الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
احتفظت به في شخص جليلة بنت مرة زوجة كليب، وأضفت عليها شيئًا من عرافة كساندارا بريام ومأساتها، إذ أنطقتها بنبوءة منذرة من الشعر حيث قالت:
يا قتيلاً قوض الدهر به
…
سقف بيتي جميعًا من عل
وجعلت ابنها الهجرس يقتل أخاها جساسًا حين شب، على مذهب العرب في الثأر وعلى مذهب المأساة في الأساطير.
وهذا بعد باب يطول. وإنما أوردناه تفريعًا مما سبق وتذييلاً له. والآن نأخذ في عرض أمثلة من بعض ما صنعه العرب في باب تماثيل البيان.
الخمصانة:
وهي ضربان كاسية ومتجردة، وبين ذلك نماذج مما يتيحه افتنان الشاعر وأربه. ومن أمثلة الكاسية مهفهفة امرئ القيس في المعلقة التي استشهدنا ببيتها من قبل. وامرؤ القيس مما يمهد له يريد تخصيص نعته بصور تباينه لتكون المباينة أدل على مراده وأبلغ في إظهاره. وهذا من افتنانه وحذقه وقوة أخذه من مذاهب الأداء والبيان. وقد كان هو السابق المجلي غير مدافع.
مهد أول شيء بوقفته واستيقافه المشهور ولانريد أن نطيل عند هذا وحسبنا أن نشير إلى أنه دليل التحسر والشوق إلى الماضي الذي تصرم وقد ذكر صاحب الخزانة ما ينبئ أن امرأ القيس إنما نظم المعلقة وأخواتها الروائع بعد ذهاب الصبا وإقبال ما أقبل عليه من صرف الكهولة والنوى في خبره المعروف.
ثم ذكر عهد أم الحويرث وأم الرباب، وظاهر السياق أنه نال لديهما لهوًا ونعماء، قال:
كدأبك من أم الحويرث قبلها
…
وجارتها أم الرباب بمأسل
إذا قامتا تضوع المسك منهما
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وكأنها كانتا تنوءان بالقيام إذا قامتا، وتضوع المسك من قيامهما يشهد بالخفض والرفاهية.
وقوله «إذا قامتا» ساقط من رواية السجستاني في الدواوين الستة (تحقيق الأستاذ عبد المتعال الصعيدي) ومكانه:
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
بعد وصف المهفهفة. وكأنه بيت روي بروايتين إحداهما التي أخذ بها الزوزني والأخرى التي أخذ بها جامع الدواوين الستة. وأنا خاصة أميل إلى أنهما بيتان اتفق مصراع العجز فيهما، وسأبين ذلك في موضعه عما قليل إن شاء الله.
ثم بكى امرؤ القيس بعد ذكره عهد أم الحويرث وأم الرباب كبكائه أول ما وقف واستوقف، وبل بدمعه نحره ومحمله، والمسرحية هنا لا تخفى. ثم ذكر يوم دارة جلجل والعذارى يتلاعبن خليات ناعمات بال. ثم يوم إذ شغفنه حبًا -وليس بيوم دارة جلجل ضربة لازب وقد يكونه- فنحر لهن مطيته، فأقبلن يشتوين ويطبخن ويترامين عبثًا من العبث بلحمها وبشحم «كهداب الدمقس المفتل» . وقد يكون هذا من صفتهن إذ يتخالجن وهن يرتمين بعبث من شواء وترام وتلاعب وإقبال على عمل، وهداب الدمقس ثيابهن. وعلى هذا، فهن في هذه الصورة من صور النعت، أو بعضهن، مثل عذارى، «روبنز» أو قل بادناته. ومعنى البراءة فيما كن فيه ظاهر. ولكن شاعرنا كما نظر حينئذ، أو كما تأمل من بعد وهو يتذكر، غير حق بريء.
ثم خدر عنيزة وميل الغبيط.
وربما كان ميله بهما معًا من ثقلهما معًا. والراجح أنه كان من ثقل عنيزة إذ امرؤ القيس يصف نفسه، تلميحًا، في موضع آخر بأنه ضامر خفيف وكأنه يعرض برجل آخر كان ثقيلاً عنيفًا- قال يصف حصانه:
يزل الغلام الخف عن صهواته
…
ويلوي بأثواب العنيف المثقل
فدل بهذا أنه ليس بغلام خف ولا ثقيل عنيف.
ثم هو يصف عنيزة بأن قد كانت حبلى، وذلك بين في قوله:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعٍ
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
أي طرقت حبلى مثلك وطرقت أيضًا مرضعًا كما ستكونين إلى آخر ما مر فيه مما عيب عليه كما قدمنا.
ثم أخذ في ذكر يوم الكثيب وانتقل انتقاله القصصي الحواري الذي تعلم. ثم افتخر ببيضة الخدر المكنونة ذات الأحراس التي تجاوز إليها الصعاب على نحو ما سنرى إن شاء الله في نموذج الضامرة حين نصير إليه. وهي الخمصانة وهذا موضع استشهادنا. قال بعد أن جعلها بيضة خدر لا ترام.
فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها
…
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
ونريد لو نقف شيئًا عند بيضة الخدر ومعنى الظليم المتصل بها، ولكن نرجئ هذا الآن. وبدأ امرؤ القيس ينعتها كما ترى شبه عارية إلا مما تقتضيه أيسر تقية الحشمة، لبسة المتفضل. والصورة مستريحة، وادعة مستلقية أو متكئة. فحركها أسرع حركة وأنشطها- وذلك قوله:
فقالت يمين الله مالك حيلةٌ
…
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
ولم يقل فقامت أو فتناولت ثوبًا فاستترت به عجلةً، لأن هذا مفهوم ضمنًا، حكاية حديثها تدل عليه، وفي التصريح به إفساد للسياق. وقال تعالى في سورة النمل {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ثم لم يقل جل شأنه ثم دعا بما آتاه الله من علم ولكن قال عز وجل {فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} وهذا أفعل أثرًا وأبلغ وأدل على بيان سرعة ما كان.
هذا وفي إسراعه بإيحاء الحركة في قولها الذي قالته، ضرب من النفي لمعنى البدانة التي قد يقترحه قوله «نضت ثيابها» - وهذا النفي ملائم لما سيأخذ به من نعتها بالخمص.
وألبسها بعد الذي كان من الإلماع بتجريدها، وخرج بها تمشي، وهذا يلائم في معنى نشاطه معنى الخمصانة، ويقابل الصور التي مرت من قيام ينوء، وشحم كهداب الدمقس المقتل، وحبلى يميل بها الغبيط. وقد حذف ذكر اكتسائها كحذفه ذكر حركتها واكتفى في الدلالة عليه بذكر الخروج كما كان اكتفى من قبل بذكر القول الذي قالته:
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل
وجر الذيل لتعفية الآثار لا للبخترية، ففيه كما ترى نشاط وجهد، وقوله «وراءنا» وقله «مرحل» يدل على ذلك. أي أنها كانت تجر ذيلها وترحله ليمحو آثارها هي وآثاره هو. والمرحل أيضًا المنقوش وأراد امرؤ القيس الترحيل بمعنيه معًا، وقوله «خرجت بها» يشعر بالسرعة، ويؤكد هذا قوله بعد:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
…
بنا بطن خبتٍ ذي حقافٍ عقنقل
ويروى «ذي قفاف» القفاف جمع قف بضم القاف وهو ما غلظ من الأرض والحقاف جمع حقفٍ بكسر الحاء وهو الكثيب المحقوفف أي المحدودب المتماسك.
وظاهر المعنى والسياق أشبه به القفاف، لأن الموصوفة ذات متانة وأسر وقد ذكر الحقف في نعت اللينة الناعمة البادنة في اللامية الأخرى إذ قال «كحقف النقا البيت» ولكن التأمل يريك أن الحقاف أجود. وعسى أن يكون امرؤ القيس قال «قفاف» أولاً ثم عدل عنها إلى الحقاف. ذلك بأن كثرة الحقاف في الكثيب المتعقد وهو العقنقل أدل في باب الكناية على ما يريد به نعت هذه المرأة ذات القامة الممشوقة يكسوها
الثوب السابغ الذي نعفو بجره الآثار. وباطن هذا الثوب ضروب من حقاف، وكذلك ظاهر امتناعها وباطن نفسية أنوثتها اللينة. والخبت ما لان واطمأن من الرمل. وظاهر الوصف، كما ترى تجاوز الحي وساحته ثم الصيرورة بعد ذلك إلى ناحية بطن من كثيب تحيط به الأحقاف الساترة والمعاني التي قدمناها كلها ملابسة لهذا الظاهر.
والكوفيون يرون الواو من قوله «وانتحى» مقحمة في جواب لما. والبصريون لا يرون ذلك ويرون الجواب أول البيت الثاني:
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
…
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
ورأي الكوفيين جيد، ويكون قوله هصرت كأنه قد قال:«خرجت بها أمشي فهصرت» تجعل قوله «فلما أجزنا وانتحى» بمنزلة الفاء ومثل هذا المعنى تصل إليه برأي البصريين فالخلاف لفظي ليس بجوهري.
ورووا «هصرت بغصني دومة» والدومة أخت النخلة فيها طول وأشد أسرًا وأخشن من النخلة وكأن هذه الرواية شرح. وزعم الزوزني أن أمرأ القيس أخذ بذؤابتيها وهذا وجه، ولكن قوله «هصرت بفودي رأسها» أدق، إذ هو منبئ عن أن الشاعر وضع يده على مكان الفود من رأسها وليس بما يهصر، وقوله هصرت إشعار بلين أنثاها وشبه فروع رأسها بالأغصان ذات الثمر. ثم الشاعر قد فعل هذا وهو يماشيها بدليل رواية السجستاني في الدواوين الستة بعد هذا البيت:
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقد نظر الشاعر فأحد. إذ هو ينعت تمايلها إليه إذ أمسك بفودها كما تتمايل النخلة، وكشحها هضيم، وساقها هاته التي تطأ بها الذيل خدلة عبلة. وكلما التفتت إليه شم منها طيب ريح كنسيم الصبا جاءت بريا القرنفل. وجودة مكان الحركة في
الالتفات ههنا لا تخفى. وليست الريح التي تتضوع هنا ريح المسك إذ قد جاءها وقد نضت لنوم ثيابها، وإنما هي أنفاسها الطيبة النكهة.
وليس هذا البيت فيما يترجح عندنا بنص رواية مختلفة للبيت الذي تقدم:
إذا قامتا تضوع المسك منهما
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وإنما هما بيتان، جاء أولهما في نعت الناعمتين ذواتي المسك المثقل، يفوح منهما ساعة تنؤان بالقيام. أما هذا ففي وصف هذه الممشوقة النشطة إذ تلتف. وكلتا الصورتين بعد:
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وما في تكرار هذا التشبيه على مذهب الغناء والترنم والالتفات المسرحي ما لا يخفى من الطرب والشعف.
هذا، وفي الفودين، اللذين هصرا، والتمايل، والكشح الهضيم، (وتلك الغاية في نحول الخصر مع التماس) - والمخلخل الريان، تخطيط النموذج الخمصان كاملاً. والثوب المسبغ عليه ذو الذيل المنجر تزيين وتبيين ونميمة بتمثال هذا النموذج كما ترى. والتمايل نص في التنبيه على حركة الجسد بالثوب. والالتفات والأريج شاهد الحيوية. ثم أخذ في التفصيل، وإنما يفصل هذه الصورة التي أجملها، لا يتجاوز ما كساه الثوب فشف به، وما أبداه الالتفات وحركة تعفية الآثار. وقد أحسبك من حاق مجرد الجسد بالنظرة الخاطفة التي كان نظرها إذ فاجأها وقد نضت لنوم ثيابها. ولقد تنتظر بعد الذي زعمه وفعله من مجاوزة الأحراس والخروج إلى بطن الخبت ذي الحقاف، أن يصير بك إلى نعت من قريّ قوله في المبدأ «فمثلك حبلى» إلى آخر ما قاله ثم. ولكنه أحذق وأدق من أن يفعل ذلك. إذ هذه الخمصانة، على خلاف حال أولئك البادنات، منظر لا فراش، وقد أنهضها من الفراش وخرج بها يتمشى كما
رأيت لينظر لا يجاوز وراء ذلك أحراسًا.
مهفهفةٌ بيضاء غير مفاضةٍ
…
ترائيها مصقولةٌ كالسجنجل
وبيضاء كناية عن النعمة والشرف لا نص على اللون نفسه كما سترى. وغير مفاضة صفة الاعتدال وليست هي الدليل على الضمور إذ الدال على الضمور قوله مهفهفة. فهي مهفهفة غير مفاضة، وقد تكون أخرى بادئة لطيفة مكان الخصر غير مفاضة، وهذا لا يجعلها مهفهفة وسترى أن هذا فرق دقيق بين فتاة المعلقة وفتاة اللامية «ألا نعم صباحًا» والمفاضة ذات البطن والحبلى التي ذكرها أول الكلام مفاضة ضربة لازم في حال حبلها. وصقل الترائب تابع لصفة الضمر، فيه دليل رقة البشرة وريها بمقدار ما يخفى جساوة العظام ليس إلا. والتشبيه ينص على هذا، إذ سطح السجتجل ناعم صلب براق.
كبكر المقاناة البياض بصفرةٍ
…
غداها نمير الماء غير المحلل
أي هي كبيضة النعام المكنونة التي خالطت بياضها صفرة، أما من الكن وأما من أن ضوء الأصيل سطع عليها، وهذا أشبه، لأن الظليم (كما سترى إن شاء الله في باب الخروج) يقصد بيضه ليحضنه أصيلاً يبادر إليه غروب الشمس. ولا أشك أن الشعراء حين يشبهون المرأة بالبيضة يضمنون ذلك تشبيه أنفسهم بالظليم الذي هو الحاضن. قال سحيم عبد بني الحسحاس:
وما بيضةٌ بات الظليم يحفها
…
ويرفع عنها جؤجؤًا متجافيًا (1)
ويجعلها بين الجناح ودفه
…
ويفرشها وحفًا من الزف وافيًا (2)
بأحسن منها يوم قالت أراحل
…
مع الركب أم ثاو لدينا لياليا
(1) جؤ جؤ الظليم صدره وتجافيه ارتفاعه. جؤجؤًا متجافيًا: صدرًا مرتفعًا.
(2)
وحفا من الزف أي زفا وحفا بكسر الزاي والزف الريش اللين الناعم والوحف الأدكن اللون.
