الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد جعل نفسه في أول القصيدة سقيمًا من الحب كأنه هلال حيث قال:
صلة الهجر لي وهجر الوصال
…
نكساني في السقم نكس الهلال
فغدا الجسم ناقصًا والذي ينقص
…
منه يزيد في بلبالي
فالدمنتان ونؤيهما كأنهن عوائد له، وما في الدمنتين من كناية لا يخفي.
هذا ورمزية الأثافي باب واسع والحديث فيها مما يطول. وهي مما غبر دهرًا طويلاً في الشعر العربي وافتن فيه القدماء والمولدون كما رأيت، وقد خلص شيء كثير منها إلى اللغات العامية، من ذلك قول المحلق صاحب تاجوج (1):
هاديك دارا وديك لداياها
وهاداك الفرع مُعلاق رواياها
أكان نسلم من الدنيا وسواياها
نتونس مع البضون ثناياها
وبحسبنا هذا القدر عن الأثافي والرماد والحمام والله أعلم.
الليل والنجوم:
الليل والنجوم من قديم ما لهج به الشعراء. ولا غرو، فالليل فيه المأوى والهدوء، كما فيه الوحشة والرعب والغوامض المجهولات، من جن وسعال وغيلان. قال ذو الرمة يصف سرى الليل:
بين الرجا والرجا من جنب واصية
…
يهماء خابطها بالخوف مكعوم
للجن بالليل في أرجائها زجل
…
كما تناوح يوم الريح عيشوم
(1) قصة المحلق وتاجوج معروفة بالسودان وكلاهما من قبيلة الحمران من فروع الكواهلة، كانت. تسكن منطقة نهر سيتيت. وقد فرقت بين المحلق وتاجوج صروف الدهر في خبر طويل فظل يتغنى بها وقوله: دارًا، أي دارها. ولداياها أي أثافيها المفرد لداية والجمع لدايات ولدايا وأصله من أداة صغرت فقالوا أداية ثم أدخلوا أل التعريف وأدغموا لامها في الهمزة ثم نسوا التعريف فنكروا ما كانوا عرفوه. معلاق ما يعلق به. رواياها: قربها التي تحمل الماء. سواياها: مساوئها. نتونس: نتانس. البضون: التي يضئن ثناياها أي ذات الثنايا المضيئة وال موصولة:
والعيشوم ضرب من الثمام
هنا وهنا ومن هنا لهن بها
…
ذات الشمائل والأيمان هينوم
داوية ودُجى ليل كأنهما
…
يم تراطن في أفدانه الروم
وقال أيضًا:
قد عجبت أخت بني لبيد
…
وهزئت مني ومن مسعود
رأت غُلامى سفر بعيد
…
يدرعان الليل ذا السدود
وفي الليل أيضًا الأنس والخلوة ولقاء الأحبة. قال أبو الطيب:
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تُخبر أن المانوية تكذب
وقال ردى الأعدا تسري إليهم
…
وزارك فيه ذو الدلال المُحجب
وقال أيضًا وقد مر الاستشهاد بثلاثة أبيات منه:
قف على الدمنتين بالدو من ر
…
يا كخال في وجنة جنب خال
بطلول كأنهن نجوم
…
في عراص كأنهن ليالي
ونؤي كأنهن عليهن
…
خدام خرس بسوق خدال
لا تُلمني فإنني أعشق العـ
…
شاق فيها يا أعذل العذال
ولا يخفى ما في كلام أبي الطيب من الإشارة إلى ليالي الأنس ونجوم الحسان ذوات الخلاخيل الخرس والسوق الخدال. وظاهر التشبيه فيه ما ذكرنا آنفًا وفيه أيضًا الإلماع إلى أن الربوع والعراص مُبهمات إبهام الليالي حتى يهتدي إلى معرفتهن الواقف بآثار الرسوم والطلول اللاتي هن منهن بمنزلة المعالم، كما يهتدي ساري الليل بالنجوم.
والذي جاء في مدح الليل كثير- وأكثره يقع في باب المبدأ والنسيب، ودلالته على الحنين لا تخفى. وقد يقع بعد الخروج في باب الأغراض بمعرض الفخر وما إليه،
كقول طرفة، وذكر النجوم إذ قد كان أنسه ليلاً:
نداماي بيض كالنجوم وقينة
…
تروح علينا بين بُرد ومُجسد
وسنعرض لهذا من مذهبهم فيما بعد إن شاء الله.
وكثيرًا ما يذكرون ليلة بعينها ثم يصفون ما كان فيها كالذي فعل عمر في الرائية:
وليلة ذي دوران جشمتني السرى
…
وقد يجشم الهول المُحب المُغرر
ثم قال:
فيا لك من ليل تقاصر طوله
…
وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
وقد سلك عمر سبيل جماعة قبله، وقلده جماعة كثيرون بعده- منهم جران العود حيث قال في الفائية التي مطلعها:
ذكرت الصبا فأنهلت العين تذرف
…
وراجعك الشوق الذي كنت تعرف
قال:
فلما علانًا الليل أقبلت خُفيه
…
لموعدها أعلو الإكام وأظلف
وأكثر من ذكر ليلة بعينها أن يعمموا فيقولوا ليالي كذا وكذا- قال عبد بني الحسحاس:
ليالي تصطاد القلوب بفاحم
…
تراه أثيثًا ناعم النبت عافيًا
وقال امرؤ القيس:
ليالي سلمى إذ تُريك مُنصبًا
…
وجيدًا كجيد الرئم ليس بمعطال
وقال ذو الرمة:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه
…
كأنني ضارب في غمرة لعب
وقال امرؤ القيس:
ديار لهند والرباب وفرتني
…
ليالينا بالنعف من بدلان
ليالي يدعوني الهوى فأجيبه
…
وأعين من أهوى إلي روان
وقال علقمة بن عبدة:
ليالي لا تبلى النصيحة بيننا
…
ليالي حلوا بالستار فغرب
وقال طرفة:
ليالي أقتاد الصبا ويقودني
…
يجول بنا ريعانه ونُجاوله
والليالي وذكر اللهو وما إليه في كل هذا إنما هو كناية عن الشباب، وما ضاع من فرص الحياة، ونوع من البكاء والحسرات على اقتراب الموت وذهاب هذا العيش اللذيذ.
والليل من حيث هذا المعنى لا حق برموز الخصوبة والري والسقيا- وقول عبد بني الحسحاس:
ليالي تصطاد القلوب بفاحم
…
تراه أثيثًا ناعم النبت عافيًا
أي كثيرًا- شاهد في هذا إذ هو لم يرد سواد اللون في الشعر وحده كما ترى، وإنما أراد خصبه وريه وشبابه.
واختلاط معنى السواد والخضرة كثير عند العرب حتى إنهم ليقولون ليل أخضر وقالوا سواد العراق يريدون خضرته. وقال تعالى {مُدْهَامَّتَانِ} يصف جنتين شديدتي الخضرة- وكل هذا فيه معنى الخصب كما ترى.
وقال امرؤ القيس يصف الشعر:
وفرع يُغشي المتن أسود فاحم
…
أثيث كقنو النخلة المُتعثكل
وقال المرقش الأصغر:
إلا حبذا وجه ترينا بياضه
…
ومُنسدلات كالمثاني فواحما
والإشعار بمعنى الليل في كلا هذين الكلامين لا يخفى والفعل يغشى وهو ههنا مضعف مما يكثر ورود ذكره في الليل، قال تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} .
وقد صار تشبيه الشعر بالليل من «كليشهات» المتأخرين الدائرة أيما دوران.
قال أبو الطيب:
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها
…
في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها
…
فأرتني القمرين في وقت معًا
وهذا باب يطول فيه الحديث، ومن أجمل ما جاء في ليالي الإنس واللهو وأعجبه إلى قول العبد:
تعاورن مسواكي وأبقين مُذهبًا
…
من الصوغ في صُغرى بنان شماليا
وقلن ألا يا العبن ما لم يردنا
…
نعاس فإنا قد أطلنا التنائيا
لعبن بدكداك خصيب جنابه
…
وألقين عن أعطافهن المراديا
وما رمن حتى أرسل الحي داعيًا
…
وحتى بدأ الصبح الذي كان تاليًا
وحتى استبان الفجر أشقر ساطعًا
…
كأن على أعلاه سبًا يمانيًا
فأدبرن يخفضن الشخصو كأنما
…
قتلن قتيلاً أو أصبن الدواهيا
وأصبحن صرعى في البيوت كأنما
…
شربن مُدامًا ما يُجبن المُناديا
فعزيت نفسي واجتنبت غوايتي
…
وقربت حُرجوج العشية ناجيًا
ومن ههنا تبدأ الحسرة وادعاء التسلي ولا سلوان. وحق هذا أن يستشهد به في الفصل التالي، وهو فصل الغزل والنعت، ولكن كل هذه المعاني مما تتداخل كما قدمنا.
وقال أحد المتأخرين من متكلفي البديع في مدح الليل:
يا ليل طُل، يا نوم زل
…
يا صُبح قف لا تطلع
وهذا مأخوذ كما ترى من معنى القصر وسرعة الذهاب في ليالي الأنس وأيام الدعة. قال عمر كما تعلم:
فيا لك من ليل تقاصر طوله
…
وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
وقال سحيم:
تأوبني ذات العشاء هُموم
…
عوامد منها طارف وقديم
وما ليلة تأتي علي طويلة
…
بأقصر من حول طباه نعيم
فمن ههنا ترى أن صاحب «يا ليل طل» وإن أصاب سطحي البديع، قد أساء من حيث حاق المعنى، إذ طول الليل معناه الهم، فكأنه -أعانه الله- تمنى طول الليل والسهر وألا يطلع الصبح وذلك هو الشقاء، إذ كل وقت مع السعادة لا يقال له طويل وإن كان مقياس مداه غير قليل.
وقد ذم الليل بالفزع والهم والوحشة وما يجري هذا المجرى. من ذلك ما قدمناه لك من أبيات ذي الرمة.
