الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في كلمة أخرى وصرح باسم الحمامة:
وذكرني بُكاي على تليد
…
حمامة مر جاوبت الحماما
تُرجع منطقًا عجبًا وأوفت
…
كنائحة أتت نوحًا قيامًا
تُنادي ساق حر وظلت أدعو
…
تليدًا لا تبين به الكلاما
لعلك هالك إما غلام
…
تبوأ من شمنصير مُقامًا
وصخر الغي أسلي فؤادًا ههنا في الدالية، ونظره إلى الحمام هنا أكثر من نظره إلى نفسه. هذا وفي قول صخر «لا تبين به الكلاما» إشارة إلى الأسطورة الهديلية، يعني أنها لا تقدر أن تفصح باسم فرخها الذي ثكلته، ولكنها تقول «ساق حر» وهو حكاية صوتها. ومما يجري مجرى الثكل ومرده إلى الأصل الهديلي بكاء العشاق، كقول عبد الله بن أبي بكر لما طلق امرأته وندم على فراقها (الحيوان 3 - 199):
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها
…
ولا مثلها في غير جُرم تُطلق
أعاتك لا أنساك ما هبت الصبا
…
وما ناح قُمري الحمام المطوق
وقول جميل:
أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه
…
وأصبر مالي عن بُثينة من صبر
وباب العشق مما يتسع، وتلتقي فيه سائر ضروب الرمزية الحمامية والأصول التي قدمنا لك عنها الحديث.
الحمامة وبكاء العشاق
أكثر ما ذكرت العرب الحمامة في باب التشبيه بسرعتها، وهذا وثيق الصلة برمزيتي الأصلين النوحي واليمامي، وما يتعلق بهما من معاني السقيا والنجاء والرجاء وخفة الحركة ورشاقتها وبعد مرمى النظر، وفي باب الرثاء وهذا هديلي الأصل، وقد قدمنا لك منه أمثلة، وفي باب العشق، وهو الباب الجامع وسترد عليك منه أشياء في
الذي يلي من هذا الفصل إن شاء الله.
فمن أمثلة ما قالته العرب في باب السرعة، بيت لبيد في المعلقة:
ترقى وتطعن في العنان وتتقي
…
ورد الحمامة إذ أجد حمامها
وقوله في أخرى:
كأن سراعها مُتواترات
…
حمام وارد قبل الحمام
وقول بشر بن أبي خازم في الخيل:
يُبارين الأسنة مُصغيات
…
كما يتفارط الورد الحمام
وقول زهير يصف فرسه:
كأنها من قطا الأحباب حلأها
…
ورد وأفرد عنها أختها الشرك
وهذا أسرع لنجائها، والورد ههنا القوم الواردون.
وقال سويد بن أبي كاهل يصف الخيل، وقيل يصف الإبل:
يدرعن الليل يهوين بنا
…
كهوي الكدر صبحن الشرع
والكدر من القطا، يقال قطا جون وقطا كدر. وقد تذكر العرب القطاة تريد الحمامة والحمامة تريد القطاة. بل ربما ذكروا غير ذلك من الطير كالذي فعله الراعي حين ذكر الهداهد وهو فرخ الهدهد (1) فنعته بما ينعت به فرخ الحمامة- قال:
كهداهد كسر الرماة جناحه
…
يدعو بقارعة الطريق هديلا
رتع الربيع وقد تقارب خطوه
…
ورأى بعقوته أزل نسولا
مُتوشح الأقراب، فيه نهمة
…
نهش اليدين تخاله مشكولاً
(1) قالوا: كأن فعالل بضم الأول وكسر ما قبل الآخر من صيغ التصغير وند عني موضع ذلك والله تعالى أعلم.
وكأن الراعي لم يكفه في تصوير الضعف كسر الجناح، فأضاف إليه قرب الصقر المفترس وجعل الفرخ يزقو، يدعو بذلك أباه أو أمه، وسمى زقاءه هديلا، كما ترى، والصورة هديلية الأصل بلا ريب.
وأكثر ما يشبهونه بالقطا والحمام في السرعة، الخيل. وربما يذكرون الإبل، من ذلك كلمة مالك بن حزيم الهمداني (1)، غير أنها أدخل في باب التشبيه بلفظ القطا عند الورد دون سرعته، قال:
تذكرت سلمى والركاب كأنها
…
قطا وارد بين اللفاظ ولعلعا
فحدثت نفسي أنها أو خيالها
…
أتانا عشاء حين قمنا لنهجعا
فقلت لها بيتي لدينا وعرسي
…
وما طرقت بعد الرقاد لتنفعا
وقريب من هذا قول الراعي:
جلسوا على أكوارها فتردفت
…
صخب الحصى جذع الرعان رجيلاً
مُلس الحصى باتت توجس فوقه
…
لغط القطا بالجلهتين نزولاً
وقد ذكرت الحرث بن حلزة الصيد فشبه فرسه بالصقر وشبه الظباء المطرودة بالحمام. قال:
ومُدامة قرعتها بُمدامة
…
وظباء محنية ذعرت بسمحج
فكأنهن لآلئ وكأنها
…
صقر يلوذ حمامه بالعرفج
صقر يصيد بظفره وجناحه
…
فإذا أصاب حمامة لم تدرج
وهذا لاحق بالذي قدمناه لك من تداخل معنى الصقر والحمامة في معرض الرمز والتشبيه.