وقد كان سحيم عبدًا، وكانت العرب مما تشبه الظليم بالعبد، قال عنترة:
كالعبد ذو الفرو الطويل الأصلم (1)
وقال ذو الرمة:
كأنه حبشيٌّ يقتفي أثرًا
…
أو من معاشر في آذانها الخرب (2)
فهذا قوي الدلالة في أن سحيما حين قال الظليم أراد به معنى مزدوجًا، معنى التشبيه النموذجي ومعنى الكناية عن نفسه. ونأمل أن نعرض لقصيدة سحيم في باب مداخل الغزل.
هذا، والمقاناة اسم مفعول من قاني يقاني إذا خالط أي المخالطة البياض بصفرة، الممزوجة البياض بصفرة. والصفرة مما كانت تحبه العرب من الألوان إذ هي منبئة بالعتق والتقاء والشرف. قال تعالى:{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} و «الناظرين» ههنا عمومٌ والعرب أدخل من يدخل فيه إذ الخطاب إليهم في معرض القصة (3).
وقوله بكر دليل على الشباب ومتانة الأسر.
وقوله «غذاها نمير الماء غير المحلل» تأكيد لمعنى بكر ثم فيه زيادة معنى المنعة إذ هي شريفة من أشراف يردون الماء الصافي ويمنعون غيرهم أن يرده:
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا
…
ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
ثم ههنا تمهيد لتشبيه البردية الذي سيأتي وإيماء إلى ما ذكره من أنها ريا
(1) مطلعه: صعل يعود بذي العشيرة بيضه- والصعل الصغير الرأس من صفة الظليم.
(2)
شبهه بالسود الذين في آذانهم خرب بضم الخاء وفتح الراء أي ثقوب واحدتها خربه يضم الخاء وسكون الراء.
(3)
راجع الطبري.
المخلخل وإنما يكون الري من الماء. وقد فطن الشراح هذا من مراده فزعموا أنه أراد ماء جسدها (1) فيما أراد.
ثم رجع إلى صفة صورة الالتفات، وهذا مما يقوي ما زعمناه في معرض الحديث عن روايتي الزوزني وجامع الدواوين الستة عند قولهما «إذا قامتا» «إذا التفتت نحوي» البيتين:
تصد وتبدي عن أسيلٍ وتتقي
…
بناظرةٍ من وحش وجرة مطفل
وقد فصل هنا حركة الوجه وحيويته ومكان العين وكلامها وسحرها وقد سبق منا الحديث عن هذا البيت. وننبه ههنا على قوله «مطفل» بعد أن قال «بكر» إذ المطفل تحذر وتدافع عن طفلها وهذا هو المعنى الذي أراده في صفة النظرة.
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ
…
إذا هي نصته ولا بمعطل
وهنا ما ترى من حرص على إتقان النسبة في أجزاء التمثال الذي لم يرك منه إلا نميمة النوب عنه ثم تضوع الوجه وجلاءه. والحركة في «نصته» وملاءمتها لقوله «تصد وتبدي» وقوله «إذا التفتت نحوي» كل ذلك لا يخفى. وقوله «ولا بمعطل» نظرة شاملة كاشفة كنظرته حين قال «هصرت بفودي رأسها فتمايلت» وقد تركك لتتأمل هذا الجيد الذي نصته وليس بمعطل.
وفرعٍ يزين المتن أسود فاحمٍ
…
أثيتٍ كقنو النخلة المتعثكل
والنخلة هي- دلك على ذلك قوله «فتمايلت» آنفًا. والقنو أول ما يخرج من العراجين وجعله متعثكلاً لأن عليه أوائل البلح الخض الصغار المستديرات. وهذا مع الأغصان يعطيك صورة شعرها ذي الضفائر المتجعدة مع صورة شبابها وهي بكر كاعب الريعان.
(1) شرح الزوزني للمعلقات، مصر، المطبعة التجارية، 1958 - 20.
والصورة انتزعها من تذكر عهدها إذ فاجأها وقد نضت لنوم ثيابها فرأى شعرها يزين متنها. وقد جعل تمثالها ثابتًا في هذه الصورة، يقابل به ما كان من حركته في الالتفات والصد والإبداء ونص الجيد الذي ليس بفاحش ولا بمعطل آنفًا.
وبالغ في أنه أسود فاحم ليجعله مقابلاً لهذا البياض المقاني للصفرة حيث قال «كبكر المقاناة البياض بصفرة» .
والصورة انتزعها من تذكر عهدها إذ فاجأها وقد نضت لنوم ثيابها فرأى شعرها يزين متنها. وقد جعل تمثالها ثابتًا في هذه الصورة، يقابل به ما كان من حركته في الالتفات والصد والإبداء ونص الجيد الذي ليس بفاحش ولا بمعطل آنفًا.
وبالغ في أنه أسود فاحم ليجعله مقابلاً لهذا البياض المقاني للصفرة حيث قال «كبكر المقاناة البياض بصفرة» .
ثم عاد فحرك التمثال عند قوله:
غدائره مستشزراتٌ إلى العلى
…
تضل العقاص في مثنى ومرسل
مستشزرات إلى العلى أي مشدودات مجموعات إلى أعلى. وهذه لا ريب صورتها وهي تمشي تجر ذيلها. وضلال العقاص هذا الذي يذكره بين ما ثنته من شعرها وما تركته غير مثنى إنما هو ضلاله هو حيث هر بفودي رأسها فتمايلت، وهذا يقوي معنى ما ذهبنا إليه دون ما ذهب إليه الزوزني من أنه أمسك بذؤابتيها. واستشزار الغدائر منبئ عن الحركة لأن سبيل الشعر أن يهوى، فهذا لأنه أُحكم جمعه، يباين مسعاها إذ تسعى مهويةً إلى بطن الخبت وهو مصعد من تحت الخمار. وهذا النعت الذي نذكره يقوي ويحقق عندك -إن شاء الله- معنى التشبيه بالنخلة. والذي ينبئك أن هذا كأنه تفصيل لقوله هصرت (بفودي رأسها) مضيه في تفصيل معنى ما تمايلت عنه:
وكشحٍ لطيفٍ كالجديل مخصرٍ
…
وساقٍ كأنبوب السقي المذلل
وقوله وكشح لطيف تفريع وزيادة على قوله مهفهفة. والكشح منقطع الأضلاع. والهفهفة قد تكون من ضنى وشديد نحول، «فقوله «لطيف» ينفي ذلك. ولطف الكشح قد يتفق عند الجميلة البادئة. فقوله كالجديل مخصر، ينفي ذلك. أما قوله «مخصر» فشاهد أقصى ما يكونه الضمر المحمود وفيه إنباء عن التماسك. وأما
قوله «كالجديل» فنص في شدة الأسر ومتانته وأحكامه، لأن الجديل هو السير المجدول المفتول، ومنه قولهم مجدولة، وقولهم جدلاء، وقولنا نحن في عاميتنا:«جدله» وهي فصيحة. ثم عاد إلى ما ذكره من قوله «ريا المخلخل» وهي يجيء «في صفة البادنة» . فأراد ليزيل كل التباس، فشبه بالبردية أي القصبة، بل شبه بالأنبوب من القصبة، فنبه على الاستقامة، وتمام الهيئة مع القوة والنقاء وملاءمة ما كان فيه من نعت البكارة والسر المحكم.
وجعل هذا الأنبوب أو هذه البردية وسط سقي مذلل، أي نخل مسقي، خصب مذلل بالحمل، متهدلة أغصانه، ومثل هذا النخل ليس بطوال، ولكن مكتنز الجذوع قصارها، وقد تصل أغصانه إلى قريب من الأرض، أو قل قد يتناول من قطفه الواقف.
ولا يخفى أن التفاف مثل هذا النخل المتهدل حول البردية المنصلتة مما يقوى معنى استقامتها وانصلاتها وشدة أسرها مع نقاء اللون المتساوق المترقرق الماء من أدناها إلى أعلاها.
ولا يخفى أيضًا أن أولئك النخل المتهدلات ما من إلا صورة أخرى لأم الرباب وأم الحويرث وعنيزة والحبلى والمرضع المكتنزات، وبينهن بيضة الخدر كالبردية. وهي متى انفردت فنخلة فارعة، تتمايل إذا مُس فوداها عند الغدائر المستشزرات، ذات قنو متعثكل.
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
…
نئوم الضحا لم تنتطق عن تفضل
وهنا رجعة إلى قوله «فجئت وقد نضت» ولكنها صورة من الخيال، إذ هي صورتها في ضحا الغد، وقد نهضت، ولما تنتطق، وعليها لبسة المتفضل، وقد تركت فتيت المسك فوق فراشها، لا يقوم معها فيتضوع كشأنه مع أم الحويرت وأم الرباب.
وفي ترك المسك فوق فراشها إيحاء ببعد مسافتها عنه، وبعد أن ينالها، وإنما ينال مسكها الفراش، وليس ذلك له.
ثم في ظاهر لفظ البيت كناية عن ترفها وهذا معنى نموذجي معروف.
وفيه أيضًا إيهام بأنه قد لها معها إلى زمن ساهر من الليل، فلذلك نامت الضحا وقد وضح هذا المعنى سحيم في يائيته.
والصورة بعد على حركتها كأنها ثابتة لبعدها عن مسرح التمثال الذي يصفه. ولذلك عاد إليه فحركه بما هو من مجرى صفة الالتفات، ينعت إشارة بنانها:
وتعطو برخصٍ غير شئن كأنه
…
أساريع ظبيٍ أو مساويك إسحل
وهذا جيد. مواضع الجودة فيه، سوى مجمل معناه، ثلاثة. قوله غير شئن في التنبيه على ليان هذه الفتاة مع متانة صنعها الذي صنعته.
وقوله أساريع ظبي في إظهار حقيقة هذا اللين لأن الأسروع يرقه زمان العشب ولا شيء ألين منها. وقد تنبو بعض الأذواق عن نحو هذا، وإنما نبؤها تنطسٌ منحرف. وهل أرادها أحد على أن تأكل هذه الأساريع؟ وإنما المراد منظرها، ولا ريب في جماله ولينه. ولله در أبي تمام إذ قال كأنه يُقرع أمثال هذه الأذواق:
مدت إليك بنانةً أسروعا
ومثل هذا لم يقصد به إلا المغايظة البحتة.
وقوله مساويك إسحل، احتياط بليغ أي بليغ لقوله أساريع ظبيٍ (وظبي موضع بعينه). لأنه لم يرد من الأساريع إلا لينها ولطف أنسابها على الرمل. ولم يرد تهصرها ولا ما يتبعه من لزاجة، هذا الذي يتقذره أصحاب الأذواق المتنطسة، فيما أرى، حين يفزعون من هذا التشبيه. ولذلك قال «أو مساويك اسحل» لينبئ عن الصلابة والاستقامة مع ملاسة الظاهر ونقائه. فالأساريع تنفي معنى الجساوة الذي في
المساويك. والمساويك تنفي معنى اللزاجة والضعف والتهافت الذي في الأساريع فتأمل. وقد تعلم أن «أو» مما يراد بها الجمع كما يراد بها التخيير. من ذلك أقوالهم في تفسير قوله تعالى {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (1) - وشواهد هذا في كتب النحو كثيرة.
هذا وتمايل هذه الفتاة وإشارة أصابعها اللدنات حين التفتت من أعلق شيء بنفس الشاعر، إذ هو فيما قد صارت إليه حاله من تقلب أحوال الزمان كما تعلم. فألحق هذا المعنى المتمكن في نفسه، أو قل أومأ إليه وأوحى، بهذا الذي يصفه في البيت التالي من أمر الضوء ومنارة الراهب. قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارة ممسي راهبٍ متبتل
ولا يخلو الظلام من كناية عن حاله التي كان فيها. ولا الراهب المتبتل من كناية عن نفسه هو بعد الذي صار إليه من تحطم آمال. وهي وذكراها الضوء والمنارة. وقد مر بك حديثنا عن البرق والضوء والنار.
وأكد معنى مراده من الذكرى بقوله في البيت التالي:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
…
إذا ما اسبكرت بين درعٍ ومجول
فجعل نفسه يرنو إلى ضوئها كقوله في اللامية «تنورتها من أذرعات» وقوله «صبابة» يقوي ما نذهب إليه من معنى الذكرى. وقوله «إذا ما اسبكرت» كأنه نص عليه. لأن الدرع كان عليها إذ خرج يمشي وهو المرط المرحل. والمجول هو الذي رآها فيه حين نضت لنوم ثيابها. وهي في كلا الدرع والمجول مُسبكرةٌ. والاسبكرار هو طول قامتها واعتدالها وانصلاتها وامتدادها. فهذا إجمال لما فصله لك من نعت تمثالها.
(1) راجع تفسير الطبري، سورة الصافات مثلاً.
ثم نص على الذكرى نصًا لا ريب فيه، عند قوله:
تسلت عمايات الرجال عن الصبا
…
وليس فؤادي عن هواك بمنسل
واجعل العمايات من قبيل الظلام الذي تقدم. ثم مضى بعد يذكر الخصم والليل والهم والوادي القفر وذكريات الشباب والفروسية. ولا يتسع لنا المقام لنفصل ما أخذ فيه من بعد أو نوضح صلته بما قبله وصلة جميع ذلك بما كان امرؤ القيس يقاسيه من جهد وخيبة أمل وعناء. على أننا ننبه إلى أن امرأ القيس مضى يجعل الصور المحددة أو الناتئة الشديدة الأسر، وما يجري مجراها كالمركز لصوره، ويحفها بصور عراض مكتنزات أو كالمكتنزات. جعل حصانه محكمًا ضامرًا دريرًا كخدروف الوليد. وأتبعه صور النعاج كعذارى الدوار في الملاء المذيل، كعذارى دارة جلجل ذوات الدمقس المفتل. وذكر الثور والنعجة (يقابل بذلك ميل الغبيط به وبعنيزة) وطهاة اللحم ما بين منضج صفيف وقدير معجل (يقابل بذلك صورة الاشتواء الذي مر بلحم ناقته وشحم كهداب الدمقس المفتل). ثم ذكر البرق شاهد الذكرى. وقد مرت بك هذه الأبيات من قبل. وقد ترى كيف شبهه بلمع اليدين ومصباح الراهب، وقد تذكر أن ذلك من آخر ما ختم به نعت التمثال حيث شبه البنان بالأساريع وضوءها بمنارة ممسى راهب متبتل. ثم ذكر الغيث السحاح وفيه رجعة إلى صورة عدو الحصان. وجعل هذا الغيث السحاح إطارًا لكتيفة. وألقى دوح الكنهبل في جانب منه- ودوح الكنهبل فيه صدى من البوادن اللائي مضين مطلع القصيدة. والكنهبل عظام الطلح. ثم جاء بهذا السيل المنتشر. وأبرز فيه صورة القنان والعصم وجذع النخلة والأطم ذا الجندل وثبيرا الذي كأنه كبير أناس في بجاد. ومعاني الصيد والظباء والحصان وبيضة الخدر والأحراس مستكنة في كل هذا. وما ثبير إلا امرؤ القيس الصابر، أو كذلك بدا له معنى من معاني نفسه وجهادها. وقابل صورة ثبير بذروة رأس المجيمر المحددة التي كأنها فلكة مغزل. وجعل لهذه الذروة إطارًا من بعاع السيل الذي نزل:
نزول اليماني ذي العياب المحمل
ثم هذه المكاكي تقابلها صورة السباع المغرقات كأنهن أنابيش عنصل.
