العرب من استحسان الصفرة ومقاناة الصفرة كالذي مر بك. وإلى قريب من مذهب المرار هذا في التوسط ذهب معاصره ذو الرمة حيث قال:

حوراء في نعجٍ صفراء في دعجٍ

كأنها فضة قد مسها ذهب

إلا أن ذا الرمة كان أحرص على نموذج القدماء كما ترى. وكأن المرار بقوله «يونق العين» بعد أن قال «راقه منها بياض ناصع» أراد أن يعتذر للعرف لما هو عليه من استحسان الصفرة. وكأنه أيضًا أراد أن يعتذر بنسبة الصفرة إلى الطيب إلى أذواق أهل الأمصار من معاصرين- يقول بذلك لهم إن هذه الصفرة ليست لونها الأصلي ولكن البياض الناصع هو لونها الأصلي.

ص: 521

ومما يشبه هذا في التوسط، إلا أنه آخذ من طريقة القدماء قول الرماح بن ميادة:

فيهن صفراء المعاصم طفلةٌ

بيضاء مثل غريضة التفاح

أي ما يبدو من معاصمها (ويدل هذا على أن وجهها كذلك أيضًا) أصفر اللون وما أكنته ثيابها أبيض كغريضة التفاح. وأحسبه أراد باطن التفاحة الغريضة، وإن يك أراد ظاهر التفاحة، فليس لون صاحبته إلا الصفرة، كلون التفاحة الذهبية التي شغلت «أتلانتا» ، والأخرى التي أرثت بها أفروديت الحرب من أجل هيلين.

إنما النوم عشاءً طفلاً

سنةٌ تأخذها مثل السكر

أي تنام سجحًا، لا يسمع لها غطيط ولا يتغير طعم فيها ثم هي فارغة البال تتلهى بالنوم.

والضحى تغلبها وقدتها

خرق الجؤذر في اليوم الخدر

واليوم الخدر بكسر الدال كيوم الغمام. وأحسبه نظر هنا إلى قول زهير «مغزلةٌ من الظباء تراعي شادنًا خرقا» . لأن الشادن الخرق هو الجؤذر. وكأن المرار إذ سبق له تشبيهها بالخذول المخرف، وهي أم الشادن، أراد أن يجمع إليها مع ذلك صفة ابنها التي ذكر زهير، ليكون هذا أبلغ في الدلالة على غنج أنوثتها، ومرض جفونها.

وهي لو يُعصر من أردانها

عبق المسك لكادت تنعصر

وهذا أيضًا مما يشهد بأنها كانت كاسية حين رآها. وهو من قول الأعشى «والزنبق الورد من أردانها شمل» ، وفيه بعد مبالغة، ووحيٌ من اشتهاء عند قوله «يعصر» .

أملح الخلق إذا جردتها

غير سمطين عليها وسؤر

ص: 522

وقد جردها من خياله كما رأيت في نعته. وكأنه يوهمنا بهذا أنه لم يفعل.

لحسبت الشمس في جلبابها

قد تبدت من غمام منسفر

وهذا من قول النابغة «كالشمس يوم طلوعها بالأسعد» . وقد جعل المراد مكان «يوم طلوعها بالأسعد» «قوله قد تبدت عن غمام منسفر» ونظر فيه إلى قول ابن الخطيم:

تبدت لنا كالشمس تحت غمامةٍ

بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب

أو قول أبي دؤاد:

ويصن الوجوه في الميسناني

كما صان قرن شمسٍ غمام

وفي البيت بعد رجعة إلى المطلع «صورة أحسن من لاث الخمر» ، ودلالته على أنها كانت كاسية مختمرة لا تخفى. ومما يقوي قولنا إن فيه رجعة إلى المطلع ذكر لفظ الصورة من بعد حيث قال:

صورة الشمس على صورتها

كلما تغرب شمسٌ أو تذر

وأول البيت من قول النابغة. وآخره نظر فيه إلى روضة الأعشى في قصيدة هريرة المشرقة التألق بالضحى، المعجبة الحسن والريا عند الأصيل.

ثم أخذ المرار بعد أن أكمل صورة تمثاله بهذا البيت والذي قبله، وختم بنحو مما كان ابتدأ به، في معاني أهل الصبابة والغزل مما كان نافقًا في عصره. فزعم أن فاتنته تركته لا ميتًا ولا حيًا أو كما قال:

تركتني لست بالحي ولا

ميتٍ لاقى وفاةً فقبر

والمعنى قرآني ينظر إلى قوله تعالى {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} ونحو ذلك من

ص: 523

الآيات التي فيها صفة جهنم.