(1) الأصمعيات، دار المعارف- 57.
ولاحق بباب السرعة باب الخفة والرشاقة في المشي، وفيه نظر شديد إلى الأصل اليمامي وما يتضمنه من معاني التأنيث والخصوبة. قال اليشكري صاحب المتجردة:
ولقد دخلت على الفتا
…
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
…
فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت
…
مشي القطاة إلى الغيدير
وههنا ترى معنى الورد:
ولثمتها فتنفست
…
كتنفس الظبي البهير
وقوله «دخلت على الفتاة الخدر» وتخصيصه يوم المطر فيه ما كنا أشرنا إليه من قبل من معنى الصقر في معرض استشهادنا بقطعة من نشيد الأناشيد (1). وقال التبريزي في شرح الحماسة (2): «خص يوم المطر لأنه يوم لزوم المنزل، وليس يوم صيد ولا زيارة، واللهو فيه أطيب، لخلو البال فيه» - وأحسب أنه قد غلب على التبريزي ههنا مذهب معاصريه من الفقهاء والعلماء، فظن المتنخل فقيهًا صالحًا يمكث يوم المطر في داره ليلهو مع أهله. وغفل من قول المتنخل «ولقد دخلت» فهذا نص شاهد على الزيارة. وكان المتنخل يرمي بالمتجردة وغيرها والله تعالى أعلم.
وقال جميل في باب المشي ينعت مشية بثينة وصواحباتها:
إلى رُجح الأعجاز حُور نمى بها
…
مع العتق والأحساب صالح دين
يُبادرن أبواب الحجال كما مشى
…
حمام ضحًا في أيكة وغصون
وفي هذا الباب تتداخل الأصول اليمامية والنوحية- أعني الأصول التي ترمز
(1) راجع قبله 119.
(2)
شرح الحماسة للتبريزي، بولاق.
إلى السقيا والخصب والأنوثة والجانب الجنسي- في الأصل الهديلي ذي البكاء والشجن والحنين. ذلك بأن مشية الحمامة ورشاقتها وخفتها كل ذلك متصل بمعاني الفتها وحنينها وغنائها.
قال المعري:
إذا لمست عُودًا برجل حسبتها
…
ثقيلة حجل تلمس العود ذا الشرع
تجيب سماويات لون كأنما
…
شكرن بشوق أو سكرن من البتع
فكشف المعنى الذي نقصد إليه كما ترى.
«والعذريون» (1) من أهل الحجاز ومقلديهم مع أنهم فرسان الصبابة، لا يكثرون من ذكر نوح الحمام في معراض الشوق إكثار غيرهم. وعسى أن يكون أكثر شعرهم في هذا الباب قد ضاع، فما من حكم نصدره أو نميل إليه في الذي نحن بصدده، إلا وهو مرهون بصحة تمثيل ما وصلنا من أشعارهم لسائر ما عليه مذاهبهم. والذي يرجح عندنا أنهم كانوا يرومون أن يتساموا بمعاني الشوق فوق الحنين الجنسي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، يرون أن ذلك من صدق الصبابة، ومن آيات شرفها. من ذلك ما ذكروه من خبر عبد الرحمن القس إذ أصاب خلوة من سلامة الزرقاء فعف عن تقبيلها استشهد بالآية:{الأَخِلَاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ الْمُتَّقِينَ (67)} . ومن ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من الفقهاء:
شققت القلب ثم ذررت فيه
…
هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حُب عثمة في فؤادي
…
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا حُزن ولم يبلغ سرور
(1)()
ومن ذلك أبيات جميل المشهورة:
وإني لأرضي من بُثينة بالذي
…
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبألا أستطيع وبالمني
…
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تقنضي
…
أواخره ما نلتقي وأوائله
وهذا دون مذهب ابن مسعود من حيث حاق «التصوف» ، ومعاني الشرف والعفة أغلب عليه من معاني القدسية والتجرد. وقريب منه قول يزيد بن الطثرية:
بنفسي من لو مر برد بنانه
…
على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل أمر وهبته
…
فلا هو يُعطيني ولا أنا سائله
والصبابة النجدية الحارة أنفاس الغزل أبين في هذا منها في أبيات جميل.
هذا، والتسامي بالشوق فوق رغبات الغزل مما يباعد صاحبه عن رمزية الحمام حتى في البكاء، لما يخالطها من ألوان الخصوبة الجنسية، وبهجة المرح اللاهي. وقد نظرت في الذي اختاره أبو تمام من نسيب في كتاب الحماسة فلم أجد فيه ذكر الحمام إلا قول النصيب:
كأن القلب ليلة قيل يُغدي
…
بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت
…
تُجاذبه وقد علق الجناح
لها فرحان قد تُركا بوكر
…
فعشهما تصفقه الرياح
إذا سمعا هُبوب الريح نصًا
…
وقد أودى بها القدر المتاح
وهذا معنى هديلي صرف وعاطفة الحنين فيه من الضرب الساذج. ومثله قول ابن حزام:
كأن قطاة عُلقت بجناحها
…
على كبدي من شدة الخفقان
وأبو تمام إنما كان يختار عن تعمد وبعد تدقيق وأكثر ما أورده مما يسمو أو يتسامى فوق الرغبات الجنسية.
