الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل اليمامي:
وهذا قد ذكره النابغة في قوله:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
…
إلى حمام شراع وارد الثمد
يحفه جانيًا نيق وتُتبعه
…
مثل الزجاجة لم تُكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما زعمت
…
تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد
فأكملت مائة فيها حمامتها
…
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
وأشار الأعشى إلى نفس القصة في قوله يخاطب ابنته وقد نوى السفر:
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
…
يومًا فإن لجنب المرء مضطجعًا
واستخبري قافل الركبان وانتظري
…
أوب المسافر إن ريثًا وإن سرعا
كُوني كمثل التي إذ غاب وافدها
…
أهدت له من بعيد نظرة جزعا
ولا تكوني كمن لا يرتجي أوبة
…
لذي اغتراب ولا يرجو له رجعا
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها
…
حقًا كما صدق الذئبي إذ سجعا
إذ قلبت مُقلة ليست بُمقرفة
…
إنسان عين ومأقا لم يكن قمعا
أي قلبت مقلة حرة صادقة ليست بمقرفة أي ليست بذات هجنة أو عيب وليس مأقها أي مجرى الدمع منها، بذي قذى ووجع ورمص. وهذا المعنى يشبه قول النابغة «مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد» .
قالت أرى رجلاً في كفه كتف
…
أو يخصف النعل لهفي أية صنعا
فكذبوها بما قالت فصبحهم
…
ذو آل حسان يُزجي الموت والشرعا
أي السهام واحدتها شرعة بكسر الشين وسكون الراء
فاستنزلوا آل جو من مساكنهم
…
وهدموا شاخص البُنيان فاتضعا
وفتاة الحي المشار إليها في كلام النابغة، وذات الأشفار المشار إليها في كلام الأعشى هي زرقاء اليمامة، وكانت توصف بحدة البصر وسلامته، والراجح عندي أن زرقاء اليمامة هذه قد كانت من آلهة العرب المؤنثات أو عسى إن كانت كاهنة ثم أُلهت فيما بعد. والقصة التي أشار إليها النابغة من قصتها هي ما ذكروه أنها رأت ذات يوم سربًا من الحمام، بين جانبين عاليين من جبلين متقابلين، وذلك أخفى له، فقالت تسجع:
ليت الحمام ليه
إلي حمامتيه
ونصفه قديه
تم الحمام ميه
والقصة التي أشار إليها الأعشى هي ما ذكروه في حكاية طسم وجديس وكلتاهما من العرب العاربة التي هلكت في الزمان الخالي. وقال الراوي يذكر مسير حسان ملك حمير إلى جديس ليفنيهم انتقامًا لما فعلوه من الغدر بإخوانهم من طسم، وقد كان مضى إليها رجل من طسم يستثيره يقال له رياح بن مرة، قال (1):«فلما كان أي حسان» - من جو (2) على مسيرة ثلاثة أيام، قال لهم رياح، إن فيهم امرأة يقال لها اليمامة، تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام. فاقطعوا الشجر، وليضع كل راكب منكم بين يديه غصنًا من أغصانها ليشتبه عليها. فقامت اليمامة على رأس حصن لهم يقال له البتيل (3)، فقالت «أرى يا قوم زحفت إليكم الشجر. أم أتت
(1) ديوان الأعشى طبع أوربا، تحقيق جابر-81 - 82.
(2)
في الديوان «على جو» وأحسب الصواب (من) وأصلحناه لتستقيم القراءة للقارئ، فليحقق. وجو هي أرض اليمامة، كانت تسميها العرب جوًا.
(3)
يا ترى هل كان البتيل هذا معبدًا للإلهة؟ بيت إيل! !
