المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شاعرية النثر العربي: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٣

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث/ في الرموز والكنايات والصور)

- ‌الباب الأول

- ‌تمهيدطبيعة القصيدة

- ‌تعريف القصيدة:

- ‌أطوار أوزان القصيدة:

- ‌السجع والتقفية:

- ‌الأوزان:

- ‌ما قبل الشعر وأثره في النثر العربي:

- ‌أثر القرآن على البلغاء:

- ‌شاعرية النثر العربي:

- ‌الباب الثانيطبيعة الشعر العربي

- ‌معنى الاختلاس:

- ‌الحركات والسكنات والحروف:

- ‌ القافية

- ‌طور التنويع:

- ‌الرجز والهزج:

- ‌القصيدة والقافية الواحدة:

- ‌حالة الجذب

- ‌منزلة الشاعر:

- ‌الصعلكة والفروسية:

- ‌بطولة الشاعر:

- ‌طريقة القصيدة ووحدتها:

- ‌شكل القصيدة:

- ‌المبدأ والخروج والنهاية:

- ‌الباب الثالثالمبدأ والنسيب

- ‌(1) الرمزية المحضة

- ‌تمهيد:

- ‌رموز الأنثى ورمزيتها:

- ‌(2) رمزية الشوق والحنين

- ‌تمهيد:

- ‌رمزية المعاهد والديار:

- ‌البرق وتوابعه:

- ‌الحمامة والحنين:

- ‌ الأصل النوحي

- ‌الأصل اليمامي:

- ‌الأصل الهديلي:

- ‌الحمامة وبكاء العشاق

- ‌الأثافي والرماد والحمام

- ‌الليل والنجوم:

- ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

- ‌الوداع والظعائن:

- ‌تتمة في الحركة والحيوية:

- ‌أوصاف النساء ومداخل الغزل:

- ‌مدح النساء وذمهن:

- ‌مقاييس الجمال:

- ‌الخمصانة:

- ‌نموذج بين بين:

- ‌النموذج العظيم:

الفصل: ‌شاعرية النثر العربي:

وبعد فحسبنا هذا القدر من الاستشهاد. وإنما أردنا لنبين به كيف أقبل النثر العربي من أصوله الجاهلية في «ما قبل الشعر» على القرآن فأخذ من مادته وشكله وأساليب جرسه فنشأ من ذلك أسلوب الخطب بجرسها وإيقاعها. ثم تلاهن عهد الرسائل بتقسيمها ذي النفس الخطابي في مذاهب عبد الحميد، والتريث الفلسفي في مذهب ابن المقفع، والإسماح شيئًا فشيئًا، مع الاحتفاظ بجوهر الإيقاع في إنشاء الوزراء من لدن أبي عبيد الله إلى آل برمك زمان الرشيد، وكل هذا كما ترى شديد الصلة «بما قبل الشعر» قوي النظر إلى القرآن، غير بعيد حقًا عن مذاهب الشاعرية في غير العربية.

‌شاعرية النثر العربي:

ولعلك إذا تبينت هذا تبينت أيضًا أنه لم يكن في العربية نثر خالص النثرية حقًا، إلا ما كنا ألمعنا إليه من رسائل الأوائل القصار التي كان يراد بها التبيين بلفظ موجز وحتى هذه لم تكن تخلو من الموازنة والإيقاع متى جاوزت الجملتين والثلاث وربما قصدت إليهما قصدًا ككتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد: «أما بعد، فإن الممدوح مسبوب يومًا ما. وإن المسبوب ممدوح يومًا ما. وقد انتميت إلى منصب كما قال الأول:

رفعت فجاوزت السحاب وفوقه

فما لك إلا مرقب الشمس مرقب

وقد ابتلى بحُسين زمانك دون الأزمان. وبلدك دون البلدان. ونكبت به من دون العمال، فأما أن تعتق. أو تعود عبدًا كما يُعبد العبد. والسلام» (1).

وإنما دخل النثر البحت الأجرد في نطاق العربية مع دخول التأليف المستفيض كالذي كان من كتب النحو واللغة والخراج الأولى. وكالذي تفرع من هؤلاء

(1) الوزراء والكتاب 31.

ص: 27

من صنوف العلوم كالمذاهب والمنطق واللغة والتقويم والمعاجم والتراجم والتواريخ.

