الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
المبدأ والنسيب
ذكرنا آنفًا أن أغراض النسيب أربعة هي الرمزية المحضة والحنين والغزل والنعت، وهذا حين نبدأ في شيء من تفصيل ونكرر ههنا ما ذكرناه من أن هذه الأغراض تتداخل وإنما نفصل بينها من أجل التحليل.
(1) الرمزية المحضة
تمهيد:
نعود بالقارئ الكريم إلى ما كنا ذكرناه من صلة الشعر القديم بالعرافة والكهانة، وما ألمعنا إليه من حاجة الشاعر إلى الوحي والرمز ليزين بهما صراحته عن نفسه حتى تنال من السامع القبول. فإذا ذكر القارئ أصلحه الله هذا، رجعنا به إلى قديم الحياة الجاهلية، وما كان عليه أمر العرب من عبادة الأوثان. والذي يترجح عندنا أن المرأة كانت إله العرب المقدم في باب العبادة الوثنية بادئ يدًا، ألهوها من أجل الخصوبة. (وقد كانت من الديانات الأوليات تفعل نحوًا من هذا. ثم إنه لما فطن الناس إلى خصوبة الرجل، جعلوه إلهًا. فبعض المجتمعات أعرضت عن عبادة الأنثى مرة واحدة وخست بقدرها أي خس. وبعض المجتمعات احتفظت ببعض مراسيم عبادتها لها وأحلتها درجات من التقديس، تتفاوت علوًا ودنوًا بالنسبة إلى الرجل). ويبدو أن العرب لم يتركوا عبادة المرأة بحال، لارتباط معنى الخصوبة بها، حتى بعد أن صاروا إلى عبادة الإله الرجل. يدلك على ذلك أنهم ظلوا يؤلهون
مناة واللات والعزى ويقدمونهن كل التقديم، وهذه كما ترى أسماء إناث. وقد كانت لهم آلهة مثل هبل وود وسواع ونسر ويغوث ويعوق وذي الخلصة.
وقد تعلم من استقراء أخبار القدماء أن حج المشركين في الجاهلية كانت تختلط به طقوس الخصوبة. من ذلك ما ذكره ابن إسحق من أن الرجال كانوا يطوفون بالبيت عراة وأن النساء كن يرتدين أقبية مشقوقات لا تكاد تستر وكُن يطوفن ويغنين (1):
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أُحله
وقد تعلم أيضًا أن إسافًا ونائلة مما ألهته قريش، وخبرهما أنهما رجل وامرأة أحدثا في الحرم فيه فمسخهما الله حجرين، والمسخ يناقض ما صارا إليه من التأليه لولا أن يكون ما فعلاه في القديم قد كان رسمًا من رسوم الخصوبة وطقوسها.
وما يذكرونه من عبادة الدوار وهو صنم كانت تطوف به العذاري- وهو الذي ذكره امرؤ القيس في قوله:
فعن لنا سرب كأن نعاجه
…
عذاري دوار في ملاء مُذيل
يحف به لون غير خاف من ألوان الخصوبة وطقوسها.
(1) السيرة 1 - 220.
وفي سيرة ابن إسحق المخطوطة من رواية العطاردي عن يونس بن بكير (قطعة مخطوطة بخزانة الوثائق بالرباط من المملكة المغربية رقم ج-12 ص 19) عن يونس عن هشام بن عروة عن أبيه قال لم يكن أحد يطوف بالكعبة عليه ثياب إلا الخمس وكان بقية الناس الرجال والنساء يطوفون عراة إلا أن تحتسب عليهم الخمس فيعطون الرجل أو المرأة الثوب فيلبسه. أ. هـ) وفي المخطوطة أيضًا: «فإذا ادخلوا الحرم وضعوا أزوادهم التي جاءوا بها وابتاعوا من طعام الحرم أثيابًا من ثياب الحرم، أما عارية وأما بإجارة فطافوا فيها فإن لم يجدوا طافوا عراة. أما الرجال فيطوفون عراة وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا درعًا تطرحه عليها ثم تطوف فيه فقالت امرأة من العرب وهي كذلك تطوف:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أحله. أ. هـ»
وانظر تفسير الآية 28 من الأعراف عند ابن جرير.
هذا وقد ذكر لنا القرآن غير قليل من عقائد العرب الوثنية في المرأة وتأليهها: من ذلك زعمهم أن الملائكة بنات الله، وزعمهم أن لله من البشر إناثهم دون ذكورهم، ولشركائه الذكور دون الإناث، فقال تعالى في سورة الزخرف:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} .