حمير. إني أرى شجرًا. ومن خلفها بشرًا (1). ومن تلك العجائب تنتظر. وكذبوها فقالوا: أما تزالين تأتيننا بالإفك؟ ثم رجعت بصرها. فوضح (2) لها تصديق ما رأت فقالت:
خُذوا حذاركم يا قوم ينفعكم
…
فليس ما قد أرى بالأمر يُحتقر
إني أرى شجرًا من خلفها بشرًا
…
وكيف تجتمع الأشجار والبشر
خُذوا طوائفكم من قبل داهية
…
من الأمور التي تُخشى وتُنتظر. أهـ»
ثم القصة التي ذكرها شارح الأعشى تكشف لنا أنه كان للزرقاء سر سحري أعطاها قوتها البصرية الخارقة وهو الإثمد، وهذا لا يناقض قول النابغة:
مثل الزجاجة لم تُكحل من الرمد
إذ معنى هذا إنها لم تكن ترمد فتكحل فهو لا يزيد على مجرد نفي الاكتحال من أجل الرمد ومحاولة التأكيد لما كان لديها من سلامة البصر وإلى مثل هذا المعنى أراد الأعشى حيث قال: «ليست بُمقرفة إنسان عين، ومأقا لم يكن قمعا» وفي النفي ههنا إشعار بالمقارنة والموازنة بين عيونها وما كانت عليه سائر عيون الناس لا سيما في زمان الشاعر نفسه.
ومعلوم في سياق الأخبار والأساطير أن الأسرار الطبية ونحوها مما يستعين به الناس، تُضفى حوله ألوان من السحر والقداسة وينسب إلى ضرب من الآلهة البشريين دلوا عليه الإنسانية- من هذا المجرى مثلاً قصة النار في الأساطير الإغريقية.
(1) من وقف السكون هكذا أرى شجر. ومن خلفها بشر. إلخ «على لغة ربيعة في نحو هذا استقام له السجع ولا يستبعد أن رواة هذه القصة الأولين كانوا يفعلون ذلك، إذ الأعشى من ربيعة، وفي سياق شرح كلامه وردت هذه الرواية» .
(2)
في الديوان فوضع بالعين وصوابه بالحاء وليحقق.
هذا، وفي اسم اليمامة- وهو اسم الزرقاء المنصوص عليه ههنا (1) ما يدل على رابطة شديدة بينها وبين الحمامة. ذلك بأن اليمامة والحمامة بمعنى واحد. ويقال إن اليمامة في ما يألف البيوت من الحمام. وإن صح هذا فهو أدل على ما نحن بصدده، إذ الزرقاء امرأة والنساء مما يألفن الكن والظل، ثم إنها كانت من أهل الحاضرة لا البادية بدليل كونها من مدينة جو وعلى بابها صلبت، والف البيوت أعلق بالحضر والحواضر.
وهذا ولا أحسبني أباعد إن ظننت أن الحمامة التي أكملت عدد الحمام مائة في بيت النابغة.
فأكملت مائة فيها حمامتها
…
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
هي زرقاء اليمامة نفسها. وعسى أن يكون معنى القول المنسوب إليها:
ليت الحمام ليه
…
إلى حماميته
أي إلى حمامة نفسي «أي» الحمامة التي هي «أنا» . وقد يوقف شيئًا عند قول النابغة:
فحسبوه فألفوه كما زعمت
…
تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزد
إذ نحن نعلم الأثر الوارد في أسماء الله الحسنى أن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة. والإحصاء معناه الحساب. والنابغة يقول: «وأسرعت حسبة في
(1) قد تذكر بعض المصادر أسماء أخرى للزرقاء منها عناق ولكن هذا أشهرها، وباسمها كما تقدم من قول الشارح سميت اليمامة (البلد) باليمامة.
والعناق الشابة من المعزى وفي الغزلان صنف من المعزى شابته عناق وتشبيه المرأة بالحمامة وبالغزالة في باب الخصوبة أمر متقارب.
وعناق أول امرأة زنت، قيل بنت أبينا آدم وعوج بن عناق ابنها والله أعلم.
