الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد جعل الوزن والقافية والحركات والسكنات اللائي بداخلهن مسالك للموسيقا والجرس.
هذا الأسلوب الخاص في الأداء، هو شكل القصيدة الذي اتسمت به من مبدأ وخروج ونهاية على حد تعبير ابن رشيق. أو قل من نسيب وإيجاب للحقوق بذكر السفر وما إليه، ثم صيرورة بعد ذلك إلى ما يهم الشاعر بقوله من أغراض، كما بين ابن قتيبة في مقدمته للشعر والشعراء.
وهذا الشكل يتفاوت في أنواع القصائد وتختلف ألوانه ولكن جوهره واحد. وقد آثره شعراء العرب واختاروه. ثم قد أخذ بنفوسهم كل مأخذ حتى إنه ما زال كل ناطق بالعربية إلى يومنا هذا إذا نظم شعرًا قبيحًا أو عاميًا نظر إلى شكل القصيدة من قريب أو بعيد. لا أكاد استثني من ذلك شيئًا إلا ما تنشره مجلة «شعر» اللبنانية فإنها تتبع طريقًا غريبًا لا أراه يعيش غير ساعة تأليفه وعسى أن يجيء ميتًا ساعة تأليفه (1). وإذ هذه هي الحال، فعلينا أن نفهم شكل القصيدة ونروم درك أسراره. فذلك خير من أن نحاول إقحامه على القسمة الغربية المعروفة- دراما، ملحمة ليرك (غناء).
المبدأ والخروج والنهاية:
إذ صح ما قدمناه، من أمر وحدة القصيدة، وهو صحيح عندنا ل نرتاب فيه، فإن مبدأها وخروجها ونهايتها كل أولئك متصلات على ما قد يبدو من افتراقهن للنظرة السطحية.
ولشعراء العرب مذهبان في المبدأ:
1 -
أولهما أن يكافحوا أغراض القول كفاحًا من دون تقديم شيء بين يديها.
(1) أصحاب مجلة شعر يحسبون أنهم يقلدون أيليوت وأضرابه وهذا أمر نأمل أن نفيض فيه من بعد إن شاء الله.
وهذا إنما يتأتى في الأشعار التي ينحو بها أصحابها منحى الخطب ويفترضون فيها أن أبواب الوصايا وفي بعض المديح والهجاء والرثاء. أو قل بلفظ أعم، إن أكثر ما يقع هذا في القصائد اللواتي يربط بين أطرافهن موضوع بياني واحد فتكون الخطابة أنجح في الأداء من طلب الإيحاء.
وأكاد أزعم أن الأشعار التي تقع في هذا الباب يكون أكثرها في المرتبة الثانية من الجودة. إلا أن هذا القول لا يمكن القطع به دائمًا أبدًا إذ الملكات تتفاوت. ومن أرباب الملكات من يصعدون بنحو هذا القول إلى الرتب العليا.
فمن أمثلة الوصايا كلمة يزيد بن الحكم المشهورة:
يا بدر والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم
وكلمة عبده بن الطبيب:
أبني إني قد كبرت ورابني
…
بصري وفي لمُصلح مُستمتع
وكلمة عبد قيس بن خُفاف البرجمي:
أجبيل إن أباك كارب يومه
…
فإذا دُعيت إلى المكارم فاعجل
ومن الحكم التي تجري مجرى الوصايا ميمية معن بن أوس:
وذي رحم قلمت أظفار غيظه
…
بحلمي عنه وهو ليس له حلم
ومن أمثلة المدح بائية النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لُمتني
…
وتلك التي أهتم منها وأنصب
وإنما أوردها هكذا لما علمه النعمان من مذهبه في الاعتذار ولا ريب في جودة الكلمة وعلو مرتبتها.
ومن أمثلته أيضًا رائية كعب وهي قصيرة:
من سره شرف الحياة فلا يزل
…
في مقنب من صالحي الأنصار
وقد قالها لما ظن الأنصار أنه يُعرض بهم في قوله من «بانت سعاد» :
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم
…
ضرب إذا عرد السود التنابيل
ومن أمثلة المدح العظام التي لم يُمهد لها صاحبها بتقديم، بائية أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
وله غيرها جياد استهلهن بهذه الطريقة. على أنه من الخير لنا في هذا المقام أن نستشهد بشعر الأوائل إذ هو الأصل. ثم إذا صرنا إلى شعر المحدثين ذكرنا ما أدخلوه على ذلك الأصل.