أما سائر أساليب النثر العربي فقد انساقت في الطريق الذي سلكه الحديث والخطباء والبلغاء وأصحاب الرسائل وأوائل الوزراء من إيثار الإيقاع وتجويد النغم ونجم في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث كتاب قد انتهى إليهم من تراث البيان العربي قدر عظيم، وحباهم الله من الملكة قدرًا عظيمًا فنحوا بهذا الإيقاع والنغم المجرد إلى محض الإتقان والأحكام فيما غروا به من السجع والازدواج. وعلى رأس هؤلاء عمرو بن بحر الجاحظ. وقد كان يحتفل لإرسال اللفظ متدفعًا تدفع الأمواج، ومنطلقًا انطلاق التيار، كما كان يحتفل لسوق المعاني متتابعات متدرجات متساويات أولها فرط لآخرها، وأواخرها نتائج لأوائلها. فيجمع من الاحتفالين وشيًا منمنًا، وفصوصًا كفصوص العقود، تبهر النفوس وتروع القلوب. تأمل مثلاً قوله في كتاب البخلاء. على لسان خالد بن يزيد يوصي ابنه (1):

«ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين. ولا أثق بك وإن كنت لاحقًا بالآباء. لأني لم أُبالغ في محنتك. إني قد لابست السلاطين والمساكين. وخدمت الخلفاء والمكدين. وخالطت النساك والفتاك. وعمرت السجون، كما عمرت مجالس الذكر. وحلبت الدهر أشطره. وصادفت دهرًا كثير الأعاجيب.

ولم أحمد نفسي على جمعه. كما حمدتها على حفظه. لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس.

(1) كتاب البخلاء للجاحظ تحقيق طه الحاجري، القاهرة- 8: 19/ 41.

ص: 28

قد حفظته لك من فتنة البناء. ومن فتنة النساء. ومن فتنة الثناء. ومن فتنة الرياء. ومن أيدي الوكلاء فإنهم الداء العياء.

تأمل هذا الصوغ والتقسيم المحكم ذا النغم المطرب ثم وازن بينه وبين قول شاكسبير:

Shall I compare thee to a summer's day?

Thou art more lovely and more temperate:

Rough winds do shake the darling buds of May،

And summer's lease hath all too short a date:

Sometime too hot the eye of heaven shines

And often is his gold complexion dimmed.

And every fair form fair something declines،

By chance or nature's changing course untrimmed،

But thy eternal summer shall not fade،

Nor lose possession of that fair thou owest،

Nor shall death brag thou wander'st in this shade،

When in eternal lines to time thou growest،

So long as men can breathe or eyes can see،

So long lives this، and this gives life three.

ولعلي إن تمثلت بشيء من خطب شكسبير في مسرحياته كان يكون أيسر المأتي في هذا الموضوع. ولكني تعمدت هذا المثل تعمدًا من «سوناتاته» (1) لأن نظمها أشد أحكامًا وأدخل في حاق الأوزان الشعرية عند الإفرنج. فإن وضح ما أزعمه في التمثيل به، كان أوضح في المرسل. وليس مرادي بقولي «وازن» آنفًا أن تقصد إلى موازنة المعاني وإنما أريدك لتوازن بين شكلي الإيقاع.

ألا تجد أن شكسبير لا يتجاوز في إيقاعه أمر المقابلة والمطابقة وجرس الصوت المستمد من مخارج الكلمات، ثم القوافي من بعد؟ أم لا تحس أن قوافيه أقرب إلى

(1) السوناتة ضرب من الشعر طلياني الشكل في أصله قوامه أربعة عشر بيتًا يجاء بها على منهج خاص في التقفية. ويقال أن بترارك أول من اخترعه. وأقبل عليه الإنجليز في عهد اليصابات.

ص: 29

السجع في نظام العربية منها إلى الروي المتلئب؟ ولعمري قد يقع للجاحظ ما هو أدنى إلى شبه الروي منها كالذي في آخر ما استشهدنا له من قوله فيما مضى. ولا أغلو إن زعمت أن أكثر نثر الجاحظ الذي لم ينح فيه منحى التأليف يشبه في وزنه وإيقاعه أصنافًا من الشعر الإنجليزي المقفى والمرسل. ولئن صدق هذا القول على الجاحظ لهو أصدق على كثير من معاصريه ممن كانوا أميل إلى السجع كأبي العيناء مثلاً. ولئن صدق على كتاب القرن الثالث لهو أصدق على كتاب القرن الرابع من أصناف الصاحب والبديع، وعلى من اتبعوا سبيلهم من أصناف الحريري والقاضي الفاضل. وإنما أقول ذلك لأن هؤلاء قد كانوا أحرص على رونق الشكل، وتصنيع الأسجاع والازدواج والتجنيس والتطبيق والتقسيم وما إليه؛ على أنه قل منهم من يقارب الجاحظ في تدفق التيار وانسياب المعنى وإطراد النغم.