وأكثر ما يقع الهم والفزع والوحشة في باب الخروج، فيقرون الهم ظهور الإبل، وينسبون الفزع والوحشة إلى ليل السرى. وأكثر ما يجئ هذا في نعت البقرة الوحشية والثور الوحشي. قال لبيد:
باتت وأسبل واكف من ديمة
…
يُروي الخمائل دائمًا تسجامها
يعلو طريقة متنها متواتر
…
في ليلة كفر النجوم غمامها
وقال ذو الرمة:
ضم الظلام على الوحشي شملته
…
ورائح من نشاص الدلو مُنسكب
وظلام ليلته كما رأيت كأشد ما يكون الظلام لما يخالطها من تراكم السحب.
وقال ذو الرمة:
أغباش ليل تمام كان طارقه
…
تطخطخ الغيم حتى ما به جُوب
أي حتى ليس بين سحابه من فرجات.
وباب الخروج سيجيء من بعد إن شاء الله.
وقد يقع الهم والفزع في باب الأغراض وذلك أيضًا مما يلي إن شاء الله. وقد يقعان هما وما يجري مجراهما في باب النسيب وربما استهل الشاعر بذكر الليل أو النجوم في هذا المعنى، كما يستهل بذكر الدار وبالمرأة- إذ كل أولئك مشعر بمعنى الحنين والتعلق بالدنيا الزائلة.
قال امرؤ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
قفلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومه
…
بكل مُغار الفتل شُدت بيذبل
كأن الثريا عُلقت في مصامها
…
بأمراس كتان إلى صُم جندل
وقال المرقش الأصغر:
أرقني الليل برق ناصب
…
ولم يُعني على ذاك حميم
من لخيال تسدى موهنًا
…
أشعرني الهم فالقلب سقيم
وليلة بتها مسهرة
…
قد كررتها على عيني الهموم
لم أغتمض من طولها حتى انقضت
…
أكلؤها بعدما نام السليم
وأصل هذا المعنى كله من معنى المأوى والدار والألفة، فإنه متى فقد المرء ألفه حن إليه وكان الليل لذلك أدعى وقد كشف هذا المعنى قيس بن ذريح حيث قال:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
…
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا
…
لي الليل هزتني إليك المضاجع
وقد أكثر الشعراء في طول الليل، من ذلك الكلمة المشهورة:
في ليل صول تناهي العرض والطول
…
كأنما ليله بالليل موصول
وهي مما استهل به صاحبه.
ومما استهل به أيضًا كلمة الراعي اللامية وذكر الهم والليل:
ما بال دفك بالفراش مذيلاً
…
أقذى بعينك أم أردت رحيلاً
لما رأت أرقى وطول تلددي
…
ذات العشاء وليلي الموصولا
قالت خُليدة ما عراك ولم تكن
…
أبدًا إذا عرت الشئون سئولا
أخليد إن أباك ضاف وساده
…
همان باتا جنبه ودخيلاً
وقد جارى الراعي في مطلعه هذا كلمة الأسود بن يعفر:
نام الخلي وما أُحس رُقادي
…
والهم محتضر لدي وسادي
ويعجبني في هذا المجرى ما رواه المبرد في كامله لأحد الأعراب:
ما لعيني كُحلت بالسواد
…
ولجنبي نابيًا عن وسادي
لا أذوق النوم إلا غرارًا
…
مثل حسو الطير ماء الثماد
أبتغي إصلاح سُعدى بُجهدي
…
وهي تسعى جُهدها في فسادي
فتتاركنا على غير شيء
…
ربما أفسد طول التمادي
وهذا لاحق بباب العذل وهو من الغزل وسنلم به إن شاء الله
وقال الأعشى مستهلاً بالأرق والسهاد:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
…
وما بي من سُقم وما بي معشق
ولكن أراني لا أزال بحادث
…
أُغادي بما لم يُمس عندي وأُطرق
وقد عدد أسباب الأرق كما ترى وذكر أن الذي أرقه هو توالي النكبات من غير سابق توقع.
وقال الفرزدق وعلل طول ليل المهموم:
يقولون طال الليل والليل لم يطل
…
ولكن من يشكو من الحب يسهر
وأوفى هذه المعاني قول امرئ القيس لما سوى فيه بين الليل والنهار عند انقطاع الرجاء أو تضعضعه.
وذكر النجوم كثير مع ذكر ليل الهم في باب النسيب وذلك أن المهموم برعاهن.
قال النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
…
وليل أُقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بُمنقض
…
وليس الذي يرعى النجوم بائب
وصدر أراح الليل عازب همه
…
تكاثر فيه الهم من كل جانب
وهذا من أشرف ما قيل في بابه. وقريه مختلف عن قري امرئ القيس لأن كلام امرئ القيس كلام متأمل في أحوال الدهر بلا شبابًا غضًا ثم انحسرت آماله. أما كلام النابغة فكلام سري لم تشرده الأقدار وأحوال الزمان ولكنهن أشعرنه الهموم الحرار الدخائل، مما يحفز صاحبه على العمل والأمل وإن عز المطلب. قال:
كتمتك ليلاً بالجمومين ساهرًا
…
وهمين باتا مُستكنًا وظاهرًا
أحاديث نفس تشتكي ما يريبها
…
وورد هموم لن يجدن مصادرًا
تكلفني أن يفعل الدهر همها
…
وهل وجدت قبلي على الدهر قادرًا
وكل هذا مما استهل به النابغة عند أول مبدأ القصيدة كما ترى. وأحسب أن استشعار النابغة لمثل هذا الضرب من الهموم هو الذي ألهمه تشبيهه الرائع:
فإنك كالليل الذي هو مُدركي
…
وإن خلت أن المُنتأى عنك واسع
ومما استهل فيه الشعراء بليل الهم وذكروا النجوم كلمة المهلهل حيث يقول:
أليلتنا بذي حُسم أنيري
…
إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذنائب طال ليلي
…
فقد أبكي من الليل القصير
ثم أخذ في نعت النجوم فقال:
كأن كواكب الجوزاء عُوذ
…
مُعطفة على رُبع كسير
وهذا التشبيه فيه نفس من الهديلية كما ترى:
كأن الجدي في مثناة ربق
…
أسير أو بمنزلة الأسير
كأن النجم إذ ولى سُحيرًا
…
فصال جُلن في يوم مطير
والنجم الثريا وبذلك فسر قوله تعالى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} في بعض ما ذكره الطبري وغيره من أقوال المفسرين:
كواكبها زواحف لاغبات
…
كأن سماءها بيدي مُدير
وكأن هذا النعت مراد به الإشعار بطول الليل وأرق الشاعر ومراعاته لصور الكواكب التي لا تكاد تتحرك ولا يكاد يفني جُهد ما هي فيه من دأب.
وقد وصف النابغة كواكبه بالسوام التي ضل راعيها ولن يؤوب فهي حائرة
ضالة. ووصفها المهلهل بأنها لواغب وأنها زواحف. ووصف الجدي بأنه في مثناة ربق. وقال امرؤ القيس:
فيا لك من ليل كأن نجومه
…
بكل مُغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا عُلقت في مصامها
…
بأمراس كتان إلى صم جندل
وجعل سويد بن أبي كاهل النجوم ظلعا في قوله:
يسحب الليل نجومًا ظلعًا
…
فتواليها بطيئات التبع
وقال أبو الطيب ونظر إلى قول النابغة:
ما بال هذي النجوم حائرة
…
كأنها العُمي ما لها قائد
هذا وكل هذه الصورة والنعوت فيها تشبيه بحيوان البادية وما كانت تسميه العرب من أنعام.
وقد كانت العرب تؤله النجوم والشمس والقمر وتجعل لهن رموزًا من الأناسي والحيوان والأصنام، وتصفهن بالخلود- قال لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
…
وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وقال أيضًا:
وهل حُدثت عن أخوين داما
…
على الأيام إلا ابني شمام
وإلا الفرقدين وآل نعش
…
خوالد ما تحدث بانهدام
ومن شواهد النحويين:
وكل أخ مفارقه أخوه
…
لعمر أبيك إلا الفرقدان
ومما هو نص في عبادة الشمس والقمر آية النحل وما قص القرآن العظيم من
أوليات خبر سيدنا إبراهيم وغير ذلك كقوله تعالى: في سورة النحل {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)} فههنا إشعار بأن الله مسخرها هو الذي ينبغي أن يعبد لا هي أو كما قال تعالى في «فصلت» : {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)} - وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى من آية النحل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فجمع الآية وذكر العقل لأن الآثار العلوية أظهر على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة (1) أ. هـ وأحسب الزمخشري لم يخل من نظر في قوله هذا إلى ما كان يزعمه الفلاسفة من ارتباط العقل بالأجرام السماوية. وتلك بقية من عبادة النجوم.
وقد نهى الحديث عن قول العرب «مطرنا بنوء المجدح» إذ كانوا ينسبون المطر والسقيا إلى الأنواء وإنما الساقي الله. وزعموا أن الأصمعي كان يتحرج أو يمتنع من تفسير ما جاء فيه ذكر الأنواء من كلام القدماء تدينا وورعًا. ولعمري ما كان أكثر ما امتنع عن شرحه على هذا القول. ولقد غبر الناس بعد التوحيد ينسبون الأمطار إلى أنواء النجوم على سبيل التوقيت. وأمثال الفلاحين العامية عندنا وعند سائر الأمم الناطقة بالعربية كثير مثل قولهم «مطرًا بعد العصى قسى» (2) - وقد جمع قطرب في كتاب الأزمنة قطعة صالحة من سجعات العرب القدماء في هذا الباب (3) وقال ذو الرمة:
ضم الظلام على الوحشي شملته
…
ورائح من نشاص الدلو منسكب
(1) الكشاف، المكتبة التجارية، مصر 1354 هـ ج 2 - 324.