وقد نظرت في شعر كثير فوجدته قليل التعرض لشوق الحمام، وقد خلت منه تائيته:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا
…
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
ولاميته:
ألا ودعا ليلى أجد رحيلي
…
وآذن أصحابي غدًا بقفول
وقد كان كُثير يصطنع صدق الصبابة ويعمد إلى التسامي بها ويستقصي ألوان المعاني المتصلة بالوجد وإخلاص الهوى، وما أرى إقلاله من ذكر الحمام إلا مُتعمدًا. ومما يوحي بتعمد كثير الإقلال من التشبيه بالحمام في معرض الشوق، أنه حين يذكره يفعل ذلك في معرض الوصف لا يكاد يعدوه، كقوله يذكر الدمن:
إذا ما علتها الشمس ظل حمامها
…
على مُستقلات الغضى يتفجع
وهذا من غريب ما جاء في نعت غناء الحمائم. يزعم كُثير أنهن ينحن من ذكرى أشباههن من الحسان اللائي ظعن فهن مستقلات ركائبهن بين الغضى. وإنما دعا إلى ذكر الحمام ههنا ذكر الدمنة التي علتها الشمس وفيها الرماد، وبين الرماد والحمامة صلة واشجة كما سيرى القارئ فيما بعد إن شاء الله.
وقال كثير من كلمة أخرى:
إلى أُرك بالجزع من بطن بيشة
…
عليهن صيفي الحمام النوائح
وههنا تعليل آخر لنوح الحمام- وذلك أنه يبكي على ذهاب الربيع وحلول الصيف، وقد كشف هذا المعنى حميد بن ثور في ميميته، وسنذكر منها إن شاء الله.
والقول برأي قاطع في هذا الباب مما يعسر، ولكن هذه حدوس تطرأ على بال الناقد، وعسى أن يكون ذكرها مما يعين.
وشعراء النسيب من أمثال جرير أكثر نعتًا لبكاء الحمام في معرض الشوق من «عُذريي» الحجاز ومن لف لفهم. وأحسب سبب ذلك أن هؤلاء لا ينحون إلى دعوى التسامي المحض، وإنما أربهم إظهار الصبابة والصدق فيها مع العفة التي تذود الرغبات ولا تزعم أنها تتسامى فوقها. ومن أجل هذا تجد اللوعة عندهم أقوى وأحر، ويخالطها ما يخالط كل تغن بالنساء من بهجة ونشوة وطرب. وعندي أن مذهب هؤلاء أصدق في حاق العذرية من مذهب التسامي الذي في أبيات ابن مسعود، والله تعالى أعلم. ولأمر ما أخذ الشعراء بهذا المذهب الملتاع، الذي لا ينكر «الجنس» ، ولكن إنما يتفجع على الحرمان، ويناغي وهو في قيده أطياف الوصل والمنالة، قال توبة بن الحمير:
حمامة بطن الواديين ترنمي
…
سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعمًا
…
ولا زلت في خضراء دان بريرها
فههنا ما شئت من بهجة ونعومة وخصوبة وغزل منطلق العنان، مع حنين ولوعة. وكأن كل ذلك إنما هو حكاية للوعة الحمامة وبهجتها ورشاقتها وجمالها حين تتغنى. وقد كان توبة بن الحمير شاعرًا جزلاً، وفتى فتيان فحلاً، ولم يكن غرامه بليلي الأخيلية، في شرفه وعفته، مجردًا صوفي المنحى، وإنما كان تعلق عاشق بمعشوقة، عشق رجل لامرأة، من صنف الغرام البدوي الذي يفرض العفاف على أصحابه وازع المروءة والأمانة والصون والحصانة، ومما يدلك على نحو من هذا الذي نقوله، كلمة توبة:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
…
لنفسي تُقاها أو عليها فُجورها
ومما يروونه من شعر ليلى الأخيلية في هذا المعرض قولها:
وذي حاجة قُلنا له لا تبح بها
…
فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
…
وأنت لأخرى صاحب وحليل
وهذا كما ترى نفس صادق حر لا يصدر مثله إلا عن صادقة حرة.
وكلمة حميد بن ثور مما يكشف حقيقة اختلاط جانبي الغزل والحزن في نعت الحمام. وقد استهلها بما ينبئ عن هذا المعنى حين انتقل من نعت الظعينة إلى نعت الورقاء (ديوانه، دار الكتب، 24 فما بعدها) وذلك حيث يقول:
وما هاج هذا الوجد إلا حمامة
…
دعت ساق حر ترحة وترنما
وساق حر ههنا الصوت، والترحة تشعر باللوعة والترنم يشعر بالنشوة. ثم أخذ حميد يصف الحمامة، فذكر أنها حماء العلاطين، وأنها قامت على عسيب لدن فهو بها يهتز، ثم وصف طوقها الذي وهبه إياها الله زينة دائمة بدعوة سيدنا نوح فيما زعموا كما مر بك فقال:
تُطوق طوقًا لم يكن من تميمة
…
ولا ضرب صواغ بكفيه درهمًا
وكأنه هنا يفضل طوق الحمامة الطبعي الذي صاغه الله، على أطواق الفتيات التي إنما يصوغها الصواغ. وقد حاول إلى عكس هذا المعنى أبو العلاء في أبيات سنذكرها إن شاء الله حيث قال:
ظلمن وبيت الله كم من قلائد
…
تُوازرها سُور لهن وأحجال
ثم وصف عشها وانتقل منه إلى صفة الفرخ. وهنا حيث يرجع إلى الأصل الهديلي:
فلما اكتسى ريشًا سُخامًا ولم يجد
…
له معها في باحة العش مجثمًا
أي لما اكتسى الفرخ ريشًا لينًا وأحس أنه كبر، وأن باحة العش قد جعلت تضيق به أن يجثم مع أمه، خرج فصادف الدواهي- وفي هذا من الكناية ما فيه، كما ترى:
أتيح له صقر مُسف فلم يدع
…
لها ولدًا إلا رميمًا وأعظما
وهذه القصة التي تقدمت في حديثنا عن الهديل، وجعلها حميد علة لبكاء الحمامة ومناحتها وغنائها:
فأوفت على غُصن ضُحيا فلم تدع
…
لنائحة في شجوها مُتلومًا
والموازنة بين الحمامة والنائحة ههنا تدخل على الصورة عنصرًا من التخرق الذي لا يخلو أن تلمح فيه روحًا من تبرج الغزل.