وإني ليُخيل إلي أحيانًا أن دقيقي الإحساس، رقيقي الشعور، من كتاب القرن الرابع والذين اتبعوا سبيلهم، قد ادمنوا النظر في فواصل القرآن وآيه، كما أدمن الذين من قبلهم، ثم أثروا أن يستحدثوا أشكالاً من القول الموزون يحذونها على نحو ذلك، ثم يجعلونها مسالك لما كان يختلج في نفوسهم من الشاعرية، ويهجرون إليها صوغ القريض المحكم ما استطاعوا. فنشأت من صنيعهم هذا أفانين الرسائل والمقامات وما يجري مجراها من مصقول السجع والمزدوج. ومما يدلك على أن السجع قد صار في القرن الرابع فما تلاه، مذهبًا مقاربًا لمذاهب الشعر، قول ابن الأثير في نعته: «اعلم أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام. والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء، والنفس تميل إليه بالطبع. ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد. إذ لو كان ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديب من الأدباء سجاعًا. وما من أحد منهم ولو شدا شيئًا يسيرًا من الأدب إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظًا مسجوعة ويأتي بها في كلام. بل

ص: 30

وينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة طنانة رنانة. لا غثة ولا باردة. وأعني بقولي غثة وباردة أن صاحبها يصرف نظره إلى مفردات الألفاظ المسجوعة وما يشترط لها من الحسن. لا إلى تركيبها وما يشترط له من الحسن، وهو في الذي يأتي به من الألفاظ المسجوعة كمن ينقش أثوابًا من الكرسف أو ينظم عقدًا من الخرز الملون» (1).

فهذا كما ترى نص فيما نذهب إليه من أن كتاب القرن الرابع إنما أرادوا طريقًا جديدًا من الشاعرية في الذي اعتمدوه من السجع والتقسيم وأحسب أنه دفعهم إلى هذا الصنيع ما كانوا يجدونه من عسر في مسلك القصيد، إذ هو ضيق المجال على غير الفحل الموهوب. وفي كتاب «من حديث الشعر والنثر» للدكتور طه حسين إشارة إلى شيء من هذا المعنى، وذلك حيث يقول في أول حديثه عن نثر الجاحظ (2):«فالجاحظ قد تناول في كتبه أغلب الفنون التي تناولها الشعراء» ، ثم يقول في آخره:«فنحن عندما نقرأ نثرًا كنثر الجاحظ لا نحس عسرًا في فهمه، بل نجد يسرًا ومرونة. وفوق هذه المرونة واليُسر كسب النثر خصلة أخرى هي الموسيقا، فالنثر أيام الجاحظ لا يلذ العقل وحده ولا الشعور وحده ولكنه يلذ العقل والشعور والأذن أيضًا، لأنه قد نظم تنظيمًا موسيقيًا، وألف تأليفًا خاصًا له نسب خاصة. فهذه الجملة لها هذا المقدار من الطول، وهذه الجملة تناسب هذا الموضوع. وإذا قصرت هذه الجملة لاءمتها تلك الجملة. وإذا ضخمت ألفاظ هذه الجملة كانت الجملة التي تليها على حظ من السهولة وهكذا» .

وربما حسن بنا هنا أن نستطرد إلى حديث الدكتور طه حسين عن ابن الرومي

(1) استشهد الدكتور زكي مبارك بهذه القطعة في النثر الفني دار الكتب 1934 - 95 وهي في المثل السائر، ص 116 من طبعة بولاق 1282 هـ وعنه وعنها أخذنا.

(2)

من حديث الشعر والنثر- دار المعارف 1953 - ص 57 - 64.

ص: 31

من بعد، إذ ذكر أنه كان يذهب في شعره مذهبًا قريبًا من مذاهب النثر الجاحظي وما إليه من طريقة الكتاب. وليس ببعيد أن يكون ابن الرومي قد جارى كتاب زمانه -وكان كما قد تعلم كاتبًا- ليظهر لهم قدرة القصيد على ما كانت تتعاطاه أساليبهم من أغراض البلاغة، فضلاً على الذي كان آخذًا فيه معهم بنصيب. ولقد أوشك بفعله هذا أن يخرج بالقصيد في نظمه جملة واحدة على النهج الذي أريد له ولم يك ليصلح إلا عليه.

وقد وهم فيما أحسب ابن رشيق وابن حزم إذ نعتاه بدقة الغوص على المعاني كما لم ينعتا غيره. فأوشك الأول أن يقدمه على أبي تمام، إلا أنه احترس بما ذكر من إجماع النقاد على أبي تمام (1)، ولم يقدمه بحال على الأوائل، وهذا يدلك على دقته وصحة بصره بالنقد. وأما الثاني فقد غلا فألحق ابن الرومي بامرئ القيس (2).