(2)
العصى الجوزاء أي متى طلعت الجوزاء فلا مطر وسموها عصيًا لأن وشاحها ثلاث نجوم.
(3)
منه نسخة خطية في المتحف البريطاني في مكتبة القسم الشرقي.
وقال جرير:
هل بالنقيعة ذات السدر من أحد
…
أو منبت الشيح من روضات أعيار
سقيت من سبل الجوزاء غادية
…
وكل واكفة السعدين مدرار
والسعدان من النجوم، سعد السعود وسعد الأخبية.
وهذا وتأليه النجوم وما حولهن من معاني السقيا والنور يجعلهن كأنهن باب مفرد وحده، بغض النظر عن صلتهن بالليل. والشمس وهي كبراهن إنما تظهر بالنهار. وقال جرير في عمر بن عبد العزيز:
فالشمس طالعة ليست بكاسفة
…
(تبكي عليك) نجوم الليل والقمرا
وقد كانوا في الكسوف مما يرون النجوم نهارًا، ويرون منهن خلاف ما يرى في الليل. وزعموا أن يوم حليمة بدت كواكبه نهارًا لما غطا الغبار على الكون ومنه المثل «ما يوم حليمة بسر». وقال طرفة بن العبد يصف امرأة:
إن تنوله فقد تمنعه
…
وتريه النجم يجري بالظهر
ظل في عسكرة من حُبها
…
ونأت شحط مزار المدكر
وسكن الحاء من شحط وهي فعل ماض جيء به على سبيل التعجب، أو هي مصدر منادى محذوف أداة النداء للتعجب.
والشمس كما قدمنا كانت من الآلهة عهد الخصوبة الأولى وفي أزمان الجاهلية لا بل كانت رأس الآلهة عند أكثر الساميين الأولين.
وقال ابن منظور في اللسان (مادة أله):
«وقد سميت العرب الشمس لما عبدوها الإلهة والألهة الشمس الحارة، حكى عن ثعلب والأليهة والألاهة كله الشمس، اسم لها، الضم في أولها عن ابن
الأعرابي. قالت مية بنت أم عتبة بن الحرث كما قال ابن بري:
تروحنا من اللعباء عصرًا
…
فأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
على مثل ابن مية فانعياه
…
تُشق نواعم البشر الجيوبا
قال ابن بري وقيل هو لبنت الحارث اليربوعي إلخ ما قاله أهـ.
وشعر العرب في تشبيه المرأة بالشمس كثير، منه قول المرار:
وصورة الشمس على صورتها
…
كلما تشرق شمس أو تذر
وقال النابغة:
قامت تراءى بين سجفي كلة
…
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
وقال طرفة:
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها
…
عليه نقي اللون لم يتخدد
وقال الأيادي:
ويصن الوجوه في الميسناني
…
كما صان قرن شمس غمام
وقال سويد:
تمنح المرآة وجهًا صافيًا
…
مثل قرن الشمس في الصحو ارتفع
وقال ابن الخطيم:
تراءت لنا كالشمس خلف غمامة
…
بدأ حاجب منها وضنت بحاجب
وقال المتنبي وهو ينظر إلى أصل التشبيه بالشمس:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء
…
إذ حيث كنت من الظلام ضياء
قلق المليحة وهي مسك هتكها
…
ومسيرها في الليل وهي ذكاء
وقال ذو الرمة وذكر النجم ولمح إلى تشبيه حبيبته بالشمس:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا
…
مُحياك أخفى ضؤوه كل شارق
ويجوز أن يكون قد أراد التشبيه بالقمر لكن إخفاء الشمس للكواكب أشد وأعم وأتم وذكر العرب القمر في معرض تشيه المرأة قليل كما سنذكر وقال أبو تمام:
لحقنا بأخراهم وقد حوم الهوى
…
قلوبًا عهدنا طيرها وفي وُقع
فردت علينا الشمس والليل راغم
…
بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
نضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى
…
لبهجتها ثوب بالظلام المجزع
فوالله ما أدري أأحلام نائم
…
ألمت بنا أم كان في الركب يُوشع
وعهدي بها تُحيي الهوى وتُميته
…
وتشعب أعشار الفؤاد وتصدع
وهذا باب واسع.
وقد شبه الرجال بالشمس في باب البراعة والجلال ولكن هذا مما يدخل في باب الأغراض كالمديح وما إليه- من ذلك قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وهذا القري كثير وليس من هذا الباب وإن كان قد يداخله. ومثله قول الأعشى في نفسه لما حكم بين عامر وعلقمة:
حكمتموه فقضى بينكم
…
أبلج مثل القمر الزاهر
وتشبيه الوجوه الجميلة بالقمر سبيل سابلة قال الأعشى كما رأيت:
حكمتموه فقضى بينكم
…
أبلج مثل القمر الزاهر
وقال:
أريحي صلت يظل له القو
…
م ركودًا قيامهم للهلال
وقال الفرزدق ونظر إلى هذا:
قيامًا ينظرون إلى سعيد
…
كأنهم يرون به هلالاً
وصيغة القمر في اللغة التذكير. وكان الغالب على القدماء أن يشبهوا به الرجل. وقالوا للسيد من القوم بدر وسموا بذلك بدرًا أبا حذيفة بن بدر سيد بني فزارة.
وقال ابن أحمر:
وقد نضرب البدر اللجوج بكفه
…
عليه ونُعطي رغبة المتودد
وقالوا سمي بدر السماء بدرًا لأنه يبادر الشمس أن تغيب وفي هذا معنى القرآن كما ترى (1). وقرانات القمر معروفة. ولا ريب أن القمر قد كان عندهم من الآلهة المذكرة وأحسبه كان زوج الشمس فلذلك غلبوه عليها فقالوا «القمران» : وكان مما يعتقدونه في القمر، على وجه تأليهه وتذكيره، أنه قد يقلص القلفة، فكانوا إذا هجوا أقلف قالوا هو أقلف إلا ما نقص منه القمر (2). وأحسب إنه من أجل هذا التذكير قد قل شعر جاهلي تجد فيه المرأة مشبهة بالقمر، وإنما كانوا يشبهونها بالشمس كما مر بك.
ومن تشبيه المرأة بالقمر الذي يجيء نادرًا، من باب حمل الضد على ضده، ما روي من قوله «بيضاء بهترة، حالية عطرة، حيية خفرة، كأنها ليلة قمرة» - ومعنى الليلة وهي مؤنثة أوضح ههنا- وربما كان هذا الكلام إسلاميًا أو مصنوعًا.
وقول عمرو بن معد يكرب:
وبدت لميس كأنها
…
قمر السماء إذا تبدى
(1) راجع مادة (بدر) اللسان.
(2)
راجع مادة قمر (اللسان).
كأنه مصنوع وقد اضطرب فيه الشراح
وقول النابغة «أقمر مشرفًا» ليس من هذا الباب. وقال جميل:
هي البدر حُسنًا والنساء كواكب
…
وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فُضلت حُسنًا على الناس مثلما
…
على ألف شهر فُضلت ليلة القدر
وأثر الإسلام هنا ظاهر. وقد باعد الإسلام بين العرب وبقايا عبادة الخصوبة الجاهلية أيما مباعدة، على أنها لم تختف من الشعر كل الاختفاء.
وقال آخر:
فتاتان أما منهما فشبيهة
…
هلالاً وأخرى منهما تُشبه البدرا
وأحسب أن القمر جعل يغلب الشمس في معرض وصف الجمال عند الإسلاميين لجامع الشبه بن سمو الأنظار إلى الحسناء، وخاصة عند المفاجأة، إذ قد أخذ الحجاب يتلئب أمره، وكان غض البصر مما يأمر به الشرع، وسموها عند مشاهدة الأهلة التي هي مواقيت للناس والحج.
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وجلت أسيلاً يوم ذي خشب
…
ريان مثل فُجاءة القمر
ولا ريب أنها كانت مختمرة.
وقال أيضًا:
رخصة حوراء ناعمة
…
طفلة كأنها قمر
وفي هذا تعمد لئلا يشبهها بالشمس، كأنه يزعم أن ضوء القمر اللين أشبه بها. ولا جرم أن رقة العيش التي أحدثها الإسلام في حياة أهل الأمصار، قد جعلت تميل بهم إلى بعض اللين في الأخيلة والتعابير. وقد فطن ابن سلام في طبقاته إلى لين أشعار
وأهل الأمصار في الجاهلية، فكيف بذلك منها بعد الذي كان من الرفة أيام عمر وعثمان وعلي ومعاوية.
ومما هو من سنخ رمزية الجاهلية من كلام عمر قوله:
بينما يذكرنني أبصرنني
…
دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قُلن نعم
…
قد عرفناه وهل يخفى القمر
وأوضح من هذا مما هو مشعر بتذكير القمر، ما استشعره فيه معنى الرقيب الذي يُغار من مكانه، ويحذر لقاؤه، وينتظر غيابه، حيث قال:
وغاب قُمير كنت أرجو غُيوبه
…
وروح رُعيان ونوم سمر
والنموذج الذي احتذاه عمر في هذه القصيدة جاهلي كالذي عند امرئ القيس. ونأمل أن نتعرض لهذا من بعد إن شاء الله.
وقال جران العود في نحو مذهب ابن أبي ربيعة وقد مر بك:
فلما علانا الليل أقبلت خُفية
…
لموعدها، أعلو الإكام وأظلف
ومن أخبث ما جاء في مراقبة القمر أن يغيب قول جرير يهجو:
ما بال برزة في المنحاة قد نذرت
…
صوم المحرم إن لم يطلع القمر
إن الذين أضاؤوا النار قد عرفوا
…
آثار برزة والآثار تقتفر
وموضع الخبث هنا مكان النذر مع المعصية، إذ برزة فيما زعم جرير قد بلغ من ولعها بالفجور أنها نذرت صوم المحرم إن غاب لها القمر حتى تخرج إلى صاحبها في سواد.
