المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الوداع والظعائن: سنكتفي من هذا الباب بالتنبيه على مكان الحركة من - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٣

[عبد الله الطيب المجذوب]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث/ في الرموز والكنايات والصور)

- ‌الباب الأول

- ‌تمهيدطبيعة القصيدة

- ‌تعريف القصيدة:

- ‌أطوار أوزان القصيدة:

- ‌السجع والتقفية:

- ‌الأوزان:

- ‌ما قبل الشعر وأثره في النثر العربي:

- ‌أثر القرآن على البلغاء:

- ‌شاعرية النثر العربي:

- ‌الباب الثانيطبيعة الشعر العربي

- ‌معنى الاختلاس:

- ‌الحركات والسكنات والحروف:

- ‌ القافية

- ‌طور التنويع:

- ‌الرجز والهزج:

- ‌القصيدة والقافية الواحدة:

- ‌حالة الجذب

- ‌منزلة الشاعر:

- ‌الصعلكة والفروسية:

- ‌بطولة الشاعر:

- ‌طريقة القصيدة ووحدتها:

- ‌شكل القصيدة:

- ‌المبدأ والخروج والنهاية:

- ‌الباب الثالثالمبدأ والنسيب

- ‌(1) الرمزية المحضة

- ‌تمهيد:

- ‌رموز الأنثى ورمزيتها:

- ‌(2) رمزية الشوق والحنين

- ‌تمهيد:

- ‌رمزية المعاهد والديار:

- ‌البرق وتوابعه:

- ‌الحمامة والحنين:

- ‌ الأصل النوحي

- ‌الأصل اليمامي:

- ‌الأصل الهديلي:

- ‌الحمامة وبكاء العشاق

- ‌الأثافي والرماد والحمام

- ‌الليل والنجوم:

- ‌الباب الثالث والرابعالغزل والنعت

- ‌الوداع والظعائن:

- ‌تتمة في الحركة والحيوية:

- ‌أوصاف النساء ومداخل الغزل:

- ‌مدح النساء وذمهن:

- ‌مقاييس الجمال:

- ‌الخمصانة:

- ‌نموذج بين بين:

- ‌النموذج العظيم:

الفصل: ‌ ‌الوداع والظعائن: سنكتفي من هذا الباب بالتنبيه على مكان الحركة من

‌الوداع والظعائن:

سنكتفي من هذا الباب بالتنبيه على مكان الحركة من الإيحاء فيه، إذ هو في سعته متصل به كثير مما مرّ وسيجيء، وحسبنا ثلاثة أمثلة. الأول قول زهير:

تبصّر خليل هل ترى من ظعائن

تحمّلن بالعلياء من فوق جرثم

علون بأنماطٍ عتاقٍ وكلةٍ

ورادٍ حواشيه مشاكهة الدم

ووركن في السوبان يعلون متنه

عليهن دل الناعم المتنعم

وفيهن ملهى للصديق ومنظرٌ

أنيقٌ لعين الناظر المتوسم

بكرن بكورًا واستحرن بسحرةٍ

فهن لوادي الرس كاليد للفم

جعلن القنان عن يمين وحزنه

ومن بالقنان من محل ومحرم

ظهرن من السوبان ثم جزعنه

على كل قيني قشيب ومفأم

كأن فتات العهن في كل منزلٍ

نزلن به حب الفنا لم يحطم

فلما وردن زرقًا جمامه

وضعن عصي الحاضر المتخيم

والحركة في هذا لا تخفى. والأبيات مشهورة قد تحدث عنها النقاد فأحسنوا ولا سيما الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء وليس وراء مقالته مزيد. وننبه هنا على أشياء من طريقة زهير وسنخ أسلوبه. منها أن المتحدث عنه أُم أوفى حليلته التي بانت، وقد صرح باسمها في المطلع، ثم لما صار إلى نعت الظعائن أخفاها بينهن على منهجه في الحياء والتستر؟ وقوله في البيت الثالث يتأملها وحدها. وقوله «وفيهن ملهى للصديق» فيه تأكيد حسرته، إذ قد كانت هي صديقًا ثم تصرم ذلك، فلم يبق له من حظ في وصلها إلا أن يقيم نفسه مقام الأجنبي فينظر إليها مع صواحباتها ليرى منظر أنيقًا يروق- ومثل ذلك ليس له، إنما له لاعج الذكرى وتحقق معنى البين. ومن أجل هذا ما عرج إلى وصف تنقل القافلة، بكورها بسحرة، واجتيازها وادي الرس، وجعلها القنان وحزنه بيمين ومن بالقنان من محل ومحرم، ونفسه وعشيرته عني. ثم

ص: 339

كأنهن قد غبن إلى الأبد- ولكن الذكرى تعيدهن فهذا ظهورهن من السوبان. ويعمد زهير ههنا إلى مذهب من التسلي بافتعال تجربة المعجب الأجنبي، فيقرب الظعائن البعيدات ويقترح اقتراحًا من اشتهاء بمقابلة ما بين حركة السير، ومقاعدهن عليها الوثيرات القشيبات المفأمات.

