الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقوي هذا الذي نذهب إليه. ثم في قوله - وهو مقطع القصيدة- بعد هذين البيتين:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
…
بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي
رجعة لا ريب فيها إلى المطلع حيث قال:
ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي
…
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعممن إلا سعيدٌ مخلد
…
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وليس المرء بمخلد، ولكنه ما دام حيًا، وفي حشاشته بقية فإنه يسعى ولا يألو ولكنه ليس بمدرك أطراف ما يؤمله، وكيف يدركهن، وفي إدراكهن السعادة، وليست السعادة من نصيب الإنسان، إنما نصيبه الحسرة والفناء والتعلل بالذكرى، وتحية الأطلال الباليات.
وحسبنا هذا القدر عن نموذج البادنة المتجردة كما جاء به امرؤ القيس ..
نموذج بين بين:
وهو الذي يخلط فيه الشعراء بين أوصاف الخمصانة الشطبة والرعبوبة الفارهة. وأكثر ما يفعلونه في هذا الباب ذكر الخصر الناحل والكفل الثر. وقد ضربنا لك منه أمثلة في التمهيد الذي مهدنا به لمقاييس الجمال. ونكتفي ههنا بأن نذكر لك أبياتًا من ذي الرمة في بائيته المجمهرة- ذلك بأن الباب التالي سترد فيه أمثلة شديدة الصلة به قوية الدلالة عليه. ثم هو كثير في الشعر. وحتى هذه المقاربة التي يقاربها امرؤ القيس ببادنته من خمصانته، والنابغة بخمصانته من البدن، لا تخلو من معناه. وقد قدمنا لك أن هذا الخلط لم يكن منشؤه من حاق اضطراب أو خطأ في الذوق، ولكن من قصد إلى إبراز معنى الخفض والجمال، والنظر والوصال. وذو الرمة من أكثر الإسلاميين تقريًا لمذاهب الجاهليين وقد إلى تأويلها وقد بينا بعض هذا في
مقدمة كتابنا في شرح أربع قصائد منه (1)، فمن أجل هذا ما نستشهد به ههنا، قال:
ديار مية إذ ميٌّ مساعفةٌ
…
ولا يرى مثلها عجمٌ ولا عرب
براقة الجيد واللبات واضحةٌ
…
كأنها ظبيةٌ أفضى بها لبب
بين النهار وبين الليل من عقدٍ
…
على جوانبه الأسباط والهدب
عجزاء ممكورة خمصانةٌ قلقٌ
…
منها الوشاح وتم الجسم والقصب
زين الثياب وإن أثوابها استلبت
…
على الحشية يومًا زانها السلب
تريك سنة وجهٍ غير مقرفةٍ
…
ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب
إذا أخو لذة الدنيا ثبطنها
…
والبيت فوقها بالليل محتجب
سافت بطيبة العرنين مارنها
…
بالمسك والعنبر الهندي مختضب
تزداد للعين إبهاجًا إذا سفرت
…
وتخرج العين فيها حين تنتقب
لمياء في شفتيها حوةٌ لعسٌ
…
وفي اللثات وفي أنيابها شنب
كحلاء في برجٍ صفراء في دعجٍ
…
كأنها فضةٌ قد مسها ذهب
والقرط في حرة الذفري معلقةً
…
تباعد الحبل منه فهو يضطرب
تلك الفتاة التي علقتها عرضًا
…
إن الكريم وذا الإسلام يختلب
والصورة كاسية. وقد جردها ذو الرمة في بعض وصفه. وقد بين لك في آخر كلامه أنه نظر عرضًا، كما ينظر الكريم ذو العرض من أمثال حاتم في الجاهلية، وكما ينظر الفتى المأمور بغض البصر من أمثاله هو في الإسلام، فكان في نظره هذا عرضًا هلاكه، إذ أنه اختلب اختلبه جمال هذه الفاتنة إذ رآها سافرة، ثم انتقبت، وكأنه حين انتقبت قد حرج من أن قد نظر، وقد حار في هذا الذي كان نظر إليه فبهره (2). ثم
(1) راجع المقدمة التي قدمنا بها ذلك الكتاب.
(2)
شرح أربع قصائد لذي الرمة للمؤلف، الخرطوم 1958 - ص 17. قال «زعم صاحب اللسان أن معنى «حرجت» هنا حارت وهذا ليس بشيء ولا يستقيم به المعنى» أقول الآن: يستقيم. والله أعلم.