مُطوقة خطباء تصدح كلما
…
دنا الصيف وانجال الربيع فأنجما
وههنا ضرب من تفسير للرمزية التي تقدمت. إذ قد جعل حميد حمامته من شأنها أن تبكي على انجيال الربيع وانجامه، وإظلال الصيف بسمائه وحره وجهامه. وكأن الفرخ الذي افترسه الصقر، إنما هو رمز للربيع ورفهه وما يقع فيه من ألفة وحسن مرتع، والصقر كناية، عن الصيف وما يكون فيه من تلويح وتطويح. وكأن بكاء الحمامة على فرخها إنما هو بيان عما يكون في نفسها من بقايا نشوة الربيع، وما أحرزت فيه من لذات الهوى، وما يشوب ذلك من شوائب خوف الضيق وما سيؤول إليه حالها من طلب الورد، واقتحام المفاوز، والتعرض للخطر والموت:
إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة
…
أو النخل من تثليث أو من يبنبما
وهذه المواضع التي يذكرها الشاعر هي المواضع التي يحن إليها هو. ولك في تأويل البيت وجهان، إما أن تقول معناه إذا شئت ذهبت إلى هذه المواضع فغنتني فيها الحمامة، إذ هذه من مواضع يكثر فيها الحمام، أو تكون هذه من مواطن أحبابه فهو يرود إليها. وإما أن تقول معناه إذا شئت غنتني هذه الحمامة بذكرى أجزاع بيشة ونخل تثليث ونخل يبنبم، وكلا التأويلين يحملان معنى الحنين إلى هذه المواضع، كما ترى. والترنم الذي في بيشة وتثليث ويبنبم، ولا سيما يبنبم لا يخفى.
عجبت لها أنى يكون غناؤها
…
فصيحًا ولم تفغر بمنطقها فما
وقد دار حول هذا المعنى شعراء كثيرون على رأسهم من المحدثين أبو تمام حيث وصف المغنية الفارسية فقال:
ومسمعة يحار السمع فيها
…
ولم تُصممه لا يُصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت
…
ولو يستطيع حاسدها فداها
فما خلت الخدود كسبن شوقًا
…
لقلبي مثل ما كسبت يداها
وهذا معنى شريف.
ولم أفهم معانيها ولكن
…
ورت كبدي فلم أجهل شجاها
وهنا حيث نظر إلى حميد:
فبت كأنني أعمى معنى
…
يُحب الغانيات ولا يراها
وهذا بيت مشكل من حيث الذوق، وحذاق المعاني مما يستحسنونه. وفي النفس منه شيء ووددت لو خلت منه هذه القطعة الرائعة.
وقد تبع المتنبي سبيل أبي تمام هذه حيث قال، وجمع بين الحمام والقيان على وجه الموازنة:
منازل لم يزل منها خيال
…
يُشيعني إلى النوبنذ جان
إذا غنى الحمام الورق فيها
…
أجابته أغاني القيان
ومن بالشعب أحوج من حمام
…
إذا غنى وناح إلى البيان
وقد يتقاربا الوصفان جدًا
…
وموصوفاهما مُتباعدان
وهذا البيت كأنه رد على أبي تمام وعلى حميد بن ثور معًا، إذ أبو الطيب يثبت للحمامة صفة البيان، كما أثبتها لها حميد، ولكنه ينفي عنها العجمة، ولا يثبت لغناء الفارسيات، إلا أنه مجاوبة للورق، والمتنبي ههنا صادق إذ صوت الورق الذي شوقه
دون أصوات القيان، والعجب له كيف جسر على هذا وهو يمدح أميرًا فارسيًا. والآن نعود إلى ما كنا فيه من ميمية حميد، قال:
عجبت لها أنى يكون غناؤها
…
فصيحًا ولم تفغفر بمنطقها فما
فلم أر محزونًا له مثل صوتها
…
ولا عربيًا شاقه صوت أعجما
كمثلي إذا غنت ولكن صوتها
…
له عولة لو يفهم العود أرزما
والعود بفتح العين وسكون الواو بعيره. وقوله فلم أر محزونًا، فيه رجعة وتوضيح لما كان استهل به من قوله:
وما هاج هذا الوجد إلا حمامة
…
دعت «ساق حُر» ترحة وترنما
تم هو مع البيت الأخير كأنهما تلخيص لكل الذي قلنا به وقالته الشعراء من أمر امتزاج عنصري البهجة واللوعة والغزل في نوح الحمامة. والشاعر كما ترى يعجب من تخزقها بالشدور والغناء والطرب على ما كان من ثكلها المر وأساها. ثم هو يذكر كيف قد استجاب لها بالنشوة والطرب على جهله بحقيقة معاني ما تقول، أهي تأبين أم هي هزج منتش غزل، أم هي مزيج من كل ذلك، ومهما يك من شيء فإن لصوتها لوعة لا يكاد يبلغ مداها، وقد فهمها وأدرك تسرها، ولو قد فهمها بعيره لشارك الحمامة في نوحها بعولة مثلها وارزام.
