المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أثر القرآن على البلغاء: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٣

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث/ في الرموز والكنايات والصور)

- ‌الباب الأول

- ‌تمهيدطبيعة القصيدة

- ‌تعريف القصيدة:

- ‌أطوار أوزان القصيدة:

- ‌السجع والتقفية:

- ‌الأوزان:

- ‌ما قبل الشعر وأثره في النثر العربي:

- ‌أثر القرآن على البلغاء:

- ‌شاعرية النثر العربي:

- ‌الباب الثانيطبيعة الشعر العربي

- ‌معنى الاختلاس:

- ‌الحركات والسكنات والحروف:

- ‌ القافية

- ‌طور التنويع:

- ‌الرجز والهزج:

- ‌القصيدة والقافية الواحدة:

- ‌حالة الجذب

- ‌منزلة الشاعر:

- ‌الصعلكة والفروسية:

- ‌بطولة الشاعر:

- ‌طريقة القصيدة ووحدتها:

- ‌شكل القصيدة:

- ‌المبدأ والخروج والنهاية:

- ‌الباب الثالثالمبدأ والنسيب

- ‌(1) الرمزية المحضة

- ‌تمهيد:

- ‌رموز الأنثى ورمزيتها:

- ‌(2) رمزية الشوق والحنين

- ‌تمهيد:

- ‌رمزية المعاهد والديار:

- ‌البرق وتوابعه:

- ‌الحمامة والحنين:

- ‌ الأصل النوحي

- ‌الأصل اليمامي:

- ‌الأصل الهديلي:

- ‌الحمامة وبكاء العشاق

- ‌الأثافي والرماد والحمام

- ‌الليل والنجوم:

- ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

- ‌الوداع والظعائن:

- ‌تتمة في الحركة والحيوية:

- ‌أوصاف النساء ومداخل الغزل:

- ‌مدح النساء وذمهن:

- ‌مقاييس الجمال:

- ‌الخمصانة:

- ‌نموذج بين بين:

- ‌النموذج العظيم:

الفصل: ‌أثر القرآن على البلغاء:

سكت. ولهم مذاهب في ذلك فليرجع إليها في النشر والشاطبية وسواهما من كتب القراءة والأداء».

وأحيل القارئ أيضًا إلى كتاب مرآة الإسلام للدكتور طه حسين فإن فيه بحثًا جيدًا مبسوطًا في هذا المعنى. وإنما نحونا ههنا إلى مجرد التمثيل والتقريب. ولم نرد إلى الاستقصاء.

‌أثر القرآن على البلغاء:

هذا، ولقد حازت العرب في أمر القرآن، فذكر بعضهم أنه شعر وأنه كهانة. إلا أن الله عز وجل قد أكذبهم فيما زعموه. وكذلك أكذبهم علماؤهم وحذاقهم، كالذي رواه ابن إسحق في السيرة حيث قال (1): «ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش. وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم. فقال لهم يا معشر قريش، قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا. فأجمعوا فيه رأيً واحدًا. ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيًا نقل به. قال بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا نقول: كاهن قال لا والله ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا فنقول مجنون. قال: ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه. فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا فنقول شاعر. قال ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر. لقد رأينا السحار وسحرهم. فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله

(1) السيرة 1/ 283 - 284.

ص: 16

لحلاوة. وإن أصله لعذق. وإن فرعه لجناة (قال ابن هشام ويقال لغدق) وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا هو ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وأخيه إلخ

».

وعن ابن إسحق في موضع آخر ينسبه إلى النضر بن الحرث أنه قال (1):

«يا معشر قريش، إنه والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد. قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن، لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر. قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه إلخ.» .

ولعل النضر قد صدر بهذا القول عن ملأ من الوليد بن المغيرة وأضرا به فقد كان من شياطين قريش وبلغائها وأشدها حسدًا للرسول وعداوة لدعوته وقرآنه.

وفي القرآن نفسه ما يقوي شاهد هذه الأخبار التي رواها ابن إسحق من حيرة قريش والعرب إزاء بيان التنزيل وغرابته. من ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} (2) ومنه أيضًا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} (3).

ومنه أيضًا: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (4)} .

(1) نفسه 1/ 318.

(2)

من سورة الفرقان.

(3)

من سورة الفرقان.

(4)

النحل.

ص: 17

وهذه الآية تريك إلى أي حد اشتطوا في الحيرة مع العداوة حتى نسبوا إلى محمد أنه كان يتلقى وحيه عن أعجمي ممن له علم بسير الأولين. نفاسة منهم وحسدًا.