تبادرت إليه الأماني. فنقل التي نظر إليها إلى وادي الذكرى، وجعلها مساعفةً تجلى عليه. ولكن جلوتها هذه التي يصفها لم تكن إلا وداعًا. إذ النعت الذي ينعت إنما هو نعت تراءٍ ووداع.
براقة الجيد واللبات واضحةٌ
…
كأنها ظبيةٌ أفضى بها لبب
والتشبيه بالظبية يدل به على مراءاة جيدها واتلاعه وعلى نقاء لونها وصفائه وكأن لونها مشرب صفرة، كلون المقاناة البياض بصفرة، وهو كما قدمنا، لون العرب المحبوب، وزعم بعض المفسرين أنه لون الحور العين (1). ذلك بأن الظبية أدماء يضرب لونها إلى البياض، وقد خالط بياضها هذا وبياض الرمل حولها شعاع الأصيل، حين خرجت، ممتدًا جيدها الأتلع، من أثباج الكثيب إلى السهل الفضاء- وذلك قوله أفضى بها لبب:
بين النهار وبين الليل من عقدٍ
…
على جوانبه الأسباط والهدب
وفي ذكر الأسباط والهذب إكمال لصورة الظبية وإبرازها، لأن الأسباط، وهي ما نما مستطيلاً كالدخن من الثبات، والهدب جمع هدبة، وهي ما كانت أوراقه مثلثة محددوبة كالطرفاء، تكون حولها كالإطار. والصورة حقًا رائعة ثم أن فيها كنايات مما يحسن التنبيه إليها.
منها أن الظبية نفسها بمنزلة الجيد واللبات البراقة. واللبب أي الكثيب بمنزلة ما عليه الوشاح والمآزر من الفتاة. والأسباط والهدب بمنزلة شعرها، غدائره المسترسلات وضفائره المنعقدات. والصورة تنظر إلى متجردة النابغة وسجفى كلتها بلا ريب.
ومنها أن ذا الرمة أوحى إلينا بوجه الفتاة في قوله «بين النهار وبين الليل من
(1) ندعني موضع ذلك وأحسيه في ابن جرير.
عقدٍ» والنهار وجهها كما قد قدمناه «والليل من عقد إلخ» ما كنته من جسدها والأسباط والهدب شعرها وقد خرج من الكناية إلى التصريح في قوله:
عجزاء ممكورة خمصانةٌ قلقٌ
…
منها الوشاح وتم الجسم والقصب
وهذا شاهدنا في الخلط بين نموذجي الخمصانة والبادنة، وقد أثبت ذو الرمة الحيلة التي يكون بها تناسب ما بين العجز الوثير والخصر الدقيق، وهي حركة أن يكون الوشاح قلقًا. وأن تكون هي ممكورة، أي مكسوة عظامها في غير ترهيل ومع إحكام جدلٍ، وأن يكون جسمها تامًا من حيث التناسب واستواء القامة، وامتلاء قصب الساقين والساعدين.
ثم عاد ذو الرمة إلى الأماني وذلك في قوله «زين الثياب إلخ» . وتجربته كلها هي «زين الثياب ليس إلا» وسائر البيت بعد تأميل لا نعت. وفي هذا التأميل تمهيد لتأمل الوجه، إذ فيه تقريب لصاحبة الصورة. وذلك قوله:
تريك سنة وجهٍ غير مقرفةٍ
…
ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب
ويوقف عند هذا، لأن الملاسة لا يتضح نعتها حقًا بنفي الخال والندب. وقد أصاب صفتها في قوله من الرائية:
لها بشرٌ مثل الحرير ومنطقٌ
…
رخيم الحواشى لأهراءٌ ولا نزر
كما قد أصاب صفتها في قوله «براقة الجيد واللبات إلخ» وفي نعت الظبية. ولعل ذا الرمة لم يعن بقوله «غير مقرفةٍ إلخ» إلا نفسه. فقد ذكروا أنه كان أسود فهذا إقراف. ولعله كان في وجهه أثر من جدري، أو يكون قوله «ليس بها خال ولا ندب» إسدال ستر على هذا الذي ذكره من الإقراف يعني به نفسه، وتهويل مبالغة
كما هوّل امرؤ القيس في قوله «ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغوال» بمعرض ما كان فيه. وهذا أشبه (1). والله تعالى أعلم.
