الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رفيقه النجم والظلمة والقمر والهدوء الشامل يتخلله عزيف الريح، وما يتوهمه الساري من أصوات الجنان وما يلوح له من نيران المضارب وما يشيمه من البروق.
وكل هذه الأشياء تخالط النفس وتداخل أشواقها وحنينها. فرب حجر يمر به الراكب فيتذكر لمرآه معلمًا وثيق الصلة بماضي تجاربه. ورب ظل يُذكره ظلاً آخر أصاب عنده أُنسا أو لقاء. ورب نجم يطلع من تلقاء وطن خلفه الراكب وراءه أو يترقبه أمامه. وأن لشمول الصحراء واتساعها وتشابه مراميها لسحرًا أخاذًا يحيط بأكناف النفس ويحدث فيها شجوا عميقًا هو مزيج من وحشة الفردية الأصيلة في الذات الإنسانية، والنزوع إلى الأحبة الشديد المخالطة لأغوارها.
من أجل هذا جميعه جعل الشعراء العرب من الشوق والحنين أصلاً من أصول التعبير، له رموز تشير إليه، وتنساق منه إلى غيره مما يلابسه من المعاني كالهوى والغزل والنفور والقلق وهلم جرا.
رمزية المعاهد والديار:
وأول رموز الشوق والحنين هو المأوى. والدار والمنزل أوضح ما يدل على المأوى. ثم المرأة فرع من هذا المعنى، إذ هي قد كانت المأوى الأول حين كانت أما ثم هي المأوى الثاني حين تكون الخدن والزوجة والصاحبة. والعرب بما تكني بالبيت عن المرأة، وقد يذهب بعض المفتنين إلى أن هذا من باب المجاز اللغوي، على تقدير حذف المضاف والمراد أهل البيت. وقد ذهب ابن حزم إلى أن أهل البيت في قوله تعالى= {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} إنما أريد به أزواج النبي ليس إلا. وتقول العرب «بني بُفلانة» والبناء إنما يكون للبيت. ويقولون «امرأة مُثفاة» يشتقون ذلك من الأثفية، إذا كان لها ضرتان، والأثافي من متاع البيت الذي لا يفتأ العرب يذكرونه.
وقد رمزت العرب في شعرها للمرأة بالطلول والرسوم والديار والمعالم والمواضع رمزية لا يعسر دركها على أدنى تأمل. قال امرؤ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقال:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان
ومثل هاتين الوقفتين فيهما من الشوق والحنين ومن معنى الوفاء والحب ما لا يخفى وقال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
ولو قال «يا مية» ما باعد عن هذا الذي أصابه بذكر دارها وذكر العلياء والسند معها إلا أن ذكر الدار والموضع كما ترى يُشيع في التعبير روح الحنين. ثم للشاعر بعد أغراض أخر مع الحب والحنين سنعرض لها فيما بعد إن شاء الله.
وقال الأحوص:
يا دار عاتكة التي أتعزل
…
حذر العدا وبها الفؤاد مُوكل
وقد كشفت هذا المعنى جرير حيث قال:
ألا حي الديار بسعد إني
…
أُحب لُحب فاطمة الديارا
ومن مليح الكناية بالديار عن المحبوبة قول الحارث بن خالد المخزومي يذكر عائشة بنت طلحة:
من كان يسأل عنا أين منزلنا
…
فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ نجعل العيش صفوًا ما يُكدره
…
طُول الحياة ولا ينبو بنا الزمن
وذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن أحد المكيين حضر الغداء عند عائشة بنت طلحة، فسألته- كيف تركت الأعرابي؟ فقال: بخير. ثم علم من بعد أنها إنما عنت الحرث بن خالد. فلما قدم مكة أخبره بسؤالها عنه. فقال البيتين اللذين مرا بك. وإنما سقنا لك هذا الخبر لنؤكد عندك ما نراه فيه من الكناية. وألاقحوانة موضع وهي أيضًا زهرة معروفة تشبه بها ثغور النساء. ومحل استشهادنا أن الحرث جعل الأقحوانة وهي رمز لعائشة منزلاً له، فكأنه جعل عائشة نفسها منزلاً له، وإنما أراد أنها مأوى فؤاده المأمول على بعد الدار وشحط المزار.
هذا ومن رموز الشوق والحنين ما يدخل في معنى الدار من معاني الخليط والجار والعهد وهلم جرا. قال الشنفري:
فيا جارتا وأنت غير مُليمة
…
إذا ذُكرت ولا بذات تقلت
ونأمل أن نعرض بعد لتفصيل هذا الرمز في تائية الشنفري فيما يلي إن شاء الله.
ورمزية الديار والمعاهد واسعة المدى والأطراف، فالذي نذكره منها ههنا على سبيل التمثيل المجمل الموجز سيكون له تفصيل من بعد أو سيغني عنه وعما لم نذكره أو سنذكره ولا نفصل فيه، ما هو منه بمنزلة الشبيه والنظير.
وقال زهير:
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا
…
وزودوك اشتياقًا أية سلكوا
ويعجبني هذا البيت أيما عجب لأن الشاعر مزج فيه معنى الحنين الأصلي بمعنى الغزل الفرعي مزجًا محكمًا كأسمى ما يكون التعبير عن الوجد فقد ذكر الخليط وفقدان المأوى، واشتعال الشوق كما ترى. ثم إن هذا الخليط مما يكون كناية عن المحبوبة، كما يكون الإيواء كناية عن الوصل، وتزويد الشوق كناية عن الحرمان.