وكما تعلم أيها القارئ الكريم، وسرعان ما انتقلت خصومة قريش والعرب للقرآن من باب الجدل إلى باب العمل. وقد رام بعض الذين دخلوا في حرب النبي بعد أن فلج أمره أن يقلدوا مذهبه في الوحي والرسالة فافتعلوا لأنفسهم أصنافًا من محاكاة القرآن، من ذلك ما فعله مسيلمة وسجاح وأضرابهما، وقد حفظ الرواة لنا بعض ما جاءوا به- (أم لعلهم افتعلوه على سبيل التهكم والاستهزاء؟ ) نحو قول مسيلمة- يا ضفدعة بنت ضفدعين، علام تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعير (1) وقول سجاح: اليمامة اليمامة، ودفوا دفيف الحمامة (2).

ثم إن الإسلام ضرب بجران، ونظر العرب في ما خلص إليهم من تراث البلاغة، فوجدوا القرآن في ذروتها، وهو كلام الله المنزل المعجز. فأقبلوا على حفظه وجمعه وتفسيره، وجعل فصحاؤهم من شعراء وخطباء وحكماء وقصاص يتأثرونه ويقتبسون من ضوئه. فأما الشعراء والرجاز وطبقاتهم فأخذوا من بلاغته ما قدروا على أخذه وأدخلوه على ما كانوا يؤمونه من أغراض الرجز والقصيد، وسنعرض لذلك في شيء من التفصيل، فيما بعد إن شاء الله.

وأما أهل النثر من خطباء وقصاص وحكماء فأخذوا من بلاغته ما قدروا على أخذه وأدخلوا على ما آل إليهم من تراث السجع والموازنات والأمثال والمنافرات وغير ذلك م قُريان القول المأثور. وما هو إلا قليل حتى صارت سائر أصناف البلاغة النثرية تقر ومذاهب شبيهة بمذاهب «ما قبل الشعر» . في طلبها ضروبًا من الإيقاع والرنين التي لا تصل إلى إحكام الأوزان ذات البحور والقوافي. ولعل

(1) تاريخ الطبري- 2/ 506.

(2)

نفسه.

ص: 18

الحديث من أوائل ما يستشهد به في هذا الباب. ودونك فتأمل حديث أم زرع وأكتفي ههنا بأن أذكر لك طرفًا منه (1).

قالت السادسة:

زوجي إن أكل لف. وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف ولا يولج الكف ليعلم البث (2).

قالت السابعة:

زوجي غياياء أو عياياء، طباقاء، كل داء له داء، شجك، أو فلك أو جمع كلا لك (3).

قالت الثامنة:

زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب (4).

قالت التاسعة:

زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.

قالت العاشرة:

زوجي مالك، وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك قليلات

(1) اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله، مصر-1949 - 3 - 190 وأول الحديث ص 188 رقم 1590.

(2)

هذه تذم زوجها فهو أكول يحوز ما يوضع أمامه فلا يبقى وإذا شرب استوعب ما في الإناء فهذا معنى اشتف. وإذا اضطجع التف فنام أيما نوم. ولا يمد يده ليعلم ما بها من حزن.

(3)

هذه تذم زوجها بأنه غياياء أي ثقيل مظلم- عياياء أي عيي ضعيف. طباقاء أي أحمق. يضرب بيده فأما شج الرأس وأما جرح عضوًا وأما فعل ذلك كله.

(4)

الزرنب: طيب. وهذا من شواهد النحويين.

ص: 19

المسارح، وإذ سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك (1).

وقالت الحادية عشرة:

زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ أناس من حُلي أدني. وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي. وجدني في أهل غنيمة بشق (2) فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق (3)، فعنده أقول فلا أُقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنح (4).

أم أبي زرع. فما أم أبي زرع؟ عُكومها رداح، وبيتها فُساح (5). ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟ مضجعة كمسل الشطبة، ويُشبعه ذراع الجفرة (6).

بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها.

جارية أبي زرع. فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثًا، ولا تنقث ميرتنا تنقيثًا، ولا تملأ تعشيشًا إلخ (7).

وجلي واضح أيها القارئ الكريم ما في هذا الحديث من جودة الإيقاع وتلاحق الرنين.

(1) قليلات المسارح- أي قرب الدار لا تسرح بعيدًا لأنه يعدا للقرى.

(2)

أي في شق من الجبل- أي وجدني في أهل فقر لا مال لهم إلا المعزى.