ورأس المجيمر فيه ذرء بما يتذكره من سابق عهده، ومن هذه الأشجان التي يستحضرها لنفسه من سابق ماضيه، بعضها مكاكي مغردة، وبعضها سباع مغرقات بالأرجاء القاصيات.
وقد ذهب السيل بالعرصات والقيعان وبعر الآرام كما ترى. وحسبنا هذا الإيجاز المختزل اختزالاً. ونأمل أن يعن لنا تفصيل بعضه متى صرنا إلى الأغراض أو إلى الخروج. وإنما اختزلناه ههنا حرصًا على إكمال ما قدمنا لك من نعت تمثال الخمصانة الكاسية حتى يظهر لك جانب من مراد الشاعر، والله تعالى أعلم.
هذا ومن أمثلة الخمصانة المتجردة، دالية النابغة:
أمن آل مية رائحٌ أو مغتدي
…
عجلان ذا زادٍ وغير مزود
وهي بحكم تجردها وأنها زوجة لا بكر ينبغي أن تكون أبض شيئًا من بيضة الخدر، خمصانة امرئ القيس الكاسية وقد نظر النابغة نظرًا شديدًا إلى نعوت امرئ القيس كما سترى إن شاء الله.
وأنت أصلحك الله تعلم القصة التي تروي من أن النعمان حمل النابغة حملاً على وصف زوجته المتجردة، فقال هذه القصيدة. وفي القصيدة بعد تجربة تتجاوز مجرد أن يكون النابغة أريد على الوصف فوصف، أحسبها مستفادة من مناظر جمالٍ حي عنت له. أضفاها على مشهد تمثال أو دمية رآها فأعجبته، ثم جمع ذلك في المتجردة لما أريد على وصفها.
ولقد يقال إن القصيدة كلها منحولة للنابغة. وفي هذا نظر. منه عفة النابغة
وتقيته، وروحهما شاملة للقصيدة من مبدئها إلى حيث انتهى. ولقد نبه أبو العلاء المعري إلى هذا من صنيع النابغة في رسالة الغفران، وقد قال النابغة في المطلع:
«عجلان ذا زاد وغير مزود» فألمع بمعنى النظرة العاجلة، كنظرته في الميمية (بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما) حيث قال:
هل في مخفيكم من يشتري أدما
كما قد أبان عن نفس في قوله «ذا زاد وغير مزود» - فذو الزاد النعمان. وغير المزود هو، إذ هو ناعت مكلف، وما تزوده نظرات من غير هاته التي كُلف وصفها أو من تمثال. وقد يكون النعمان بلغ من تهتكه أن أراه إياها لينعت. وقد ذكروا في صفته التهتك والفجور، وإن صحّ هذا، فيكون للذي ذكروه من غيره المنخل اليشكري، وتعريضه بالنابغة أنه لا يصدر مثل هذا من قوله إلا عن مشاهدة، وجه من معنى إذ مثله قد يُحفظ النعمان، إذ يراجع نفسه، فيتهم النابغة بأنه في وصفه الذي وصف، قد جاوز الفن إلى الشهوة، وتلك آبدة.
وإن يكن النابغة حقًا قد شاهد، فيكون عمده إلى نموذج تمثال يحذو عليه ما شاهده، أوقع وأدخل في معنى التقية وأحوط وأحزم.
ودليل آخر غير الذي نزعمه من تقية النابغة وعفته، ذكره مية في أول المطلع، وهي بعينها مية التي ذكرها في مطلع داليته المعتذرة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
وقد بينا آنفًا مكان الكنية في مطلعه هذا وفي الأبيات بعده، وصلته بخبر ما كان بينه وبين النعمان.
ودليل ثالث هذا الإشراق الذي ينتظم القصيدة من أطرافها، إشراقًا كأنما عمد به الشاعر إلى أن يبهر الناظر دون تأمل الصورة تأملاً مدققًا. ثم هو إشراق
يلائم حال الملك والترف وما تعلم من أمر الخورنق والسدير.
ودليل رابع تواتر الرواية وما نقلته إلينا من خبر إقواء النابغة فيها، وغناء قينات المدينة بأبيات منها أقوى فيها ينبهنه إلى هذا العيب من شعره. وهذا الخبر يناسب وضع هذه القصيدة الزمني، إذ النابغة نظمها بلا ريب قبل روائعه في آل جفنة وقصائده الاعتذاريات. وإن يكن النابغة قد نبغ في الشعر بعد الأربعين كما رووا، فهذه الدالية من أوائل ما نبغ به. ولست بمن يستبعد صحة هذا الخبر الذي يذكرونه من نبوغه بعد الأربعين. فالرجل قد كان من الحذاق أهل النظر. ومثله قمن بأن يكون بدأ النظم منذ دهر بعيد، ثم يطرح ما نظمه حرصًا على ألا يسير عنه، حتى إذا وجد آخر الأمر أنه قد استقامت له منه طريقة أذاع به. ولأمر ما سمى النابغة مع من سموا بهذا الاسم أحد عبيد الشعر. ولا كعبوديته فيما أرى عبودية زهير، وإن كان جوهر التحدي عند كليهما متشابهًا. إذ زهير أشبه به أن يكون قد يفرغ من القصيدة، ثم يؤوب إليها ليشذب، بغرض أن يزيد في خفاء ما عسى أن يبدو مكشوفًا معناه، فيكون بإخفائه هذا له أشد إيغالاً في الكشف عن نفسه. والنابغة يطيل إدمان الصياغة ليجيء كلامه سلسًا متهلل الديباجة، وقد مثلنا لك من طريقته بما رأيت. ولا ريب أنه في تحسينه لديباجته مما يعتمد من التقية أساليب. غير أن زهيرًا أدخل في هذا المعنى كما قدمنا، ونفسه أشد حرارة، لما يفعله به من طول التحبيس.
ثم دليل خامس وهو أصالة روح النموذج واقتراء الشعراء له من بعد، وقد ذكرنا لك آنفًا نظر النابغة إلى تمثال أفروديت ذات الثوب تليح به وهي متجردة وأضاف النابغة إلى ذلك أنها ذات عقد- وقد يكون نظر في هذا إلى صورة رآها وقد يكون هداه إليه الخيال، وقد تكون عرضت عليه المتجردة وعليها عقد، ومهما يكن من شيء فهو لا يخلو من أن يكون ذكر العقد للذي ذكرته لك من أرب أن يحف الصورة بالبريق وليزين أيضًا تجردها، باقتراح شيء من ستر له ولباس في هذا
العقد. وقد نظر المرار إلى صورة النابغة هذه فجعلها لمتجردته التي سترى إن شاء الله.
أملح الخلق إذا جردتها
…
غير سمطين عليها وسؤر
وذكر السمطين والسؤر زيادة- جعل العقد عقدين، وزاد في اليدين أساور كما ترى:
قال النابغة:
أمن آل مية رائحٍ أو مغتدي
…
عجلان ذا زادٍ وغير مزود
أفد الترحل غير أن ركابنا
…
لما تزل برحالنا وكأن قد
أي دنا الترحل، ولما نرحل بعد، وكأن قد فعلنا لأنا قد أجمعنا أمرنا فنحن على وجه المضي. وموضع السؤال حيث وضعه طريف. إذ منه إشعار بأنه لم يودع آل مية. وهذا قريب من قول المسيب بن علس:
أرحلت من سلمى بغير وداع
…
قبل العطاس ورعتها بوداع
في الشطر الأول وحده. أما الشطر الثاني فيستفاد منه أن الوداع كان عجلاً كلاً وداع. وحتى هذا لم ينله النابغة وقد نص عليه كما سيلي:
زعم البوارح أن رحلتنا غدًا
…
وبذاك تنعاب الغداف الأسود
ورواية الأقواء «خبرنا الغداف الأسود» وهي أقوى من التي لا إقواء فيها، لملاءمتها قوله «زعم» . والتي لا أقواء فيها استنتاج لا خبر ولا زعم. وإنما أثبتناها هي دون رواية الأقواء تخفيفًا على القارئ للذي ينفر عنه من الأقواء. وقد بينا رأينا في الأقواء في أول كتابنا هذا من قبل وأن أشعارًا جيدة جاء فيها منهن همزية الحارث في المعلقات، ولولا توتر الرواية عن امرئ القيس لكان قوله «كبير أناس في بجاد
مزمل» وأن القليل منه يحتمل متى طلبه المعنى، وأن مذهب الوقف عند أواخر الأبيات بالسكون، وكان من مذهب العرب، يخفيه، إن كان لابد من إخفائه، كل إخفاء.
والبوارح من الطير وغيره يتشاءم بها
لا مرحبًا بغدٍ ولا أهلاً به
…
إن كان تفريق الأحبة في غد
وهذا البيت كما ترى غناء ويلائم مذهب خفة الروح والطرب الذي عليه هاته القصيدة أو ينبغي أن تكون عليه.
حان الرحيل ولم تودع مهددًا
…
والصبح والأمساء منها موعدي
أي لم تودعها ولم تبق إلا هذه الليلة ثم موعدنا الصبح والإمساء نصبح لنسير، ونمسي لنسير، وتلك شقة لا نهاية لها.
ومهدد هي مية نفسها، وفي الاسم تحبب لا يخفى واشتقاقه من المهد.
ثم بلفتة من لفتات الخيال الجامح جعل النابغة مية هذه أو مهدد كما سماها، وكلتاهما المتجردة، كلا الاسمين كناية عنها، جعلها راحلة، وجعل نفسه يتبعها كما يتبع الشعراء محبوباتهم، قال زهير:
هل تبلغني أدنى دراهم قلص
…
يزجي أوائلها التبغيل والرتك
وقال ابنه:
أضحت سعاد بأرض لا يبلغها
…
إلا العتاق النجيبات المراسيل
ولن يبلغها إلا عذافرةٌ
…
لها على الأين إرقال وتبغيل
وقال النابغة بعد ما تقدم:
في إثر غانيةٍ رمتك بسهمها
…
فأصاب قلبك غير أن لم تقصد
وهذا جيد بالغ. استهل كما ترى بنعت النظرة، وإنما أراد أنها متحجبة لا يرى منها -أو قد يرى شيء- إلا الطرف. وهذا احتياط من غيرة النعمان. ثم قال «فأصاب قلبك غير أن لم تقصد» أي غير أنها لم تصب منك مقتلاً. وهذا زيادة في الاحتياط. يزعم أنها أصابت قلبه بسهمها كما يقول الشعراء أن النساء تصيبهم بأسهمها لا أنها قتلته حقًا إذ هو خلي من حبها لم تقتله وإنما أمره الهمام فهو ينصاع لأمره.
والمدقق النظر يرى في هذا الاحتياط ذرو إيحاء بتجربة. وذلك أن النابغة نظر فازدهاه النظر، وأعرض عن أن يزدهى تقية وعفة. وماذا عساه أن يصنع غير ذلك.
غنيت بذلك إذ هم لك جيرةٌ
…
منها بعطف رسالةٍ وتودد
أي أقامت بذلك من أمرها واكتفت. إذ هي جار والجار يكف عنه النظر. وكان حسبك منها عطف رسالة وعطف تودد. ولا ينبغي أن يمر على هذا البيت من غير تأمل ما. إذ هو يحمل في أثنائه كالإيماء إلى ما كان بين النعمان والنابغة في أمر نعت المتجردة. ولا يستبعد أن يكون مراد الشاعر أنه قد كفاة تجربةً، وهو الجار العفيف، أن أرسل إلى هذه الحسناء أو أرسل إليه، فجليت له، وهي منكسرة طرف العين حياء لهذا الذي تكلفه من عظيم الكلفة، وفيها بعد إلى الشاعر عطف ورحمة لما تعلمه أو تحسه من مشاركته لها في عناء تلك الكلفة، والصبر على أشر النعمان، والله أعلم.
وأنا لا أدفع أن تكون جليت للنابغة متجردة أو كالمتجردة كل الدفع. وخبر التجرد كأنه جارٍ مجرى الأساطير والخرافات في بعض قصص البدو، مما ينبئ عن سابقة له سحيقة البون في الماضي السالف. من ذلك مثلاً عندنا في السودان قصة تاجوج والمحلق. يزعمون أنهما كليهما كانا من قبيلة الحمران، إحدى فصائل الكواهلة فيما نبئت. وكانت تسكن أطراف نهر سيتيت، مما ينبئ بقرب عهد اجتياز البحر إلى شاطئ الحبشة والنوبة من الجزيرة العربية. وقد عشق المحلق تأجوج
وعشقته وتزوجها لقرابة ما بينهما، ثم أنه بلغ من كلفه بها، وكان امرأ شاعرًا، أن أرادها ذات يوم أن تتجرد أمامه مقبلة ومدبرة. فشق ذلك عليها. وعاهدته وقاسمته على أن يعطيها مرادها إن هي أعطته ما أراد. فأجابها إلى ما عاهدته وقاسمته عليه. ثم لما رأى منها ما رأى، عزمت عليه أن يطلقها. ولم يجد بدًا من ذلك. واستلب ليه فيما بعد أو كأنه قد استُلب أسى على الذي فعله. قال (1):
الجنب التعيس سويته بيدي
وفي كلمة مزاج قليت غميدي
وتاجوج ما اتلقت يا خمله زيدي
ثم إنه تقلبت به أحوال كأحوال مجنون ليلى أو من قريها. ثم إن القوام سعوا في صلاح ما بينه وبين تاجوجه. فقيل إن هو كف عن نظم الشعر، أعيدت إليه، فسرى ليلة مع شيخ قبيلة الحمران وهو لا يقول شيئًا. ثم لما كاد ينصدع الفجر، وقد دنوا من الحي المقصود لم يستطع المحلق صبرًا، ولعله رأى شيئًا أو سمع طائرًا فاهتاج لذلك، فالتفت إلى شيخ قبيلة الحمران، وقال له:
يا شيخ بدو الحمران، أيش قلت لي (2)
الناس تدور الناس والرب غني
فنقض بذلك عهد ما بينه وبين الشيخ وحرمت عليه تاجوج، ثم تمضي القصة بعد إلى نهايتها وهي مأساة يموت فيها العاشقان. وكان موت تاجوج أنها قتلتها قبيلة
(1) قد روى خبر القصة وبعض أشعارها الأستاذ صالح ضرار في كتابه، واعتمد المؤلف على ذلك شيئًا وعلى ما سمعه من جماعة، منهم الشيخ إبراهيم بن النقر بن جلال الدين المجذوب رحمه الله.