هذا وقد تبع أوائل المولدين مذهب عمر ثم شاع عندهم أيما شيوع حتى لقد ابتذل التشبيه بالقمر من كثرته، وكاد ينسى تشبيه المرأة بالشمس إلا ما يقع عند
الحذاق كالذي رأيت من قول أبي تمام، وإليه نظر شوقي حيث قال:
قفي يا أخت يوشع خبرينا
…
أحاديث القرون الغابرينا
وليس ههنا تشبيه.
وكقول أبي الطيب:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
…
اللابسات من الحرير جلاببا
وأحسب أبا الطيب جعلهن غوارب ليدل على الأصيل وهو أنعم ضوءًا من الضحا وبشمس الضحا كان يصف الأوائل كثيرًا.
فهذا توسط كما ترى بين مذهب عمر ومذهب الجاهليين.
وقال أبو تمام:
هي البدر يُغنيها تودد وجهها
…
إلى كل من لاقت وإن لم تودد
فعلل التشبيه كما ترى ولم يخل من نظر إلى عمر.
وقال أبو الطيب:
واستقبلت قمر السماء بوجهها
…
فأرتني القمرين في وقت معًا
فجعلها شمسًا والله أعلم، وهذا مذهب الأوائل.
وعسى إن كان لمذهب الجواري في التشبه بالغلمان كالتي نعت أبو نواس في الهمزية، ومذهب الغلمان في التشبه بالجوري، كقوله في الجيمية:
يديرها خنث في لهوه دمث
…
من نسل آذين ذو قُرط ودواج
(وإن لم يخل في هذا من نظر إلى أوصاف الجاهلية)
أقول عسى إن كان لكل ذلك جانب عظيم في تسيير تشبيه الوجه الحسن
مذكرًا كان أو مؤنثًا بالقمر، وتشهيره، حتى قد ابتذل كما قدمنا.
قال الآخر:
يا شبيه البدر في الحسـ
…
ـن وفي بُعد المنال
وقال مهيار يجمع بين البداوة واللين:
ورب ركب مُدلج
…
مر عليه موهنا
يحمي البدور بالستور والستور بالقنا
وقال أحد شعراء اليتيمة:
يا شبيه البدر حُسنًا
…
وضياء ومثالاً
أنت مثل الورد لونًا
…
ونسيمًا وملالاً
زارنا حتى إذا ما
…
سرنا بالقرب زالا
ولا يدري هذا أفي جارية هو أم في غلام.
وقال أبو نواس:
لو أن مررقشًا حي
…
تعلق قلبه ذكرًا.
كأن ثيابه أطلعـ
…
ـن من أزراره قمرًا
وهذا يمكن حمله على أحد وجهين- إما أن يكون أراد المبالغة، لأن مرقشا ممن أهلكه الحب. وإما أن يكون أراد نوعًا من الزراية بمرقش في قصته المعروفة مع فاطمة وابنة عجلان، ومثل هذا لا يستبعد.
وقال في جارية:
يا قمرًا أبصرت في مأتم
…
يندب شجوًا بين أتراب
يبكي فيذري الدمع من نرجس
…
ويلطم الورد بعناب
وقد كان أبو نواس فاجر اللسان والله أعلم بحقيقة أمره. وقد أتهمه ابن رشيق في احتراس وتردد. وبرأه ابن المعتز مما ينسب إليه في مذهب الغزل المنحرف وليس هذا بموضع الاستقصاء.
وقال الحسين بن الضحاك الخليع في غلام:
تتيه علينا إن رُزقت ملاحة
…
فمهلاً علينا بعض تيهك يا بدر
وقال المعري:
وذكرني بدر السماوة بادنًا
…
شفًا لاح من بدر السماءة بالي
فعاد التشبيه غلى قريب من عنصره القديم للذي خلطه به من ذكر الهلال والشفا البالي. وقد كانت العرب مما تذكر الهلال في النحول وتشبه به الإبل المضناة، تنظر في ذلك إلى ما يعروها من هزال وتقوس، ولا يخلو هذا من صنيعهم من معنى الإعجاب بصبرها ودأبها والرحمة لها. قال الفرزدق:
إذا ما أُنيخت قاتلت عن ظهورها
…
حراجيج أمثال الأهلة شُسف
وموضع هذا ونحوه في باب الخروج إن شاء الله.
هذا والنجوم منهن المذكرات والمؤنثات. وقد يحملن كثيرًا عن التذكير كما في قول طرفة يصف نداماه:
نداماي بيض كالنجوم وقينة
…
تروح علينا بين بُرد ومُجسد
وقال الآخر:
مرزئون ثقال في مجالسهم
…
مثل النجوم التي يسري بها الساري
وقال أبو تمام:
والجعفريون استقلت ظُعنهم
…
عن قومهم وهم نجوم كلاب
وقال عمر:
أيها المُنكح الثريا سُهيلاً
…
عمرك الله كيف يلتقيان
يعرض بالثريا بنت علي وسهيل بن عبد الرحمن فأنث وذكر كما ترى.
وأنث أبو حية النجم في قوله:
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
…
مع الصبح في أعقاب نجم مُغرب
وأحسبه عنى بالنجم ههنا الثريا.
والثريا مما تُذكر كثيرًا في نعوت النساء. وجاء بها ابن عنقاء الفزاري في نعت الرجال فقال:
كأن الثريا عُلقت في جبينه
…
وفي كفه الشعري وفي جيده القمر
فإما أن يكون قد حمل معنى الجبين على الجبهة أو معنى الثريا على النجم وإنما أراد تلألؤ الجبين. أما الشعري فمن نجوم الأنواء ونسبها إلى كفه يريد جوده وكانت الشعري مما ألهه بعض العرب قال تعالى {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وأما في جيده القمر فما أراه عنى به إلا وجهه.
والثريا في تشبيه النساء أشبه.
قال ابن الخطيم:
كأن الثريا فوق ثُغرة نحرها
…
توقد في الظلماء أي توقد
وقال الفرزدق لما بلغه أن هندًا الفزارية لم تجزع على بشر بن مروان حين مات:
فإن تك لا هند بكته فقد بكت
…
عليه الثريا في كواكبها الزهر
وقال سحيم عبد بني الحسحاس:
كأن الثريا عُلقت فوق نحرها
…
وجمر غضى هبت له الريح ذاكيًا
والنظر إلى ابن الخطيم وإلى امرئ القيس ههنا لا يخفى.
والثريا كثيرًا مما تذكر في باب الورود بعد الرحلة، ويقولون النجم والنظم يعنونها، وإنما المراد بذكرها الإشعار بقرب طلوع الفجر لأنها تسقط مع الفجر قال تعالى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} فأقسم بالفجر في تفسير من فسر النجم بالثريا وهو الراجح. قال أبو ذؤيب الهذلي:
فوردن والعيوق مقعد رابـ
…
ـيء الضرباء خلف النظم لا يتتلع
وباب الورد والخروج والنسيب والأغراض كل أولئك مما يتداخلن عند جماعة من الشعراء. ومن أفعل الناس لذلك امرؤ القيس في الجاهليين وذو الرمة في الإسلاميين. وله في الفجر:
فغلست وعمود الصبح مُنصدع
…
عنها وسائره بالليل مُحتجب
وقال سحيم يذكر النساء:
وما رمن حتى أرسل الحي داعيًا
…
وحتى بدأ الصبح الذي كان تاليًا
وحتى استبان الفجر أشقر ساطعًا
…
كأن على أعلاه سبًا يمانيًا
وشبه ذو الرمة الفجر بالمرأة فقال:
كأن عمود الصبح جيد ولبة
…
وراء الدجى من حُرة اللون حاسر
فههنا تشبيه خفي للمرأة بالشمس أو بالثريا. وهذا جيد في بابه.
وما أكثر ما يذكر الفجر مع الخمر وقد نعرض لشيء من هذا عند ذكر الخمر.
وقد يذكر مع الشيب كما في قول الفرزدق:
والشيب ينهض بالشباب كأنه
…
ليل يصيح بجانبيه نهار
فشبهه بأول طلوع الفجر كما ترى. والشيب باب شديد الدخول في معنى الهم والشوق وسنعرض لبعضه في باب الغزل إن شاء الله.
وقال ذو الرمة في الفجر والورود والثريا:
وماء قديم العهد بالإنس آجن
…
كأن الدبا ماء الغضى فيه يبصق
أي لخضرته وقدمه كأنه صغار الجراد قد بصقن فيه عصارة ما أكلن من شجر الغضى.
وردت اعتسافًا والثريا كأنها
…
على قمة الرأس ابن ماء مُحلق
وهذا كأنه قبيل سطوع الفجر قيل، وعند الفجر تميل النجوم لتغرب.
يرف على آثارها دبرانها
…
فلا هي مسبوق ولا هي يلحق
ثم ساق قصة الثريا والدبران، وذلك أنه -فيما زعموا- قد خطب الدبران الثريا فولت منه فساق إليها مهرها وتبعها فلا هي تسبقه ولا هو يلحقها فينالها، قال في المهر فذكر أنه عشرون نجمة من صغار النجوم وشبهها بالقلائص يحدوها راكب متعمم وهي قد كادت تفرق عليه:
بعشرين من صُغرى النجوم كأنها
…
وإياه في الخضراء لو كان ينطق
قلاص حداها راكب مُتعمم
…
هجائن قد كادت عليه تفرق
وهجائن أي بيض.