ولا أرتاب أن أبا الطيب قد فطن لهذا المعنى الأخير من قول حميد في أبياته حيث قال:
إذا غنى الحمام الورق فيها
…
أجابته أغاني القيان
فجعل القيان الفارسيات أذكى شيئًا من بعير حميد الذي لم يرزم. هذا وأرى أن إفصاح حميد عن حقيقة الطبيعة المزدوجة في نوح الحمام، هكذا إفصاحًا لم يكد يسبق إليه أو يُدرك، هو السبب في أن النقاد مما يقدمون أبياته هذه، ويختارونها أول ما يختارونه في
صفات غناء الحمام، وقد ذكرها المبرد في كامله.
هذا، ولجرير كلمات حسان في نوح الحمام لا يقصرن عن شأو حميد وقد يبارينه، مزج فيهن مزجًا محكمًا بين معنى المأساة الذي في قصة الهديل، وبين سائر ما يتصل بالحمامة من معاني الخصوبة والسقيا والخفة والرشاقة والألفة، وهلم جرا.
وجرير يوجز ويومئ ولا يطيل ولا يفصل في النعت. وهذا مما يزيد في قوة بيانه، ويجعله ذا أثر فعال، حافلاً بدقائق الإشارات، وخفي الكنايات عن شتى مكنونات ألوان الغزل والوجد والحرمان والرغبات الممنوعات. قال في إحدى ميمياته:
تركته مُحلئين رأوا شفاء
…
فحاموا ثم لم يردوا وحاموا
فلو وجد الحمام كما وجدنا
…
بسلمانين لاكتأب الحمام
أما تجزينني ونجي نفسي
…
أحاديث بذكرك واحتمام
ولا يخفى التشهي الممازج للظرف والرقة ههنا. وقال من أخرى:
سقى الأدمي بُمسبلة الغوادي
…
وسلمانين مُرتجزًا رُكامًا
سمعت حمامة طربت بنجد
…
فما هجت العشية يا حماما
مُطوقة ترنم فوق غُصن
…
إذا ما قُلت مال بها استقاما
سقى الله البشام وكل أرض
…
من الغورين أنبتت البشاما
أُحب الدار من هضبات غول
…
ولا أنسى ضرية والرجاما
وهذا الشعر مما يعجز عنه التعليق. وقد جعل جرير حمامته ههنا طربة غزلة حنانة فجمع بين سائر أصناف ما قدمنا من أصول رمزيتها -ولا يخفى عليك بعد مكان الحلاوة والوجد العميق- وإنما الحمامة ههنا ذكرياته وخطرات قلبه ورغباته هو، ولا غرو أن الشاعر من أجل هذا كله قد خاطبها، كما يخاطب الصديق، وتلطف وترفق
في خطابها فرخم اسمها ولم يخل معها من فكاهة ومزاح، وختم ذلك كله بالسقيا لها وللبشام الذي تصدح عليه وللديار التي ذكرها قريب من نفسه وعهدها حبيب إلى فؤاده.
وقال من كلمة أخرى:
بعيني من جار على غُربة النوى
…
أراد لسلمانين بينًا فودعا
لعلك في شك من البين بعدما
…
رأيت الحمام الورق في الدار وُقعا
كأن غمامًا في الخدور التي غدت
…
لنا ثم هزته الصبا فترفعا
والبيت الثاني محل للنظر والتأمل. إذ الحمام رمز للرجاء، كما هو رمز للشجو والأسى. وظاهر عبارة الشاعر ههنا قد يفهم منه أنه جعل من الحمام علمًا للبين كالغراب. وقوله «لعلك في شك من البين» معناه الحقيقي «لا تشك يا هذا في البين» . والحق أن أطراف العواطف عند الشعراء كثيرًا ما تصير الضد إلى ضده، وقد سبقت منا الإشارة إلى هذا- كتصيير الحمامة ههنا شيئًا من قري الغراب. وكتصييرها في قول صخر الغي:
وما إن صوت نائحة بليل
…
بسبلل لا تنام مع الهجود
شيئًا بين المرأة الثكلى والبوم أخي السهر والبين والتشاؤم. وكالذي صاره الصقر وهو المفترس رمزًا للرجل وهو المحب. وكتشبيه الفرس بالصقر والمذهب تشبيهها بالحمامة وقد مر بك قول الحرث اليشكري:
فكأنهن لآلئ وكأنها
…
صقر يلوذ حمامه بالعرفج
وأصله من قول امرئ القيس:
كأني بفتخاء الجناحين لقوة
…
صيود من العقبان طأطأت شملالي
تخطف خزان الأميعز بالضحا
…
وقد جُحرت منها ثعالب أورال
وإنما شبهت الفرس بالحمامة في النجاء فحين صارت إلى الصيد والافتراس كان ذكر الصقر أشبه.