قوله: الجنب: أي الذي ينبغي تجنبه- سويته: صنعته. قليت: صيرت أنا قليلاً. عميدي: غميضي أي نومي قلبت الضاد دالاً. خملة: الخمول وسوء الحال. ووزن هذا أصله البسيط.
(2)
أيش: أي شيء. أي نسبت ما قلته لي، في العهد ألا أقول شعرًا. تدور: تريد. ووزن هذا أصله الطويل.
معادية إذ سبيت، وخشي ذوو رأيها الفتنة من جمالها، وفي هذا نفس من قصة السبية، أحسبها امرأة عبد العزيز الأموي، إذ اختلف فيها الخوارج، وتغالوا في ثمنها، فجرد أحدهم، يدعى أبا الحديد، سيفه، فقتلها فقيل في ذلك:
كفانا فتنةً عمت وطالت
…
بحمد الله سيف أبي الحديد
والقصة كلها تنظر إلى مصادر عدة ليس هذا مكان تحليلها، وإنما أردنا بإيرادها التنبيه على مكان المتجردة.
وننبه أيضًا على عقدة القصة أو قل جوهرها مداره ولع البطل المشئوم بالشعر نفسه أكثر من ولعه بتاجوجه. ومن أجل الشعر طلب إليها الجلوة، ومن أجله ضحى بلقائها من أجل بيت يترنم به لشيخ بادية الحمران.
وفي القصة بعد تناقض، راجع إلى معنى التجريد الذي سقناها من أجله، وهو أنه زوجها يحل له النظر إليها وينال منها أكثر من جلوة النظر. ومع هذا كما ترى تجعل القصة جلوة النظر أمنية يتمناها الشاعر فينالها بثمن مر باهظ. ولا يخفى ما في هذا من الرمزية إلى خصام ما بين جموح الفن، وتحفظ التقاليد.
فعسى هذه القصة التي سقناها أن تقرب عندك خبر النعمان والنابغة فلا تنفيه كل النفي أو ترفضه. وهي على أنها عامية لابد أن تكون منبعثة من ذلك الأصل أو من أصل مشابه له كما قدمنا، والله أعلم.
وقال النابغة:
ولقد أصابت قلبه من من حبها
…
عن ظهر مرنانٍ بسهمٍ مصرد
فعدل إلى ضمير الغائب بعد أن نفى الإقصاد عن نفسه في قوله «غير أن لم تقصد» كما ترى. وفي عدوله إلى ضمير الغائب كالعمد منه إلى أن يخص النعمان بأنه هو المصاب وأنه هو الذي أقصدته الفاتنة وتملكت فؤاده، ويهواه هو، لا يهوى نفسه،
يتغنى فيما سيأخذ به من غناء. وقد تعلم أنه يقول من بعد «زعم الهمام» فضمير الغائب ههنا كأنه لا يعني أحدًا غير هذا الهمام الذي يزعم ما يزعم.
وضمير الغائب بعد قد يعني الشاعر نفسه. وههنا التقية. وقد أباحت هذه التقية للنابغة أن يفتن في نعت النظرة كما رآها، وفهم من حديثها، ووقع كل ذلك من نفسه أيما موقع- فقال «عن ظهر مرنان بسهم مصرد» أي بسهم ينفذ ويتجاوز:
وفي المرنان إيحاء بما كان هو مقبلاً عليه من ترنم وأرنان ببكاء الحسرة على الذي كان من تجربته مداناة نيل ما لا ينال.
نظرت بمقلة شادنٍ مترببٍ
…
أحوي أحم المقلتين مقلد
هذه هي صورة التمثال موجزة مختصرة. جعلها شادنًا ليدل على أنها شابة مجدولة متماسكة خمصانة النموذج. والشادن من الظباء ما شب واشتد أسره وارتفع. وقوله مترب، لينفي عنها البداوة، بداوة الشادن الذي توصف به نساء البدو، وذلك بجعله شادنا مترببًا مؤلفًا في البيوت. ثم في التربيب النعمة. وهذا يسبغ على خمصانتها أديما نديا ريان خافضًا عسى أن يشبه شيئًا ما ضروب ما كان يُصنع بأخرة من متجردات يونان، حينما جيز بالطراز الرياضي إلى لون من التنعيم من غير مغادرة مقياس الضمر وامتشاق القامة. وقوله أحوى، نعت للفم. وسيقف النابغة من بعد عند امتلاء هذا الفم وحوته وبهجته.
وقوله أحم المقلتين تلخيص لهذه النظرة التي أصابت ولم تقصد ادعاء، وأصابت وأقصدت بسهم نافذ، أرسل من قوس مرنان.
وقوله مقلد، جعله القلادة على عنق القامة المتجردة كما ترى على النحو الذي قدمنا. ولـ «مانيه» كما تعلم صورة متجردة، بادية الضنى كأنها سقيمة، على عنقها قلادة من خيط أسود، ونذكر هذا تنبيهًا على ما يقع في باب توارد الخواطر كما يقع
الحافر على الحافر- على أن سقم صاحبه «مانيه» مريب والنابغة يذكر السقم كما تعلم. فهل نظر «مانيه» إلى نموذج كلاسيكي قديم؟ هذا، ثم أخذ النابغة في التفصيل، فأول ما فصله نعت العقد، ليبعدك من تأمل التمثال حينًا، ريثما يشيع حوله البريق واللألا المعشي:
والنظم في سلكٍ يزين نحرها
…
ذهبٌ توقد كالشهاب الموقد
وإذ اتجه نظرك إلى هذا الشهاب المتوقد، ألقي إليك مسرعًا بصفة الجسد كله، وكأنه أصاب ألقًا من ألق الشهاب:
صفراء كالسيراء أكمل خلقها
…
كالغصن في غلوائه المتأود
فالصفرة شاهد الألق، وهي لون العرب المحبوب كما مر بك في أبيات امرئ القيس. «وكالسيراء» اختلاس نظر إلى نعومة تلك البشرة الصفراء، لأن السيراء نسج حرير مزخرف. وقد كانت نظرة فاحصة، مع خلستها، لهذا الذي فطنت إليه من زخرف مع النعومة.
وقوله «أكمل خلقها» إثبات للتماسك والتمام ونفي للزوائد من ترهيل ونحوه. وقوله «كالغصن» تأكيد لهذه الصفة، وجعل الغصن ذا غلواء ليفعمه بالشباب والقوة وينفي عنه جوع النحول. وهنا تأويل قولنا بادئ كلامنا أن هذه المتجردة، بحكم تجردها، وبحكم أنها غير بكر، ينبغي أن تكون أبض شيئًا من خمصانة امرئ القيس الكاسية.
وامرؤ القيس لاشك أحذق إذ جعلها بكرًا وإذ كسها ليلهو ببكرها ويجردها معًا في نعته. ولكن ماذا عسى أن يصنع النابغة، وإنما حمل على أن يصف متجردة ليكسوها بدعوى عزوف وتقية، وثيبًا ليتوهمها بكرًا لا تنال.
وقد نظر النابغة إلى امرئ القيس في قوله «كالغصن في غلوائه المتأود» إذ
صورة الغصن ذي الغلواء مأخوذة من البردية بين السقي المذلل. أخذ النابغة هذه البردية فباعدها من السقي فليس لها إلا أن تكون ذات غلواء، وجعلها غصنًا كما ترى. وقد يتبادر إليك أنه أخذ من قول امرئ القيس:
هصرت بغصنٍ ذي شماريخ ميال
والراجح أنه مما قدمنا أخذ لا من هذا. على أن لا يستبعد أن يكون بعد أن أخذ من الأول، نظر إلى هذا، فجمع منه إلى معنى ذاك. إذ الغصن حينما يغلو يتمايل وهذا قوله:«المتأود» . و «تمايلت» في المعلقة حركة سببها الهصر. وفي اللامية حركة الميال من جنس الغصن ذي الشماريخ، كما أن فيها شيئًا من مجاوبة للهصر. وعند النابغة حركة المتأود من جنس الغصن ليس إلا- فهي من ههنا أدخل في باب السكون، وأشبه بمعنى البردية الذي قدمنا. والألفاظ الثلاثة عند الشاعرين: تمايلت ميال. متأود. كل منها دال على ما فسرنا. تمايلت فعل يدل على تفاعل حركة. وميال صفة تفيد الثبوت والمبالغة تفيد التفاعل وتشعر باضطراب الحركة. والمتأود صفة حركتها تفعل من ذات نفسها كما ترى.
والبطن ذو عكن لطيف طيه
…
والإتب تنفجه بثديٍ مقعد
وإذ قد نظر خلسة فرأى البشرة، غض من حيث نظر وذلك محل العقد الشعاع، فرأى كقلادة العنق من أسارير طي البطن الناعم المتماسك بالصحة وأسر الشباب. وإذ سمى هذه الأسارير عكنًا يدل على أنها جدل محكم من تلاحم نسج خصائل الحشي، أضفي عليها الرقة بالذي ذكره من لطف الطي. وإذ هي نظرة سريعة، اكتفى بهذا الذي قاله، فلم يثبت الصفة بنفي الإفاضة أي بأن يقول «غير مفاضة» إلا في بيت آخر بعد نظرة أخرى أو غضة أخرى كما سترى إن شاء الله.
وإذ جرد التمثال الثابت كل هذا التجريد بنظرته حين غض عن بريق العقد،
بل العقد كأنه شفٌ وأفشى هذا التجريد بعد أن كان يعشى الناظر دونه- إذ فعل هذا عاد فألقى على التمثال سترًا من خياله، وذلك قوله:
والإتب تنفجه بثديٍ مقعد
والإتب بكسر الهمزة والتاء بنقطتين فوقيتين ثم الباء بواحدة من تحت، هو ثوب مشوق لا جيب له. وهذا أول ما يلوح لنا من كساء أفروديت. وقد جاء به النابغة من خياله إذ لم يكن على المتجردة ثوب، إذ قد كانت عارية إلا القلادة وعسى أن ظن السجفين اللذين بدت منهما كما سترى بمنزلة هذا الأتب الذي يذكره وقوله «تنفجه» يكاد يوحي بالحركة، لكن الصورة مع هذا ثابتة. وسبب ذلك أن النابغة يصف ثديًا ليس عليه ثوب، فهذا قول مقعد، يعني أنه صلب ثابت متحيز بمكانه. ولو قد كان عليه اتب لنفجه، هذا معنى قوله «والاتب تنفجه» - وعسى أن أشرب هذا من عند نفسه صورة التمثال الذي يكون منه الثوب على الثدي الآخر. وعسى أن مال أحد السجفين على جانب المتجردة. ومهما يكن من شيء «فمقعد» نظر مباشر ليس دونه حجاب:
محطوطة المتنين غير مفاضةً
…
ريا الروادف بضة المتجرد
وهذه نظرة غير الأولى. وانحطاط المتنين تنعيم للتمثال الخمصان حتى لا يتبين منه جساوة تراق وأكتاد وحيث معاقد الكتف من الذراع. ولكي ينفي فكرة البدانة التي ربما خطرت للسامع من معنى «محطوطة المتنين» «قال» «غير مفاضة» - وكما ترى، فإن هذا بالنسبة إلى نظرته إلى المتنين غضة. ولا يكون. ضربة لازب، دار هو بها فنظر أو أدبرت هي، لأن الخيال في نحو هذا يتمم ما تشاهده العين. على أن معنى تدبر غير مستبعد، على معنى ما قدمنا من تهتك النعمان بجلوتها.
وقوله ريا الروادف لا يبلغ بها الضخامة كما ترى، وإنما ينعت تمام خلقها،
وحسن نستها مع ما دونها وإليها. وصفة ريا تشعر بذلك، وهي كأنها نظر وتكميل لقول امرئ القيس:«هضيم الكشح ريا المخلخل» وقوله «وساق كأنبوب السقي المذلل» . وقوله «بضة المتجرد» نفي لأن يكون في روادفها ترهيل. كأنه يقول لك أن هذا الذي بدا من امتلاء ردفها وريه، سببه أنها متجردة متكشفة، ولابد لمثلها أن يكون بضا وهو متجرد. فهذا كأنه نص في الذي زعمناه لك آنفًا من أن العارية أبض حتمًا من الكاسية.
قامت تراءى بين سجفي كلةٍ
…
كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
وهذا صفة لحالة الجلوة كيف جليت ولموقف التمثال حيث وقف. وفيه أشعار بحيوية وتحريك، في الترائي وفي ما يكون من انسياب سجفي الكلة حوليه، وما قد يعن من خفوقها.
وهنا أيضًا نظر إلى تمثال أفروديت ذات الثوب. ثم تمهيد لضوء الشمس الذي سيذكره، إذ سجفا الكلة مما يكون أشد لوهجه وبريقه وإعشائه العين دون أن ترى. وهو لم ير منها وهي واقفة متجردة صلته بعقدها غير ما يمكن أن يراه من الشمس إذ طلعت بالأسعد: الإشراق والسعادة لا غير. وهذا كما ترى في جودته وقوته هو أيضًا من حاق التقية.
أو درةٍ صدفيةٍ غواصها
…
بهج متى يرها يهل ويسجد
وهذا استمرار في نعت البريق كما ترى.
وفيه استراحة ما من الذي كلفه النابغة من عناء. استراحة تغن وترنم.
وفيه بعد كناية إذ هذه المتجردة من لآلئ بحور القصور، وغواصها النعمان، يهل ويسجد لظفره بها، وقد أهل النابغة أيضًا وسجد والتاع.