ذلك العدد» كما رأيت- فهل يا ترى، من صلة بين ذكر الإحصاء في هذا الأثر وبين ذكر الإحصاء في كلام النابغة نقدر في ضوئه أن نفسر رمزية هذه القصة ونحدس حدسًا من طريقها بعض ما كانت تعتقده العرب في جاهليتها من أمر الزرقاء وحمامتها؟ وإذا جاز لنا أن نفترض أن الحمام الذي رأته الزرقاء ما كان إلا ضربًا من الآلهة أو قل الملائكة، فهل لنا أن نفترض أن زرقاء اليمامة كانت هي الإله الذي كان في الأرض إذ أخواته طائرات في جو السماء- أو قل الملك على الأرض المرموز إليه بالحمامة ينظر إلى ملائكة طائرات أو طائرين؟ ألم تكن العرب تعتقد أن الملائكة بنات الله؟ أم لا يروي لنا الرواة أن المختار بن أبي عبيد زعم لأصحابه أن الله سيبعث إليهم الملائكة في صور الحمام، وقد كان أعد حمامًا من أجل هذه المخرقة؟
هذا وليس بعسير على الفكر إدراك أن تكون الصلة بين قوة النظر ورمزية الحمامة. فالعرب قد كانوا أهل صحراء يطلب فيها الورد من أماكن بعيدة. وقد كانوا يشاهدون ورود القطا، وضروب الحمام وتنقلها السريع من مورد إلى مورد. ولا يخفى ما بين هذا وقوة النظر وإبعاده من قرابة قريبة.
وفي القصة النوحيه التي سبق تقديمها ما يشعر بأن الحمامة ما اختيرت لتكشف ما انحسر من الأرض إلا لقوة بصرها. وكذلك الغراب إذ هو موصوف أيضًا بإبعاد النظر. إلا أن شؤمه بعده من معاني أن يتصل نظره بالمأوى والرجاء والخصب والنماء وهلم جرا، وقاربه إلى أن يتصل نظره بما يُتوقع من أصناف البين والمكروه.
وإن جاز هذا التأويل فإن أسطورة الزرقاء تكون أبعد في أصلها وقدميتها من أسطورة القصة النوحية. ويكون معنى العين والنظر هو المعنى الأول في قدسية الحمامة ورمزيتها ثم تلاة معنى المأوى والرجاء والأمن وهلم جرا. ومعنى النظر الأول بلا ريب من معاني الخصوبة وقد رأيت ارتباطه بخصوبة الأنثى في ألوهية الزرقاء أو كهانتها أو بطولتها. أيًا ما شئت من ذلك. وفي نشيد سليمان الذي يقال له نشيد
الأناشيد: «يا حمامتي» في خطاب الحبيبة، وذلك حيث يقول سليمان:
«افتحي لي يا أُختي
يا حبيبي
يا كاملتي
لأن رأسي امتلأ من الطل
وقصصي من ندى الليل»
ولا يفتك ما في هذا المعنى الأخير من الإشارة إلى أنه صقر إذ كانت هي حمامة، إذ ذكر امتلاء ريش الصقر من الطل والندى كثير في العربية، ولا يستبعد أن يكون نحو من هذه الفكرة قد عرفه العبرانيون. قال ذو الرمة في الصقر:
طراق الخوافي واقع فوق ريعة
…
ندى ليله في ريشه يترقرق
هذا وقد يوجه قوله «يا حمامتي» على أن فيه إشارة للوداعة والرشاقة وما هو من هذا المجرى. ولكن قوله في النشيد نفسه «عيناك حمامتان» ونص التوراة «عينا خي يونيم» وترجمته قد تكون عيناك حمام أو حمائم أو حمامتان نص صريح في قرن الحمامة بالعين، وبالنظر.