ثم إنه يرجع بعد وصفه الوجه إلى التمني في قوله «إذا أخو لذة الدنيا تبطنها إلخ» . ولا يغيب عنك هنا جانب الأخذ من قول امرئ القيس «ولم أتبطن كاعبًا» ، وجانب النظر إلى مذهبه ومذهب النابغة من إشاعة الظلام عند ذكر معاني الوصال. وقد جعل ذو الرمة هذا التمني أيضًا ذريعة إلى تأمل آخر يتأمل به حمرة الطيب التي كانت على أنفها على مذهب البدويات آنذاك ويصف أنفها هذا الذي راعه طيبه:
سافت بطيبة العرنين مارنها
…
بالمسك والعنبر الهندي مختضب
وفي قوله «بطيبة العرنين» بالتأكيد لقوله من قبل «غير مقرفةٍ» ثم أبه ذو الرمة وانتبه من الأماني إلى ما كان قد رآه حقًا من الإسفار والانتقاب، وأحسه من طرب وهوى وحرجٍ. فذكر بهجتها إذ سفرت، وحاله حين انتقبت وأضرب عما كان قاله من «زين الثياب» . واستلاب تلك الثياب، ونعت شفتيها وإنما رأى منها لمحة أو كاللمحة، أو كما قال «حوةٌ لعسٌ» لا يقدر على مداناةٍ وتأمل أكثر من هذا. وأتم الوصف من بعد من الوهم. ونظر إلى نحو قول النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
بردًا أسف لثاته بالإثمد
ونحو قوله قول طرفة:
سقته إياة الشمس الالثاته
…
أسف ولم تكدم عليه بإثمد
ونعته للعينين والصفرة والنعج من لونها أعلق بتجربته
كحلاء في برج صفراء في نعجٍ
…
كأنها فضةٌ قد مسها ذهب
(1) راجع نفسه، المقدمة (ز) - والأغاني 16/ 108.
لأنه يدل على ما رأى من الجيد واللبات وإسفار الوجه. على أنه ليست فيه زيادة نعت على قوله آنفًا «كأنها ظبيةٌ أفضى بها لبب إلخ» . وإنما فيه إيحاءٌ بما أحسه هو- ولعل الإيحاء كله في قوله «كحلاء في برجٍ» . وأحسب أنه لولا هذا الإيحاء لكان هذا البيت كله خلاءً قواءً، لا عريب من معنى عنده.
وقوله «والقرط في حرة الذفرى» إضافة أضافها ذو الرمة، إما من ذكرى تجربةٍ سابقةٍ، وإما من نظر إلى مذهب الشعراء، حين ينعتون طول العنق ويذكرون بعد مهوى القرط. وهذا الوجه الثاني أشبه.
وفي البيت بعد كما ترى دلالة على ما قدمناه من أمر المزج بين نموذجي الرعبوبة البادنة والخمصانة الشطبة الطويلة القامة وأحسب أن ذا الرمة قد أفسد الصورة التي أعطاناها؛ شيئًا، بهذا البيت، الذي لم يكن به إليه كبير حاجة، وكان حسب إذ فرغ من نعت تجربته أن يخلص إلى البيت الذي اختتمها به من قوله:
تلك الفتاة التي علقتها عرضًا
…
إن الكريم وذا الإسلام يختلب
وهو بيت نبيل الروح رقيق كما ترى.
ذلك بأنه قد وصف لنا أن هذه المرأة عجزاء، وأضفى على هذا المعنى جوًا من اللبب والعقب ذي الأنقاء، فالقرط الذي تباعد الحبل منه فهو يضطرب، لا يتناسب مع هذا، ولا مع الذي كان احتال به من قلق الوشاح. وكان حسبه لو قد اكتفى من نعت الجيد بما قدمه من معنى الحركة والاشرئباب في خروج الظبية حين خرجت من اللبب إلى السهل الفضاء. ولكن ذا الرمة رحمةالله قد كان مما يغفل، ويذهب به الأخذ من الشعراء كل مذهب عن جادة مسلك تجاربه.
ولهذا -أظن- ما قُصر به، عن منزلة الفحول (1).
وبحسبنا، الآن، كما قدمنا، هذا القدر عن نموذج بين بين.
(1) الأغاني 16 - 110 - 11 - 117 - 109 ومقدمة شرح القصائد الأربع.