وأحسب أن ابن رشيق وابن حزم كليهما لم يخلوا في الذي ذهبا إليه من نظر إليه طريقة القالي حيث اختار من ابن الرومي في أماليه؛ كما لم يخلوا من تأثر بمذهب المولدين، ولا سيما مولدي الأندلس، في إيثار الإطناب والتفصيل وتطويل النفس فيها على مذهب بديعي، خلافًا لما كان عليه الأوائل من إيثار الجزالة والإيجاز.

ولابن حزم خاصة ولع أيما ولع بالتفصيل البديعي لمعاني الحب. من ذلك قوله في طوق الحمامة، واستشهد به صاحب النثر الفني رحمه الله (2 - 168):

محبة صدق لم تكن بنت ساعة

ولا وريت حين ارتياد زنادها

ولكن على مهل سرت وتولدت

لطول امتزاج فاستقر عمادها

فلم يدن منها عزمها وانتقاضها

ولم ينأ عنها مُكثها وازديادها

(1) العمدة 2 - 244.

(2)

راجع تاريخ الأدب الأندلسي للدكتور إحسان رشيد عباس (ند عني الموضع).

ص: 32

يؤكد ذا أنا نرى كل نشأة

تتم سريعًا عن قريب بعادها

ولكنني، أرضي عزاز صليبة

منيع إلى كل الغروس انقيادها

فما نفذت منها لديها عروقها

وليست تُبالي أن يجود عهادها

وهذا الشعر فخم التركيب وفيه ما ترى من نفس ابن الرومي، ولكنه غير جزل. أو قل ليس فيه ماء، إذ فخامته نحوية لغوية؛ وجزالة الشعر لا تكون من تجويد النحو واللغة فحسب، وإنما هذا عرض من أعراضها؛ بل إن الجزالة مما يكون سرًا تتبعه جودة النحو واللغة والتركيب. وأحسب من أهم عناصر أن تتحد الموسيقى التي في الوزن مع الألفاظ والمعاني اتحادًا تامًا يجعل منهن جميعًا «كلا» نغميًا واحدًا. وأبيات ابن حزم هذه، بالرغم من «كُليتها» المعنوية، وانتظام بحرها، ومظهر جودة التراكيب واللغة فيها، فاقدة للكل النغمي الذي هو من خواص جزل الشعر. وهذه شكاة تعرض لأصناف كثيرة من أشعار المولدين ولا سيما الأندلسيين. وقد كان ابن هانئ الأندلسي مقتدرًا في النظم فخم العبارات، يصيب ظاهر الجزالة في غير قليل. ومع هذا أبى المعري إلا أن يشبه شعره برحى تطحن قرونًا، يوحي بقولته هذه أن مذهبه تجازل لا جزالة. وأحسب هذا من أجود ما قيل في الفخامة التي تروع ولكنها تُشوي حاق الجزالة والأصالة (1).

هذا وكأن البديع والصاحب والخوارزمي وابن العميد قد راموا أن يعكسوا قضية ابن الرومي، لما مالوا به من إيقاع الجاحظ وسجع أبي العيناء عن طريقة التدفع والانسياب، إلى مباراة بينة لأسلوب القصيدة في الوثب واللمح وطلب التأثير بإيحاء

(1) يرى الدكتور إحسان أن الأندلسيين اقتروا شعر المحدثين دون القدماء فقصر ذلك بهم (راجع المصدر السابق) وعسى هذا الرأي أن يضخ جانب معه ولكن فيه بعد نظر، إذ قد كان الأندلسيون يقبلون على الشعر القديم أيما إقبال ويروونه أتم رواية؛ ويحسبك شاهدًا كتاب ابن عبد ربه ومؤلفات الأعلم وابن مالك بله الأمالي الذي كان مما يتداولونه وصنعوا له الشروح. ونأمل أن نعرض لمذهب الأندلسيين في فصل من بعد إن شاء الله.

ص: 33

الكلمات وبضروب أخرى من التصنيع، منها مثلاً نقل أغراض الشعر المعروفة له إلى رسائل النثر ومقالاته. ولا أكاد أشك أن أبا العلاء المعري قد قصد إلى شيء من السخرية بهذا المذهب في فصوله وغاياته، حيث عمد إلى أوصاف الحُمر الوحشية ورحلات الثيران والصيران فأحال كل ذلك إلى نثر مسجوع. على أن المعري ربما التذما هو بسبيله من أغراض الشعر أحيانًا فخرج به ذلك عن مراده من السخرية أو كاد.