يسأل الناس أحمى داؤه

أم به كان سلال مستسر

وهي دائي وشفائي عندها

منعته فهو ملويٌّ عسر

وهذا كقول عروة عفراء: «جعلت لعرّاف اليمامة حكمه» الأبيات

وهي لو يقتلها بي إخوتي

أدرك الطالب منهم وظفر

وهذا تظرف بمعنى الثأر، وهو كثير عند الإسلاميين، تجده عند عمر وأضرابه. وكنايته عن الاشتهاء لا تخفى. قالت صاحبة ابن الدمينة:

فيا حسن العينين أنت قتلتني

ويا فارس الخيلين أنت شفائي

وكأن المرار ههنا يتمنى التي نعت زوجة له وهذا عسى أن يصحح ما قدمناه من أنه مهد بالفخر ليزكي نفسه عندها وقد علم أن ذلك بعيد المنال. فمن أجل هذا ما قصد إلى التعزي بالذكرى، وهي صيحة تحسر، في قوله:

ما أنا الدهر بناسٍ ذكرها

ما غدت ورقاء تدعو ساق حر

وهذا هو مقطع القصيدة في رواية ابن الأنباري وهي التي نرجحك

هذا والتجريد الخيالي الذي جرده صاحبته تابع لمعنى التعاظم ما بالغ فيه من أبعاد تمثاله، وقد ذكرنا من ذلك في مواضعه، نحو قوله «تهلك المدراة في أفنانه» - وهي صفة شجرة، وقد نعت به شعرها قبل أن ترسله، ونظر فيه إلى قول امرئ القيس:

غدائره مستشرزات إلى العلا

تضل العقاص في مثنى ومرسل

وقوله «جعدة فرعاء» ومن هي فرعاء، وشعرها إذا أرسلته ينعفر، يكون شعرها إيما طويل. ومن الجعودة ألا يسترسل معها الشعر. فهذا يجعله خارقًا كما

ص: 524

ترى. وقوله «في جمجمة ضخمة» وهذا نص في الفخامة وينبغي لمثل هذا الشعر أن تحمله جمجمة ضخمة. قوله «كالضفر» وقد بيناه من قبل. وقوله «يبهظ المفضل إلخ» وهو من الأعشى وقوله «ضخمة الجسم رداح هيدكر» وهذا نص آخر في الضخامة. وقوله «يضرب السبعون في خلخالها» وقد بيناه.

هذا، وقول المرار «يبهظ المفضل من أرادفها» وقوله «مثل أنف الريم ينبي درعها» لا ينقضان ما قدمناه من أمر تجريده الخيالي إذ أن هذا كما تعلم من أساليب الشعراء يجعلونه أقوى في الدلالة على ما ينعتون- كساء خيالي يزيد معنى التجريد الذي؟ ؟ ؟ . ويحسن هنا أن ننبه على أن قوله «تطأ الخز إلخ» وقوله «لحسبت الشمس» كساءان حقًا، ألحقهما بالكساء الخيالي زيادة في الافتتان.

هذا، وأشد ما نظر المرار إلى متجردة النابغة، ثم إلى الأعشى، وقد نظر إلى امرئ القيس كما رأيت من قوله «تهلك المدراة في أفنانه» وقوله «فهي هيفاء هضيم كشحها إلخ» نظر فيه إلى «تمايلت على هضيم الكشح إلخ» من المعلقة وفيه بعد نظر إلى الأعشى والنابغة معًا، وقوله «في لبان بادن غير قفر» وهو من قول امرئ القيس «ترائبها مصقولة كالسجنجل» وقوله «ثم تنهد على أنماطها» وقد بيناه في موضعه. وقد نظر إلى زهير كما رأيت من قوله «خرق الجؤذر» وإلى «عمرو بن كلثوم» في الذي ذكر من صفة الخلخال وإلى قيس بن الخطيم وأبي دؤاد وإلى نموذج الملاحاة وهلم جرا.

وشاهدنا في شدة ما نظر إلى النابغة ثم إلى الأعشى، أن نموذجه في جملته نابغيٌّ، ثم يداخل من الأعشى فيه، يجعل ذلك له زخرفة، ولا سيما في باب خلط مثالي البادنة والخمصانة من حيث دقة الخصر وامتلاء المئزر، ثم يزيده زخرفة بالأخذ من غيرهما كما رأيت. وقد بدأ بنحو ما اختتم به النابغة كلامه واختتم بنحو ما ابتدا به النابغة. وذلك أنه بدأ بصورة صاحبته، ناصعًا بياض وجهها بين شعرها الكثيف،

ص: 525

الذي إذا أرسلته ينعفر، كثوبها المنعفر وهذه كما لا يخفى، صورة متجردة النابعة بين سجفيها. وختم بقوله:

صورة الشمس على صورتها

كلما تغرب شمسٌ أو تذر

كما رأيت، وهذا ما ابتدأ به النابغة. وكأن المرار عكس طريقة النابغة، وذلك أن النابغة لما رأى متجردة حقًا، زعم أنها شمس أعشه شعاعها، ثم جعل يخفض من ضوء هذا الشعاع، لكي يقدر على أن يرى، حتى أصاره ظلامًا ثم جاء بأبياته الستة كما رأيت. أما المرار فإنه لما رأى غير متجردة. غلابه خياله، فجردها، وجعل ضوءها بدريًا لا يُعشى، واندفع يصف، ثم إذا بهذا الضوء يزداد حتى أعشاه فجأةً، فانصرف عنه إلى ظلام الذكرى والبكاء.

وآخر ما نعت النابغة الشعر، وهو هنا أول ما نعت المرار، وذكر بعده الجبهة والعينين والفم. وقد نظر في نعت الجبهة إلى ما كان نعت من حصانه، وذلك قوله فيها «شادخ غرتها» وقوله في الحصان «سائل شمراخه» . والمقابلة التي يداخلها التشبيه لا تخفى ههنا. واجعل قوله «سلط السنبك في رسغٍ عجر» مما نعت به حصانه، بإزاء قوله «يضرب السبعون في خلخالها» مما نعتها به. وفي الحصان بعد معنى من الكناية عن نفسه، كما ألمعنا، من حيث الخفة والأرن والمرح يشبه بذلك مرحه ونشوته لما رآها واهتاج إلى أن يتغنى به- تأمل قوله «شندف أشدف البيت» أي أرن مرح يمشي في شقٍ ويتمايل أرنا ونشاطًا.

وقد ذكر بعد الذي وصفه من إشراف جبهتها، فتور عينيها، ومرضهما ليكون ذلك أبلغ في الدلالة على معنى أنوثتها، وذلك قوله:«ولها عينًا خذول مخرف إلخ» وهو من قول النابغة:

نظرت إليك بحاجةٍ لم تقضها

نظر السقيم إلى وجوه العود

ص: 526

ثم اختصر نعت النابغة للفم والشفتين في قوله «وإذا تضحك» وقوله «لو تطعمت به» وهذا كأنه إشارة تعليق على ما قال النابغة.

ثم صار إلى صفة الثدي حيث قال:

صلته الخد طويلٌ جيدها

ناهد الثدي ولما ينكسر

مثل أنف الريم ينبي درعها

في لبانٍ بادنٍ غير قفر

وانتقال المرار من صفة الخد والجيد إلى صفة الثدي، شبيه بانتقال النابغة حيث انتقل إلى صفة عكن البطن. إلا أن النابغة قد انتقل كأنه يغض بصره، وهذا ممعن في التأمل- وهذا راجع -كما قدمنا- إلى أن النابغة يصف متجردة، والمرار إنما انتقل من صفة الخد والجيد، وكلاهما مما عسى أن يرى، إلى ما قد كان مكسوًا. ولم يعد المرار في صفته قول النابغة:

والإتب تنفجه بثديٍ مقعد

ولكنه عمد إلى تفصيل هذا من معناه. فأوغل في التجريد والتقريب عند قوله «مثل أنف الريم» ، وكأنه قد حرج مما فعل. فألقى عليه نوعًا من ستر في قوله «ينبي درعها» ، وليس بساتره. ثم إن انتقاله من درعها الذي أنباه الثدي إلى قوله «في لبان بادن غير قفر» كأنه يريد أن ينصرف به وينهى نفسه عن النظر إلى ما نظر بشيء من التنبه إلى ما حوله.

ثم صار كالأعشى بعد إلى الجمع بين نموذجي البادنة والخمصانة في قوله:

فهي هيفاء هضيمٌ كشحها

فخمةٌ حيث يشد المؤتزر

وهذه كما ترى كأنها نظرة أخرى بعد تلك. وفي البيت ما قدمنا من أخذ من امرئ القيس، واتباعه معنى النابغة:

محطوطة المتنين غير مفاضةٍ

ريا الروادف بضة المتجرد

ص: 527

لا يخفي. وقوله بعد:

يبهظ المفضل من أردافها

ضفرٌ أردف أنقاء ضفر

وإذا تمشي إلى جاراتها

لم تكد تبلغ حتى تنبهر

طريقة الأعشى فيه واضحة. وكذلك قوله:

دفعت ربلتها ربلتها

وتهادت مثل ميل المنقعر

ولعله أن يكون نظر إلى قول حسان:

بُنيت على قطنٍ أجم كأنه

فضلاً إذا قعدت مداك رخام

وإلى قول امرئ القيس «كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه» والإيحاء الجنسي في قوله «دفعت ربلتها ربلتها» لا يخفى. وأحسبه عمد فيه، سوى ما ترى من تقليد الأعشى، إلى أن يخلص مرة أخرى إلى نموذج النابغة، حيث نعت من متجردته ما لا ينعت. وشاهد ذلك قوله:

وهي بداء إذا ما أقبلت

كأن قوله «يهبظ المفضل إلخ» وصفها مدبرة. وهذا حين تقبل. ومراده من «بداء» لا يخفى. وكأنه حرج منه كما قد حرج من قبل حيث ذكر «أنف الرئم» فانصرف إلى نعتها سائرها في عجز البيت:

ضخمة الجسم رداحٌ هيدكر

ثم أوغل في الانصراف بالنظر إلى ساقها:

يضرب السبعون في خلخالها

فإذا ما أكرهته ينكسر

ثم كساها مرة واحدة حيث قال:

تطأ الخز ولا تكرمه

وتطيل الذيل منه وتجر

لا تمس الأرض إلا دونها

عن بلاط الأرض ثوبٌ منعفر

ص: 528

وهذا ظاهره من قول امرئ القيس:

خرجت بها أمشي تجر وراءنا

على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل

وسائره من معاني ما كان يفتن فيه معاصروه من تصوير الخفض. وقوله «شعرًا تلبسها بعد شعر» من قول الفرزدق:

لبسن الحرير الخسرواني دونه

مشاعر من خز العراق المفوف

وكان المرار من حزب الفرزدق على جرير.

وكساؤه صاحبته مرة واحدة، فيه كالتمهيد للرجعة إلى سجفي النابغة ومتجردتهما. وقد وقف المرار ينظر شيئًا إلى الأعشى قبل أن يُخلص رجعته، كوقفته عند نعت المفضل والمشية أو نحو من ذلك، وذلك قوله:

عبق العنبر والمسك بها

فهي صفراء كعرجون العمر

إنما النوم عشاءً طفلاً

سنةٌ تأخذها مثل السكر

والضحا تغلبها وقدتها

خرق الجؤذر في اليوم الخدر

وهي لو يعصر من أردانها

عبق المسك لكادت تنعصر

ثم يرجع إلى نموذج النابغة في قوله:

أملح الناس إذا جردتها

غير سمطين عليها وسؤر

لحسبت الشمس في جلبابها

قد تبدت من غمام منسفر

صورة الشمس على صورتها

كلما تغرب شمسٌ أو تذر

وهو آخر نعته، وهو مما بدأ به النابغة، كما ذكرنا آنفًا. والسمطان اللذان يذكرهما المرار، قد ذكرهما النابغة: أحدهما ذهب، وهو مما أعشاه، والآخر لؤلؤ، «أخذ الولائد عقده فنظمته» . والسؤر زادها المرار ليجعلها في مقابلة الخلخال، الذي أخذ معناه من

ص: 529

عمرو بن كلثوم، كما قدمنا. هذا وقد ترى أن المرار، في نشوته وتعاظمه مرأى التي رأى، وتجريده إياه من خياله، واشتهائه ما جرد منه- قد أسرف في الأخذ من الشعراء، ليزيد من زينة تمثاله اللفظي. وعسى هذا الإسراف أن يكون مما يُعاب عليه، على الذي يزيد به من معنى الطرب والأرن، وإليهما أراد.

ثم عسى إسرافه هذا -إذا قسناه إلى أساليب الأوائل- أن يكون مما تضح به حجتنا في الذي زعمناه، من نظر شعراء العرب مباشرة أو غير مباشرة، إلى مقاييس الجمال في تماثيل اليونان ومن إليهم. ذلك بأن يمثل من التزيين، شبيه من حيث أمر التطور، شبها شديدًا بمذاهب البدن والتنعيم التي صار إليها التمثال اليوناني في الصبايا الثلاث وما بمجراهن أخريات أيامه. ذلك بأن التمثال الجاهلي كأنما مرت به أربعة أطوار: أولها طور السذاجة والخشونة مع مبالغة الأبعاد التي مصدرها التأليه، ويمثل هذا، ما تمثلنا به، نموذج عمرو بن كلثوم وهو جاهلي قديم. وثانيها طور الإحكام والصقل، ويمثل هذا تمثالاً امرئ القيس، وهو أيضًا جاهلي قديم. وثالثها طور الإتقان والتأنق، وشاهده متجردة النابغة، بما لها من إطار السجفين، وزينة القلادة والنصيف، وشيء من تبدين وتفصيل من نعت. ورابعها طور التنعيم الذي يكون التبدين أغلب عليه، وقد تخالطه أوصاف الضمر، كما يداخله تأليه المبالغة. وتماثيل الأعشى وحسان من شواهد هذا، وهذه الأطوار الأربعة جميعها واضحة فيها هيئة التمثال وصورته. تمثال عمرو بن كلثوم هائل المنظر يروع. وتمثال امرئ القيس ذروة في الحيوية، ناصع الصفاء. وتمثال النابغة ناضج، تام الخلق، بارع باهر، وتمثال الأعشى، على ما يشوبه من شخصيته، واضحة فيه مشية هريرة حين تمشي، وجلوة قتيلة إذ تجلى. وتمثال حسان، على ما تكاد تغمره غوامر الشهوة، بينه فيه قعدة صاحبته إذ قعدت وقطنها الأجم كأنه مداك رخام. وغير خاف أن النابغة كان بعد زمان امرئ القيس. وأن الأعشى متأخر عن عصر النابغة، ولو قد أسلم لربا عد مخضرمًا. وأن حسان مخضرم.