ولكنه سرعان ما يضرب عن هذا الهاجس بقوله:

كأن فتات العهن في كل منزلٍ

نزلن به حب الفنا لم يحطم

وهذه صفة طلل وهو ما بقي في فؤاده من شجن، فتات ذلك الطلل غير أنه لم يتحطم ولكن البين قد تحقق، وشطت نواها واستمر مريرها-

ولما وردن الماء زرقًا جمامه

وضعن عصيّ الحاضر المتخيم

وذلك كأقصى ما يكون البعد.

والمثال الثاني قول المثقب العبدي:

لمن ظعن تطالع من ضبيبٍ

فما خرجت من الوادي لحين

مررن على شراف فذات رجلٍ

ونكبن الذرانح باليمين

وهن كذاك حين قطعن فلجأ

كأن حمولهن على سفين

يُشبهن السفين وهن بخت

عراضات الأباهر والشؤون

وهن على الرجائز واكناتٌ

قواتل كل أشجع مستكين

كغزلان خذلن بذات ضالٍ

تنوش الدانيات من الغصون

ظهرن بكلةٍ وسدلن أخرى

وثقبن الوصاوص للعيون

وهن على الظلام مطلبات

طويلات الذوائب والقرون

أرين محاسنًا وكنن أخرى

من الأجياد والبشر المصون

ومن ذهبٍ يلوح على تريبٍ

كلون العاج ليس بذي غضون

ص: 340

إذا ما فتنه يومًا برهنٍ

يعز عليه لم يرجع بحين

بتلهيةٍ أريش بها سهامي

تبذ المرشفات من القطين

علون رباوةً وهبطن غيبًا

فلم يرجعن قائلةً لحين

فقلت لبعضهن وشد رحلي

لهاجرةً نصبت لها جبيني

لعلك إن صرمت الحبل بعدي

كذاك أكون مصحبتي قروني

وهذه أبيات مشهورة، وقد عرض لقصيدتها الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء، في مقال نشره في جريدة الجهاد عام 1934 أو 1935 لا يزال أثره عالقًا بالنفس.

والوصف في جملته نموذجي غير أنه يتخلله وحي بتجاري، وتنتظمه كله تجربة واحدة معقدة شائكة مشتبكة، هي تجربة قصيدته المفضلية (1):

أفاطم قبل بينك متعيني

ومنعك ما سألت كأن تبيني

وقد أشرنا إلى بعض معانيها من قبل.

والذي عندي أن الشاعر أصابه قلق نفسي عظيم سببه إحساس بالوحدة والوحشة والامتعاض وطلب الانتصاف بعد تنكر من عهد الخلان، بعضه قد كان وبعضه متوقع. أما الذي قد كان فمن خليلته فاطمة أو من كنى عنها بفاطمة أو ما كنى عنه بها رجلاً كان أو امرأة أو حاجة نفس وأما المتوقع فمن خليله عمرو، أو ما جعل عمرًا رمزًا له.

وتجربة القصيدة تصف لنا أول هذه التنكر وملابساته. وفي شعر المثقب ما يشهد بأن التنكر قد صار إلى جفوة وحسرة من مصارمة أو عداء. قال في داليته المفضلية (2):

(1) المفضليات 76.

(2)

نفسه 28.

ص: 341

ألا أن هندًا أمس رث جديدها

وضنت وما كان المتاع يؤودها

وأمس إنما هي إشارة إلى عهد النونية التي نحن بصدد ظعائنها:

فلو أنها من قبل دامت لبانةً

على العهد إذ تصطادني وأصيدها

ولكنها مما تميط بوده

بشاشة أدنى خلةٍ يستفيدها

فهذا تصريح كالهجاء.

وقال في الميمية المقيدة:

لا تقولن إذا ما لم ترد

أن تتم الوعد في شيء نعم

حسن قول نعم من بعد لا

وقبيحٌ قول لا بعد نعم

إن لا بعد نعم فاحشةٌ

فبلا فابدأ إذا خفت الندم

وإذا قلت نعم فاصبر لها

بنجاح القول إن الخلف ذم

واعلم أن الذم نقص للفتى

ومتى لا يتق الذم يُذم

فذهب بتجربته هنا مذهب الحكمة، وجعل فاطمته فتى، وعسى أن كانت ولعلها عمرو أو هو هي.