هذا والصاحب أوضح كتاب القرن الرابع طريقة في اقتراء أغراض الشعر وانتحالها، على سطحية كانت فيه، وكلف بإظهار المقدرة على التصرف في الظرف والفكاهة يوشك أن يقارب التفيهق المنهي عنه في الحديث. خذ مثلاً قوله، من رسالة كتب بها إلى القاضي الجرجاني (وهو غير صاحب الوساطة):

«تحدثت الركاب بسير أروي

إلى بلد حططت به خيامي

فكدت أطير من شوقي إليها

بقادمة كقادمة الحمام

أفحق ما قيل من أمر القادم؟ أم ظن كأماني الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان. وإنه ونيل المنى سيان. فمرحبًا أيها القاضي براحلتك ورحلك. بل أهلاً بك وبكافة أهلك. ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك. ووجدنا ريح يوسف من رياك. فحث المطى تزل غُلتي بسقياك. وتُزح علتي بلقياك. ونص على يوم الوصول لنجعله مُشرفًا. ونتخذه موسمًا ومُعرفًا. ورد الغلام أسرع من رجع الكلام. فقد أمرته أن يطير على جناح نسر. وأن يترك الصبا في عقال وأسر» (1).

وله من أخرى يهنئ بمولد طفلة:

«أهلاً وسهلاً بعقلية النساء. وأم الأبناء. وجالبة الأصهار. والأولاد

(1) يتيمة الدهر للثعالبي، تحقيق محمد محيي الدين- مصر 2 - 250.

ص: 34

الأطهار. والمبشرة بأخوة يتناسقون. نجباء يتلاحقون.

فلو كان النساء كمثل هذي

لفضلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب

وما التذكير فخر للهلال

فادرع يا سيدي اغتباطًا. واستأنف نشاطًا. فالدنيا مؤنثة. والرجال يخدمونها والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة. ومنها خلقت البرية. وفيها كثرت الذرية. والسماء مؤنثة. وقد زينت بالكواكب. وحليت بالنجم الثاقب. والنفس مؤنثة. وبها قوام الأبدان. وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام. ولا عرف الأنام. والجنة مؤنثة. وبها وعد المتقون. ولها بعث المرسلون .. فهنيئًا هنيئًا ما أوليت. وأوزعك الله شكر ما أعطيت. وأطال بقاءك ما عُرف النسل والولد. وما بقي الأمد .. وكما عُمر لُبد» (1). فههنا تلذذ بالسجع والفواصل مع هيل من الألفاظ وانثيال. وكأن هذا التلذذ هو المراد لذاته في كلتا هاتين القطعتين دون ما يداخله من معاني التهنئة والترحيب. وإلى نحو من هذا المعنى أردنا إذ قلنا أن الصاحب ومعاصريه مالوا بطريقة الجاحظ إلى الوشي والتصنيع وإلى شكلية يضاهئون بها عمود الشعر إذ عجزوا أن ينهضوا به. وهذا تأويل ما قدمناه من أنهم عكسوا قضية ابن الرومي ومذهبه، إذ كما أراد ابن الرومي حمل القصيد على إطناب المنثور، أرادوا هم حمل المنثور على أريحية القصيد وشدة أسره.

وما أستبعد أنه تحامل الصاحب على أبي الطيب إنما كان ضربًا من الحسد الذي يحسه شويعر يرى أنه مجدد مبدع لآخر أفحل منه بأبواع، لا يتنكب النهج الموروث ولا يعجز أن يبلغ به غايات البيان.

هذا وبديع الزمان قريب من الصاحب في المذهب غير أنه أطبع، وربما تعاطى

(1) نفسه 247.

ص: 35

الوزن المحكم فأصاب، وله في المقامات ما يدل على بصر بنفوس الناس ودقة في الملاحظة، وتصرف في الخيال ومقدرة على التمثيل ذي الروح المسرحي وأضرب مثلاً لذلك مقامته الخمرية (1) وله منها:

«ولما حشرج النهار أو كاد. نظرنا فإذا برايات الحانات أمثال النجوم في الليل البهيم. فتهادينا بها السراء. وتباشرنا بليلة غراء. ووصلنا إلى أفخمها بابًا وأضخمها كلابًا. وقد جعلنا الدينار إمامًا. والاستهتار لزامًا. فدفعنا إلى ذات شكل ودل. ووشاح منحل. إذا قتلت أحاظها. أحيت ألفاظها. فأحسنت تلقينا. وأسرعت تقبل رؤوسنا وأيدينا. وأسرع معها العلوج. إلى حط الرحال والسرج. وسألناها عن خمرها فقالت:

خمر كريقي في العذو

بة واللذاذة والحلاة

تذر الحليم وما عليه

لحلمه أدنى ملاوة

كأنما اعتصرها من خدي. أجداد جدي. وسر بلوها من القار بمثل هجري وصدي. وديعة الدهور. وخبيئة جيب السرور. وما زالت تتوارثها الأخيار. ويأخذ منها الليل والنهار. حتى لم يبق إلا أرج وشعاع. ووهج لذاع. ريحانة النفس. وضرة الشمس. فتاة البرق. عجوز الملق. كاللهب في العروق. وكبرد النسيم في الحلوق. مصباح الفكر. وترياق سم الدهر. بمثلها عُزر الميت فانتشر. ودووي الأكمه فأبصر. قلنا هذه الضالة وأبيك. فمن المطرب في ناديك. ولعلها تشعشع للشرب بريقك العذب». إلى آخر ما قاله.

وهذا كما ترى فيه نظر شديد إلى مذهب أبي نواس في نعت الخمر والقيان ولو قلت، نظر إلى الأعشى ما باعدت.

(1) مقامات البديع، شرح محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر، 1923 - 410.

ص: 36

وابن العميد أدنى إلى مذهب الجاحظ في الاعتماد على أصالة الغرض وتسخير الإيقاع للبيان، إذا قرنته إلى الصاحب والبديع وأشباههما. ولا أقول هو أدنى إلى الجاحظ في العموم، إذ روم الشكل السجعي الذي يضاهئ القصيدة. ويحاول التفوق على بلاغتها، واضح في طريقته. خذ مثلاً قوله:«وزعمت أنك في طرف من الطاعة بعد أن كنت متوسطها، وإذ كنت كذلك فقد عرفت حاليها. وحلبت شطريها. فنشدتك الله لما صدقت عما سألتك: كيف وجدت ما زلت عنه؟ وكيف تجد ما صرت إليه؟ ألم تكن من الأول في ظل ظليل. ونسيم عليل. وريح بليل. وهواء عذي. وماء. روي. ومهاد وطي. وكن كنين. ومكان مكين. وحصن حصين. يقيك المتألف. ويؤمنك المخاوف. ويكنفك من نوائب الزمان ويحفظك من طوارق الحدثان. عززت بعد الذلة. وكثرت بعد القلة. وارتفعت بعد الضعة وأيسرت بعد العسرة. وأثريت بعد المتربة. واتسعت بعد الضيقة. وظفرت بالولايات. وخفقت فوقك الرايات. ووطئ عقبك الرجال. وتعلقت بك الآمال. وصرت تُكاثر بك. وتشير ويشار إليك. ويذكر على المنابر اسمك. وفي المحاضر ذكرك. ففيم الآن أنت من الأمر؟ وما العوض عما عددت؟ والخلف مما وصفت؟ وما استفدت حين أخرجت من الطاعة نفسك؟ ونفضت منها كفك؟ وغمست في خلافها يدك؟ وما الذي أظلك بعد انحسار ظلها عنك؟ أظل ذو ثلاث شعب؟ لا ظليل ولا يُغني من اللهب؟ قل نعم كذلك والله أكثف ظلالك في العاجلة، وأوحها في الآجلة، إن أقمت على المحايدة والعنود، ووقفت على المشاقة والجحود» .

ولعل الخوارزمي أصدق نفسًا في شاعرية النثر من ابن العميد، على أنه دونه في فحولة اللفظ. وإليك منه هذه الفصول. وقد أخذتها من كتاب النثر الفني لطيب الذكر الدكتور زكي مبارك (1). وهذا الكتاب من أنفس ما كتب في عصرنا هذا فلا

(1) النثر الفني في القرن الرابع -للدكتور زكي مبارك- دار الكتب- 1934 - 2/ 264.

ص: 37

زالت تهمي على صاحبه شآبيب الرضا والغفران. وللقارئ الكريم بعد أن يرجع إلى رسائل الخوارزمي فهي مجموعة مطبوعة. قال من رسالة إلى الجرجاني:

«ومن أنقذ إنسانًا من الفقر وانتشله من مخالب الدهر، وفكه من أسار العسر. فقد اعتقه من الرق الأحمر. والرق رقان: رق الملك ورق الهوان والأسر أسران: أسر العدو وأسر الزمان» .

ومن أخرى كتب بها إلى الصديق:

«وأظن أن لو ألفيتك عليلاً لانصرفت عنك، وأنا أعل منك. فإني بحمد الله جلد على أوجاع أصدقائي. ينبو عني سهم الدهر إذا رماني. وينفذ في إذا رمى إخواني. فأقرب سهامه مني. أبعد سهامه عني. كما أن أبعدها عني. أقربها مني» .