وأكاد أجزم أن الوأد الذي كانت تفعله قريش وكثير غيرها من العرب، ما كان إلا من قبيل العبادات الوثنية. والذي يذكره المتأخرون من أن العرب إنما كانوا يئدون البنات نفاة للعار سبب ثانوي فيما أرى وليس برئيسي وسنعرض لذلك من بعد عندما نتحدث عن الغيرة في باب الغزل، والقرآن صريح، في أن أسباب الوأد الرئيسية قد كانت وثنية واقتصادية. قال تعالى في سورة الأنعام:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وقال تعالى في الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} . وزعم بعض الزاعمين أن الوأد إنما كان في قبائل قليلة من العرب هراء محض (وأحسبه من باب الرد على الشعوبية) يشهد بذلك صريح القرآن (1) إذ كان إنما يخاطب قريشًا ثم العرب كلهم، وليس في الآيتين السالفتي الذكر ما يدل على أن المشار إليهم بعادة قتل الأولاد كانوا نفرًا قليلاً. وآية الموؤدة في سورة التكوير صريحة في إدانة قريش وعامة المشركين {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)}. هذا وقوله تعالى:{أَوْلادَكُمْ} يدخل فيه الذكور والإناث. ويُقوي ما نراه من أن التضحية للآلهة كانت تنال الذكور كما تنال الإناث، ثم إن العامل الاقتصادي حمل القوم على استبقاء
(1) قال الطبري في تفسير سورة التكوير عن الربيع بن خيثم «وإذا الموؤدة سئلت قال كانت العرب من أفعل الناس لذلك (الحلبي- ج- 30 - 72)» .
الذكور دون الإناث، إذ حياة الصحراء حياة حرب ونضال تؤثر القوي القادر، على الضعيف العاجز، وغير خاف غناء الرجل في هذا الباب وضعف المرأة.
وقد احتالت العرب على استبقاء الذكور بالفدية، ثم استبدلت تضحيتهم مرة واحدة بضحايا الأنعام والبهائم. ويبدو أن طريقة تضحية الذكور كانت الذبح على الصفا. وفي خبر حروب قيس صدر الإسلام ما يشهد بذلك إذ أخذوا بعض أبناء الكلبيين يذبحونهم على الصفا (1). وقال الشاعر (2):
لعمري أنني وأبا رباح
…
على طول التجاوز منذ حين
ليُبغضني وأُبغضه وأيضًا
…
يراني دونه وأراه دوني
فلو أنا على حجر ذُبحنا
…
جرى الدميان بالخبر اليقين
فهو كما ترى ههنا يذكر الذبح على الحجر. وفي خبر سيدنا إسماعيل في سورة الصافات: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)} .
وسياق الآيات كما ترى يدل على أن حديث سيدنا إبراهيم لابنه كان عند السعي بين الصفا والمروة، فيكون تله له على الجبين، على هذا، عند الصفا، ثم جاءت الفدية، فصارت سنة. ومضى العرب يذبحون فدياتهم -وكانوا يسمونها العتائر والنسك- على الصفا، على النحو الذي كانوا يذبحون به ضحاياهم البشرية.
(1) ند عني الموضع وأحسبه في شرح الحماسة للتبريزي وما أحرى أن يكون في تاريخ الأمم.
(2)
اللسان مادة «دمى» .
قال زهير يصف الصقر:
فزل عنها وأوفى رأس مرقبة
…
كمنصف العتر دمى رأسه النسك
ومنصب العتر هو الحجر الذي كانت تذبح عليه العتائر.
هذا وقد بقيت من تراث القربان البشري بالذكور من الأولاد بقايا إلى قريب من عهد الإسلام. من ذلك ما يروى من نذر عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذبح أحد أبنائه، إذ بلغوا عشرة، فوقعت القرعة على عبد الله، فأبت قريش على عبد المطلب أن يفي بنذره، فانطلق إلى عرافة بخيبر فأشارت عليه بالفدية ففداه بمائة من الإبل (1).
وفي خبر هند إذ لاكت كبد حمزة ما يشعرك بلون من العبادة الوثنية. ولا أستبعد أن تكون هند عدّت في نفسها حمزة قربانًا مقدسًا، ونالت من كبده لتصل إلى بعض حيويته إذ كان رجلاً مشهورًا بالنجدة والشجاعة.
هذا وكما ذهب العامل الاقتصادي أو كاد بتضحية الذكور من البنين وأدى إلى استبدالها بالفدي في القرابين والعتائر والنسك من الأنعام والظباء، قال كعب بن زهير:
فما عتر الظباء بحي كعب
…
ولا الخمسون قصر طالبوها (2)
كان ذا أثر فعال في الاحتفاظ بتضحية البنات إلى أيام البعثة، وذلك كما قدمنا لضعفهن عن القتال وكونهن أبدًا عبئًا وعالة في جدب الصحراء.