ومع استمرار البريق فإنه خبا شيئًا، إذ ليس ضوء الدرة كضوء الشمس.
وإنما أخباه الالتفات عنه والغض إلى التأمل والتغني. ثم في النفس حاجة إلى التمهيد بهذا الإخباء إلى نظراتٍ أخر. وذلك قوله:
أو دميةٍ من مرمرٍ مرفوعةٍ
…
بُنيت بآجر يشاد وقرمد
والمرمر براق ولكنه دون اللؤلؤ. ثم القاعدة التي عليها دمية المرمر آجر وقرمد، وضوء هذا خافت، كلا ضوء، بالنسبة إلى المرمر والدرة والشمس. وهنا ارتاح النابغة راحة كاملة. وصورة الدمية ذات القاعدة التي ارتاح إليها، أو قل إلى قاعدتها، من الذاكرة كما ترى. ثم ستجد مع هذا، في الذي يلي، أنها لا تخلو من كناية. ونظر النابغة عندما ارتاح. ولكن نظرته أهدت له صورة أخرى، غير صورة الفاتنة المترائية بين سجفي الكلة، صورة من الذاكرة، فيها حركة مسرعة أيما إسراع، ثم هي في ذلك ثابتة. صورة حسناء رائعة فاجأها، فسقط نصيفها، فاتقت بيدها. وهذه الصورة تنظر إلى قول امرئ القيس:
فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها
وصورة امرئ القيس مع ظاهر طمأنينة جوها أدل على حيوية الحركة من مرتاعة النابغة المنفعلة- أدل على الحيوية مع أن الحركة التي وصفها امرؤ القيس (قد نضت لنوم ثيابها) قد كانت قبل دخوله وإنما وجد شاهدها، أما الذي يصفها النابغة فقد شاهدها عيانًا بيانًا.
أم لعله لم يشاهدها عيانًا بيانًا ولكنها صورة توهمها- صورة جاء بها من الذاكرة من تمثال أفروديت ذات الثوب أو صورة اخترعها على مثال ذلك التمثال حين رأى المتجردة من سجفي الكلة، يوهمك بهذه الصورة أنه لم ير جسدها عاريًا، وإنما رأى نصيفًا سقط، ثم اتقاء باليد. وأنى له أن يرى جسدًا عاريًا وقد أعشاه شعاع شمسها بالأسعد؟ أو أعشاه شعاع ما يخشاه من سطوة النعمان وغيرته؟ من أجل هذا ما نرى ما ذكرناه لك من أن حركة النصيف على سرعتها وارتياعها ثابتة. ذلك
بأن النابغة إنما وصف بهذه الحركة حال انفعاله هو حين رأى ما رأى، فريع، دون حركة التمثال ذي السمط الواقف بين سجفيه يشع ما يشع من بريق وألق. وهذا أيضًا يقوي الذي زعمناه من نظر النابغة واستفادته من تمثال أفروديت ذات الثوب، إذ ذلك المثال في حركته المقترحة أشد إظهارًا لدهشة الناظر إلى أفروديت منه لجزع أو ارتياع يكون منها.
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضبٍ رخصٍ كأن بنانه
…
عنمٌ على أغصانه لم يعقد
ورواية الاقواء «يكاد من اللطافة يعقد» - وهنا نظر إلى قول امرئ القيس:
وتعطو برخصٍ غير شئنٍ كأنه
…
أساريع ظبيٍ أو مساويك إسحل
وصورة امرئ القيس متحركة وهذه التي يصفها النابغة ثابتة. ثم فيها ارتياح من الذي كان فيه من دهشة سقوط النصيف. والبنانات من اليد التي اتقت بها صاحبة النصيف فيهن كما ترى ههنا سكون وامتداد، فهذا قوله «يكاد من اللطافة يعقد» أو قوله «لم يعقد» على تجنب الأقواء، ورواية الأقواء أجود إذ لا تكلف فيها وفي الأخرى جهد، وواضح قصد وعمد إلى التجويد. والاستراحة التي زعمنا في تأمل بنانات التمثال لا تخفى والخضاب استعارة من كف المتجردة- أعني أنه التفت مغضيًا عن المتجردة إلى صورة التمثال التي في ذاكرته، وخضبها بتخضيب كف المتجردة.
ثم بعد هذه الاستراحة نظر مرة أخرى إلى المتجردة أو قل رجع ليعطينا صورة النظرة التي ارتاع عنها إلى صورة التمثال والنصيف وما في ذلك من كناية.
والروعة، كما لا يخفى، منبئة باشتهاء.
ورجع النابغة إلى النظرة التي كان بدأ بها نعته:
نظرت إليك بحاجةٍ لم تقضها
…
نظر السقيم إلى وجود العود
وهذا بيت لو غار منه النعمان لأصاب، على ما فيه من ظاهر رقة وبراءة. وأحسبه هو، دون سواه الذي أحفظ المنخل اليشكري. إذ هذه النظرة التي يصفها النابغة نظرة «أحوى أحم المقلتين» ، عميقة في معنى الاشتهاء والحرمان. اشتهاء الشاعر وحرمانه، ثم اشتهاء هاته التي تنظر إليه وحرمانها. وإذن فكأن هذه الثيب الفاتنة المفتونة التي يجلوها النعمان، بكر -صفراء كالسيراء- «كبكر المقاناة البياض بصفرة» تلك التي نعتها امرؤ القيس.
وقال النابغة «بحاجة لم تقضها» فنص على معنى ما كنا فيه وفسر قوله آنفًا «أحم المقلتين» وسيفسر بعد قوله «أحوى» . ولا يخفى أن هذه الحاجة في نفسه هو كما في نفسها، فتم ذرءٌ من تجاوب. ومن نحو هذا تكون الغيرة كما لا يخفى. وقوله «نظر السقيم إلى وجود العود» تفريع من المعنى، وزيادة تبيين وإطناب. ثم فيه كناية مذهلة. وذلك أن كل هذا البريق وكل هذا الإشعاع لا يتصور معه السقم وإنما يتصور كمال الصحة والعنفوان.
ولكن المتجردة في بهائها وفتنتها، حين يجلوها مثل مالكها الدميم الكز الخلقة المتهتك، بائسة حبيسة سقيمة، والنابغة إذ جيء به ليشاهدها كيما يخلد صورة حسنها، كأنما هو عائد أو عُواد- وقد فطن هو لمعنى ما نظرت به من نظرتها. والرثاء الذي استجاب به إلى ذلك المعنى تنضح عبراته من أثناء هذا التشبيه كما ترى.
والفرق بين ما صنعه «مانيه» وما صنعه النابغة أن مانيه جسد السقم النفساني، سقم الاشتهاء واللوعة. فجعل متجردته المستلقية كلها ضاوية مضناه بادية المرض في عينيها إعياء كالسأم الذي لا يبالي. والنابغة جعلها متربية تامة الخلق ريا، وحصر السقم كله في العينين وفي الفم كما سترى.
ثم كما أحاط النابغة رائعته القائمة بالألق والبريق، أحاط «مانيه» سقيمته بالسواد الشبحيّ الدامس، حتى أن العقد نفسه خرقة رباط سوداء.
هذا، وكما كنى النابغة بذكر النظرة والحاجة والسقيم والعود، عن حاجة الفتاة وحرمانها وعن دخيل اشتهاء في نفسه أيضًا على النحو الذي قدمنا، صار كما ترى، في هذا التشبيه، بالذي كان ذكره من بريق الذهب وشعاع الشمس وانسطاع الدهشة من سقوط النصيف- صار بكل ذلك إلى ضوء أخفت، ضوء الدرة الصدفية البكر التي يطلبها الغواص، ثم إذا وجدها أهل وسجد. وهذا كما لا يخفى معنى مستكن في نظرة السقيم. وهو بعد ملائم ما سيلي من مغاص النعت الذي سيغوصه وخفاء سبيله ومداخله وشدة ما يخالطه من حرج.
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ
…
بردًا أسف لثاته بالإثمد
وهذا تأويل قوله آنفًا «أحوى» يعني صفة الفم.
وقد مر بنا الاستشهاد بهذا البيت في باب الحمام وباب الأثافي. والشفتان اللتان تشبهان قادمتي الحمامة مفعمتان مشتهيتان مشتهاتان ملتاعتان بلا ريب. وقد قابل النابغة هذا الشكو المثقل بحركة القادمتين وبهجتها تحكيان افترار البسمة. وفي هذا كما ترى بقية من ضوء ألق الذهب وشعاع الشمس وبرق الدهشة ولمع الدرة الصدفية، وآخره منتهاه عند ظلم الثنايا اللواتي استعار لهن البرد. ثم يصير الشاعر إلى إسفاف اللثات الأثمد الأدكن، أشبه شيء بهذا الشكو في الشفتين والسقم في العينين.
كالأقحوان غداة غب سمائه
…
جفت أعاليه وأسفله ندي
والأقحوان إعادة لمعنى ضوء البرد. والتشبيه جيد إذ فيه تنبيه على ألق الندى وثقله على المتفتح من أكمام الأقحوان. وفي العودة والتكرار لضوء البرد بالذي ذكره من ألق الندى على الأقحوان المثقل، كالوقفة عند هذه البقية الأخيرة التي بقيت من باهر ذلك الشعاع، الذي كان يعيشه، وكالاستراحة يستريحها عند هذه البقية، قبل أن يقدم ليبصر غير أعشى في ظلام دامس.
وقد مهد للظلام بهذا الذي يذكره من جفاف الأعالي وندى الأسافل، جفاف ظاهر ألق الأسنان مع حوة الشفتين، وندى الثات التي عليها الأثمد. وقد سبق أن فصلنا جانبًا من هذا المعنى بمعرض الحديث عن الأثافي إذ ذكرنا أن الشماح لم يخل من نظر إلى النابغة حين قال:
أقامت على ربعيهما جارتا صفًا
…
كميتا الأعالي، جونتا مصطلاهما
وقد سمج أحد السخفاء فضمن بيت النابغة هجاء رجل يدى جعفرًا وتماجن في سماجته فقال:
يا سائلي عن جعفرٍ عهدي به
…
رطب العجان وكفه كالجلمد
كالأقحوان غداة غب سمائه
…
جفت أعاليه وأسفله ندي
وسنعرض لأمثال هذا في باب البديع إن شاء الله
هذا وإذا قد استراح النابغة وشعر أنه مقدم بعد الضوء الأخاذ على ظلام، أعفى بصره شيئًا، وجعل مكانه أذنيه:
زعم الهمام بأن فاها باردٌ
…
عذبٌ مقبله شهي المورد
فقد اختفت صورة المتجردة وتمثالها كل الاختفاء كما ترى، ولم يبق إلا صوت الهمام، وحكاية قصة يقصها. والشاعر بهذا الصوت الدخيل وبهذه القصة المقحمة، يخادعنا أنه لا يرى ولا ينظر فيشتهي. ولا يغيب عنك أنه ذاك فعل. فهذا مكان تقية ومحاذرة كما ترى.
زعم الهمام ولم أذقه أنه
…
عذبٌ إذا ما ذقته قلت ازدد
وهذا مبالغة في إسباغ الظلمة، ونفي لما عسى أن يحس من حسيس إيحاء بالنظر في البيت السابق. تأمل قوله «لم أذقه» . ومستبين لديك أنه كالمبادرة من
الشاعر إلى أن يقول «إن قولي عذب مقبله شهي المورد» ما حكاه لي الهمام، تفريعًا من قوله «بارد» وليس بأمر أحسسته أنا، وأنا أصفه ولم أذقه ولا يكون لي ذلك. وفي قوله «ولم أذقه» كالأمنية الخفية ومثلها يحتمل ولا يستنكر لأن مجراها مجرى القصة. حكى الهمام وشوق.
وحتى هذا الذي لا يستنكر يبادر النابغة إلى نفيه كل النفي بالإلحاح في تقرير القصة على لسان الهمام «عذب إذا قبلته قلت ازدد» ثم قوله من بعد:
زعم الهمام ولم أذقه أنه
…
يُشفي بريَّا ريقها العطش الصدي
وهذا الاحتراس على ما فيه من مبالغة في التقية، وتأكيد أي تأكيد لما كان قرره من حكاية القصة في قول الهمام «عذب إذا قبلته قلت ازدد» يخفي في أغواره إيحاء من خفي إيحاء الشعراء، إذ ليس العطش الصدي في قوله «يشفى بريا ريقها العطش الصدي» إلا النابغة نفسه. ولا أكاد أشك -أيضًا- أنه نظر إلى التفاتة صاحبه امرئ القيس، حيث قال:
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وقد ذكرنا لك آنفًا أن امرأ القيس إنما عني ريح أنفاسها، وهي ريا القرنفل يحملها نسيم الصبا. والنابغة قد جعل الريا للريق كما ترى.
هذا ثم أخذ النابغة يتحسس ببصره، بعد أن سمع، ويعتذر عن هذا التحسس:
أخذ العذارى عقده فنظمته
…
من لؤلؤٍ متتابعٍ متسرد
مرة أخرى إلى النور.
وهو نور البرد ونور الأقحوان. وهنا تعلم أن ما حكاه النابغة على لسان الهمام
كان نظرًا، إذ هو قد انتقلت عينه من بريق الأسنان إلى بريق العقد. هذا الذي يسطيعه هو، إذ التقبيل واللوعة وامتلاء الشفتين واثمد اللثات، كل ذلك للهمام لا له. وقوله «عقده» أي العقد الذي ينتمي إلى الفم- أي عقد الجد الذي ينتقل النظر إليه من بعد الفم، وهذا مذهب تعلمه في قصة الترائي.
ويجوز لك أن تقول أخذ العذارى لؤلؤًا فنظمته، فكأن لآلي ثغرها- وهذا عندي فيه تكلف وعناء. ولك وجه ثالث وهو قوي في مذهب؟ ؟ ؟ وما قدمناه يفيده وذلك أن تجعل الضمير في «عقده» يعود على النحر في قوله؟ ؟ ؟ لنظم في سلك يزين نحرها» ومهما يك من أمر فقوله «عقده» كما لو قال «عقدها» سواء بسواء. ولو قال «عقدها» -ولعلها رويت- لكان فيها ما في «عقده» من معنى الانتقال من ألق الأسنان إلى ألق اللؤلؤ.
وقد ترى أنه جعل العقد لؤلؤًا بعد أن كان ذهبًا وهاجًا، ولعله لم يكن إلا لؤلؤًا منذ البدء، وإنما جعله ذهبًا ليعشى دون العارية التي جليت.