وقد بدأ القصيدة بالإلحاح في طلب المتاع الذي هو حقه أو يراه كحقه، بحسب سياقه. ثم حذرها من المنع إذ هو كالبين البائن، ومن الخلف وكذب المواعد، وهذا موقف أضعف من الأول، إذ فيه إشعار بأن المنع والتنكر كائن، فتلافاه بالتهديد:

فإني لو تُخالفني شمالي

خلافك ما وصلت بها يميني

إذن لقطعتها ولقلت بيني

كذلك أجتوي من يجتويني

ثم تحقق في نفسه معنى البين فهرب منه إلى تجربة مشوبة من الافتعال والتذكر

ص: 342

هي تجربة مراقبة الظعائن. أما الافتعال، فلأن فاطمة كانت مصارمة مخاصمة وليس ثم من ظعن، فتوهم لنفسه عهد كانت تظعن، وقد علق فؤاده حبها، ولم تطرأ بعد طارئة خصام. أما التذكر فما يخالط هذه التجربة المفتعلة من استحضار صور الاستمتاع برؤية الظعائن في دهر قد مضى- فاطمة أو غيرها.

وإذ التجربة مفتعلة، وإنما هي مسوقة لتقوية معاني التجربة الأصلية، فإن روح التجربة الأصلية تلابس الوصف النموذجي أي ملابسة، فتخرج به عن ظاهره في ذلك، وهذا منه لا يفطن له المرء إلا مع قراءة القصيدة كلها وتتبعها. فأول ذلك ملاحقة ذكر المواضع في إسراع وفي هذا محاكاة لما يكون في الخروج من قصة الرحلة وتشمير السير ولولا خوف الاستطراد وسبق ما سيجيء إن شاء الله لوقفنا عند هذا المعنى، ولكن بابه الخروج. ولا بأس أن نشير ههنا إلى أن أبا الطيب المتنبي مما يذهب مذهب الخروج كثيرًا للإشعار بالجد، من ذلك مثلاً تعداده المواضع في كلمة الألف اللينة:

ألا كل ماشية الخيزلي

فدا كل ماشية الهيدبي

وإنما كان يتغنى بنشوة تشميره في الفرار من كافور، وهذا -أي المثقب- يريد أن يهدد بتشمير زماع وقد حوله إلى ظعينة كما ذكرنا.

وثانيه، حين هم أن يرتاح إلى نموذجية الظعائن في تشبيه السفينة التفاته كالممتعض إلى الإبل المشمرة، وهي نفسه، ثم حين ادعى أنه ينظر ويتأمل الحسان الراحلات عليها، لم يقدر أن ينجو بنفسه من خاطر لوعة وحسرة واعتراف بالعجز وفوات الأمل:

وهن على الرجائز واكناتٌ

قواتل كل أشجع مستكين

والصدر صورة مفعمة بمعنى الحركة الدالة على تمام الرضا، ثم الرغبة الملحة من

ص: 343

جانبه، البعيدة مسافة ما تريد أن تتناوله -ولا أحسب القارئ قد غاب عنه موضع تشبيه الفتاة الغافلة عن عمرها باتكاءها على الرجازة، بالحمامة في وكنها الوادعة الحاضنة. والعجز احتجاج مر على هذا الرضا، وتمثيل كالمتسلي بهذا الكثير الذي لا ينفك يحدث من ضعف الرجال أمام النساء وهي، أي فاطمة، النساء القواتل وهو الأشجع المستكين -أشجع لما يتكلفه من دفاع وتهديد وما يحسه من غضب وامتعاض وجد ألا يبالي بعاقبة من صرم وهجران. ومستكين لأنه ملتمس ما يعلم أن لن يناله وسيضرع بعده إلى اليأس والحسرات.

ثم أخذ يتسلى بالصورة النموذجية مرة أخرى، صورة الغزالة الخاذلة، ليلقى سترًا ما على التجربة التي باح بها آنفًا.

هذا هو الشطر الأول من نعت الظعن. وهو يتناول مجموعتهن الراحلة المبتعدة.