وأبين من قول جرير في نسبة الغرابية إلى الحمامة قول جحدر، على أن جحدرا لم يغفل فيه من نسبة الحمامة إلى الوجد والطرب وحسن الشدو:
ومما هاجني فازددت شوقًا
…
بُكاء حمامتين تجاوبان
وهذا، كما ترى، أصدق في معنى البهجة والغزل من جعلها حمامة واحدة، على أن القماري من الحمام خاصة، وهن أشجاهن، بل أحسبهن هن المعنيات، من أكثر ما يغنين فرادى:
تجاوبتا بلحن أعجمي
…
على غُصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سُليمى
…
وفي الغرب اغتراب غير دان
وههنا محل استشهادنا. وفي البيت قبله نظر إلى حميد بن ثور:
أليس الليل يجمع أم عمرو
…
وإيانا فذاك لنا تدان
نعم وترى الهلال كما أراه
…
ويعلوها النهار كما علاني
فما بين التفرق غير سبع
…
بقين من المُحرم أو ثمان
فيا أخوي من كعب بن عمرو
…
أقلا اللوم إن لم تنفعاني
إذا جاوزتما سعفات حجر
…
وأودية اليمامة فانعياني
وكان جحدر حين قال هذا، في سجن الحجاج فيما ذكروا، وكان يترقب أن يُفتك به.
هذا، وقد افتن المولدون بعد الشعراء الإسلاميين، أيما افتنان في التغني بالحمام في باب النسيب وما يجري مجراه. على أن أكثر ما قالوه لا يخلو من نظر، إما إلى جرير، وإما إلى حميد بن ثور. ومما رواه الجاحظ- وله باب مستفيض في الحمام في
كتابه الحيوان لجهم بن خليفة يقلد مذهب حميد بن ثور: قوله:
وقد شاقني صوت قمرية
…
طروب العشي هتوف الضحا
من الورق نواحة باكرت
…
عسيب أشاء بذات الغضى
تغنت عليه بلحن لها
…
يُهيج للصب ما قد مضى
مُطوقة كُسيت زينة
…
بدعوة نوح لها إذ دعا
فلم أر باكية مثلها
…
تبكي ودمعتها لا ترى
أضلت فُريخًا فطافت له
…
وقد علقته حبال الردى
فلما بدا اليأس منه بكت
…
عليه وماذا يرد البُكا
وقد صاده ضرم ملحم
…
خفوق الجناح حثيث النجا
وهنا كما ترى إلمام بأطراف ما حول الحمامة من أساطير وأحسب أن الجاحظ إنما اختار هذه الأبيات من أجل هذا، وهي سلسة رشيقة، ولكن لضوء الشمع وكد الذهن عليها أثرًا لا يخفى، فذلك يهبط بها شيئًا عن ذروة مرقاة الإجادة، والله أعلم.
ويعجبني قول أبي تمام، وفيه نظرة الناقد، ودقة المفكر، وهو على كونه صاحب صناعة ممن تشفع له ملكته النادرة؟ قال:
أتحدرت عبرات عينك أن دعت
…
ورقاء حين تضعضع الإظلام
لا تشجين لها فإن بكاءها
…
ضحك وإن بكاءك استغرام
هن الحمام فإن كسرت عيافة
…
من حائهن فإنهن حِمام
وكأن هذه الأبيات الثلاثة اختصار بليغ لجميع ما كنا نحن فيه.
وأحسب أن المعري قد نظر إلى مذهب أبي تمام في البيت الثاني مما تقدم، في لاميته «مغاني اللوى» حيث قال:
وغنت لنا في دار سابور قينة
…
من الورق مطراب الأصائل ميهال
رأت زهرًا غضا فهاجت بمزهر
…
مثانيه أحشاء لطفن وأوصال
فقلت تغني كيف شئت فإنما
…
غناؤك عندي يا حمامة إعوال
وتحسدك البيض الحوالي قلادة
…
بجيدك فيها من شذى المسك تمثال
ظلمن وبيت الله كم من قلائد
…
توازرها سور لهن وأحجال
فوالله ما تدري الحمائم بالضحا
…
أأطواق حُسن تلك أم تلك أغلال
ومن طريقة المعري أن يضمن شعره غير قليل من نظراته وآرائه في نقد مذاهب الشعراء وتحليلها وتعليلها، وكتابه رسالة الغفران يشهد بهذا ونحوه من مذهبه ولذلك كثر استشهادنا به في استعراضنا واستقرائنا لما نحن بسبيله.
وللمعري أبيات من كلمة ميمية (في ديوانه لزوم ما لا يلزم 2 - 244) على روى حميد بن ثور، لا ريب أنه جاراه بها، ذكر فيها غناء الحمام ولم يخل فيها من تحليل مذاهب الشعراء في هذا الباب. ولا بأس بالاستشهاد ببعضها ههنا؟ قال:
أعكرم إن غنيت ألفيت ناديا
…
فلا تتغني بالأصائل عكرما
وعكرم ترخيم عكرمة والعكرمة الحمامة، وفي هذا البيت نفس من معنى أبي تمام كما ترى.