(3)

الدائس ما سخر من الأنعام لدوس القمح والشعير فكأنها تريد أن تقول جعلني في أهل خيل وابل وبقر وعبيد ومنق بكسر النون وتشديد القاف وقيل بالفتح راجع فتح الباري (111 - 177) بالكسر أي بجعل الدجاج تنق لتلقط الحب وبالفتح للتنقية ورواية الكسر أوثق.

(4)

أتصبح أي أنام إلى الصباح رفاهة ورغدًا. أتقنح أي أنال من الشراب حتى الري وبعده.

(5)

عكومها- أي أعدالها التي يوضع فيها التمر والقمح. رداح- عظام كبيرة.

(6)

أي هو كانسلال الشطبة من الخيل أو جريد النخل لأنه ضامر. وليس مع الضمر بمهزول إذ يقوى على الأكل ولكن لا يسرف. والجفرة بفتح الجيم الأنثى من المعزى. السخلة.

(7)

لا تبث حديثنا لا تفشيه. ولا تنقث ميرتنا أي لا تفسدها بالتبذير والسرف والتعشيش الوسخ- أي تنظف البيت فلا تترك فيه ما يشبه أعشاش الطير.

ص: 20

وتأمل بعده كثيرًا من الأحاديث فإنك واجد فيها ألوانًا من طريقة ما فيه. وتأمل أيضًا عن الراشدين وخطباء العهد الأول من بني أمية وخصومهم. مثلاً خطبة سيدنا أبي بكر إذ أحس من بعض الصحابة كراهة العهد لعمر، فقال:«إني وليت أموركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، والله لتتخذن نضائد الديباج. وستور الحرير ولتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يُقدم أحدكم فتُضرب عُنقه في غير حد، خير له من أن يخوض غمرات الدنيا. يا هادي الطريق جرت. إنما هو الفجر أو البجر (1)» .

ورسالة عمر في القضاء حيث يقول: «أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة. فأفهم إذا أُدلى إليك. فإنه لا ينفع تكلم لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك. حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى. واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين. إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً إلخ (2)» . وكتاب عثمان إلى علي: «أما بعد فإنه قد جاوز الماء الزبي، وبلغ الحزام الطبيين. وتجاوز الأمر بي قدره وطمع في من لا يدفع عن نفسه.

فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولما أُمزق (3)».

وخطبة علي في الجهاد حيث يقول: «يا عجبًا كل العجب، عجب يميت القلب، ويشغل الفهم، ويُكثر الأحزان، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقكم. حتى أصبحتم غرضًا تُرمون ولا تَرمون. ويُغار عليكم ولا تُغيرون. ويُعصى الله فيكم وترضون. إذا قلت لم اغزوهم في الصيف. قلتم هذه

(1) كتاب الكامل للمبرد طبعة مصطفى محمد مصر، 1/ 5/.

(2)

نفسه.

(3)

نفسه 1/ 9.

ص: 21

حمارة القيظ. أمهلنا ينصرم عنا الحر. وإذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قُر وصر فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولارجال. ويا طغام الأحلام ويا عقول ربات الحجال (1) إلخ ..

ونغم هذه الخطبة أوضح وإيقاعها أبين مما استشهدنا به قبلها سوى الحديث وقد كان علي كرم الله وجهه من بناة العربي العظام، وقالوا رُوي عن عبد الحميد بن يحيى أنه قيل له:«ما الذي مكنك من البلاغة وخرجك فيها؟ فأجاب: حفظ كلام الأصلع، يعني أمير المؤمنين عليا (2)» . وإنما استطردت هذا الاستطراد لما هو شائع بين الناس من أن نهج البلاغة كله من وضع الشريف الرضي. وأقرب. عندي أن يقال إن فيه كثيرًا مما انتحله بلغاء الشيعة ورواه الشريف عنهم. وأستبعد أن يكون هو زاد فيما رواه شيئًا. هذا، وقد كان العرب من حب البلاغة بحيث حرصوا على حفظ كلام بلغائهم من زمان بعيد والذي روي عن عبد الحميد نص على ذلك، وهي رواية سابقة لزمان الشريف إذ قد ذكرها الجهشياري من رجال القرن الثالث. كما أن هذه الخطبة التي استشهدنا بها آنفًا مما رواه قدماء العلماء أمثال ابن قتيبة والجاحظ ومحمد بن يزيد.