ثم يبدأ الشطر الثاني من النعت وفيه ثالث ما زعمناه لك بدء هذا الحديث من ملاحقة التجربة للنموذج ورابعه وهلم جرا. ومداره النموذجي المقاربة بعد الإبعاد، وقد رأيت شيئًا منها عند قوله «وهن على الرجائز واكنات» ولكن هذا مجيء به في معراض حال البعد، ولذلك نبهنا عليه حيث فعلنا. وأول المقاربة قوله:

ظهرن بكلةٍ وسدلن أخرى

وثقبن الوصاوص للعيون

وهذه صورة من الذاكرة لبعض ما كان تأمله هو من حركات الفتيات أول الرحيل، ولعل فاطمته كانت إحداهن. وهي صورة حية، ولذلك أحسب، ما زعموا أنه سمي مثقبًا بهذا البيت. وهذا من رميات النقد النافذات، إذ الذي، لعمري، قد ثقب الوصاوص فنظر فأمعن هو لا هنٌ- ثم رجع إلى الإيحاء بفاطمة فقال:

وهن على الظلام مطلبات

طويلات الذوائب والقرون

ص: 344

فهي التي ظلمته بخلفها وكذبها ومنعها وإيثار آخر كما قال في الدالية.

ولك في طويلات الرفع والنصب، وفي النصب التعجب وهذا يشبه قوله «وهن على الرجائز واكنات» في إظهار جانب المفارقة بين حاله وحالها. وفي الرفع الخبرية، ويلائم معنى الطلب فيه كالاتباع لنفسه إياها على ظلمها وقلة مبالاتها ومضيها تستن بشعرها الطويل. والمفاضلة بين الوجهين عسرة، والرفع أحب إلي وأشبه بمعنى الاستكانة وهو الأصلي في هذه التجربة.

ثم مضى يتأمل، على ما سنرى في نماذج الجمال، حتى إذا خيل له أنه قارب بوعد منه ما اقترب وسلك مع الظعائن البائنات واعترف ههنا بخلاف ما زعمه في قوله:

فإني لو تخالفني شمالي

خلافك ما وصلت بها يميني

إذا لقطعتها ولقلت بيني

كذلك أجتوي من يجتويني

وذلك أنه ذكر أن العيس متى فتنه بالرهن العزيز عليه، وهو قلبه وهي فاطمة أيضًا، فإن ذلك الرهن لن يرجع إليه بحين من الدهر.

إذا ما فتنه يومًا برهن

يعز عليه لم يرجع بحين

وهذا كأنه تكرار أو قل تفسير لقوله:

لمن ظعنٌ تطالع من ضبيبٍ

فما خرجت من الوادي لحين

إذ هن هنا لم يخرجن بعد، فمتى خرجن وجاوزن فمعادهن عسير. ثم يقول:

بتلهيةٍ أريش بها سهامي

تبذ المرشقات من القطين

والتلهية هي اللهو وهي المرأة أرادهما معًا. وقوله أريش بها سهامي أي أجذل بها، وذلك أنه يعد نفسه لصيدها بما تصطاد به الرجال النساء فذلك ريشه لسهمه.

ص: 345

وقابل بهذا بقوله «تبذ المرشقات إلخ» فزعم أنها تصيده أيضًا، فلا يصيده كصيدها شيء- وزعم ابن الأنباري والسياق يدل أنه قول الضبي أن القطين الخدم والجيران والتباع وهذا جيد، والظاهر أنه أراد بالقطين الظعائن لأنهن جارات راحلات، وأراد تفضيلها عليهن وتخصيصها من بينهن ومن بين سائر النساء. وهذا لا يناقض ما رواه ابن الأنباري، بل هما متكاملان، وتأويل كلام ابن الأنباري أنها تلهية ولا كهذا الذي يكون من إرشاق الجارات وما بمجراهن من القطين. والبيت فيه معنى قوله الذي استشهدنا به آنفًا:

فلو أنها من قبل دامت لبانةً

على العهد إذ تصطادني وأصيدها

وفيه بعد من الجذع ما لا يخفى.

وذكر التلهية تقريب. فأتبعه مباعدة في قوله:

علون رباوةً وهبطن غيبًا

فلم يرجعن قائلةً لحين

وفيه تكرار لمعاني بيت الحين اللذين مرا وبلوغ بها إلى غايتها. إذ الظعائن في الأول لم يخرجن من الوادي لحين. وفي الثاني تخوف من ألا يعدن متى تجاوزن. وفي هذا الثالث تقرير لأنهن لم يرجعن وذكر الحين تعلة بالأملة لو قد أجدى ما يحتال به من وعيد. وإذ قوله «لم يرجعن» بين محضٌ. فإنه رجع فقارب مرة أخرى، لا لينظر، ولكن ليهدد:

فقلت لبعضهن وشد رحلي

لهاجرةٍ نصبت لها جبيني

لعلك إن صرمت الحبل مني

كذاك أكون مصحتبي قروني

وهنا بطلت صورة الظعائن المرتحلة، وصار هو، لا فاطمة، المزمع على الرحيل، على مذهب الخروج والجد الذي يصنعه الشعراء، وقوله «لعلك» التماس وتليين وتحذير كتحذيره في قوله «فلا تعدى مواعد كاذبات» وعجز البيت كقوله

ص: 346

«فإني لو تخالفني شمالي إلخ» ولكنه ذو جانب مهيض وغضبة يأس تتجاوز مجرد التهديد إلى ضرب من التأسي بتقليد فاطمة في الذي كان من قلة اكتراثها، بقلة اكتراث أخرى تشابهها من جانبه.