وللعرب أساطير كثير من هذا الضرب مما يطول ذكرها وكلها راجعة إلى معنى
التأليه. وقد ذكر منها المعري قطعة صالحة في نونيته «عللاني فإن بيض الأماني» - من ذلك قوله:
وسهيل كوجنة الحب في اللو
…
ن وقلب المُحب في الخفقان
يُسرع اللمح في احمرار كما تُسـ
…
ـرع في اللمح مُقلة الغضبان
مستبدًا كأنه الفارس الـ
…
ـعلم يبدو مُعارض الفرسان
ضرجته دمًا سيوف الأعادي
…
فبكت رحمة له الشعريان
وههنا إشارة لما تزعم العرب من أن سهيلاً فحل يعارض النجوم ولا يباريها. ومن أنه قتل وكانت معاه أختاه الشعريان، ففزعت الشعري العبور فاجتازت المجرة هربًا فسميت العبور لذلك. وبقيت الغيمصاء تبكي حتى غمصت عينها فسميت الغميصاء لذلك. وقد ذكر المعري الورود فخلط بنعت الفجر بعض ما كان يعتقده المسلمون على مذهب التشيع- قال:
وبلاد وردتها ذنب السر
…
حان بين المهاة والسرحان
وعلى الكون من دماء الشهيديـ
…
ـن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرًا
…
ن وفي أولياته شفقان
وقال جرير يذكر مميل النجوم عند الفجر:
ولقد عجبت من الديار وأهلها
…
والدهر كيف يُبدل الأبدال
ورأيت راحلة الصبا قد أقصرت
…
بعد الوجيف وملت الترحالا
إن الظعائن يوم بُرقة عاقل
…
قد هجن ذا سقم فزدن خبالا
طرب الفؤاد لذكرهن وقد مضت
…
بالليل أجنحة النجوم فمالا
وبيت جرير هذا فيه معنى الطرب للنجوم كما فيه الطرب من أجل ذكرى الحسان- ولا تخلو النجوم ههنا من أن الشاعر قد أشربها معنى الشوق والحنين الذي يكون مع ذكر البرق والديار والنار وهلم جرا.
والنجوم مما يتأملهن الشعراء من أجل حسنهن واعتلائهن وفي الذي مر بك شواهد كثيرة من ذلك. وحتى الذين يرعون النجوم من أجل الهم والسهر لا يعزبون عن تأمل جمالهن كالذي رأيت في كلام النابغة والمهلهل- إلا أن تأملهم تشوبه ذاتية ما هم بصدده، ولذلك ما زعمنا أن قري امرئ القيس حيث ذكر الليل والنجم مختلف عنهم، لما فيه من معاني التجرد والتأمل المحض.
وأدخل في باب التغني بالنجوم وحسنهن قوله:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
…
تعرض أثناء الوشاح المفصل
ويمازج هذا نفس من غزل كما ترى.
وقول جرير الذي مر، وقوله من أخرى:
لقد فاضت دموعك يوم قر
…
لبين كان حاجته ادكارًا
أبيت الليل أرقب كل نجم
…
تعرض حيث أنجد ثم غارا
وقول النابغة:
أقول والنجم قد مالت أوائله
…
إلى المغيب تأمل نظرة حار
ألمحه من سنا برق رأى بصري
…
أم ضوء نُعم بدأ لي أم سنا نار
وفي هذا تشبيه خفي لوجهها بالشمس وضوء الفجر.
وقول امرئ القيس:
نظرت إليها والنجوم كأنها
…
مصابيح رهبان تُشب لقفال
كل ذلك لاحق بمعنى إجراء النجوم مجرى البرق والنار في معرض الترنم بأشجان الحنين. ويوشك أن يلحق بهذا ما يذكره الشعراء من تأمل النجوم بعد طروق الطيف وزواله وتأريقه لهم- وهذا باب سنلم به فيما يلي إن شاء الله.
هذا وللمتأخرين من المولدين مذهب في تأمل الأجرام العلوية ينظرون فيه إلى الفلسفة والتنجيم كما قد ينظرون إلى طريقة القدماء في الحنين والسهر والتأمل. إلا أن أسلوب البديع والتطرف بمحسناته أغلب على منهجهم. وهذا باب يحتاج إلى أن يفرد له بحث قائم به في غير هذا الموضع. والقارئ أصلحه الله يعلم نحو قول ابن المعتز:
أنظر إليه كزورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
وقول المعري:
ليلتي هذه عروس من الزنـ
…
ج عليها قلائد من جُمان
وقد جرى في هذا على مذهب البديع، وله بالنجوم والنيرات ولع يكاد ينفرد به وقد عرضنا لشيء منه في فصلنا عن الدرعيات.
وقول البحتري:
عكست حظه الليالي وأمسى الـ
…
مشتري فيه وهو كوكب نحس
وهذا ينظر إلى معتقدات المنجمين.
وقد كان أبو الطيب في بعض طواله يقارب منهج القدماء، كقوله:
حتام نحن نساري النجم في الظلم
…
وما سراه على خف ولا قدم
وهذا من جياد مطالعه وقوله:
أحاد أم سداس في أحاد
…
ليلتنا المنوطة بالتناد
كأن بنات نعش في دُجاها
…
خرائد سافرات في حداد
وقد يلحق بهذا بعض مطالعه في الهم نحو:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
…
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
والشيب نحو قوله:
ضيف ألم برأسي غير محتشم
…
والسيف أحسن فعلاً منه باللمم
وأبو الطيب سيد المحدثين غير مدافع. وهذا بعد باب يطول.
تتمة في رموز الحنين (1):
مما يلحق بالليل والهم والشوق ومعاني الحنين رموز كثيرة وأوصاف تجري مجرى الرموز، منها ما ألمعنا إليه إلماعًا ومنها ما أضربنا عنه أو سهونا أو غاب عنا. وفي الذي ذكرناه أو سنذكره ما قد يغني عنه أو يدل عليه. مثال ذلك الريح والنسائم والشباب والشيب والغراب والزجر والصحراء والروضة وأحاديث الرحيل والعتاب وما لا يكاد يحصى من مظاهر الطبيعة والحياة. وكثير من هذه الأصناف قد يقع في عرض النسيب أو تستهل به القصائد. كقول المرار مثلاً في الشيب:
عجب خولة إذ تنكرني
…
أم رأت خولة شيخًا قد كبر
وكساه الدهر سبا ناصعًا
…
وتحنى الظهر منه فأطر
وقول المرقش في العيافة:
ألا بأن أصحابي ولست بعائف
…
أدان بهم صرف النوى أم مخالفي
وكذلك قول الأعشى:
ما تعيف اليوم في الطير الروح
…
من غراب البين أو تيس نطح
وقال عنترة:
ظعن الذين فراقهم أتوقع
…
وجرى بينهم الغراب الأبقع
ومن هذا القري للمحدثين قول البحتري:
زعم الغراب مُنبيء الأنباء
…
أن الأحبة آذنوا بتناء
(1) ألقى هذا في دورة المجمع بالقاهرة في مؤتمر سنة 1962 م.
وقول المعري:
نبي من الغربان ليس على شرع
…
يُخبرنا أن الشعوب إلى الصدع
واجعل باب الحمامة مثلاً مما يدل دلالة عكسية على باب الزجر وقد يلتقيان كما رأيت من كلام جحدر، وباب الخصوبة والسقيا مثلاً مما يدل دلالة مباشرة على الشباب، وعكسية على الشيب وهلم جرا. وهذا مجال فسيح.
ومما يحسن أن نكمل به ههنا ذكر الطيف وأمثال أخر مما هو كثير الدوران في باب الحنين، وكلها مما ألمعنا إليه أو فصلنا بعض التفصيل، ولكن موقعها ههنا مما عسى أن تتم به الفائدة، ونأمل أن يسلم من مملول التكرار.
وقد يذكر الطيف بقصد الغزل كما يذكر لحاق الحنين وقد تجمع فيه معاني هذين فتختلط. ونحن سنختصر من الحديث في هذا الموضوع ما هو أشبه بالحنين وكالرمز له.
فمما استهل به الشعراء من القصائد في ذكر الطيف وتأريقه قول تأبط شرا:
يا عيد مالك من شوق وإيراق
…
ومر طيف على الأهوال طراق
والطيف مما يوصف باجتياز الأهوال وسنعرض لهذا المعنى في باب الغزل إن شاء الله. ومما استهلوا به قول حسان:
تبلت فؤادك في المنام خريدة
…
تسقي الضجيع ببارد بسام
وقول الأعشي:
ألم خيال من قتيلة بعدما
…
وهي حبلها من حبلنا فتصرما
وقول بشر ابن أبي خازم:
أحق ما رأيت أم احتلام
…
أم الأهوال إذ صحبي نيام
وقال معود الحكماء:
طرقت أمامة والمزار بعيد
…
وهنًا وأصحاب الرحال هجود
وقال المرقش الأصغر، وقد مر بك آنفًا قوله في الطيف يشكو ويسترحم، وليس هذا بمطلع قصيدته:
أمن بنت عجلان الخيال المطرح
…
ألم ورحلي ساقط مُتزحزح
فلما انتبهت للخيال وراعني
…
إذا هو رحلي والبلاد توضح
ولكنه زور ييقظ نائمًا
…
ويُحدث أشجانًا بقلبك تجرح
وهذا البيت الأخير كالنص في ما نحن بصدده من معاني رمزية الطيف للشجن والتأريق وما إلى ذلك.
وقال سويد في قري هذا المعنى، وليس بمطلع:
هيج الشوق خيال زائر
…
من حبيب خفر فيه قدع
شاحط جاز إلى أرحلنا
…
عُصب الغاب طروقًا لم يُرع
آنس كان إذا ما اعتادني
…
حال دون النوم مني فامتنع
فأبيت الليل ما أرقده
…
وبعيني إذا النجم طلع
وإذا ما قلت ليل قد مضى
…
عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجومًا ظلعًا
…
فتواليها بطيئات التبع
ويزجيها على إبطائها
…
مُغرب اللون إذا اللون انقشع
وعنى بمغرب اللون، الفجر.
وفي قول سويد ما ترى من التحسر والتذكر والتأمل والضيعة والشوق الذي لا يكاد يطلب شيئًا وليس بواجده إن فعل.