هذا، وتأمل أيضًا بتراء زياد التي أولها:«أما بعد فإن الجهالة الجهلاء. والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار. ما فيه سفهاؤكم. ويشتمل عليه حلماؤكم. من الأمور العظام التي يشب فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير إلخ (3)» .

وخطبة الحجاج التي أولها: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا (4)» .

(1) نفسه 1/ 13.

(2)

الوزراء والكتاب للجهشياري. الحلبي، 1938 - 72.

(3)

الكامل للمبرد 1 - .

(4)

نفسه 1/ 224.

ص: 22

ولعلك لمحت نفس القرآن في كلام على وبتراء زياد. وقد كان الحجاج شديد الأخذ، كثير الاقتباس، من القرآن يُضمنه خطبه تضمينًا كالذي وقع منه في قوله:«والله لأحزمنكم حزم السلمة. ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان. فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وإني والله لا أقول إلا وفيت. ولا أهم إلا أمضيت. ولا أخلق إلا فريت» .

وتأمل رسائل عبد الحميد والناس ينسبون إليه أنه أبو الكتابة، وليس معنى ذلك أنه لم تكن كتابة قبله، ولكن العرب كانت تؤثر ببلاغتها المنابر. ومتى عمدت إلى الكتابة نأت عن التزيين ما استطاعت لأسباب منها حاجتها إلى إبلاغ الناس جمعاء، إذ كانوا هم السند والعضد، ولم تكن تحس مثل هذه الحاجة حينما تروم بلاغ فرد. ومن شواهد ذلك البالغة ما روي من كتاب خالد إلى عياض:«آياك أريد» ولم يزد على هاتين الكلمتين شيئًا. ومنها ندرة الورق والرق الذي كان يُكتب عليه، فكانت هذه الندرة مما يدعو إلى الاقتصاد في اللفظ وإيثار الإيجاز.

وقد جعلت الشقة بين الخلفاء وأمرائهم وبين سائر الناس تتباعد شيئًا فشيئًا بعد زمان عبد الملك. فصار الخلفاء وأمراؤهم يستغنون شيئًا فشيئًا بالإطناب إلى عمالهم في الرسائل دون الاحتفال للخطب العامة. ورسالة عمر في القضاء فلتة في زمانها من حيث إن فيها طولاً ما، وهي في جملتها أشبه بالخطبة المحكمة منها برسائل المتأخرين، وكذلك رسالة علي إلا الأشتر، إلا أني أميل إلى الشك في نسبتها إليه، وعسى أن يكون انتحلها أناس من شيعة على الأقدمين ليضاهوا بها رسالة عمر في القضاء. وقد شهد زمان عبد الملك خطباء فصحاء كثيرين من أمثال الأشدق والمختار ومصعب وعبد الله بن الزبير والحسن البصري وقطري بن الفجاءة والحجاج وعبد الملك نفسه. ثم إن الخطباء أخذوا يقلون بعد ذلك حتى إنك لا تجد بين رجالات

ص: 23

الدولة العباسية من يقارب هؤلاء الذين ذكرناهم إلا ما كان من أمر أبي جعفر وعمه داود بن علي، على فتور ما في كلام هذين.

وقد كان أوائل من دونوا الرسائل يعتمدون مذهبًا قريبًا من الخطبة، كالذي يروى من قول يحيى بن يعمر على لسان يزيد بن المهلب:«أنا لقينا العدو، فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة وأسرنا طائفة ولحقت طائفة برؤوس الجبال، وعرائر الأدوية، وأهضام الغيطان، وأثناء الأنهار، فبتنا بعرعرة الجبل، وبات العدو بحضيضه» .

وفي هذا الكلام مشابه مما روى من خطابة عبد الله بن الزبير عند سيدنا عثمان لما قدم عليه بنبأ الفتح من أفريقية.

وقد سلك عبد الحميد بن يحيى سبيل الخطابة. إلا أنه مال بها إلى شيء من الأناة، التي لا تسمح بمثلها مواقف المنابر، ولكن صحبة السراج، ووقار العزلة. ومن كلام عبد الحميد، قال في كلمته الطويلة التي وصى بها الكتاب (1): «ونزهوا صناعتكم، واربأوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة، وما فيه أهل الدناءة والجهالة. وإياكم الكبر والعظمة. فإنها عداوة مُجتلبة بغير إحنةٍ، وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم. وتواصلوا عليها. فإنها شيم أهل الفضل والنبل من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه. حتى ترجع إليه حاله. وإن أقعد الكبر أحدكم عن مكسبه، ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه. واستظهروا بفضل رأيه وقديم معرفته

إلخ».