وعمد المسكين إلى الناقة ليجد، وهي رحلة لا يدري غرضها ولا مداها، وإنما هو استشعار اليأس وطلب السلوى، ولعلها رحلة خيالية يتوهمها أو رحلة من هذه الرحلات التي يدفع إليها قلق العربي واستدرار الشعر كما فعل الفرزدق حين ركب الناقة وأهاب بشياطينه لينجدوه وقد بلغ المثقب من العناء بدوسرته مبلغًا. ثم التفت ليرثي لها، وإنما يرثي لنفسه من هذا العناء الذي لا طائل وراءه ولا أرب خلفه. وقد فطن أبو عبيد البكري، كما قد نبهنا إلى هذا في غير ما موضع، إلى مكان رثاء النفس في أبيات المثقب.

إذا ما قمت أرحلها بليلٍ

تأوه آهة الرجل الحزين

وقد مرت بك، بما زعمه من أنها خروج من الوصف إلى المناجاة (1).

والحق أن الناقة هنا هي المثقب نفسه.

وبعد أن قضى أربه من الرثاء والبكاء التفت مرة أخرى إلى عنائه فعزم أن يجعل له أربًا، ولرحلته غرضًا ومدى. فذكر عمرًا وانتشى لذكر عمرو:

فرحت بها تعارض مسبطرًا

على صحصاحه وعلى المتون

إلى عمر ومن عمرو أتتني

أخي النجدات والحلم الرصين

ولعل عمر أول ما هم بذكره كان عمرو بن هند أو سيدًا من ضريبته، عزم الشاعر على قصده ليتسلى به من الهم وبما يعقبه عليه السير من شرف الوفادة والرفادة.

(1) انظر سمط اللآلي، وند الموضع.

ص: 347

ولكن سرعان ما يصير عمرو المبدوء به عمرًا آخر، عمرا يشك الشاعر فيما سيجده عنده، ولعله سيتنكر له كما تنكرت فاطمة ولا يجد في خطابه ومصاداته أكثر مما وجد في خطاب فاطمة ومصاداتها، وآخر القصيدة معروف:

فإما أن تكون أخي بحق

فأعرف منك غثى أو سميني

وإلا فاطرحني واتخذني

عدوًا أتقيك وتتقيني

وما أدري إذا يممت أمرًا

أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

وهنا ترى مصداق ما قدمناه من أن عسى أن يكون عمر وهذا رمزًا لفاطمة. أم عسى أن يكون فتاة أخرى أراد ليفزع إليها من فاطمة؟ ومهما يكن فإن فاطمة نفسها لم تخرج عن أن يجوز أنها رمز لغير امرأة، مما يعن من حاجات النفس، وهذا معنى قدمناه. وما يصدق عليها، يصدق على المفرور إليها منها- فهذا هذا، وتلاحم هذه القصيدة ما ترى، وإنما أضربنا عن تفصيل الخروج الذي ينعت فيه الشاعر سفره وناقته لما اعتذرنا به من ضرورة إرجاء هذا إلى بابه، وهو في تماسكه مع ما قبله وبعده كسائر ما كنا فيه. ونأمل بعد أن يكون الذي أردنا من تأويل نموذج الظعينة في مثالنا الثاني قد اتضح. وإنما دعا إلى ذكر ما قبله وبعده ظاهر نموذجيته الجهير، الذي لا يستدل على باطنه المستتر وحركته القلقة المضطربة والمسرعة المترددة معًا إلا بنحو مما فعلنا والله أعلم.

هذا والمثال الثالث من أمثلة نموذج الظعينة قول القطامي، من قصيدته «ما اعتاد حب سليمي حين معتاد» .