وأحسب نحو هذا لو وقع في دواوين بعض من يُلهج بذكره من أهل العصر لعد مدرسة كأحذق ما يصنع الغربيون. والحمد لله على ما قضى. وله بذلك منا تمام الرضا.

ومن أخرى للخوارزمي في رجل يذمه:

«وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد. وفي مدحك لاعب. وإني في الشهادة عليك صادق. وفي الشهادة لك كاذب. فأنظر إلى تهافت قولي إذ لا ينتك، وجاملتك: وإلى إصابتي الغرض وحزي المفصل. إذا كاشفتك وصدقتك. وذلك أن الصادق معان، ومأخوذ بيديه. والكاذب مخذول، مغضوب عليه» .

وهذه القطعة كسابقتها مقاربة للشعر- يقربها جودة رنينها وعمق معانيها وحرارة أنفاسها، وصدق صاحبها. وقد وقف الدكتور زكي مبارك عند هذا الجانب من أبي بكر وقفة نفث بها بعض ما كان يعتلج في صدره من حسرات الزمان. وهي من جيد ما كتب في عصرنا هذا، فليرجع إليها في موضعها من النثر الفني (2 - 265).

ص: 38

هذا ولابد من ذكر أبي حيان التوحيدي فقد عاصر من قدمناهم، وأصاب من مذاهبهم غير قليل على إيثاره للجاحظ واقتدائه به وتفضيله له. ولقد تنقصه الدكتور زكي مبارك بعض قدره من حيث الإنسانية لا البيان. ولعل هذا من باب تناكر الأشباه. وما أبعد التوحيدي مما وصمه به من الحقد والنكران والجحود فالرجل قد عانى مرارة الظلم، ولم يجد ناصرًا غير القلم. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. ويعجبني من التوحيدي أصالته. وغزارة علمه، وصدق لهجته، وافتتانه في مذاهب الفكر والمعنى واللفظ.

ولقد يكون أنفذ نظرًا من الجاحظ أحيانًا إلا أنه أثقل حلية وأعمد إلى التفخيم.

وله من كلة اعتذر بها إلى أحد أصدقائه، عما كان منه من إحراق كتبه (1):

«ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت أصناف العلم، سره وعلانيته. فأما ما كان سرًا، فلم أجد من يتحلى بحقيقته راغبًا. وأما ما كان علانية، فلم أصب من يحرص عليه طالبًا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم. وعقد الرياسة بينهم. ولمد الجاه عندهم. فحرمت ذلك كله. ولا شك في حسن ما اختاره الله لي. وناطه بناصيتي. وربطه بأمري. وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي. ومما شحذ العزم على ذلك، ورفع الحجاب عنه. أني فقدت ولدًا نجيبًا، وصديقًا حبيبًا، وصاحبًا قريبًا، وتابعًا أديبًا. ورئيسًا منيبًا. فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها. ويدنسون عرضي إذا نظروا فيها .. ويشمتون لسهوي وغلطي إذا تصفحوها. ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قلت ولم تسمهم بسوء الظن؟ وتقرع جماعاتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات. وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة، فما صح لي

(1) معجم الأدباء- 15.

ص: 39

من أحدهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء. وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة. وإلى بيع الدين والمروءة. وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق. وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم. ويطرح في قلب صاحبه الألم. وأحوال الزمان بادية لعينيك. بارزة بين مسائك وصباحك. وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك» إلى آخر ما قاله.

وأتم قراءة هذه الكلمة في موضعها إن شئت فإنك واجد فيها ما ذكرنا من عناية أبي حيان بزخرفة الشكل مع الذي عنده من الجاحظية. وقد كان من أقدر كتاب عصره وأقعدهم في باحة البيان، وربما دانى أبا العلاء وأبا الفرج الأصفهاني في منزلة التأليف، والله أعلم.