بنظم شجا في الجاهلية أهلها
…
وراق مع البعث الحنيف المخضرما
وهذه إشارة إلى صخر الغي وأضرابه في الجاهلية وحميد بن ثور وأضرابه من أوائل الإسلاميين وقد كان حميد مخضرما، ومما يدلك على إعجاب المعري به أنه ذكره في رسالة الغفران وأدخله الجنة مع عوران قيس ووهب له ولهم عينين كأحسن ما تكون العيون.
وقد هاج في الإسلام كل مولد
…
وأطرب ذا نسك ومن كان مُجرمًا
وهذا بيت شامل. وأحسبه عني بذي النسك أمثال جرير وبالمجرم جحدرًا إذ قد كان لصا. وعسى أن يكون لم يخل من إشارة إلى الوليد بن يزيد وعبثه حيث يقول:
خبروني أن سلمى
…
خرجت يوم المصلى
فإذا طير مليح
…
فوق غصن يتفلى
على أن طير الوليد ههنا قد يكون شيئًا غير الحمام، مما تقتنيه الملوك في بساتينها من نوادر ذوات الريش. والله أعلم أي ذلك كان. ونعود إلى ميمية المعري:
لك النصح مني لا أُغاديك خائنًا
…
بمكر ولكني أُغاديك مكرمًا
وموضع الجناس الناقص في المكر والمكرم لا يخفى؟ ويشير المعري هنا إلى ما كان يراه من تحريم اللحم وإفساد الصورة. ثم يأخذ بعد في ذم ما يفعله الناس من صيد الحمام، في أسلوب ساخر، يلمح فيه من مكان خفي إلى قصة الرمز فيما بين الصقر والحمامة، ثم يذكر المشهور من نعت الناس لأطواق الحمائم بالحسن كما رأيت في ميمية حميد وفي لاميته هو وفي كثير غير ذلك، وهم مع هذا لا يستنكفون عن أن ينصبوا الأشراك لتفسد مواضع هذه الأطواق وتشوهها بقبح الموت والدم.
إذا ما حذرت الصقر يومًا فحاذري
…
أخا لإنس أيامًا وإن كان محرمًا
وهنا موضع الإشارة إلى ما ذكرناه من رمزية الحمام والصقر، وإن تذكرت أن الحمامة كناية عن المرأة والصقر كناية عن الرجل، فهذا البيت جار على المعروف من مذهب المعري في كراهية الحج للنساء- قال:
أتت خنساء مكة كالثريا
…
وخلت في المواطن فرقديها
ولو صلت بمنزلها وصامت
…
لألفت ما تُحاوله لديها
ولكن جاءت الجمرات ترمي
…
وأبصار الغُواة إلى يديها
فالرجل كما ترى ليس بمأمون حتى في الحرم.
يصوغ لك الغاوي قلادة هالك
…
من الدم تُخبي وجدك المُتضرما
وهذا معنى حسن جدًا فيه مع السخرية استشعار عميق للأسى وحسرة حري على مصير جذوة الفن المشتعلة في صدر الحمامة حين يتاح لها صائد الأنس فيخمدها بصنيعه البشع. وإلى قريب من هذا المعنى ذهب الأستاذ عباس محمود العقاد حيث يقول:
أين الحمائم تشدو في خمائلها
…
من الحمائم يشويهن مبطان
وهنا كما ترى أيما ازدراء للتناقض الآدمي بين طرفي الطرب والنهم والفن والفدامة، وصورة محزنة لبهجة الطبيعة الثملة حين يرى الإنسان وهو يسعى إليها بشرك ليزيلها أن الإنسان لكفور مبين. ثم يقول المعري في تفصيل أصناف ما يقترفه الناس من جرم:
وكم سحتت كفاه مثلك في ضُحا
…
شبيبتها، إذ لم تر الدهر مُهرما
وراع بفهر من جناحك آمنًا
…
فظل على الرئيس النهوض مُحرمًا
وهنا إلمام بمعنى الراعي في قوله: «كهداهد كسر الرماة جناحه» .
وقد يبرم الحين القضاء بناشئ
…
يُراوح خيطًا شده بك مُبرمًا
كما قيد السلطان حلف جناية
…
ليقتص منه أو ليغرم مغرمًا
وهذه صورة دقيقة للأطفال حين يعبثون بتعذيب صغار الحيوان، يتوهمون وهم يفعلون ذلك أنهم سلطان أو جند سلطان، ويجدون لما يفعلونه لذة القسوة، ونشوة السطوة والقدرة. ولو قد قدروا على تعذيب بعضهم بعضًا على نحو من هذا النحو لفعلوا. ولا يخلو المعري ههنا من لوم للسلطان وعطف على الجاني الذي يقتص منه- كأن السلطان يضرب، بما يصنع، قدوة من العنف يقتدى بها من دونه حتى الأطفال.
أو كأنه يلوم السلطان على ما عسى أن يحسه من لذة الصولة -كما يحس الطفل تلك اللذة- حينما يعمد هو إلى إيقاع عقوبة من هذه العقوبات الشديدة التي تقتضيها ضرورة العدل. فكيف تكون لعمري منزلته من الإثم إذا أوقع بغير ذي جناية فأحس لما يفعله من ظلم لذة الصولة ونشوة الملك. وهذان البيتان فيما أرى دقيقان في كلا فني التربية وعلم النفس فليتأملا.