ص: 530

فإذا صرمت إلى الطور الخامس، رأينا أن التمثال قد صارت تخبو جهارة صورته، وقد جعلت تغلب على وضوحه معاني الإيحاء، أيا كان ذلك الإيحاء. وأن أنف الديم الذي يكاد يلمس في رائية المرار، ليس بواضحٍ شكل الثدي الناهد المحتفل فيه وضوحه في قول النابغة:

والإتب تنفجه بثديٍ مقعد

وما ذلك إلا معنى الأرن والنشوة والشهوة هو الغالب في سائر ما نعت المرار. وقل نحوا من هذا في ذي الرمة. إذ كثبانه ولببه وأسباطه وهدبه، كل ذلك لا يعطينا صورة واضحة، كقعدة مداك الرخام في شعر حسان، وكأوصاف الأعشى فيما نعت من بوادنه، بله امرأ القيس والنابغة. وما ذلك إلا أن ذا الرمة ثقل الحلية من التشبيه، بحيث يصرفك به إلى ألوان من الإيحاءات بعضها شهواني وبعضها تأملي، عن حاق النظر إلى التمثال وتبين معالمه.

وكلا المرار وذي الرمة إسلاميان كما تعلم.

فإذا صرنا إلى ابن الدمينة، وهو إسلامي مثلهما، إلا أنه قد تأخر زمانه عن زمانهما شيئًا حتى أدرك خلافة بني العباس، وجدنا أن التمثال عنده لا يراد به إلا إيحاء الهوى والاشتهاء. ومع أن صورته غير غامضة، فليس فيها إلا رسم نموذجي، كصور الصبايا الثلاث. ذلك بأنه لا يتكلف من الصنعة إلا جمع تشبيه مألوف إلى آخر مثله، وقد صرن لديه، تشبيهات امرئ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم معهم، جميعًا، «كليشهات» ، أو ضربًا من «الكليشهات» ، يستعان بهن على الإيحاء ليس إلا. تأمل قوله:

وما كانت بمدلاجٍ خروجٍ

ولا عجلى بمنطقها هبوص (1)

وما كانت بجافية السجايا

ولا صفر الثياب ولا نحوص (2)

(1) مدلاج: مشاءة بالليل. هبوص: ثرثارة.

(2)

النحوص: الأتان التي أصابت حملاً وعتي السمينة ههنا.

ص: 531

ولكن غير جافيةٍ فتقلى

ثقال المشي ذات حشًا خميص (1)

مبتلةٌ منعمةٌ ثقالٌ

تبسم عن أشانب غير قيص (2)

لها جيد الغزال وملقتاه

وعالي النبت ميال العقوص (3)

كأن رضابها عسلٌ مصفى

بماء نقًا بسارية عروص (4)

سلي عني إذا هاب المزجى

وأرعدت الخصائل بالفريص (5)

وتمشي حين تأتي جارتيها

تأود مشية الوحل الوهيص (6)

قوله «وما كانت بمدلاج إلخ» مأخوذ من الأعشى. وقوله «ولا عجلى إلخ» مأخوذ من حسان «بلهاء غير وشيكة الأقسام» وقوله «وما كنت بجافية إلخ» مأخوذ من امرئ القيس «ولا ذات خلق إلخ» . وقوله «ولا صفر الثياب إلخ» مأخوذ من كثيرين منهم امرؤ القيس «مهفهفة بيضاء إلخ» . وقوله «ولكن غير جافية فتقلى» من امرئ القيس ومن الأعشى «ليست كمن يكره الجيران إلخ» وقوله «ثقال المشي» صفة لردفها وهو من الأعشى وغيره. وقوله «ذات حشا خميص» ليقابل ثقل ردفها. وقوله «مبتلة» ليكمل ما نعته من امتلاء ردفها وضمر خصرها بزعمه أنها تامة الخلق مبتلة تبتيلاً. وأضرب عن أن يذكر انفتالاً ونحوه. ليناسب بين ثقل الردف وضمر الحشى، لأن تناسب هذين قد استقر في الأذهان، زمان ابن الدمينة كما يبدو. ولعل عصر ابن الدمينة -خلافًا للعصر الجاهلي

(1) فتقلي: فتكره (بالبناء للمجهول).