ومن أمثلة الرثاء كلمة أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعا
وكلمة الخنساء:
أعيني جُودا ولا تجمدا
وتوشك المراثي أن تقارب الوصايا والحكم في طرح المقدمات. والجياد من المراثي لسن كثيرات كثرة الجياد من غيرهن. هذا والقصائد اللاتي يكافحن أغراضهن من المطلع، يستغنين بذلك عن أن يكون لهن خروج وليست نهاياتهن سوى انتهاء ما الشاعر بصدده من وصية أو مدح أو رثاء.
(1)
هذا والمذهب الثاني في المبدأ هو الذي عليه أكثر القصائد وهو الاستهلال بالنسيب والخروج إلى السفر وذكر الأغراض، ونعني بالأغراض ههنا الأمور التي يريد أن يعرب بها الشاعر عن ذات نفسه. وينبغي التنبيه على أن هذا التقسيم
تقريبي فيه تجوز كثير إذ القارئ يعلم أن الشاعر قد يبدأ في ذكر بعض أغراضه مع النسيب. بل قد يكون بعض النسيب من أغراضه وقد يذكر الرحلة مع النسيب أو يؤخرها إلى القسم الثالث أو يخلط بين الأقسام فيدخل بعضهن على بعض. أو يحذف أحدهن استغناء عنه كالذي وقع من زهير في المعلقة:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
…
بحومانة الدراج فالمتثلم
فإنه قد ترك الرحلة وإن يك قد أدخل بعض أوصافها فيما جاء به من نسيب. وقد اكتفى بالإيحاء العجل إليها في لاميته فقال:
تأوبني ذكر الأحبة بعد ما
…
هجعت ودُوني قُلة الحزن فأقسمت جهدًا بالمنازل من منى
…
وما سحقت فيها المقادم والقمل
لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبن
…
إلى الليل إلا أن يُعرجني طفل
وقد اكتفى من النسيب بثلاثة أبيات فحسب، في داليته التي مطلعها:
غشيت ديارًا بالبقيع فثهمد
…
دوارس قد أقوين من أم معبد
وأطال في وصف الرحلة.
وقد خلط امرؤ القيس بين النسيب وغيره أيما خلط في طواله المشهورات.
وقد ذكرنا في الجزء الأول أن استهلال الشعراء بالنسيب يراد به إحداث روح من الشجى والحنين. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن قتيبة في الشعر والشعراء قال (1): «وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، وبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر لانتقالهم عن ماء إلى ماء وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث
(1) الشعر والشعراء 10 - 21.
كان. ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق. ليُميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه وليستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب وضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له، عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل، وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة وهزه للسماع وفضله على الأشباه وصغر في قدره الجزيل».
وهذا كما ترى وصف مجمل للقصيدة من حيث هي، ولقصيدة المدح بوجه خاص. ومحل النظر حديثه على الأطلال والنسيب فهو عميق دقيق. وقد أشرنا في الجزء الأول، إلى رأي للأستاذ المستشرق جب، في كلمة نشرها في مجلة معهد الدراسات الشرقية بلندن، بعنوان «اللغوي والشاعر» (1) تحدث فيها عن روح الحنين الذي يرومه الشعراء بمطالع النسيب. وقد ذكر أن هذا الحنين وثيق بالارتباط بالصحراء وحياة الحل والترحال، وأن العربي لم يكد يتخلص منه بحال في طريقة أدائه. وذكر في هذا المجرى أن كثيرًا من مطالع المتنبي الحزينة إنما هي ضرب من النسيب. والكلمة قيمة جيدة للغاية وقد أشرنا في المرشد إلى أنه ربما يكون قد نظر من خلالها إلى بعض حديث ابن رشيق في العمدة، في باب المبدأ والخروج، والنهاية إذ تعرض لأسلوب المتنبي في التقديم بالفخر ونعوت الخيل وإلى أساليب بعض المحدثين في ذكر الرياض والرياحين (2).
(1) The Bulletion of the School of Oriental Studies، London، 1950 - Poet and Philologist.
(2)
راجع العمدة (المبدأ والخروج والنهاية) ولا سيما ص 229 - ج 1 - طبعة مصطفى محمد 1955 تحقيق الشيخ محيي الدين عبد الحميد.
هذا ونريد أن نضيف على ما قدمناه في الجزء الأول، وعلى ما ذكرناه من قول ابن قتيبة وتفريع غيره عليه، أن النسيب في جملته تراد به أغراض أربعة: أولها رمزي محض وثانيها إثارة الحنين وثالثها الغزل ورابعها النعت، وهذه الأغراض الأربعة تتداخل وتختلط، وإنما نفرق بينها ههنا من أجل التوضيح والتحليل ليس إلا. والله تعالى أعلم وبه التوفيق.