فزوري وبار القفر من كل وابر
…
وإلا فرومي خلف ذلك مخرمًا
أكوني في القفر مع الوبار خشية من كل وابر أي كل إنسان:
بحيث تُوافين الصحابي مُعوزًا
…
من الناس والماء السحابي خضرما
وهذا هو المستحيل
وحُلي بقاف إن أطقت بُلوغه
…
فأفني لديه عُمرك المُتصرما
ولا أستبعد أن يكون المعري كني بالعكرمة عن نفسه في هذه الأبيات:
هذا والمشهورات في الحمائم وما إليها من أشعار المحدثين قبل المعري وبعده أكثر من أن نستشهد بها في هذا الموضع، وفيها ما قدمناه من محاكاة حميد وجرير أو مجاراتهما. ومن ذلك كلمة أبي فراس:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
…
أيا جارتي هل تشعرين بحالي
وهي تنظر إلى كلمة عوف بن محلم التي يقول فيها:
وناحت وفرخاها بحيث تراهما
…
ومن دون أفراخي مهامه فيح
ومن هذا المجرى ايكية الطغرائي ونائج الطلح الذي في نونية شوقي
يا نائح الطلح أشباه عوادينا
وقد جعل شوقي رحمه الله حمامته النائحة هي نفسها التي وقع عليها الافتراس أما من الصقر وأما من كيد الرماة، وهذا أشبه، وذلك حيث يقول:
ماذا تقص علينا غير أن يدًا
…
قصت جناحك جالت في حواشينا
وعسى أن يكون النائح ههنا فرخا على مذهب الراعي:
كهداهد كسر الرماة حناحه
…
يدعو بقارعة الطريقة هديلاً
ولم يرد الراعي بالهديل غير الزقاء كما قدمنا لك أو أراد أبا الهداهد وأمه، فنسبة النوح المشجي المطرب على الطلح من ذي جناح مقصوص كما فعل شوقي ههنا كما قدمنا لك موضع نظر. والشيء قد يشبه الشيء وليس به، أو كما قال أبو الطيب:
وقد يتقارب الوصفان جدًا
…
وموصوفاهما مُتباعدان
والله تعالى أعلم.
وجارى محمد بن الطلب اليعقوبي، أحد أدباء شنقيط، ميمية حميد بن ثور مبميمة مثلها، قال صاحب الوسيط في تراجم أدباء شنقيط (مصر 1961 ص 118):
«وقال يومًا في مجلس أنشد فيه ميميته، أرجو من الله أني أنا وحميد بن ثور ننشد قصيدتنا في ناد من أهل الجنة فيحكمون بيننا. وها هي ميميته:
تأوبه طيف الخيال بمريما
…
فبات معنى مُستجنا مُتيما
ثم استمر صاحب الوسيط في القصيدة كلها وأتبعها ميمية حميد. وميمية ابن الطلب فصيحة تنحو طريقة ابن دريد، وقد جارى فيها صاحبها ميمية حميد في نعت البازل وذكر المحبوبة وضرب بعض الحكم وشيء من الفخر وذكر الظليم وبيضه ولكنه غفل من ذكر الحمامة غفلة واحدة- ولم يصب في كل ذلك إلا طرفًا من غبار
حميد، ولكل مجتهد نصيب.
هذا ويعجبني من أشعار المولدين في الحمام خاصة بعض ما يقع لمداح الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا المعنى في معرض النسيب كقول عبد الرحيم البرعي رحمه الله (1):
فيا حمامات وادي ألبان شجوك في
…
ظل الأراك شجاني يا حمامات
ويا أثيلات نجد ما لعبت ضُحى
…
إلا لعبت بقلبي يا أُثيلات
تهيج لوعة قلبي المُستهام إذا
…
هبت بنشر الصبا النجدي هبات
فكيف حال بعيد الدار مُغترب
…
له إلى الشام حنات وأنات
وقوله:
سمعت سُويجع الأثلات غنى
…
على مطلولة العذبات رنا
أجابته مُغردة بنجد
…
وثنت بالإجابة حين ثنى
وبرق الأبرقين أطار نومي
…
وأحرمني طُروق الطيف وهنا
ذكرت أحبتي وديار أُنسي
…
وراجعت الزمان بهم فضنا
وأثر حرير ظاهر ههنا على ما بين الرجلين من تفاوت. وفي نمط البرعي شجن خال كل الخلو من جنسية الغزل، ولا غرو فقد كان الرجل الصالح إنما يخن إلى روضة الرسول وشهود حضرته. وقريب من مذهبه هذا ما طلبه العذريون الأولون فخلجتهم أن يبلغوه حقًا خوالج ما كانوا يدافعونه أو يمارون فيه من رغبات الحس، إذ كانوا إنما يتغنون بالنساء، وما تحاموا الحمائم ما استطاعوا فيما نراه في ضوء الذي بلغنا من أشعارهم، إلا لحسبانهم قوة دلالة الحمامة على الأنثى، كما قدمنا لك. ومهما يكن من شيء فإنه لا يقدر من يتغنى بامرأة أو نحوها أن يبلغ حاق الروحانية وأن
(1) ديوان البرعي (طبعة القاهرة، محمد علي صبيح) ص 86 - وص 166.