ومن حذقه، لم يحل عقد الذهب لؤلؤًا مفاجأة، حتى تتساءل. ولكن تناساه. بل هو اختفى عن بصر الشاعر مع الذي اختفى من شعاع باهر، شعاع الشمس وشعاع الدهشة وهلم جرا.
وأخذ العذارى عقدًا آخرًا لينظمنه، وهو يتحسس ما سيرى ويصف في ضوء هذا العقد، وذلك ضوء لا يعشيه، بل يجعله يديم النظر ويمعنه ويحده، ولا حاجة به إلى أن يستكف وإلى أن يغض.
وجعل اللؤلؤ متتابعًا متسردًا ليقص حكاية نظم العذارى له في السلك، وتتابع لؤلؤة بعد لؤلؤة، فتنسرد مع أخواتها، والشاعر يستضيء بذلك فينظر.
وفي ذكر العذارى نفس من عذارى امرئ القيس، عذارى الدوار وعذارى
دارة جلجل، على أن صورهن ههنا مقترحة معالمهن غامضات لا تستبان، لا كما تستبان الأشخاص في الظلام.
لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ
…
عبد الإله صرورةٍ متعبدٍ
لرنا لبهجتها وحسن حديثها
…
ولخاله رشدًا وإن لم يرشد
وهذا اعتذار عن التحسس كما ترى. ثم فيه معنى الذكرى المتصل بمعنى ذكر الرهبان وصوامعهم وأضوائها التي تشب فيتنورها الناظر من بعيد.
وتشبه بتلك الأضواء نار الهوى كما تعلم، التي يستوقدها القلب. وقد رأيت صنيع امرئ القيس حيث قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارةُ ممسي راهبٍ متبتل
والراهب الصرورة المتعبد ههنا هو النابغة. وقد أضاء جمالها له الظلام، فرنا إليه لا يعشى
وقوله «نحسن حديث؟ ؟ ؟ » ثم تفريعه عند قوله:
بتكلمٍ أو تستطيع سماعه
…
لدنت له أروى الهضاب الصخد
كل هذا في ظاهره محول على معنى الراهب، وفي حقيقته نعت لحال النابغة. وإنما كان حديثها نظرة السفم إلى وجوه العود. ولقد رثى لتلك النظرة. ولو قد يستطيع لأوى إليها كما تأوى أروى الهضاب إلى لذيذ ما تسمع.
وقوله «لو تستطيع سماعه لأوت له» دقيق غاية الدقة. وكان يكفي في المبالغة لو يقول «لو سمعته لأوت له» ولم يكن ليعجزه ما يستقيم به الوزن على هذا المعنى.
قال سويد يبالغ كما مر بك:
ودعتني برقاها إنها
…
تنزل الأعصم من رأس اليفع
فأضرب حتى «عن لو» .
وإنما ذكر النابغة «تستطيع» ليكني عن نفسه، إذ هو قد سمع، ولان قلبه لما سمع، ولكنه لا يستطيع أن يذكر فيما بينه وبين نفسه أنه سمع، حتى يترتب على ذلك أن يتجاوز الرثاء إلى الإيواء. وفي هذا من التقية ما لا يخفى. والأروى جمع أروية وهي من وعول الجبال، زعموا أنها تطرب للصوت الحسن، فتنزل إليه فتأخذها الحبالة، ولولا هذا من ضعف رقتها لم يكن إلى صيدها سبيل لأنها تقطن أعالي الذرى. والصخد جمع صاخدة صفة للهضبة. أي الهضات ذات الحر اللافح.
هذا، وقول النابغة «لرنا لبهجتها» آنفًا فيه نظر إلى قول امرئ القيس «إلى مثلها يرنو الحليم صبابة» - وذلك البيت كما تعلم قد وقع بعد بيت الراهب في معلقته بيسير. قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارةُ ممسي راهبٍ متبتل
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
…
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
…
إذا ما اسبكرت بين درعٍ ومجول
فهذا يؤكد عندك الذي زعمناه من أن النابغة قد جعل من المتجردة نفسها ضوءًا يضيء له الظلام بعد أن استعان بالسماع، ثم أحس بصيصًا من لمع في عقد اللؤلؤ وألق الثنايا. وإذ الذي مكنه من الاستضاءة بها هو رمز الراهب وما يحيط به من معنى النار والتنور، كما رأيت، وإذ رمز الراهب هذا نفسه هو الذي ساقه في معرض الاعتذار عما هو مقدم عليه من نعت في الظلام «ولخاله رشدًا وإن لم يرشد» وإذ هو نفسه الراهب الذي رنا، وود لو أوى، ويمنعه أنه لا يستطيع، من أن يأوي، -إذ ثبت جميع هذا عندك، فإن لك أن تجعل اعتذاره أيضًا من معنى ما يستضيء به- وفي هذا من التقية والحرج كما فيه من الافتنان والإيحاء الصادق الشريف اللوعة. وبعد النظرة السقيمة ذات الحديث، رنا النابغة إلى الشعر:
وبفاحمٍ رجلٍ أثيثٍ نبته
…
كالكرم مال على الدعام المسند
والشعر ظلام كما ترى. وقوله فاحم رجل أثيث نبته كل ذلك يزيد معنى الظلام ويقويه. ثم خلط النابغة صورة سجفى الكلة بالشعر، وهذا ما ينبغي بعد أن زال البريق والشعاع المعشى.
وجعل من المتجردة دعامًا مسندًا تميل عليه دوالي الكرم.
ونزعم أنه خلط بين الشعر وسجفى الكلة، لأن التمثال كان يشع من بين السجفين فقد صار مكانه ومكانهما هذا الدعام المسند وهذه الدوالي.
وقد كانت الدمية المرمرية، وهي المتجردة، كما تذكر، مرفوعة يتألق مرمرها افوق قاعدة متينة من «آجر يشاد» أي يطلى بالجص، -وهذا نفسه لا يخلو من ألق من- و «قرمد» ، وهذا ذو رونق وقوة وشيء من خفي لمع.
فقد صارت تلك القاعدة المتينة دعام كرم، يهم أن يتداعى، فيسند، والظلام يحيط بها. ظلام الشغر، والسجفين. وفي قوله «الدعام» بعد شيء من تذكيرنا بالقوام الممشوق المحكم، حتى لا يوقع معنى التداعي المسند في أنفسنا صورة البادئة أخت الفراش. لأن الدعام في ذات نفسه قوة وتماسك. وكذلك جسد المتجردة.
ثم يصير النابغة بعد إلى ما تعلم من قوله «وإذا لمست» . واللمس ظلام محض. وقد قيده بالشرط «إذا» ، فلم يغفل عن إشعارك أنه إنما يصفها وهي قائمة بين سجفيها لا غير، كما أراده النعمان أن يقول. ورجح المعري أن يكون الضمير بالضم، وهذا دقيق منه في باب النقد. وقد زعم أن ضم الضمير، بأن يجعل للمتكلم، يُنبئ أن الأمر حكاية على لسان النعمان (1). هذا، ثم في آخر الأبيات الستة، عند قوله «بلوافح مثل السعير الموقد» كأن النابغة يرجع بنا إلى صدى من قوله «كالشمس يوم طلوعها بالأسعد» ، و «الشمس آلهة» الخصوبة كما قدمنا. ولك بعد
(1) رسالة الغفران- راجع 201 - 207.
أن توازن بيت المقطع بالترنم الذي في بيت المطلع، لترى كيف ارتباط القصيدة ربطًا حق وثيق.
هذا، وننبه ههنا أيضًا إلى تهيئة النابغة جو الظلام قبل نعته في الأبيات الستة. إذ مثل صنيعه هذا معنى لم يفتأ الكاتب الإنجليزي د. هـ لورنس، يبدئ فيه ويعيد، حتى لقد بلغ من مزاعمه في هذا الباب أن يقول أن تداني الحبيبين طلب ظلام لظلام لا يبلغ أوج الصدق إلا مع الظلام البحت. وقصته الفتاة الضائعة، وغير ذلك مما قص وكتب يبين هذا المعنى كل تبيين.
ولورانس مخطئ في إلحاحه على معنى ظلام النفس وظلام الدم وجعل ذلك دامسًا حتى لا بصيص من ألق فيه. وقد نبه برتراند رسل على هذا من خطئه، وربطه بعقائده الفاشستية وقد ترى أن النابغة حين هيأ الظلام جعل له نورًا من الحبيبة نفسها كما فعل امرؤ القيس حيث قال:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارة ممسى راهبٍ متبتل
فظلام الهوى، عنده كما عند امرئ القيس وعند سواهما ممن تبعوهما من شعراء العرب، هو نفسه ضوء يضيء منه ظلام الحياة، ولا غرو أن يصدر هذا ممن كانوا يجعلون الشمس والقمر والنيرات والنيران من رموز الهوى وأوثانه المعبودات (1).
هذا، وننبه بعد على مقابلات النابغة التي تتكرر في صور مختلفات مدلولهن جميعهن إشراق الجمال على ظلام الهوى: صورة الدمية المرمرية وقاعدة الآجر، وصور الأقحوانة الضاحية والكم الندي، وصورة الثنايا الألقات واللثات الحم ذات الريا، وصورة جناحي الحمامة يرفرفان ببهجة البسمة، والفم الأحوي ينوء
(1) راجع ترجمة لورنس في «صور من الذاكرة» لبرتراندرسل. لندن، 1958 (جورج ألن وأنون) - ص 106 - ص 11).
بالشكوى وصورة الغصن ذي الغلواء، والدعام المسند، وصورة الشمس بالأسعد، والأبيات الستة. ثم اذكر مع هذا في معنى الآجر والقرمد من معاني الأثافي. وهذا يقوى عندك ما كنا ذكرناه عن بيت الشماخ الذي ألمع به منذ حين:
أقامت على ربعيهما جارتا صفًا
…
كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما
وحسبنا هذا القدر من التفصيل عن نموذج الخمصانة المتجردة كما جاء به النابغة. ومما جاء مختصرًا على مذهب النابغة، والتجريد مفهوم فيه ضمنًا، بالرغم من ظاهر الكساء، قول ابن الخطيم:
تبدت لنا كالشمس تحت غمامة
…
بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب
ولم أرها إلا ثلاثًا على منىً
…
وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
وهذا كأنه اعتذار عن الإشعار بالتجريد في البيت الأول.
وقال وذكر العقد والنظرة:
تراءت لنا يوم الرحيل بمقلتي
…
غريرٍ بملتف من السدر مفرد
والتفاف السدر ههنا كسجفي الكلة:
وجيد كجيد الرئم حالٍ يزينه
…
على النحر منظومٌ وفضلٌ زبرجد
والذي اختصر على مذهب امرئ القيس كثير، وقد رأيت نظر النابغة إليه، وسترى إن شاء الله في باب القصص عندما نصير إليه.
وقال الأعشى:
مبتلة هيفاء رودٌ شبابها
…
لها مقلتا رئمٍ وأسود فاحم
ووجه نقيُّ اللون صافٍ يزينه
…
مع الحلي لبات لها ومعاصم
وتضحك عن غر الثنايا كأنه
…
ذرى أقحوانٍ نبته متناغم
والنظر هنا إلى امرئ القيس والنابغة وطرفة حيث قال.
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها
…
عليه نقيّ اللون لم يتخدد
جلي واضح. والأبيات في وصف هريرة، وهي كما تعلم من قوله «هر كولة فنق درم مرافقها» - وهو بدن بين. وأحسب أنه بتلها تبتيلاً ههنا، لأنها رحلت وحيل دونها، أو كما قال:
هي الهم لا تدنو ولا يستطيعها
…
من العيس إلا الناجيات الرواسم
وقد تذكر ما قدمناه من أن الهيفاء للمرأى لا للوصل.
على أن هريرة بين بوادن الأعشى، أقربهن إلى الخمصانة ونأمل أن نعرض لهذا المعنى حين نصير إلى ما يبالغ فيه الشعراء من نماذجهن.
والآن ننتقل إلى نعت البادنة.
البادنة:
وهي تكسى وتجرد. فمن أمثلة كسائها قول النابغة:
تلوث بعد افتضال الدرع مئزرها
…
لوثًا على مثل دعص الرملة الهاري
وقال الأعشى عن هريرة:
هركولةٌ فنقٌ مرافقها
…
كان أخمصها بالشوك منتعل
وقد وعدنا العودة إلى هذا إن شاء الله.
وقال الأعشى أيضًا:
يوم أبدت لنا قتيلة عن جيدٍ تليعٍ تزينه الأطواق
وشتيتٍ كالأقحوان جلاه الطل فيه عذوبةٌ واتساق
وأثيثٍ جثل النبات ترويه لعوبٌ غريرةٌ مفناق
أي بادنة، وهذا محل الاستشهاد.
حرةٌ طفلة الأنامل كالدميمة لا عابسٌ ولا مهزاق
والمهزاق الكثيرة الضحك. ونعت الأخلاق هنا لا يخفى، يعني الأعشى أن قتيلته مهذبة مؤدبة ليبية. والنموذج مكسو كما ترى.
وقال حسان فكسا وجرد:
تبلت فؤادك في المنام خريدةٌ
…
تسقي الضجيع بباردٍ بسام
كالمسك تخلطه بماء سحابةٍ
…
أو عاتقٍ كدم الذبيح مدام
يصف قبلتها له في المنام، يشبهها بالخمر الحمراء يمازجها المسك والماء وقوله بسام صورة ما قبل القبلة كما ترى.
نفج الحقيبة بوصها متنضدٌ
…
بلهاء غير وشيكة الأقسام
وقد مر الحديث عن نعت السجايا في عجز البيت ومقابلته ما في صدره. والنموذج مكسو ههنا. والحقيبة عني بها كفلها، إذ هو لما تبديه الثياب منه، كأنما هو شيء تحتقبه لا جسم من جسمها. وقوله نفج الحقيبة أي كفلها ينفج ثوبها لامتلائه. وقوله «بوصها متنضد» تفصيل وشرح لحالة النفج التي ينفج بها كفلها الثوب. والبوص بفتح الباء وسكون الواو وبضمها أيضًا هو الكفل. متنضد أي أطباق، وإنما عني أطباق الثياب من فوقه، تنم على اكتنازه.