(2)

قيص: مما يوصف به فساد الأسنان.

(3)

أي ما عقصته من شعرها.

(4)

عروص من وصف المطر وسحابه إذ امتلأ واهتز أو كاد.

(5)

أي أرعدت الفرائص خوفًا. والمرجى هكذا في الأصل بالراء المهملة ويجوز وفيه لين والصواب إن شاء الله المزجى بالزاي المعجمة كقول الآخر «وبين المزجى نفنف متباعد» (انظر اللسان) وانظر الديوان، تحقيق النفاخ، طبع دار العروبة، مصر ص 65.

(6)

الوهيص كأنه أراد به الوجي من قول الأعشى «كما يمشي الوجى الوحل» .

ص: 532

الذي مر بك فيه حديث عائشة- كان أثرياؤه مما يتعمدون تبدين الفتيات مع إنحال خصورهن بالوشح ونحوها مما يضيق به الخصر ضيقًا مصطنعًا. وقد كان قدماء المرويين كأنهم كانوا يفعلون نحوًا من ذلك بنسائهم. ولعمري إن خلط الأعشى اللفظي بين البدانة والضمر أحكم من هذا، والبشر مما تقع في نحو هذه الأوابد، كتضخيم بعض نساء الزنج مشافرهن حتى تئيض كمناقير طير البحر، وكتصغير أهل الصين أقدام فتياتهم، وهلم جرا.

هذا وقوله «ثقال» «وتبسم عن أشانب إلخ» وقوله «لها جيد الغزال إلخ» كل ذلك «كليشهات» . وقوله «وعالي النبت ميال العقوص» جمع فيه صفة امرئ القيس «غدائره مستشزرات إلى العلا» وصفات المرار:

فإذا ما أرسلته ينعفر

ينظر إليه في قوله «ميال»

وجعدةٌ فرعاء في جمجمةٍ

ضخمةٍ تفرق عنها كالضفر

ينظر إليه في قوله «عالي النبت» وقوله «ميال العقوص جميعًا» . وقوله «كأن رضابها إلخ» كنى به عن وده وصلها، ولذلك جاز له من بعد أن يزكي نفسه ليكون أهلاً لينال من هذا الرضاب، وقوله «وتمشي حين تأتي جارتيها» وهو آخر نعته، كأنه يسلي به نفسه عنها، بتأملها وقد مضت مولية. وهذا كما ترى يهيئ له أن يقبل على المدح وما إليه، كما فعل.

فهذا يبين لك ما زعمنا من نموذجية ابن الدمينة نموذجية أراد منها الإيحاء بالشوق والهوى والاشتهاء دون حاق الوصف نفسه. ولذلك ما جاء «بالكليشهات» لا يزيد عليها كبير شيء.

هذا، والتمثال اليوناني قد آل أمره بعد الصبايا الثلاث إلى التلاشي. وضرب بعد ذلك الزخرف البيزنطي بجران. ونحو هذا قد حدث للتمثال العربي اللفظي إذ قد ضرب زخرف البديع، بعد عهد ابن الدمينة وأوائل المحدثين بجران.

ص: 533

وأوائل المحدثين قد كان في عباراتهم كالإيماء إلى شبح التمثال. وقد كان بشار أبو المحدثين ضريرًا. فكان يعتمد «الكليشهات» ، ويلينها، ويذهب بها مذهبًا من التحسس. ويأرب من وراء ذلك كله أن يشيع إيحاء من الاشتهاء الجنسي. تأمل قوله:

وتخال ما ضمت عليه ثيابها ذهبًا وعطرا

فهذا كليشيه أخذه من قول ذي الرمة «كأنها فضة قد مسها ذهب» ومن قول المرار «عبق العنبر والمسك بها إلخ» ولينهما، وجاء بهما زخرفًا ذهنيًا يوحي بشبح بتمثال امرأة:

وكأن تحت لسانها هاروت ينفث فيه سحرا

وكأن رفض حديثها قطع الرياض كسين زهرا

فهذا كما ترى تليين لكليشهات القدماء في الحديث. وفيه بعد إحداث نوع من الحركة في الشبح القائم الذي أومأ إليه.