وفي بعض معاني الحمامة أنها المرآة. قال الراجز: «كأن عينيها حمامتان (1)» وعلى هذا يترجم نص التوراة «عيناك مرآتان» . وغير خاف أن إفادة الحمامة معنى المرآة منشؤه من التشبيه. وهذا كله يقوي ما نذهب إليه من أن الأصل في رمزية الحمامة عبادة خصوبة المرأة من حيث نظرها: روعته وجماله وارتواؤه.
وقد يكون الأصل أبعد من هذا، ومرده إلى عبادة خصوبة الأنثى متمثلة في الشمس. والناس مما يقولون عين الشمس، وأحسب هذا مذكورًا في المأثور عن
(1) اللسان، بولاق، 15 - ص 50. الرجز للمؤرخ أنشده الأزهري ونبهني الأستاذ محمود محمد شاكر إلى هذا المعنى في الحمامة جزاه الله خيرًا.
عبادة الفراعنة القدماء. وقد كانت الشمس إلهة الرافدين. وفي العربية يقولون مغيب الشمس في عين. قال تبع:
فرأى مغيب الشمس عند مآبها
…
في عين ذي خُلب وثاط حرمد (1)
وفي القرآن: «حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة» فهل كانت الحمامة من رموز آلهة الشمس المراد بها تقديس خصوبة النظر؟ وقد سبق أن ألمعنا لك بشيء عن صلة ما بين الورد والنظر، واشتراك لفظ العين في الدلالة على الماء والنظر من هذا الأصل فيما يخيل لنا وعسى أن يكون من تشبيه عين الماء بعين النظر بجامع الاستدارة والندى والبريق في كل والله تعالى أعلم. وفي قول تبع الآنف الذكر تجده يسمى مغيب الشمس مآبًا. والعرب مما تقول غابت الشمس وآبت الشمس. ويجعل مآبها هذا إلى عين تغرب فيها: ثم يصف هذه العين بأن فيها الطين والحمأ الثاط الحرمد: ألا تحس في هذا نفسًا من قصة الحمامة النوحية إذ آبت عند المساء وفي رجليها أثر الطين؟ أم لا تحس نفسًا من معنى الورد في قول النابغة:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
…
إلى حمام شراع وارد الثمد
أم لا تحس معنى الأوبة وتوقعها في قول الأعشى:
كوني كمثل التي إذ غاب وافدها
…
أهدت له من بعيد نظرة جزعًا
ولا تكوني كمن لا يرتجي أوبة
…
لذي اغتراب ولا يرجو له رجعًا
ولعل مما يرجح أن مرد تأليه النظر في الأنثى إلى أرض بابل والسحر ومن صلة ما بين النظر والسحر، ثم ما رأيته ملحقًا بقصة الزرقاء من أمر الإثمد. وهو في القصة كما ترى حجر سحري، والعرب مما تقول الإثمد الحاري؟ قال عمرو بن معد يكرب (2):
كأن الإثمد الحاري فيها
…
يُسف بحيث تبتدر الدموع
(1) أي الطين الأسود المتغير.
(2)
الأصمعيات، دار المعارف، مصر 198.
والحاري نسبة إلى الحيرة من أرض العراق. ومهما يكن من شيء فقصة الزرقاء التي سقنا نص في ارتباط الحمامة بخصوبة المرأة وبالنظر وجماله وبالكحل وأثره السحري، ثم داخل فيها معنى الورد والسقيا والمأوى والكن والأمل والرجاء.