بُنيت على قطنٍ كأنه
…
فضلاً إذا قعدت مداك رخام
والنموذج هنا مجرد حي. أحدث فيه الحياة بحركة القعود على ما يخالطها من ثبات وسكون. والقطن لحم الورك إلى حيث يلقي الظهر. وأجم أي لا تبدو منه عظام ناتئة وفضلاً حال من الضمير في كأنه الراجع إلى القطن. وحسان يوهمك أنها قعدت
فضلاً فانكشف وركها وأتم هو صورة الورك إلى الظهر، وإنما جرد الورك كما ترى؛ ثم شبه تماسكه وامتلاءه وبريقه ونعومته، كل ذلك بمداك الرخام، والمداك الحجر الذي يسحق عليه الطيب. والرخام فيه إشعار بعظم حجم كما فيه الملاسة والألق.
وتكاد تكسل أن تجيء فراشها
…
في جسم خرعبةٍ وحسن قوام
أما النهار فيمام افتر ذكرها
…
والليل توزعني بها أحلامي (1)
ثم أخذ بعد في حديث بدر الكبرى وفرار الحارث بني هشام
هذا،
وجاء امرؤ القيس بالبادنة المتجردة في قصيدته أخت المعلقة
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
…
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وأسماها سلمى. وهذا مشكل إذ أول القصيدة ينعتها خمصانة، وهذا تمهيد، كالذي مهد به من الحبلى والمرضع والشحم كهداب الدمقس المفتل في المعلقة قبل أن ينعت بيضة خدرها الضامرة.
وهنا البادنة لا شك فيها ترتج عند الحركة. وقد أتبعها امرؤ القيس نعت عذارى خماص، جعلهن بإزاء العذارى البادنات في المعلقة، وذلك قوله:
وبيت عذارى يوم دجنٍ ولجته
…
يطفن بجباء المرافق مكسال
الأبيات وسنلم بها إن شاء الله.
ولنا في تأويل هذا الإشكال وجوه. منها أن هذه اللامية تتمة للاميته «قفا نبك» فمن حيث انتهى هناك ابتدأ هنا. وقد تذكر أنه انتهى هناك بقوله «يضيء» الفراش وجهها لضجيعها- نعني منتهى نعت نموذج بيضة الخدر.
(1) يرفع النهار كرواية سيبوية أما النهار ففي قيد وسلسلة.
ويدلنا أنها فتاة المعلقة نفسها ضمر ما يصفه في الأبيات الأوائل وبخاصة قوله «بآنسة كأنها خط تمثال» . وصيرها بادنة فيما بعد لانتقاله من المنظر إلى اللقاء. ويكون اللقاء تأويل قبوله: «تجاوزت أحراسًا إليها» فلم يرنا كيف تجاوز الأحراس، على هذا التأويل في المعلقة، وإنما أراناه في اللامية، وتكون الأحراس هي نفسها، ويكون شاهد ذلك قوله:
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
…
ورضت فذلت صعبةً أي إذلال
ويقوي هذا الوجه، أن البدن الذي يصفه ههنا متماسك، وفيه صفات من صفات الضمر، فعسى هذا أن ينبئ بوحدة الشخص المنعوت.
ويقويه ما قدمنا من كناية الخمصانة عن المنظر والبادنة عن غيره وقد تكون هي نفسها موصوفة في حالين. وهذا لا ينقض ما نحن بصدده مما ينشأ في الأداء من اختلاف، عند نعتي البادنة والخمصانة، وإن يكن المدلول واحدًا.
ويقوي ما قدمناه وما نزعمه من أمر الكناية، قصة المعري التي ساقها في رسالة الغفران، حيث زعم أن ابن القارح صار إلى جنة الحور، فانفتحت له إحدى ثمراتها عن حورية تبهر، فسجد لله شاكرًا، ومعظمًا لما رأى من عجيب قدرة الله ويقول (1) «هذا كما جاء في الحديث:«أعددت لعبادي المؤمنين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، بله ما اطلعتم عليه» - (وبله في معنى دع وكيف). ويخطر في نفسه وهو ساجد أن تلك الجارية- على حسنها- ضاويةٌ- فيرفع رأسه من السجود، وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالج، وأنقاء الدهناء، وأرملة يبرين وبني سعد فيهال من قدرة الله اللطيف الخبير، ويقول: يا رزاق المشرقة سناها ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال ودعا إلى الحلم الجهال، أسألك أن تقصر بوص هذه
(1) رسالة الغفران- 280.
الجارية على ميلٍ في ميل، فقد جازيها قدرك حد التأميل. فيقال له: أنت مخير في تكوين هذه الجارية كما تشاء. فيقتصر من ذلك على الإرادة. أهـ».
وكأن المعري بقصته هذه يشرح لنا بعض الذي كنا فيه من مذهب العرب في الجمال. إذ الحورية كما ترى ضاوية، وهذه صنعة الله الأولى والمثل الأعلى. ثم بعد أن يعجب ابن القارح لجمالها ويخر ساجدًا، تساوره الرغبات فيود لها عجزًا أضخم. ويسخر المعري من هذا العجز الضخم الذي يُلصق بالضامرة، فيجعله كرمل عالج. وحين يرتاع له الشاعر، يطلب أن يجعل ميلاً في ميل، والميل مدى نظر البصر، وهذا لعمري شيء عظيم، وإن كان دون رمال ويبرين.
وقد ترى أن الحالتين توالتا بقدرة الله في خيال المعري، وهو كما قدمنا يشرح أخيلة الجاهليين، على شخص واحد. فعسى هاذ أن يقوي ما زعمنا من أمر الكناية في حديث امرئ القيس.
ووجه ثان أن تقول إن سلمى فتاة المعلقة والبادنة غيرها، وسماها سلمى على طريقة الشعراء إذ يطلقون على الفتيات سلمى وسعدى وليلى ترنمًا، وهذا يشمله ما تقدم. ووجه ثالث أن يقال إن في صفات البادنة ما يشعر بإرادة أم جندب، فاحتاج امرؤ القيس إلى أن يسميها سلمى باسم الخمصاء ليدفع هذا الوهم، حتى لا يُظن أنه هو البعل الذي يهذي وليس بفعال. والوجه الأول يتسع أيضًا لهذا المعنى. وعسى أن يكون في فتاة المعلقة شيء من معنى أم جندب.
والتأويل بعد ذو سعة وسننبه على مواضع منه حين نعرض للأبيات، وهذا حين ذلك إن شاء الله.
قال امرؤ القيس في أول قصيدته:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
…
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلا سعيدٌ مخلدٌ
…
قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وهل يعمن من كان أحدث عهده
…
ثلاثين شهرًا في ثلاثة أحوال
ديارٌ لسلمى عافيات بذي الخال
…
ألح عليها كل أسحم هطال
وقد اضطرب الشراح في «من هذه» إذ الشاعر يتحدث عن طلل، قال صاحب الخزانة:«وقوله: وهل يعمن، هو استفهام إنكاري استشهد به ابن هشام في شرح الألفية، على أن من يستعمل في غير العقلاء. وقال العسكري - في كتاب التصحيف- اختلفوا في معناه لا في لفظه، فقال الأصعمي: اللفظ على مذهب أنت يا طلل قد تفرق أهلك وذهبوا، فكيف تنعم بعدهم؟ أو المعنى، كيف أنعم أنا فكأنه يعني أهل الطلل» .
قلت وكلام الأصمعي نص شاهد في الذي نذهب إليه من أن امرأ القيس لم يعن بالطلل إلا نفسه وذكرياته ويدخل فيها عهد الطلل وأهله. تأمل قوله: «كيف أنعم أنا فكأنه يعني أهل الطلل» .
والمعنى فكيف ينعم من كان زمان نعمته في العصر الذي خلا. وكيف ينعم من ليس له عهد بحبيب أو أنيس في هذه الثلاثين شهرًا التي مضت منذ ثلاثة أحوال، ودأب العرب في التفرق دون العام أو العام من الموسم إلى الموسم؟ ومن فسر الأحوال بجمع الحال لا الحول واهم لا ريب. وكيف ينعم إلا سعيد مخلد والناس كلهم إلى الفناء؟ وأنا فان أو كما قال في الرواية التي لم يذكرها صاحب الدواوين الستة:
ألا إنني بالٍ على جملٍ بال
…
يسير بنا بالٍ ويتبعنا بال
وهي في الديوان الذي جمعه السندوبي. والسياق يشعر بصحته لامرئ القيس وإن لم يكن له وكان منتحلاً فهو بمنزلة الشرح والتفسير.
وفسر بعضهم المخلد بالمقرط وهو على ضعفه إشارة إلى الحبيبة. وأجود منه أن تجعل معنى المخلد غير الفاني، كما هو ظاهر، ثم تجعل المخلد بمعنى ذي الأقراط
ظلاً له. ويكون هذا كقول عمر بن أبي ربيعة:
وأعجبها من عيشها ظل غرفهٍ
…
وريان ملتف الحدائق أخضر (1)
ووالٍ كفاها كل شيء يهمها
…
فليست لشيء آخر الليل تسهر
وتنبه ههنا إلى أن «الخالي والبالي» تتجاوب أصداؤه في القصيدة من أولها إلى آخرها، كما تتجاوب أصداء النغمات الرئيسية في «السمفونية» الموسيقية الإفرنجية المحكمة.
وقد جعل امرؤ القيس طلله الذي حياه، وهو نفسه، باليًا في غير ما موضع، خاليًا من غير ما أنيس منذ عصرٍ خلون، ثم جعله ديارًا لسلمى عافيات، في موضع اسمه ذو الخال وهو خال- وقد همى عليها كل أسحم هطال، هذا الأسحم الهطال أي السحاب الأدكن الممطر، قد عفاها، وقد سقاها، فهو تحيته التي حياها بها، وهو الذكريات التي تهمى عليه من تذكرها.
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا
…
من الوحش أو بيضًا بميثاء محلال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا
…
بوادي الخزامى أو على رأس أوعال
ليالي سلمى إذ تريك منصبًا
…
وجيدًا كجيد الرنم ليس بمعطال
وههنا لدينا من أوصاف المعلقة طلا الوحش تذكر قوله: «بناظرة من وحش وجرة مطفل» . وعندنا البيض بالميثاء كما في المعلقة بيضة الخدر، إلا أنه هنا جعلها بميثاء محلال. والميثاء الرملة الناعمة، والمحلال التي يحلها الناس، فحف البيضة كما ترى ببيضات في ميثاء، وهذا فيه أصداء من قوله فيما بعد:
وبيت عذارى يوم دجنٍ ولجته
كما فيه أصداء من عذارى المعلقة
(1) الريان بستانها، فإن كان حول قصرها فقد عرفت العرب «الفلات» وهذا أشبه. ويحتمل البيت معنى آخر يكون مع الأول ولا ينقضه وذلك أن الريان الملتف الحدائق هو جسمها إلخ.
ومن أوصاف المعلقة إذ تريك منصبًا وهو نعت للجيد والثغر معًا، وقوله أيضًا «كجيد الرئم ليس بمعطال». أليس يذكرك بقوله:«إذا هي نصته ولا بمعطل» ؟
ووادي الخزامى ورأس أوعال محل نظر، إذ كلاهما في الظاهر موضعان. وفي وادي الخزامى نفس من بطن الخبت الذي تجاوز بها الحي إليه، وحين التفتت تضوع ريحها فيه.
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وفي رأس أوعال كناية عن الصعاب، إذ الوعول لا تنال، ويقال للهضبة أم أوعال كناية عن عسرها لمن يروم صودها. وقد زعم أنه تجاوز الأحراس والصعاب في المعلقة كما رأيت. ثم وصف السيل في آخرها، وفيه كناية عن نفسه كما في الحصان المنجرد (1)، فقال:
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ
…
ولا أطما إلا مشيدًا بجندل
ومر على القنان من نفيانه
…
فأنزل منه العصم من كل منزل
والعصم هي الوعول وهي ساكنات الهضاب، وبها قد يكنى عن الصعاب. وأحسب أنا قد بينا ما نراه في غير هذا الموضع، من أن فاعل «تحسب» هو ضمير المخاطب، يعود على امرئ القيس، ويجوز على ضعف جعله يعود على سلمى.
أي أنت ترى بعين الوهم أيام سلمى حين إذ هي كالظبي وإذ أنت تصيد الوحش وتنال البيض المكنون وهلم جرا.
وهذا الإيغال في الذكرى حتى يرى في ظلامها من بعيد، جيد سلمى الأتلع، ذا القلادة، وقامتها السمهرية، ويتنورها، وهو مغترب بأذرعات، وهي بيثرب أدنى
(1) الذي «كجلمود صخر حطه السيل من عل» فتأمل.
دارها نظر عال، - هذا الإيغال يذكره حديث البسباسة إليه.
وهذه البسباسة يخبرنا في الرائية عنها أنها ابنة يشكر- فعسى أن تكون هي أم جندب، بدليل أن ديار بكر، -ويشكر منهم، - لم تكن بعيدة من ديار بني تميم رهط علقمة، منافسة في أمر أم جندب.
وحديث البسباسة إلى امرئ القيس شبيه بحديث أم جندب الذي نقله الرواة حيث اتهمته بأنه بطيء الإفاقة إلى آخر ما قالته. وهو عينه قوله ههنا:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
…
كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
وإنما أذكره الإيغال في الذكرى حديث البسباسة، ليقول لها، بهذه التي أراها جيدها أتلع وقوامها لدن شطبٌ، قد تمتعت، ففيم تغايظينني؟
أم لعل حديث البسباسة هو الذي أثار الذكرى، على وجه الاحتجاج والتسلي؟
أم البسباسة هذه امرأة أخرى غير أم جندب، لقيها بالشأم- وهذا بعيد، لأن قوله في الرائية:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
…
قريبٌ ولا البسباسة ابنة يشكرا
يعلمنا أنها كانت في دهر ملكه الأول وبلاده، في نجد وبني أسد وتميم وكندة، وليست بالشأم.
وقال يجيب البسباسة وهو ينظر إلى وجه التي بيثرب:
فيا رب يوم قد لهوت وليلةٍ
…
بآنسةٍ كأنها خط تمثال
أي ضامرة مجدولة كالتمثال. ثم يجيء حيث انتهى وصف المعلقة:
يُضيء الفراش وجهها لضجعيها .... كمصباح زيتٍ في قناديل ذبال
كأن على لباتها جمر مصطلٍ
…
أصاب غضى جزلاً وكف بأجذال
وهبت له ريحٌ بمختلف الصوى
…
صبا وجنوبٌ في منازل قُفال
وهذه الأبيات ظاهرها وصفٌ وباطنها ذكرى محضة. ولما شعر امرؤ القيس أنه استحوذت عليه الذكرى، رجع إلى البسباسة، فكادها بحديث امرأة أخرى:
ومثلك بيضاء العوارض طفلةٍ
…
لعوبٍ تنسيني إذا قمت سربالي
وسرباله ثوبه، وسرباله نفسه- قال تعالى:{وثيابك فطهر} . وعلى معنى النفس تكون التي أنسته سرباله هذه التي استحوذت عليه ذكراها.