(1) سيرة ابن هشام 1 - 164 - 168. ويريبني كون الكاهنة من خيبر التي كانت من قرى يهود. فهل كانت يهودية؟ وهل كان بعض أهل الكتاب يقومون مقام الكهان بين العرب، أم هل استشعروا وثنية العرب؟ أم كانوا عربًا فتهودوا ودخلت بينهم أخلاط من سنخ يهود وعلقت بهم مع هذا بقايا من الوثنية العربية؟
(2)
هذا البيت يقوله كعب بن زهير في رجل يدعى جؤيا قتل، ونذر قبل موته أن يقتل قومه به خمسين من أعدائه. ويبدو أنه كان من عادة العرب إن لم يوف مثل هذا النذر أو أن أحست القبيلة أنه عبء عليها، أن يعتروا من الظباء ما يحللونه به- وهذا بلا ريب من قبيل استبدال الضحايا البشرية بالفدية والبيت من أبيات الحماسة.
ويبدو أن الوأد كان في البدء طريقة وثنية في تقريب الأنثى، كما كان الذبح على الصفا طريقتهم في تقريب الذكر. وروى الزمخشري في تفسير التكوير:«كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جُبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية. وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئرًا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض (1)» .
ولا يخفى ما في هذه الطريقة من مراسيم العبادة. فالتي تلبس الصوف والشعر يبغي أبوها أن يلبس على الآلهة أمرها، إذ كأنه يزعم بما يصنعه بها للآلهة أنها أمة لا تستأهل أن تقرب، وأنها له من دونهم. وأما الأخرى فإنه يحسن إليها ويدعها كما ترى حتى تقارب أن تصلح عروسًا على طريق التشبيه والتمثيل، فيزفها إلى الآلهة كما تزف العروس. وفي هذا من المشاكلة لما كان يصنعه قدماء الفراعنة بعرائس النيل ما فيه.
وجلى أن مثل هذا التقريب المُتأتى له، الذي وصفه الزمخشري، إنما هو وثني ديني محض، لا يفعله فاعله من خوف الفقر، بدليل الاحتفال بتزيين الموؤدة، وفيه من كلفة النفقة ما فيه. وقد فطن القدماء من أهل الحديث إلى هذا الجانب الوثني في الوأد. قال الطبري:«حدثنا بشر، قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة: وإذا الموؤدة سئلت هي في بعض القراءات، سألت بأي ذنب قتلت؟ لا بذنب. كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم (2)» .
وقتل البنات من خوف الإملاق لم يكن يُتأتى له بما تقدم من التزيين والتأجيل
(1) الزمخشري، الكشاف، مصطفى محمد، 1354 هـ-4 - 188.
(2)
الطبري، 30 - 72.
إلى سن السادسة. وإنما كانت الحامل تسارع بقتل ابنتها ساعة ميلادها. قال الزمخشري (1): «وقيل كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتًا رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابنًا حبسته» . وأحسب أن نحوًا من هذا كانت تفعله الحوامل بالذكور بما يلدن، في سنوات الجدب، وحين يخفن الفقر. وقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فيه معنى الإطلاق على النوعين كما ترى.
هذا، وكما بطلت تضحية الذكور من طريق الفدية، جعلت تضحية الإناث تأخذ في سبيل البطلان، قبيل الإسلام، من طريق الفدية أيضًا. من ذلك ما رووه من قصة صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أنه كان يفدي من يراد وأدهن من البنات بالإبل. وافتخر الفرزدق في الإسلام بذلك فقال:
ومنا الذي منع الوائدات
…
وأحيا الوئيد فلم تُوأد
ويشتم من بيت الفرزدق أنه عنى الحوامل اللاتي كن يقبرن ما يلدن من بنات ساعة مولدهن. أم لعله كانت النساء تحتفل بوأد الموؤدات، كما يحتفلن بالعرائس، فمن أجل ذلك سماهن الفرزدق بالوائدات؟ وهذا باب تحقيقه يطول، وغير هذا الموضع أشبه به.
وفي تفسير الطبري: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال ثنا ابن ثور عن معمر، عن قتادة، قال «جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية. قال فأعتق عن كل واحدة بدنة (2)». وفي هذا كما ترى من معنى الفدية ما فيه، كأنه صلى الله عليه وسلم إن صح هذا الحديث جعل ذلك بمنزلة الكفارة لما سبق من إثم الجاهلية. ولا ريب أن قيسا ضحى بناته تقربًا للآلهة إذ
(1) 4 - 188.
(2)
نفسه 30 - 72.