وقد عرفت العرب تشبيه العين بالحمامة كما عرفته التوراة كالذي مر بك من قول الراجز: «كأن عينيها حمامتان» وإن يك معنى الحمامة ههنا المرآة. والبيت الذي استشهدنا به آنفًا من قول عمرو بن معد يكرب:
كأن الإثمد الحاري فيها
…
يُسف بحيث تبتدر الدموع
أي كأن الإثمد الذي أسفته لثاتها السود، لم تسفه لثاتها السود وإنما اسفته هُدبها، حيث تبتدر دموعها- وههنا كما ترى تشبيه لفم الفتاة بعينها. والفم مما يشبه بالحمامة في الشعر القديم. قال الآخر:
كنواح ريش حمامة نجدية
…
ومسحت باللثتين عصف الإثمد
قال الأعلم في شرحه لأبيات الكتاب: «وصف في هذا البيت شفتي المرأة فشبههما بنواحي ريش الحمامة في رقتهما ولطافتهما وحُوتهما وأراد أن لثاتها تضرب إلى السمرة، فكأنها مسحت بالإثمد، وعصف الإثمد ما سحق منه، وهو من عصفت الريح إذا هبت بشدة، سحقت ما مرت عليه وكسرته وهو مصدر وصف به المفعول كما قيل الخلق بمعنى المخلوق والرواية الصحيحة مسحت بكسر التاء وعليه التفسير. وروي مسحت بضم التاء ومعناه قبلتها فمسحت عصف الإثمد في لثتيها وكانت العرب تفعل ذلك، تغرز المرأة لثاتها بالإبرة ثم تمر عليها الإثمد والنوؤر وهو دخان الشحم المحروق حتى يثبت باللثات فيشتد ويسمر ويتبين بياض الثغر. أو يكون المعنى باشرت من سمرتها مثل عصف الإثمد. وإنما خص الحمامة النجدية لأن الحمام عند العرب؟ ؟ ؟ مطوق كالقطا وغيره. وإنما قصد منها إلى الحمام الورق المعروفة وهي تألف الجبال والجزر والنجد ما ارتفع من الأرض ولا تألف الفيافي والسهول كالقطا
وغيره (1). أهـ.» والذي يترجح عندي أن قوله «نجدية» نسبة إلى نجد المعروفة من بلاد العرب ونسب إليها الحمامة كما تنسب الأسد إلى بيشه والسيوف إلى المشارف وإلى الهند، لشهرتها بها، ولا يخلو ذلك من معنى ما قدمناه لك من قصة اليمامة وقد كانت من أهل نجد.
ونعود إلى ما كنا فيه من بيت عمرو وما ضمنه من الإشارة إلى تشبيه العين بالحمامة من طريق تشبيه الثغر بالعين وهو يُشبه بالحمامة وفي الإثمد الذي يذكره عمرو ما علمت من المعنى اليمامي.
وأقرب تأويلاً من بيته هذا بيت المثقب العبدي حيث قال في الظعائن:
وهُن على الرجائز واكنات
…
قواتل كل أشجع مستكين
وإنما يقتلن بنظراتهن، وقد شبههن وهن في رجائزهن بالحمائم التي في الوكون كما ترى، وإن لم يصرح بذكر الحمام. على أنه قد صرح بالحمام والوكون في بيت متأخر من هذه النونية، وذلك حيث يقول:
وتسمع للذباب إذا تغنى
…
كتغريد الحمام على الوكون
هذا وفي تشبيه الشفتين بجناحي الحمامة دلالة قوية جدًا على معنى الخصوبة المؤنثة في الحمامة، وهو المعنى المستكن في تأليه زرقاء اليمامة كما قد ذكرنا. قال النابغة في وصف المتجردة:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها
…
نظر السقيم إلى وجوه العود
تجلو بقادمتي حمامة أيكة
…
بردًا أسف لثاته بالإثمد
والنابغة كما رأيت يعلم قصة الزرقاء، وقد ربط الحمام فيه بمعنى الورد في قوله
(1)()
«إلى حمام شراع وارد الثمد» وهو في بيتيه قد بسط المعنى وفصله ووضحه أيما توضيح. فالمتجردة في هذين البيتين معًا منعوته بنعت الحمامة، إذ لا يكون لها قادمتان، إلا إذا كانت هي نفسها حمامة والقادمتان شفتاها اللعساوان الورقاوان كالحمامة الورقاء واللثتان من دونهما سوداوان عليهما الإثمد، قد رواهما كما روى عروق العينين من زرقاء اليمامة. ثم من دون هاتين اللثتين أنيابها اللواتي كأنهن برد. ودلالة البرد على الري والورد الشافي لا تخفى.