ونفس الخطابة في هذه القطعة وفي سائر الوصية ظاهر. وله من كتاب كتبه إلى أهله وأقاربه (2):

(1) الوزراء والكتاب 75.

(2)

نفسه.

ص: 24

«أما بعد، فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها. فمن درت له بحلاوتها وساعده الحظ فيها. سكن إليها. ورضي بها. وأقام عليها. ومن قرصته بأظفارها. وعضته بأنيابها. وتوطأته بثقلها. قلاها نافرًا عنها، وذمها ساخطًا عليها. وشكاها مستزيدًا منها. وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها. وأرضعتنا من درها أفاويق استحليناها. ثم شمست منا نافرة. وأعرضت عنا متنكرة. ورمحتنا مُولية. فملح عذبها. وأمر حلوها وخشن لينها. فمزقتنا عن الأوطان. وقطعتنا عن الإخوان. فدارنا نازحة. وطيرنا بارحة» . وهلم جرا.

وهذه القطعة تصلح شاهدًا على ما زعمناه من ميل عبد الحميد بأسلوب الخطابة إلى شيء من الأناة التي تكون مع رؤية العزلة والاحتفال. ولا يخفي بعد ما التزمه عبد الحميد من التقسيم المتتالي والإيقاع المنتظم.

وابن المقفع دون عبد الحميد اسماحًا، ولكنه مثله يتحرى التقسيم وتجويد الإيقاع وشواهد ذلك كثيرة في نثره. وقد وصمه الدكتور طه حسين في كتابه من حديث الشعر والنثر. بشبه الاستشراق في بعض ما يستكرهه من القياسات. ولا أرى كيف تأتي الدكتور طه حسين إلى هذا القول على ما عنده من دقة البصر وبعد الغور وصفاء الذوق إذ ليس ما يضعف فيه ابن المقفع بمبلغه إلى العجمة ضربة لازب، على أنه كان أصله أعجميًا. والرجل بعد ممن عبدوا طريق الكتابة. وليس ما يلاقيه المبتدئ من حزونة البداية كما يلاقيه التالي من سهولة الإتباع. وإليك بعد هذه القطعة من الأدب الكبير:«ابذل عدلك وانصافك. واضنن بعرضك عن كل أحد» . (رسائل البلغاء- مصر- 1954 - 71).

وهذه القطعة من الأدب الصغير:

«وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارًا، ذكرًا يباشر القلوب،

ص: 25

ويقدح الطماح، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر. وأمانًا بإذن الله من الهلع». (نفسه-11).

وفي هاتين القطعتين على قصرهما شاهد الإيقاع. إلا أن ابن المقفع كما ترى أشد روية وأبكأ درًا من عبد الحميد.

وتأمل بعد توقيعات الوزراء الأوائل أيام المهدي والهادي وهرون، من ذلك مثلاً ما رواه الجهشياري من مأثور حديث أبي عبيد الله:«التماس السلامة بالسكوت، أولى من التماس الحظ بالكلام، وقمع نخوة الشرف، أشد من قمع بطر الغني، والصبر على حقوق النعمة، أصعب من الصبر على ألم الحاجة. وذل الفقر قاهر لعز الصبر. كما أن عز الغني مانع من الإنصاف. إلا من كان في غريزته فضل كرم. وفي أعراقه مناسبة لعلو الهمة» (1).

وما رواه من كلام يحيى بن خالد بن برمك في بعض ما وصى به بنيه إذ يقول: «لابد لكم من كتاب وعمال وأعوان. فاستعينوا بالأشراف وإياكم وسفلة الناس. فإن النعمة على الأشراف أبقى. وهي بهم أحسن. والمعروف عندهم أشهر. والشكر منهم أكثر» (2). وعن جعفر بن يحيى إذ وقع على رقعة دفع بها إليه بعض أبناء الرجاء: «هذا يمت بحرمة الأمل. وهي أقرب الوسائل. وأثبت الوصائل. فليعمل له من ثمرة ذلك عشرون ألف درهم. وليُمتحن ببعض الكفاية. فإن وجدت عنده، فقد ضم إلى حقه حقًا. وإلى حرمته حُرمة. وإن قصر عن ذلك فعلينا مُعوله وإلينا موئله. وفي مالنا سعة له» (3). وكل هذا كما ترى واضح الإيقاع، ظاهر الطريقة في التقسيم والموازنة والازدواج والسجع.

(1) الوزراء والكتاب 165.

(2)

نفسه 179.

(3)

نفسه 205.

ص: 26