ومتأخرو المحدثين قد اختفى التمثال من عباراتهم كل الاختفاء. وحتى إيحاء الشهوة قد تعمدوا أن يتجنبوه إلى مجرد الإمتاع بزخارف البديع، ما كان منها لفظيًا كقول القائل:

وأمرت لؤلؤًا من نرجسٍ وسقت

وردًا وعضت على العناب بالبرد

وما كان منها معنويًا مثل قول القائل:

لقد سلبتني فرنجية

نسيم العبير بها يعبق

وإن يك في طرفها زرقةٌ

فإن سنان القنا أزرق

وقد تنفر أذواقنا عن مثل هذه الزخارف، نعدها تكلفًا وعبثًا لا طائل وراءه. وإنما

ص: 534

تنفر أذواقنا في الحقيقة عن رياء النفاق الحضاري، الذي يكمن وراءها وتشف هي عنه. ولله در التهامي إذ يقول:

ثوب الرياء يشف عما تحته

فإذا اكتسيت به فإنك عاري

وصاحب «وأمطرت لؤلؤًا» يريد ليوهمنا أنه رقيق حقًا، بلغ من رقته أنه حين يتغزل لا يفكر إلا في الوشى المنمنم، وشي الرياض كأنه عصفور، أو وشى البرود كأنه أمير مترف. ودعواه الرقة كاذبة. إذ كلامه لا يوحي بشيء. ولئن أوحى فذلك لا يتجاوز أن يكون شهوة فظة غليظة القلب، مناقضة لما يتظاهر به من رقة، إذ الرقة مع الهوى وسمو العاطفة. وقوله لا يشع بشيء من ذلك. وقد جاء بهذا المعنى الذي حام هو حوله في زخرف بديعه، امرؤ القيس باهرًا جهيرًا حيث قال:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي

بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل

فتأمل.

وصاحب «لقد سلبتني فرنجية» يريد ليتظارف ويتكايس. وقد احتال على فرنجيته التي سلبته فجعل لها عبيرًا يعبق ليتم البيت على أية حال، حتى يخلص إلى دليل ذكائه وفطنته في حسن التعليل. وليس تحت هذا كله إن تأملته إلا معنى سوقي «مائع الروح» ضحل الفكاهة.

ولقد جاء بتشبيه من هذا المعنى شاعر إسلامي من عسكر المهلب -شبيه به من حيث الرغبة إلى امرأة تحميها أسنة الأعداء- فأحسن الفكاهة وارتفع بها عن أن تكون سوقية، وما ذلك إلا لأنه صرح بمعنى الخوف والخطر، الذي أبت رقة صاحب الإفرنجية أن يشير إليه بشيء، وذلك قوله:

أخلاج إنك لن تعانق طفلةً

شرقًا بها الجادي كالتمثال

حتى تعانق في الكتيبة معلمًا

عمرو القنا وعبيدة بن هلال

ص: 535

والذي نعنيه من الفكاهة، في مقابلة ما بين البيت الثاني والبيت الأول: الصورة الحية المرعبة، والصورة النموذجية الوادعة البعيدة المنال.

هذا ولقد دار التمثال اليوناني دورة كاملة بعد عهود الزخارف البيزنطي في الذي كان من أمر النهضة كما قدمنا، ثم في العودة مرة أخرى إلى زخارف الفن الحديث المستمد بعضها من غابات أفريقيا، وبعضها من غابر حضارة الشرق وسائرها من هندسة الآلة وانحلال القيم القديمة. وأحسب أن التمثال اللفظي العربي يوشك أن يدور دورة كاملة، وتلك سنة الكون والطبيعة والعمران البشري.

ذلك بأن شعراءنا -على أنهم مازالوا يرزحون تحت أعباء من بقية أوزار البديع القديم، وأوزار أخرى استحدثوا من بديع أوروبا الحديث- قد جعل بعضهم، ينظر من طرف خفي إلى التمثال الجاهلي. ونأمل أن نفصل هذا الباب فيما بعد إن شاء الله. ونكتفي ههنا بأن نمثل بقول نزار قباني:

لا تسأليني هل أحبهما

عيناك إني منهما لهما

وجميع أخباري مصورةٌ

يومًا فيومًا في اخضرارهما

وستارتان إذا تحركتا

أبصرت وجه الله خلفهما

كوخان عند البحر هل سنةٌ

إلا قضيت الصيف تحتهما

الشمس منذ رحلت مطفأةٌ

والأرض غير الأرض بعدهما

وفي هذه الأبيات لين وركاكة واضطراب في الصور واستكراه لبعض الألفاظ. وفيها بعد نظر إلى البديع القديم -أعني بديع المتأخرين من أمثال ما مر- من حيث إنها تروم مضاهأة سوقيته في المعاني بسوقية في التعبير، مثل السؤال في البيت الأول، وقوله «إني منهما لهما» وقوله «وجميع أخباري» . كما فيها أخذ من الإفرنج في قوله «أبصرت وجه الله خلفهما» ووجه الله يناقض ما قدم من معنى الستارتين، إذ هو أعظم من أن يخفيه شيء، ولفظ الستارتين أفرنجي الأصل ولكن تحته معنى سجفي النابغة. وكوخان قبيحة، لقبح