كنية الحي من ذي الغضبة احتملوا

مستحقبين فؤادًا ماله فادي

بانوا وكانت حياتي في اجتماعهم

وفي تفرقهم موتي وإقصادي

أرمي قصيدهم طرفي وقد سلكوا

بطن المجيمر فالروحاء فالوادي

ص: 348

محددين لبرقٍ صاب في خيمٍ

وبالقرية رادوه برواد

يخفون طورًا وأحيانًا إذا طلعوا

نجدًا بدا لي من أجمالهم بادي

وفي الخدور غماماتٌ برقن لنا

حتى تصيدنا من كل مصطاد

يقتلننا بحديثٍ ليس يعلمه

من يتقين ولا مكنونه بادي

فهن ينبذن من قول يصبن به

مواقع الماء من ذي الغلة الصادي

ألمعن يقصرن من بُختٍ مخيسةٍ

ومن عرابٍ بعيدات من الحادي

تبدو إذا انكشفت عنها أشلتها

منها خصائل أفخاذٍ وأعضاد

من كل بهكنةٍ ألقت إشالتها

على هبل كركن الطود منقاد

وكلك ذلك منها كلما رفعت

منها المكري ومنها اللين السادي

حتى إذا الحي مالوا بعدما ذعروا

وحش اللهيم بأصواتٍ وطراد

حلوا بأخضر قد مالت سرارته

من ذي غثاءٍ على الأعراض أنضاد

قفرٍ تظل مكاكي الفلاة به

كأن أصواتها أصوات نشّاد

ما لي أرى الناس مزورًا فحولهم

عني إذا سمعوا صوتي وإنشادي

وهذا نموذج نسيب، تداخله تجارب نظر عارم، وفرق ما بينه وبين المثالين السابقين كليهما أنه لا يستبطن قصة حب ضائع تشوب نعت الاستمتاع بمرارة الأسف. ولعلك تساءل ههنا كيف فرقناه ههنا عن نسيب زهير مع أنا قرناه آنفًا به وفرقنا نسيب المثقب والسيب إن مرادنا هناك قد كان التدليل على ما يكون من صلة بين غرض القصيدة ونسيبها في معرض التدليل على مكان الاختلاف بين النماذج المتشابهة. والصلة في هذا الباب بين كلا نسيبي زهير والقطامي واضحة جدًا كما بينا وكما سنبين إلا أنها قد كانت مما يحتاج إلى بسط في نسيب المثقب فلذلك أفردناه. أما ههنا فالشبه بين المثقب وزهير ما ذكرنا وهو سبب جوهري في مذهب الغزل والنموذج، وكون الأمثلة الثلاثة متشابهة من حيث أن ما بعدها متصل بما قبلها في حقيقة أمر النفس الشعري الذي هو جوهر الوحدة في القصيدة، أمر لا يخفى بعد.

ص: 349

هذا وفي نسيب القطامي دعوى يدعيها لبقية من شباب وفحولة كما عند علقمة، ومن هنا يباين زهيرًا شيئًا كثيرًا إذ ذم زهير للحرب أصرح وإنما يعتذر للحفاظ مع دفاعه عنه. وفرق ما بين القطامي وعلقمة أن دعواه للشباب أشد، لأنه لا ينهي نفسه عن الصبا ويقول «دعها» على حاجة في النفس كما فعل علقمة. وكيف ينهي نفسه وهو مقدم على تغن بشكر عدو وانتصاف لنفسه، ومفاخرة بها وبقومه وتعداد لأيام الحرب. على أن الأسى العميق المستفاد من معنى فوت الظعائن، وهو كناية عن فوت المتع في هذه الحياة يلاحق ما قدمناه من غرضه ويشوبه باستشعار الموت وقبحه، وكراهية الحرب والنزاع إلى السلام، ذلك السلام الذي رحل ثم استقر مع الظعائن عند الوادي الأنيق. ولعلك هنا تستحضر ما قدمنا لك من قبل في باب رمزية الحمامة للمرأة، وما عليه الناس في عصرنا هذا من رمزية الحمامة للسلام.

وألفت القارئ ههنا إلى جانب الحركة من مجموعة في أبيات القطامي والمجموعة أراد دون واحدة فيها كما فعل زهير وكما فعل المثقب والله أعلم. فأول ما يستهل به أنه ينظر إليهم وقد سلكوا طريق الرحيل ثم أموا برقا في خيم، وسيصلون هناك ويضربون الخيم وتقيم فيهن البروق. وآية ذلك أنهم أرسلوا روادهم ليرودوا صنيع هذا البرق عند القرية. والحركة هنا لا تخفى.

ثم أمعن الشاعر في النظر وأجمل ما يكون في تتبع الظعائن من مقاربة ومباعدة.