ويعجبني قول الآخر، يرثي إخوانًا له، تراءوا له في المنام، وهو مما يستشهد به النحاة في باب الرؤيا القلبية:
أبو حنش يؤرقني وطلق
…
وعمار وآونة أثالا
أراهم رُفقتي حتى إذا ما
…
تجافى الليل وانخزل انخزالاً
إذا أنا كالذي يجري لورد
…
إلى آل فلم يدرك بلالاً
هذا ومن مطالع الإسلاميين في الطيف قول أمية بن عائد:
ألا يا لقلب لطيف الخيال
…
أرق من نازح ذي دلال
وقال جرير وله فيه مطالع:
أرق العيون فنومهن غرار
…
إذا لا يُساعف من هواك مزار
هل تبصر النقوين دون مخفق
…
أم هل بدت لك بالجنينة نار
طرقت جعادة واليمامة دونها
…
ركبًا تُرجم دونها الأخبار
وجعادة ابنته.
وله في مطلع كلمة أخرى:
طرقت لميس وليتها لم تطرق
…
حتى تفك حبال عان مُوثق
وأمثلة هذا عند الإسلاميين كثير.
ومن أمثلته عند المولدين قول مروان بن أبي حفصة ونظر إلى جرير وكان به معجبًا:
طرقتك زائرة فحي خيالها
…
زهراء تخلط بالجمال دلالها
وقد أكثر المولدون من ذكر الطيف إكثارًا كادوا يبتذلونه به، ولهم بعد فيه كلمات جياد، سنذكر منها إن شاء الله في باب الغزل.
ولقد كان أبو عبادة البحتري رحمه الله من أكثرهم كلفًا بذكر الطيف في المطالع، يكاد يشبه في طريقته منه طريقة أبي تمام في البرق والمطر.
من ذلك قوله:
قل للخيال إذا أردت فعاود
…
تُدني المسافة من هوى مُتباعد
وقوله:
طيف الحبيب ألم من عدوائه
…
وبعيد موقع أرضه وسمائه
ولم يكن أبو الطيب على المامه بالطيف في غير موضع بمكثر منه في المطالع. ومما جاء له في ذلك قوله:
أزائر يا خيال أم عائد
…
أم عند مولاك أنني راقد
وهذا معنى جمع فأوعى إذ ذكر فيه الزيارة والعيادة وفيها إشعار بالسقم والسهر وغفلة المحبوب عما هو معانيه.
وقوله:
لا الحلم جاد به ولا بمثاله
…
لولا أدكار وداعه وزياله
إن المعيد لنا المنام خياله
…
كانت إعادته خيال خياله
وهذا معنى غريب دقيق، إذ كر فيه الطيف التالي بعد الطيف الأول. وإنما كان الطيف التالي من تذكر الأول، اغتناء من العاشق بالخيال بعد أن عز عليه منال صاحبه.
وهذا ويعجبني مما جاء في الطيف لشعراء عصرنا هذا، قول محمود سامي باشا
البارودي رحمه الله، يذكر ابنته سميرة، بعد أن صار إلى المنفى:
تأوب طيف من سميرة زائر
…
وما الطيف إلا ما تريه الخواطر
تمثلها الذكرى لعيني كأنني
…
إليها على بُعد من الأرض ناظمر
فيا بُعد ما بيني وبين أحبتي
…
ويا قُرب ما التفت عليه الضمائر
وشرف هذا الشعر وفحولته كما ترى.
هذا ومما نستكمل به في هذا الباب الخمر، وهي بحر واسع ولا يجزئ فيها إلا بحث مفرد لها. والعرب تذكرها في باب الغزل واللهو والفخر والمرح، ولا تكاد تخلو من معنى الحنين لما يخالطها من معنى الذكرى. ونحن ههنا موجزون وحسبنا ما كان من أمرها لاحقًا بمعاني الشجن الغامض والحزن الخفي المدخل، فهذا من حاق سنخ الحنين والنسيب. فمن ذلك قول حسان:
لله در عصابة نادمتهم
…
يومًا بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهم
…
بردى تُصفق بالرحيق السلسل
وقول لقيط بن زرارة ورواه المبرد في الكامل:
شربت الخمر حتى خلت أني
…
أبو قابوس أو عبد المدان
أمشي في بني عُدس بن زيد
…
خلي البال مُنطلق العنان
ولود قارئ أن يعلم ما لابس هذا القول من ظروف الحياة.
وقال النعمان بن عدي:
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها
…
بفارس يُسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
…
ورقاصة تجذو على حد منسم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
…
تنادمنا بالجوسق المتهدم
وموضع الأسى وخشية عمر واستشعار الحرمان كل ذلك يحس في هذه الأبيات وقد كان النعمان من أبناء الصحابة ومن قرابات عمر، فذلك كان أدعى للمخشاة.
وقال زهير:
وقد أغدو على ثبة كرام
…
نشاوى واجدين لما نشاء
لهم راح وراووق ومسك
…
تُعل به جلودهم وماء
يجرون البرود وقد تمشت
…
حميا الكأس فيهم والغناء
وأرى أن هذه الأبيات فيها إيحاء واجس بالموت لعل منشأة من قوله «تعل به جلودهم» . وقد كان الإيحاء من ضريبة بيانه لا تكاد تخلو منه جياده بحال ومدخله إليه خفي أيما خفاء. ونظر إليه حسان حيث قال في تشبيه الثغر ثم انصرف إلى مدح الخمر:
كأن سبيئة من بيت رأس
…
يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غض
…
من التفاح هصره اجتناء
على فيها إذا ما الليل قلت
…
كواكبه ومال بها الغطاء
إذا ما الأشربات ذكرن يومًا
…
فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة أن ألمنا
…
إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكًا
…
وأشدًا ما يُنهنهها اللقاء
وقد فطن أبو العلاء لما في هذه الأبيات من حنين وحرمان، فسأل حسان في رسالته على لسان ندامى الفردوس «ويحك أما استحييت أن تذكر هذا في مدحتك رسول الله» فيقول:«إنه كان أسجح خلقًا مما تظنون» ثم يعتذر بما نراه جاء به المعري على أسلوب التقية.
وقال عبد الرحمن بن الحكم (رواه المبرد في الكامل):
وكأس ترى بين الإناء وبينها
…
قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعتورانها
…
يميلان أحيانًا ويعتدلان
فما ظن ذا الواشي بأروع ماجد
…
وبداء خود حين يلتقيان
وظاهر هذه الأبيات فكاهة، وباطنها أسى غزير.
وقال المنخل:
ولقد شربت من المدا
…
مة بالكبير وبالصغير
فإذا سكرت فإنني
…
رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني
…
رب الشهويهة والبعير
وقد أفصح المنخل ههنا بكثير من معنى الضيعة. وأدخل في حاق هذا قول عدي بن زيد:
رب ركب قد أناخوا حولنا
…
يمزجون الخمر بالماء الزلال
والأباريق عليها فدم
…
وجياد الخيل تردي في الجلال
ثم أمسوا عصف الدهر بهم
…
وكذاك الدهر حالاً بعد حال
ومن قري هذا الشجن الغامض الموحي بتوقع الموت وزوال الدنيا ابتداءات كثير من الشعراء. فمن ذلك قول عمرو بن كلثوم في المعلقة:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
…
ولا تُبقي خمور الأندرينا
وفيها يقول:
وكأس قد شربت ببعلبك
…
وأخرى في دمشق وقاصرينا
وقول عدي:
بكر العاذلون في وضح الصبـ
…
ـح يقولون لي أما تستفيق
وقال امرؤ القيس فقارب أن يبدأ بذكر الخمر:
أحار بن عمرو كأني خمر
…
ويعدو على المرء ما يأتمر
وقال الأعشي، فذكر أحوال الدهر والموت ثم وصل ذلك بذكر الخمر وهذا من معنى ما نحن فيه، بل كأنه نص يدل عليه:
لعمرك ما طول هذا الزمن
…
على المرء إلا عناء مُعن
يظل رجيمًا لريب المنون
…
وللسقم في أهله والحزن
وهالك أهل يجنونه
…
كآخر في قفره لم يُجن
إذا ماذا تحفل الشاة بالسلخ بعد الذبح
وما أن أرى الدهر في صرفه
…
يُغادر من شارخ أو يفن
فهل يمنعني ارتيادي البلا
…
د من حذر الموت أن يأتين
أليس أخو الموت مُستوثقًا
…
علي وإن قلت قد إنسان
أي إنساني وأجلني
علي رقيب له حافظ
…
فقل في امرئ غلق مُرتهن
أزال أذينة عن ملكه
…
وأخرج من حصنه ذا يزن
وخان النعيم أبا مالك
…
وأي امرئ صالح لم يخن
وزال الملوك فأفناهم
…
وأخرج من بيته ذا حزن
هذا قد يكون من التبابعة وقد يكون بمعنى محزون
وعهد الشباب ولذاته
…
فإن يك ذلك قد نتدن
هكذا (1) وأحسبه «ذاك فقد نتدن» أي نضعف، يضعفنا الشيب والهرم ويدخلنا اللين بعد الشدة.
وطاوعت ذا الحلم فاقتادني
…
وقد كنت أمنع مني الرسن
(1) يوان الأعشى (جاير طبع أوربا) ص 14.
وعاصيت قلبي بعد الصبا
…
وأمسي وما أن له من شجن
فقد أشرب الراح قد تعلميـ
…
ـن يوم المقام ويوم الظعن
وأشرب بالريف حتى يقا
…
ل قد طال الريف ما قد دجن
وأقررت عيني من الغانيا
…
ت إما نكاحًا وإما أزن
ومن كل بيضاء رعبوبة
…
لها بشر ناصع كاللبن
وكل هذا من بكاء الشباب والحسرات على فوات الدنيا.