ص: 536

تشبيه العين بالكوخ، ولأن في الكوخ انحصارًا لا يلائم سعة ما هو فيه من معاني البحر والشمس والاخضرار الذي يصور كل شيء كما زعم. ولو قال «مأواي» كان أجود ولكن يضع معه بعض الصورة. ولو قال «كنان» بكسر الكاف وتشديد النون كان صوابًا من حيث المعنى ولكنه يلائم لين الأسلوب كما ترى. وعسى أن يقال «عشان» مثنى العش أي وكر الطائر- وهكذا.

عشان عند البحر هل سنة

إلا قضيت الصيف تحتهما

وفي العش بعد معنى الغرام، ولا يضيع معه معنى هط " hut" الذي أراده -أي البيت الصغير الذي يستأجره المصطاف وعسى أن يكون أجود أن يقال:

عينان عند البحر هل سنة

إلا قضيت الصيف عندهما

أو تحتهما. وعينان الأولى من عين الماء. هذا

وقوله للشمس مطفأة، آبدة وإنما أراد -أو لعله أراد- الطرافة. والمطفأة تكون شمعة وهو هنا إنما يصف شمس الصيف عند البحر التي تغمر الدنيا بإشراقها ودفئها. ولو قال:

الشمس منذ رحلت كاسفةٌ

والأرض غير الأرض بعدهما

كان أجود، لأن الذي ذكره من الرحيل من سنخ جاهلي وقوله والأرض غير الأرض من سنخ قرآني والكسوف أشبه بهذا من الإطفاء الذي استطرفه.

هذا،

ومتى غفلت عن هذه الركاكة وهذا اللين والاضطراب في الصور والاستكراه لبعض الألفاظ ونظرت إلى جملة الأبيات معًا، آنست خلف تنعيمها الحضاري، وتحت أثقال البديع العصري التي تنوء بها لمحًا من التمثال الجاهلي- في هاتين الستارتين اللتين شبه بهما هدبى العين، تنظران منهما كأنهما متجردة النابغة م خلال السجفين.

ص: 537

وفي هاته الشمس التي «انطفأت» كما قال برحيلها، وإنما هي الشمس- شبهها كما ترى بشمس الصيف عند البحر، وهي أنعم من الشمس حين طلوعها بالأسعد، بلا ريب ولكنها مثلها رمز للخصوبة والغزل. والأصل الجاهلي هنا لا يخفى.

ثم إن صورة العينين واضحة حية والإيحاء المنبعث منها قوي- قوي في هذه الخضرة الشاملة ذات العمق التي كالبحر، وفي هذا الإشراق البهج الدافئ، كالمأوى عند البحر حين تهب الرياح، وكالرمل عند البحر وكالبحر نفسه حين يفيض ضوء الشمس، وفي هذا السجو، سجو الأهداب.

وأحسب أن هذا الوضوح مع ما حوله وما ينبعث منه من إيحاء، مزيج من الاشتهاء واللوعة، يغفر لهذه الأبيات بعض ركاكتها وأوزارها. ولا ريب أن هذا الوضوح التصويري فيه رجعة ما إلى المذهب الجاهلي كما ترى. وعسى هذا ونحوه من نزار وغيره من المعاصرين، أن يكون بادرة نهضة، كما كان العثور بالصبايا الثلاث والحذو عليهن بادرة النهضة في الفن الأوروبي والله تعالى أعلم وبه التوفيق.

وهذا بعد حين نمسك عن الحديث ونختتم هذا الكتاب ونأمل أن نقبل في سفر بل هذا إن شاء الله على تفصيل شيء عن نماذج الشمطاء في أشعار هذيل وحميد بن ثور والقطامي وغيرهم كما وعدنا آنفًا، وعن غير ذلك مما هو بصدد ما نحن فيه. والحمد لله أولاً وأخيرًا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف عبد الله الطيب

18/ 1/1963

ص: 538

شكر وتقدير

أشكر لعدد من زملائي وتلامذتي أن أعانوا على إعداد فهارس هذا الكتاب وجدول الخطأ والصواب الملحق بآخره فجزاهم الله خيرًا كثيرًا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ص: 539