يخفون طورًا وأحيانًا إذا طلعوا

نجدًا بدالي من أجمالهم بادي

وهذه النظرة مما يشعر بتتبع الجماعة، إذ هو في تأمله وترقبه عود المشهد إلى الظهور بعد أن غيبته الأهضام، أول ما يرى منه يرى بعيرًا باديًا فيكون ذلك مؤذنًا بقرب تكامله كله عما قليل. وهنا، من هذا البون العزيب، يدني الشاعر الظعائن، فيذكر أول حالهن عند وشك الرحيل، إذ كان ينظر إليهن ويحدثهن حديثًا لا يراه ولا

ص: 350

يسمعه أولياؤهن أهل الغيرة والشكيمة -وذلك حديث العيون والتحيات وابتسام الثغور. وقد شبههن بالغمامات- ومعنى التشبيه قد مر بك. والصورة الجمالية لا تخفى، ثم أحدث فيهن الحركة بالبرق وفيه ما ذكرنا ثم فيه صفة النظر الصائد، وهذا متضمن لمعنى التشبيه بالسهم، ثم فيه هذا الاتقاء، والاتقاء كأعنف ما يكون من صراع. ثم ضمن معنى حديث النظر إليهن معنى حديث آخر، من الحديث الذين يكون فيه الترائي والكلمات والاتلاع وألق الثغور والأجياد، وهذا قد كان قبل عهد الرحيل، وقد كان عنه الرقيب غائبًا. ونظراتهن لو كانت ساعة الرحيل الذي يصفه رشقًا لأصمت بالعلوق ليس إلا، ولكنهن نظرات يبتسمن بالتلميح إلى عهد حديث ومراءاة، فهذا الذي يجعلهن من قبيل القول العذب، الذي يصيب مواقع الماء من ذي الغلة الصادي. ويؤكد هذا المعنى قوله «ألمعن» من البيت الذي يلي:

ألمعن يقصرن من بُختٍ مخيسةٍ

ومن عرابٍ بعيدات عن الحادي

والحركة هنا ظاهرة المكان. وبعد الحادي كناية عن أن الركب قد تحرك أوله وهن إنما بلغهن حدث الحركة بأخرة، فهن قصرن من الأزمة في منازعة ما بين المضي والريث القليل. وهن إذ يفعلن هذا يبدو منهن، من ضرور المراءاة ما لم يقصدن حتى يوم تعمدن المراءاة أن يبدينه. قال أبو الطيب وكان رحمه الله من أصحاب الرجعة إلى القدماء وإلى الأصول في تجديده الذي لا يدفع موضعه:

وجلا الوداع من الحبيب محاسنًا

حسن العزاء وقد جلين قبيح

من ذلك انكشاف الأشلة عن الرواحل، فتبدو خصائل أفخاذهن وأعضادهن. ولا تهمن أن الشاعر إنما أراد هنا وصف أفخاذ الرواحل وأعضادها لا غير. فبعير الحسناء مما يزخرفه الشعراء حتى يجعلونه (وإن شئت فقل يجعلوه والرفع أجود وأحب إليّ) كالحسناء. وقصيدة حميد بن ثور القافية، وقد استشهدنا منها بأبيات السرحة، شاهد في هذا، ومعظمها وهو أطول مما تمثلنا به هنا يصف الظعينة

ص: 351

وراحلتها ويزخرفه حتى قد آض كالعروس. ولولا أن الذي يدخل منها في باب مقاييس الجمال كثير، لكنا جئنا بها في هذا الموضع، وقد نتعرض لها أن تيسر ذلك. وقد فطن النقاد القدماء إلى أن القطامى مما يداخل نعت الإبل في نعت النساء ورموه برمية من نوافذهم حيث قالوا عن لاميته، لو كان قوله:

يمشين هونًا فلا الأعجاز خاذلةٌ

ولا الخصور على الأعجاز تتكل

في صفة النساء لكان أشعر الناس. وما كان ليغيب عن النقاد القدماء أن الشعراء قد يداخلون نعت النساء في نعت الإبل، من ذلك قول المرقش:

رمتك ابنة البكري عن فرع ضالةٍ

وهن بنا خوص يخلن نعائما

وفيهم من قدم المرقش على امرئ القيس. وليس مثل هذه المداخلة من فساد الذوق، إنما هي من قبيل ما يصنعه الفنان الراسم من توحيد أطراف الصورة بسمت واحد. وقد ذكرنا أنهم مما كانوا يريغون إلى التجويد، ومن حاق تجارب النفوس العميقة أن تطلب التسامي بالفن والتجويد.

هذا، وقد كشف القطامي مراده من توحيد الصورة في قوله:

من كل بهنكةٍ ألقت إشالتها

على هبلٍ كركن الطود منقاد

فكما تنكشف أشلة الرواحل، تنكشف إشالات الظعائن، وكما تبدو خصائل الأفخاذ والأعضاء من كل هبل كركن الطود منقاد، كذلك يبدو منهن، وفي ذكر الانقياد إشعار بنعتهن، وفي ذكر الطود إشعار بالمقابلة لأن خصائل البعير فيهن الخشونة وما وصف طرفة، ومع هذه المقابلة اتحاد فتأمل. واللوعة والاشتهاء الموحي بهما في هذا التكشف مما لا يغيب.