وطريقة الأخطل في نعت الخمر قريبة من هذا إذ قد يجيء بها مباشرة بعد مستهل النسيب فتكون كالجزء منه كما فعل في اللامية:
عفا واسط من آل رضوى فنبتل
…
فمجتمع الحرين فالصبر أجمل
فرابية السكران قفر فما لهم
…
بها شبح إلا سلام وحرمل
صحا القلب إلا من ظعائن فاتني
…
بهن ابن خلاس طفيل وعزهل
كأني غداة انصعن للبين مسلم
…
بضربة عُنق أو غوي مُعذل
صريع مدام يرفع الشرب رأسه
…
ليحيا وقد ماتت عظام ومفصل
ثم مضى في نعت الخمر. ولم يكن مراده تشبيه حال أساه لفراقهن بحال السكران، وإنما كان يريد إلى معنى الشجن، ولعلما كنى يفراقهن عما يصبو إليه ولا يناله من أن لا يزول العيش ولا تنقضي لذاته.
وقال فاستهل بذكر الخمر:
بكر العواذل يبتدرن ملامتي
…
والعالمون فكلهم يلحاني
في أن سقيت بشربة مقذية
…
صرف مشعشعة بماء شنان
فطفقت أسقي صاحبي من بردها
…
عمدًا لأرويه كما أرواني
ومحل الشجن في هذا بين.
وذكر الخمر عند الإسلاميين الأوائل، ما عدا النصارى منهم كأبي زبيد والأخطل والقطامي، قليل، لمكان التحريم وقرب عهد الصحابة. وقد رويت أشياء كما رأيت من شعر النعمان بن عدي وعبد الرحمن بن الحكم، وقد رووا ليزيد بن معاوية، وفي رسالة الغفران ما يشعر بذلك. ولا يجيء ذكر الخمر في شعر جرير إلا على وجه التشبيه وقد يلمح بذلك ولا يصرح كقوله:
حلأتنا عن قراح المزن في رصف
…
لو شئت روى غليل الهائم الصادي
ولا غرو، فقد كان هو لا يتعاطاها، وكان يعدها من المثالب ويهجو أعداءه بها. قال يهجو الفرزدق:
ولا يخفي عليك شراب حد
…
ولا ورهاء غائبة الحليل
وقد يجيء في شعر الفرزدق في معرض الغزل كقوله:
ولا زاد إلا فضلتان مدامة
…
وأبيض من ماء الغمامة قرقف
وقد ذكروا له ما هو صريح في اللهو والسكر كقوله في عوام وأصحابه:
من يأت عوامًا ويشرب عنده
…
يدع الصيام ولا تُصلى الأربع
ويبيت في حرج ويصبح همه
…
برد الشراب وتارة يتهوع
ولقد مررت ببابهم فرأيتهم
…
صرعى وآخر قائمًا يتتعتع (1)
فذكرت أهل النار حين رأيتهم
…
وحمدت خالقنا على ما يصنع
وقد كان الفرزدق منهم، على ما يدعيه ههنا من موقف المتفرج والاستعاذة بذكر أهل النار. وهذا ونحوه مما مهد للمجون عند أمثال عمار ذي كناز ومن جاءوا بعده. وقال
(1) ديوانه (مصطفى محمد) 2/ 514 مكان آخر بياض ونرجحها.
العجاج يذكر الخمر على التشبيه ويتبدى بمذهب الجاهليين:
كأن ذا فدامة منطقًا
قطف من أعنابه ما قطفا
فغمها حولين ثم استودفا
صهباء خرطوما عقارًا قرقفا
فشن في الإبريق منها نزفا
من رسف نازع سيلاً رصفا
حتى تناهى في صهاريج الصفا
خالط من سلمى خياشهم وفا
وهذا ليس من هذا الباب، وإنما ذكرناه على وجه التسلسل التاريخي. وذكر الراعي المجلس في نفس مقارب لنفس الأعشى والأخطل ذي شجن لا يخفي ولكنه أخفى ذكر الخمر والله أعلم بأمره وهذه الأبيات مما رواه صاحب الكامل، قال:
ومرسل ورسول غير متهم
…
وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاج
طاولته بعدما طال النجى بنا
…
وظن أني عليه غير منعاج
ما زال يفتح أبوابًا ويُغلقها
…
دوني وأفتح بابًا بعد إرتاج
حتى أضاء سراج دونه بقر
…
حمر الأنامل عين طرفها ساج
يا نعمها ليلةً حتى تخونها
…
داعٍ دعا في فروع الصبح شحاج
لما دعا الدعوة الأولى فأسمعني
…
أخذت بردي واستمررت أدراجي
وكان الراعي فيما ذكر يجالس الفرزدق. ولاشك أن أبا نواس قد نظر إلى هذه الجيمية.
وقال الفزاري صهر الحجاج:
حبذا ليلتي بتل بونا
…
إذ نسقي شرابنا ونغني
وهذا كأنه نفس مولد.
ثم إن شعر الخمر قد كثر، نظم فيه جماعة من الإسلاميين كالأقيشر وأبي الهندي ورووا لابن الطثرية:
ويومٍ كظل الرمح قصر طوله
…
دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
ثم جاء الوليد بن يزيد وتبعه المولدون.
ويخالط الشجن لديهم لون من التحدي، إذ هم مقبلون على شرب محرم. وهذا التحدي قد ينحط إلى المجون، وقد يكون مجرد شعب وتظرف بالشعوبية وقد يرتفع إلى لوعة كلوعة الغزل مما هو من جوهر النسيب. فمن الأول قول النواسي:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
…
واشرب على الورد من حمراء كالورد
ومن الثاني قوله:
عاج الشقي على رسمٍ يسائله
…
ورحت أسأل عن خمارة البلد
ومن الثالث قوله:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
…
بها أثر منهم جديد ودارس
وقوله:
وخيمة ناطورٍ برأس منيفةٍ
…
تهم يدا من رامها بزليل
وقوله ونظر فيه إلى شيء من التحدي:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء
وهذا يتبع فيه قول الوليد:
اصدع نجي الهموم بالطرب
…
وباكر اللهو بابنة العنب
وقال مسلم بن الوليد وفيه نفس الأوائل ممزوجًا بالنفس المولد:
أديري على الكأس ساقية الخمر
…
ولا تسأليني واسألي الكأس عن أمري
وقد داخلت الخمر من بعد معاني التصوف، وأكسبها التحريم مع هذا لونًا من قداسة، وخصب مؤنث ممنوع. فصارت تدور في بيان الشعراء، من يشربها منهم ومن لا يشربها، مدار الرمز. ولا ريب أن أبا نواس مع انتهاجه طريقة الأوائل في جياده واحتذائه أسلوبهم في تشبيهاتهم ومجازهم ومذاهب نعتهم، قد كان ممن مهدوا لهذا، لما كان يضيفه على روائعه من فوق أضواء الوصف، من سحائب حزن سحيق المدى، وشجن بعيد الغور، وما كان يلابس ذلك من ألفاظ المتفلسفة والعلماء وتأملاتهم والأخلية المستمدة من ثقافتهم. قال في الحائية:
صفرا تفترس النفوس فلا ترى
…
منها بهن سوى السنات جراحا
عمرت يكاتمك الزمان حديثها
…
حتى إذا بلغ السامة باحا
فأباح من أسرارها مستودع
…
لولا الملالة لم يكن ليباحا
فأتتك في صور تداخلها البلى
…
فأزالهن وأثبت الأرواحا
وقال في الهمزية:
فقل لمن يدعى في العلم فلسفةً
…
حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت أمرًا حرجًا
…
فإن حظر كه في الدين إزراء
وهذا معنى ديني نفيس:
ذُخرت لآدم قبل خلقته
…
فتقدمته بخطوة القبل
فأتاك شيءٌ لا تلامسه
…
إلا بحس غريزة العقل
وهذا معنى بين الفلسفة والتصوف، آخره من تلك وأوله من هذه.
وقال أبو تمام، فجعل الخمر كأنها قضية منطقية:
عنبية ذهبية سبكت لها
…
ذهب المعاني صاغه الشعراء
صعبت وراض المزج سيء خلقها
…
فتعلمت من حسن خلق الماء
خرقاء يلعب بالعقول حبابها
…
كتلاعب الأفعال بالأسماء
وضعيفة فإذا أصابت فرصةً
…
قتلت كذلك قدرة الضعفاء
جهمية الأوصاف إلا أنهم
…
قد لقبوها جوهر الأشياء
وقال، وقد أخذ عليه المطلع، بعض النقاد:
أفيكم فتىً حي فيخبرني عني
…
بما شربت مشروبة الراح من ذهني
غدت وهي أولى من فؤادي بعزمتي
…
ورحت بما في الدن أولى من الدن
لقد تركتني كأسها وحقيقتي
…
مجازٌ وصبحٌ من يقيني كالظن
وهذا من ضرب كلام الصوفية كما ترى
وقد دمث البحتري من حزونة أبي تمام ولكنه اقتبس من دقة تأمله، وصوفية منحاه في بعض ما عرض له من نعت الخمر، كقوله:
فاشرب على زهر الرياض يشوبه
…
زهر الخدود وزهرة الصهباء
من قهوة تنسى الهموم وتبعث الـ
…
شوق الذي قد ضل في الأحشاء
يخفى الزجاجة لونها فكأنها
…
في الكف قائمة بغير إناء
والشاهد ههنا ضلال الشوق في الأحشاء
وقال في السينية:
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو
…
ث على العسكرين شربة خلس
من مدام تقولها هي نجم
…
أضوأ الليل أو مجاجة شمس
وتراها إذا أجدت سرورًا
…
وارتياحًا للشارب المتحسي
أفرغت في الزجاج من كل قلب
…
فهي محبوبة إلى كل نفس
وتوهمت أن كسري أبرويـ
…
ـز معاطي والبلبهذ أنسى
حلم مطبق على الشك عيني
…
أم أمانٍ غيرن ظني وحدسي
والبيت الأخير هو الشاهد إذ وحد فيه الشاعر معنى التأمل والغناء بالجمال بمعنى التحسر على الفناء والتماس العزاء في الخمر، وارتفاع النفس بجميع ذلك إلى نشوة من نشوات الشطح القدسي.