والصورة كلها بعد فيها إشعار شديد بالخصب، إذ لا تحتاج إلى كبير تأمل لترى وجه الشبه بين لعسة الشفتين وسواد اللثات وحوة الشاطئين وأكناف الغدير.
وفي قول النابغة «تجلو بقادمتي حمامة أيكة» إشارة إلى معنى العين والنظر عند قوله «تجلو» كما أن فيه روحًا من البهجة والخفة، إذا خفوق جناحي الحمامة جميل خفيف، وتشبيه افتراق الشفتين بذلك، فيه صورة ابتسام وافترار.
هذا وأنت ترى النابغة حين جعل نظر المتجردة بعيدًا ملتاعًا في بيته الأول:
نظرت إليك بحاجة لم تقضها
…
نظر السقيم إلى وجوه العود
عاد فجعل فمها ممتلئًا ريان خصبًا برودا. وفي هذا إلماع إلى معاني الحب والوصال واللقاء، إذ الأنثى كما هي مورد نضير، هي أيضًا ظمأ مُحتدم، لا شفاء له إلا أن يلقى ظمأً آخر محتدمًا من صنفه وجنسه.
هذا ورمز الحمامة المشرف على بيتي النابغة معًا فيه إيحاء بسائر ما يكون في معنى الحمامة من الوداعة واللطف والإيواء والرجاء والأمل. ولذلك قال في الأبيات التي تلتها:
كالأقحوان غداة غب سمائه
…
جفت أعاليه وأسفله ندى
زعم الهمام بأن فاها بارد
…
عذب مقبله شهي المورد
زعم الهمام ولم أذقه أنه
…
يشفي ببرد لثاته العطش الصدى
هذا وأحسب تشبيه عين المرأة بعين الخاذل وعين البقرة الوحشية والظبية والجؤذر أصله من شبه الحمامة أو قل من صلة الحمامة بالورد والخصوبة والمأوى والوداعة. ولعل في الجمع بين الحمام والغزلان في الأمن بحرم مكة شيئًا من هذا المعنى. وقد ذكر زهير القطاة (والقطاة من الحمام) لما نجت من الصقر فقال:
ثم استمرت إلى الوادي فألجأها
…
منه وقد طمع الأظفار والحنك
حتى استغاثت بماء لا رشاء له
…
من الأباطح في حافاته البرك
كما استغاث بسيء فز غيطلة
…
خاف العيون فلم يُنظر به الحشك
والشاهد عندنا هذا البيت الأخير الذي يشبه فيه زهير حال القطاة بعد أن أمنت في الوادي، وصارت إلى ماء سائح على وجه الأرض، في حافاته الطير الصغار، بحال فز الغيطلة أي ولد البقرة الوحشية حين يخاف العيون فيفزع إلى أمه يستغيث بسيئها أي ما في ضرعها من لبن قبل أن يمتلئ ذلك الضرع ويحتفل، (وهذا هو معنى الحشك)، والمقصود بالتشبيه من ولد البقرة ههنا عيناه، إذ فيهما الدلالة على خوفه. ونحو هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة:
وترنو بعينيها إلي كما رنا
…
إلى ربرب وسط الخميلة جُؤذر
وإنما يرنو الجؤذر إلى الربرب لأن أماته فيه، وفي نحو هذه النظرة حنان كثير.
وفي ولد البقرة الوحشية واستغاثته بضرع أمه يقول أبو العلاء:
إذا شرب الأرفي مال به الكرى
…
إلى سدرة أفنانها فوقه تغطو
والأرفي لبن الأروية وهي ظبية الجبال.
وولد الظبية تصفه العرب بالخرق والتناوم والنعاس، وبذلك أيضًا يصفون منعمات العذارى، قال المرار:
والضحا تغلبها رقدتها
…
خرق الجؤذر في اليوم الخدر