ثم أشعرك القطامي أنه لا ينظر إلى واحدة بعينها، وهذا إكمال لتوحيد الصورة، في قوله:

وكل ذلك منها كلما رفعت

منها المكري ومنها اللين السادي

ص: 352

واللين السادي أسهل انسيابًا من المكري على بطئهن جميعًا.

ثم قابل ما بين هذا البطء والتباطؤ بانتقال مفاجئ إلى البون البعيد، حيث انخرط سير القافلة، وتناءت عنه بمراحل، واندفع الفتيان يطردون الوحش ليصيدوا ثم يؤوبوا ليتحفوا الفتيات بما يشتوين عند المقيل. وذكر الوحش والطراد فيه إشعار بلذة الصيد، وما يتمناه الشاعر من أن لو كان مع الظاعنين. أو كما قال أمية بن عائذ:

ألا إن قلبي مع الظاعنينا

حزينٌ فمنذا يُزي الحزينا

ثم قد نزل الحي الظاعن ليقيل، والشاعر من شوقه يتأمل حيث نزلوا، وقد جعله جنة من جنان الغزل، اديا مطمئنًا، مرتفعًا ارتفاعًا رخيمًا رهوًا عن قرارة مجرى السيل. وقد كان السيل قد فاض حتى غشي أدنى العدوة التي نزلها الحي ليقيل. ومن ثم مالت سرارته. وقد انحسر عنها فيضان السيل على أطوار، فترك عند كل موضع رتب فيه فيضانه قبل أن ينحسر خطًا من الغثاء. فأنت ترى جانب السرارة الآن، أنضادًا فوق أنضاد من جراء ذلك.

وفي هذا، عدا تأمل الطبيعة، توحيد صورتها مع صورة الغمامات ذات البروق التي أحالها إليها في رائعة من النهار، توقد بالفلاة منها الحززان ويلتمع السراب. ثم أكمل الصورة بما يناسب الغزل من ترانيم الغناء. وما في شدو المكاكي وسائر أصناف المغردات من الإيحاء ما كنا ألمنا بمعناه آنفًا بمعرض الحديث عن هديل الحمائم. وقد شبه أصوات المكاكي بأصوات النشاد، جمع ناشد وهو الذي أضل شيئًا، فهو يصيح يبحث عنه- ليلد على التجاوب وعلى مراجعة الأصداء. ثم في هذا رجوع إلى نفسه إذ قد أضل الظعائن فهو ناشد، وهو صادح، وهو أيضًا منتش بلذة ما كان من منظر وخيال، وهنا، إذ بلغ هذه الذروة، جاز له أن يتحدى بما كان أثبته في أول قصيدته من

ص: 353

دعوى الفحولة وبقية الشباب حيث قال:

أبصارهن إلى الشبان مائلةٌ

وقد أراهن عني غير صداد

إذ باطلي لم تقشع جاهليته

عني ولم يترك الفتيان تقوادي

كنية الحي إلى آخر ما قال.

ونريد أن نفيض شيئًا في الحديث عن أول هذه القصيدة وعن آخرها، ولكن ذلك قد يلج بنا استطراده شيئًا كثيرًا عما نحن بصدده، فحسبنا هذا القدر.

وإذ رأيت هذه الأمثلة الثلاثة فالقياس عليها والتفريغ منها ليس بمشكل. وقد تعلم أيضًا أن من نماذجها ما يختصر كما يختصر من نماذج غيرها، كقول المرقش:

بل هل شجتك الأظعان باكرةً

كأنهن النخل من ملهم

وقال بشر بن أبي خازم:

ألا ظعنت لنيتها إدام

وكل وصال غانيةٍ رمام

وقد بسط شيئًا في الرائية ثم خص ظعينة بالنعت وهذا مذهب وكان امرؤ القيس مما يختصر ويطيل معًا -فعل ذلك في رائيته «سما لك شوق بعد ما كان أقصرا» وهي من الروائع.

وخالط المرقش الأصغر نعت الظعائن والترائي بمعان متداخلات من قري ما ذهب إليه زهير وما ذهب إليه المثقب- وتجربته باب وحدها، يوقف عندها في موضع ذلك إن شاء الله.

وقال مزرد بن ضرار:

وقامت إلى جنب الحجاب وما بها

من الوجد، لولا أعين الناس عامدي

ص: 354