هذا وقد نشأت بعد القرن الرابع أجيال أرادوا أن يبلغوا من إحكام الشكل النثري فوق ما بلغه أسلافهم. فارتادوا مسالك من الزخرفة والتزيين يضاهئون بها ما غلب على القصيد من أصناف البديع. وأهم هؤلاء جميعًا الحريري صاحب المقامات والقاضي الفاضل صاحب الرسائل. أما الحريري، فقد عمد إلى الإشارة والتورية والتضمين والاقتباس وأحسبه دوم النظر في أبي العلاء. وله مقدرة بارعة على لي عبارات الأوائل عن وجهها، وإلى طريق ما كان فيه من القصص؛ وله احتفال شديد بمواترة السجع حتى يوشك أن يبلغ به إلى ضرب من الروي المتلئب؛ من ذلك قوله مثلاً (1): «نظمني وأخدانا لي ناد. لم يخب فيه مناد. ولا كبا قدح زناد، فينما نحن نتجاذب أطراف الأناشيد. ونتوارد طرف الأسانيد. إذ مر بنا شيخ عليه سمل. وفي

(1) المقامة الدينارية- هذا وقد وصم الدكتور شوقي ضيف الحريري بالتعقيد. وأحسبه قد حاف عليه. إذ أسلوب الحريري واضح إلا أن يقع فيه الغريب أو التورية وهذا مما يسهل كشفه. (ند عني موضع ذلك في ما كتب الدكتور شوقي ضيف).

ص: 40

مشيته قزل. فقال يا أخاير الدخائر. وبشائر العشائر. عموا صباحًا. وانعموا اصطباخًا إلخ».

وأما القاضي الفاضل فهو دون الحريري في الجزالة. ولقد يُلفى فيه بعض التعثر والاستكراه. غير أنه قد كاد ينفرد عمن سبقوه بمذهب في أحكام الشكل السجعي على منهج شديد الشاعرية، قوي الشبه بكثير من الأصناف التي ترد في شعر الإفرنج. خذ مثلاً قوله من كلمة يكتب بها إلى العماد الأصفهاني (1):

«فهذه الكتب المهداة

والسحب المنشاة

فروعها المصنفة ستة أصناف

وأصلها

كتابه الكريم

وأجزاؤها المؤلفة تسعة أصداف

وكلها

دره اليتيم

تلك عشرة في المشايعة

أذعنت عونها

لفضيلة بكرها

كعشيرة الصحابة في المبايعة

أُغضيت عيونها

لفضل أبي بكرها

فهل كانت عدة، أتمها بعشر لا كمالها

أو حسنة، جزاؤها بعشرة أمثالها»

(1) خريدة القصر، وجريدة العصر، للعماد الأصفهاني، قسم شعراء مصر، مصر 1956 - 1/ 50.

ص: 41

وقد كتبنا لك هذه القطعة هكذا كما تفعل المجلات الأدبية المعاصرة لترى شاهد ما نذهب إليه.

ولقد أخذت مذاهب النثر بعد القاضي الفاضل وعصره في طريق تتفاوت في الصناعة وزخرفة الشكل بين مذاهب الصاحب والحريري ومذهبه هو. وشاع توحيد السجعات في فقرات متتالية على نحو قريب من روي القصيد في العصور المتأخرة. من شواهد ذلك خطبة المقدمة لابن خلدون وخطبة القاموس، وقد يهم بعض النقاد فينسبون إلى ابن خلدون أصالة في الأسلوب إذ طرح السجع وآثر الترسل في المقدمة نفسها. والحق أنه اتبع مذهب كل العلماء من العمد إلى النثر الخالص في باب التأليف العلمي، فعل ذلك الغزالي وابن تيمية وابن القيم والسيوطي وكثيرون غيرهم- كما اتبع مذهب كل الكتاب من العمد إلى الزخرفة في الخطب.

هذا وإنما قدمت تقديمي السابق كله من أجل أن أدل على شاعرية النثر العربي، وقد بينت مرادي من هذه العبارة بما ذكرته من الشواهد منذ زمان الحديث إلى العصر الحديث. ولا أرى القارئ الكريم إلا يحط معي في أن النثر العربي في طرائقه المختلفة، من رصف عبد الحميد إلى انسياب الجاحظ إلى سجع الصاحب إلى صناعة الحريري، إلى زخرفة القاضي الفاضل، شديد الشبه بالشعر الإفرنجي. ولقد يقال إن ضروبًا من النثر الإفرنجي قد تنحو نحوًا يقارب الشعر الإفرنجي، ولكن ينبغي هنا أن نتذكر أن الشعر الإفرنجي نفسه، الذي تريغ هذه الضروب إلى مقاربته، يشبه نثرنا الفني دون شعرنا. وهنا موضع التنبيه إلى أن شعرنا ذو طبيعة خاصة، جعلته كأنه طريقة وحده بين سائر مذاهب القول المنظوم لا يجوز تشبهها على أية حال بهذه المذاهب التي يسميها الإفرنج شعرًا ولا تصح الموازنة بينه وبينها. وأحسبنا متى تنبهنا إلى هذه الحقيقة أمنا أن نقع في كثير من المزالق التي يقع فيها بعض نقادنا المحدثين. وإليك بعض البيان فيما يلي إن شاء الله.

ص: 42