وقد قال المتنبي يذكر الخمر:
بم التعلل لا أهلٌ ولا وطن
…
ولا نديم ولا كأسٌ ولا سكن
فساوى بين الكأس والوطن والحبيب ثم مضى ليزعم أن مراده فوق العشق وفوق الزمن- فكأن الأهل والوطن والنديم والكأس والسكن وكل ما يذكره ههنا من قبيل الرمز الغامض لشيء فوق أن يدرك.
وقال في دالية كافور:
يا ساقيي أخر في كئوسكما
…
أم في كئوسكما هم وتسهيد
أصخره أنا مالي لا تحركني
…
هذي المدام ولا هذي الأغاريد
إذا أردت كميت اللون صافيةً
…
وجدتها وحبيب النفس مفقود
ففرق بين الخمر والحبيب المنشود، وهذا شبيه بقوله وهو شاب:
فؤادٌ ما تسليه المدام
…
وعمر مثلما تهب اللئام
ومذهب المتنبي، على أخذه من أخيله التصوف والفلسفة وما إلى ذلك، فيه
رجعة لا تخفى إلى طريقة القدماء. وإليه نظر المعرى حيث قال:
أيأتي نبي يجعل الخمر طلقةً
…
فتحمل ثقلاً من همومي وأحزاني
وحيث قال:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوةٍ
…
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعارق على شفًا
…
رزي الأماني لا أنيس ولا مال
على أن المعري في كلا قوليه هذين يلم بمعنى النشوة وذلك من سر الخمر ما تغنى به الأولون والتاع له المتأخرون واتخذه الصوفية رمزًا لليهام. قال ابن الفارض، وهو مشهور من قوله:
شربنا على ذكر الحبيب مدامةً
…
سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم
لها البدر كأسٌ وهي شمسٌ يديرها
…
هلالٌ وكم يبدو إذا مزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها
…
ولولا سناها ما تصورها الوهم
ولم يبق منها الدهر غير حشاشة
…
كأن خفاها في صدور النهي كتم
فإن ذُكرت في الحي أصبح أهله
…
نشاوى ولا عارٌ عليهم ولا إثم
وإن خطرت يومًا على خاطر امرئٍ
…
أقامت به الأفراح وارتحل الهم
ولو نظر الندمان ختم إنائها
…
لأسكرهم من دونها ذلك الختم
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميتٍ
…
لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
ولو طرحوا في فيء حائط كرمها
…
عليلاً وقد أشفى لفارقه السقم
وليس في هذه الأبيات معنى لم يجمله القدماء أو لم يفصله أبو نواس وأصحابه. اللهم إلا البيت الأول فيما يبدو. وأرى أن أصله من قول أبي نواس.
ذُخرت لآدم قبل طينته
…
فتقدمته بخطوة القبل
فعلى هذا الزعم إما أن تكون عصرتها الجن وإما الملائكة وذلك يبعدها عن الأرض.
والذي يجعل كلام ابن الفارض خالصًا في التصوف بالقياس إلى ما قدمنا، معنى الرجاء والشهود المتجرد فوق الثناء، وكل ذلك مستمد من روح النشوة الرمزية التي يصفها.
وأبيات ابن الفارض هذه جيدة في بابها ولعلها أجود ما قاله هو، على لين ما في متنها وذلك ما قد يغتفر.
وبعد فقد أوشكنا أن نطيل في هذا المعنى، فحسبنا هذا القدر منه.
ومما يستكمل به أيضًا في تتمة رمزية الشوق الإبل، وذلك شوط شاسع. وهي لا تكاد تخليها العرب من الرمز بها لكل شيء مما تعلق به الأفئدة. ولا غرو فالإبل رفاق العرب ومن أشبه خلق الله بهم كبرًا وصبرًا ورقة وحنينًا وألفًا لشظف العيش حتى يكون عندها بمنزلة الرغد. وقد عرفتها العرب في معنى الخصوبة والورد والسقيا، قال تعالى {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} . وقد شبهنها بالمرأة كالذي رأيت من الكناية عن النساء بالقلاص وقالوا في القلوص أنها الشابة من الإبل فنعموها كما تنعم الفتاة الكعاب. وقد نعتتها أيما نعت في باب الرحلة، وهذا مما نريد أن نعرض له فيما يلي.
وقد رأيت التباسها بالحمامة ومأساة الهديل في معرض حديثنا عنها وعن الأثافي. وإنما نذكر الإبل ههنا نلفتك إلى الكثير الذي جاء فيها، وجعلته هي، في حد ذاتها، رمزًا خالصًا للحنين، من ذلك قول المثقب، وهو من أروع ما قيل في هذا الباب:
إذا ما قمت أرحله بليلٍ
…
تأوه آهة الرجل الحزين
والأبيات مشهورة. وإنما شبهها بالرجل الحزين لأن هذا أدل على الالتياع ثم لأنها منه بمكان المرأة، وقد جعلها بديلاً منها حيث قطع اللبانة ورحل- وهذا معنى
سنعرض له إن شاء الله. فالتشبيه لها بالرجل فيه من الوحي بالدهشة والرحمة ما فيه. وقال المتلمس:
حنت قلوصي بها والليل مطرق
…
بعد الهدوء وشاقتها النواقيس
وما لا أرى إلا أنه كنى بقلوصه عن نفسه في هذا البيت:
وقد ألاح سهيل بعد ما هجعوا
…
كأنه ضرمٌ بالكف مقبوس
أني طربت ولم تلحي على طربٍ
…
ودون إلفك أمرأت أماليس
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها
…
بسلٌ عليك ألا تلك الدهاريس
وهذا البيت من أعجب الشعر إلى
كم دون مية من داويةٍ قذفٍ
…
من فلاة بها تستودع العيس
وذكر حنين الإبل في المطالع، لا يحضرني منه شيء جاء للقدماء. وليس منه قول الأعشى:
رحلت سمية غدوةً أجمالها
ولا قول الشنفري:
ألا أم عمرٍ أجمعت فاستقلت
وإنما هذا من باب التوديع- أو كما ذكر جرير:
ودع أمامة حان منك رحيل
…
إن الوداع لمن تحب قليل
ويدخل فيه قول الشريف:
لمن الحدوج تهزهن الأينق
وأكثر ما جاء في الحادي والخمول من أشعار المتأخرين والله أعلم.
وشبيه بالمطلع في هذا القري قول المعري:
طربن للمع البارق المتعالي
…
ببغداد وهنًا ما لهن ومالي
وهو أدخل في باب الاستهلال بالبرق كما ترى.
وللمعرى في هذه اللامية كلمات حسان في حنين الإبل منها قوله:
تلون زبورًا في الحنين منزلاً
…
عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن من شعر المطايا قصيدة
…
وأودعنها في الشوق كل مقال
ونحو هذا كثير من الشعر القديم والمولد.
هذا ونختم هذه التكملة بذكر المرأة، كما قد بدأنا حديث الشوق والحنين بها. وذلك أنها كما يرمز برموز الحنين إليها، يرمز بها أيضًا إلى الحنين. وهذا المعنى مستقى بعضه مما يصحب ذكرها عندهم من معاني العبادة الأولى الغامضة، وأكثره من محاولة طلب الراحة حينما يهم الشاعر بالتعبير عن عناء الحياة. وكل هذا مما يدخل في باب الغزل وسبيلنا الآن إليه. غير أننا ننبه في هذا الموضع إلى ما يقع من كنايات الشعراء عن أنفسهم ببناتهم. قال عمرو بن قميئة:
قد سألتني بنت عمرو عن الـ
…
أرض التي تنكر أعلامها
تذكرت أرضًا بها أهلها
…
أخوالها فيها وأعمامها
لما رأت ساتيد ما استعبرت
…
لله در اليوم من رمها
قال ابن يعيش في المفصل (1): «وقال أبو الندى، وإنما أراد عمرو بن قميئة بهذه الأبيات نفسه لا ابنته فكنى به نفسه أ. هـ»
(1) شرح المفصل لابن يعيش، القاهرة، 3 - 20
ويقوي ما ذهب إليه قول امرئ القيس:
أرى أم عمرٍ ودمعها قد تحدرا
…
بكاءً على عمرٍ وما كان أصبرا
وما أرى إلا أن امرأ القيس قد أراد بأم عمر وههنا عمرو بن قميئة نفسه لا أمه.
وقال الأعشى:
تقول ابنتني حين جد الرحيل
…
أرانا سواءً ومن قد يتم
وقال الراعي:
قال خليدة ما عراك ولم تكن
…
أبدًا إذا عرت الشئون سئولاً
أخليد إن أباك ضاف وساده
…
همان باتا جنبه ودخيلا
وإنما يكنون بالبنت في هذا الباب، ليكون ذلك أبلغ في التأثير. وقد يذكرون الزوجة كما فعل جرير حيث قال:
تعزت أم حزرة ثم قالت
…
رأيت الموردين ذوي لقاح
وذكر جرير ابنته جعادة وابنه موسى فقال:
نظرنا نار جعدة هل نراها
…
أبعدٌ غال ضوءك أم خمود
لحب الوافدان إلي موسى
…
وجعدة لو أضاءهما الوقود
تعرضت الهموم لنا فقالت
…
جعادة أي مرتحلٍ تريد
ومن أجود الكنايات في هذا المعنى قول الخارجي يذكر بناته وقد كره الخروج:
لقد زاد الحياة إليّ حبًا
…
بناتي إنهن من الضعاف
أُحاذر أن يذقن اليتم بعدي
…
وأن يشربن رنقًا بعد صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري
…
فتبنو العين عن كرمٍ عجاف
أبانا من لنا إن غبت عنا
…
وصار الحي بعدك في اختلاف
وإنما رأى هذا الخارجي القعود وآثره، فاعتذر بمثل هذا يدفع ما كان يريده عليه قطري وأصحابه.
وكما تقع البنت والأم والزوجة رموزًا عن النفس وحاجاتها فكذلك تقع المحبوبة وهذا مما يلابس باب الغزل ملابسه شديدة. فنكتفي بهذا القد والله المستعان.