على أن الأخرى والبسباسة، إن صح أنها غير الأخرى التي سينعتها بعد، كلتاهما تنسيانه سرباله، ثوبه أو نفسه.
هذا وشاهد الذكرى في الأبيات اللاتي مضين قوله «تضيء الفراش» - وفي هذا معنى النار التي يراها الناظر من بعيد، وهمًا أو حسًا والوهم أغلب في مذهب الشعراء.
وقد قال؟ ؟ ؟ المعلقة كما تذكر:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارة ممسى راهبٍ متبتل
فجعلها؟ ؟ ؟ جدًا وجعل نفسه الراهب المتبتل. وهنا جعل المتبتل ضجيعًا وقرب ضوء المصباح حتى ذكر زيته وذباله. وكأن هذا كما قدمنا استمرار في قصة المعلقة. على أن ذكر المصباح في حد ذاته منبئ بالبعد، إذ امرؤ القيس يدنيه فيذكر الزيت والذبال بعلمه مما رأى في المصابيح، ليدل على جودته، وليس في الزيت والذبال نفسه كبير جمال يدنيه المرء ليتأمله. ثم قوله: لضجيعها: مما يشعر بضجيج آخر، ويكون في هذا يخاطله نفسٌ من أسى. وإن كان امرؤ القيس ذلك الضجيع، فقد جعل نفسه كضجيع آخر، ليحدث معاني الحسرة والبعد.
وقد زاد امرؤ القيس البعد قوة في البيت التالي: (كأن على لباتها) وإن يك ظاهره كأنه مداناة. ذلك بأنه كساها، كعهده بها إذ خرجا وهي تجر ذيل مرطٍ مرحل أم حين فاجأها وقد نضت لنوم ثيابها. ودليل أنه
كساها، جعله لباتها تتوهج كالجمر الذي أصاب خشبًا جزلاً من خشب الغضى، (وقالوا إنه شديد الاحتراق)، فالتهب فكف بأجذال، أي بأخشاب من أصول الشجر غلاظٍ، بطيئة الاحتراق شيئًا ما. فاحتبس عالي اللهب تحت هذه الأجذال، وجعلت ألسنته تتطاير وتمتد من خلال ما بين الأجذال. والمصطلي يصطلي ويبهره حسن ما يصطلي به. وليس المصطلي إلا امرأ القيس.
فهل يا ترى أراد بهذه الصورة نعت ما قدمناه، من مفاجأتها متلهبة اللبات في لبسة المتفضل، ثم كفت ذلك بدرعها المرحل، حين لبسته لتخرج؟
ومهما يكن فهذا الكف، من أجذال أو درعٍ ملبوس، لم يمنع سنا النار من الارتفاع، لأنها قد هبت لها الرياح من الجهات المختلفات، صبا وجنوب. فأكلت الأجذال وعلت واعتلت وأضاءت لضجيعها الفراش- ولكن من أين؟ من الوهم. لأنها نار في منازل قفال، يرونها من بعيد، يتشوقون إليها، كمصابيح الرهبان التي تشب لقفال. والقفال امرؤ القياس لأنه لم يقفل ولكن يتمنى ولا يكاد.
وهنا موضع الالتفات إلى البسباسة كما تقدم. وفي قوله «لعوبٌ تنسيني إذا قمت سربالي» ما ذكرناه لك من وجوه التأويل. وفيه أيضًا مفاكهة لها- فهل هي الآتي وصفها من بعد- وهو وصف بادنة متجردة كما سنرى: ؟
إذا ما الضجيع ابتزهامن ثيابها
…
تميل عليه هونةً غير مجبال
أم هو رجع إلى فتاة المعلقة، يزعم ههنا أنه تجاوز إليها الأحراس فابتزها من ثيابها، فصارت برديتها غصنًا ذا شماريخ وحقافها من العقنقل حقفًا يمشي فوقه الوليدان من لينه وتسهاله.
أم داخل أمانيه وتجاربه من فتاة المعلقة في هذا النعت وهو لأخرى لعلها كما قدمنا أم جندب أو مخالطٌ لنعتها نعت أم جندب؟ وقوله «تميل عليه هونةً» فيه صدى من قوله في المعلقة: «هصرت بفودي رأسها فتمايلت» وقوله: «غير مجبال» يوقف عنده. فهو إما تأكيد لمعنى «هونةً» وإما نفي للغلظة والخشونة المعنوية والحسية أيًا كانت، وإما هذان المعنيان معًا. ثم هو لا يخلو من تعريض. وأحسبه عرض بأم جندب، كأنه ينفي قوله فيها، من البائية:
ولا ذاتُ خلقٍ إن تأملت جانب
فغير المجبال غير جانب أيضًا.
وهذا التعريض، يجوز أن تحمله على معنى الفكاهة التي في قوله:«لعوب تنسيني إذا قمت سربالي» -أي أنت حقًا غير مجبال، وإن بدا منك ذاك الآن. ولكنك هونةٌ كحقف النقا. أي قوز الرمل الناعم- كما قال في البيت التالي:
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه
…
بما احتسبا من لين مس وتسهال
وظاهر هذا البيت وصف شديد التأمل للجسد المتجرد، ولاسيما الردف، إذ هو أكثر ما يشبهونه بالحقف والدعص والكثيب، مع تفصيل يوشك أن يكون فاضحًا، بهذا الذي يذكره من مشي الوليدين، ويوشك أن يقترح الشهوة.
وفي البيت بعد معانٍ أُخر. ذلك بأن مشية الوليدين فيها غفلة، شاهد ذلك قوله:«بما احتسبا من لين مس وتسهال» . ولا ريب أن ههنا إيحاء بتجربة أحسها امرؤ القيس من مشاهدة طفل واحد، أو أطفال. وأستبعد أن يكون رأى طفلين. وإنما جعلهما طفلين ليعطيك -مع تأمل الوصف الذي قدمنا عنه- معنى من روح المباراة التي تكون بينهما، إذ هما يستنان مصعدين، ملتذين بلين الحقف الناعم المتماسك تحت أقدامهما الصغيرة، منهمكين في هذا الالتذاذ غافلين به عن أنفسهما، مع تباريهما، غفلة تتجاوز
نشوة المرح، إلى الرضا الخالص الساذج، الذي هو سعادة الأطفال- سعادة قلما تتاح للكبار، إلا إذا فنوا لحظةً معهم كما فنى امرؤ القيس. هذا. ثم في جعله إياهما طفلين، رمزٌ وإشعار بخصوبة الموصوفة. وأنت تعلم خبر البكر الخالدة التي لقيها أبو زرع (في حديث أم زرع) تسعى بغلامين كالفهدين، يلعبان تحت خصرها برمانتين، فتبعها وتزوجها وطلق أم زرع (1).
ثم كأن غفلة الوليدين هذه من صفة الموصوفة إذ مالت هنيهة غير مجبال، كحقف النقا، وهي أغفل ما تكون عما تسخو به من جمال. وأحسب حسان بن ثابت نظر إلى ههنا حيث قال:
نفج الحقيبة بوصها متنضد
…
بلهاء غير وشيكة الأقسام
وقد مضى القول فيه.
ثم في ذكر الوليدين ولين المس والتسهال، إيماءٌ بالأمومة والمأوى وامرؤ القيس يطلب ذلك ويلتاع إليه. ومع هذا الإيحاء الملتاع هذا النقا اللين، بما يحتسبه عنده من لين مس وتسهال. وهنا يصير امرؤ القيس هو الوليدين على معنى الانهماك، كما
(1) حديث أم زرع مشهور مر بك في أول هذا الكتاب طرف منه.
وقال في تأويل الرمانتين بعض الشراح أنهما يدلان على كبر عجيزتها. إذ كان الغلامان يقذفان الرمانتين تحتها وهي راقدة، فتجوزان تحت خصرها، لأن كبر عجيزتها يمنعه من ملامسة الأرض. وهذا الوجه جائز في التأويل إلا أنه يناقض نص الحديث في أنها كانت تسعى بغلامين لا كانت راقدة، وروت الحديث أمنًا عائشة وقد مر بك قولها في الضوى والعلقة. والمراد، فيما نرى، من ذكر الغلامين كالفهدين أنها تلد التوائم فلا يكونون ضعفاء ولكن أقوياء، ومن ذكر الخصر والرمانتين أنها مع ولادتها وإرضاعها، ضامرة البطن ناهدة الثدي كالرمان، ولعب الطفلين بالرمانتين كناية عن رضاعهما حين كانا صغيرين، لكل منهما رمانة، كما يبدو من منظر نهديها الآن. وذكر الرمانتين بالتثنية شاهد في الكتابة إذ لك أن تسأل ولم لا يلعبان برمانة واحدة فذلك أبلغ باللعب إن كانت هي راقدة وهما حقًا يلعبان؟ وعسى أن كان الغلامان يسعيان وبيد كل منهما رمانة. والتأويل يتسع. وشاهدنا تثنية الغلامين حيث استشهدنا وأنكر القاضي عياض أن يكون الولدان يلعبان برمانتين تجوزان تحت عجيزتها إنكارًا جيدًا.
صارت حسناؤه هي الوليدين، على معنى الغفلة، فتأمل:
لطيفةُ طي الكشح غير مفاضة
…
إذا انفتلت مرتجةً غير متفال
وصدر البيت إثبات لنعومتها، ولطف ملتقى كشحها وخصرها وحقفها. والعجز توضيح لمعنى روح الطفولة الغافلة فيها بانفتالها هذا، وهي حركة التفاتٍ لا تكلف فيها، مع دقة مهارة، وارتجاجها وهذا هي غافلةٌ عنه، وأنها غير متفال، وهذه صفة طفل، إذ فم الطفل حلو. ثم في هذا النعت كالنظر إلى قوله في المعلقة:
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
ولكن فتاة المعلقة ذات أحراس، شديدة أسرٍ، فلذلك تلتف، ولا تنفتل مرتجة. ثم في قوله:«إذا انفتلت مرتجةٌ» حيلة فنية، لإحياء التناسب من طريق الحركة، بين الردف والخصر في البادنة غير المفاضة. وقد انتفع الشعراء بهذه الحيلة أو ما هو قريها كما سترى إن شاء الله.
إذا ما استحمت كان فيض حميمها
…
على متنتيها كالجمان لدى الحال
لم يرو هذا البيت صاحب الدواوين الستة وهو في الخزانة، حيث ذكر القصيدة (1 - 73). قال:«استحمت، اغتسلت بالحميم، وهو الماء الحار. ومتنتا الظهر، مكتنفًا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم. والمفرد متن ومتنة. والجمان بالضم، الللؤلؤ. والحال، وسط الظهر. ومن الفرس موضع اللبد. أراد أن الماء الذي ينفصل من ظهرها عند الاغتسال يشبه اللؤلؤ المتناثر» . ويجوز أن تكون الرواية «لدى الجالي» بالجيم المعجم، ويقويها أن في ذكر المتنتين ما يدل على «الحال» وهو وسط الظهر. والتأمل أدق في رواية من روى بالحاء المهملة، كأن فيض الحميم- على ما سترى من تأويله- ينحدر عن المتنتين، ويستدير عند الفقار حبًّا صغارًا كاللؤلؤ أو الجمان. ويقوي رواية الحاء المهملة من بعد «حالاً على حال» .
وكأن امرأ القيس- على ما فسر به صاحب الخزانة فيض الحميم- يصف انفتال صاحبته وهي تستحم في قوله «إذا انفتلت مرتجةٌ» . وما أشبه هذا بإحدى صور ديجاس. ويجوز في فيض الحميم أنه تحدر العرق. وإذا استحمت: إذا عرقت. وهذا عندي كأنه أقوى، والمعنى الذي ذكره صاحب الخزانة فرع منه، وقد جاء في الحديث تشبيه تحدر العرق بالجمان (1). وأحسب أن عبد بني الحسحاس قد نظر إلى هذا المعنى الثاني من امرئ القيس، في بيته الذي يقول فيه «عرقٌ على جنب الفراش وطيب» . وعلى كلا التأويلين يتأمل امرؤ القيس حقف النقا ويكنى عن منالةٍ نالها. ولهذا أشاع الظلام والضوء في البيتين التاليين على النحو الذي بينا بمعرض الحديث عن المتجردة، وجعل ذلك تمهيدًا لتفصيل قصة هذه المنالة من بعد:
تنورتها من أذرعاتٍ وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظرٌ عال
نظرت إليها والنجوم كأنها
…
مصابيح رهبانٍ تشب لقفال
وهذان البيتان مذهلان، وقد سبق الحديث عنهما. وقد ترى أن امرأ القيس جعل نور التي بيثرب، وهو ينظر إليه بقلبه، أعظم من ضوء النجوم التي كان يراها بعينه. وفي هذا تأليهٌ كما ترى. وإيماءٌ إلى معنى الشمس، ومعنى الخصب الذي خلفه وراءه، وهو ساهر يرعى النجوم، وينظر إلى مصابيح الرهبان التي توقد لمن يريدون الرجوع، ولا رجوع له، إذ هو ماض في رحلته إلى قيصر:
ولو شاء كان الغرو من أرض حميرٍ
…
ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرا
عنادًا وإخفاقًا وقلقًا وأملاً ضائعًا وفرارًا.
ولقد أوشك أن أقول أن امرأ القيس ألهم قوله: «تنورتها من أذرعاتٍ» إلهامًا
(1) النهاية لابن الأنير 1 - 181 (جمن) واللسان (جمن).
لما يتضمنه من معنى الإرهاص بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
سموت إليها بعد ما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالاً على حال
وفي هذا البيت أصداء كثيرة، منها صدى «فيض الحميم» و «لدى الحال» ومنها صدى قوله في المعلقة «تجاوزت أحراسًا» و «جئت وقد نضت لنومٍ ثيابها» . ومنها صدى قوله «هصرت بفودي رأسها» إذ كانت طويلة، فجعل ذلك سموًا ههنا. وقوله «أهلها» يجوز أن يكون معناه «بعلها» للذي يصف من غطيطه فيما بعد. ويجوز أن يكون معناه حراسها إن كانت هي الحراس، بدليل استسلامها حين لم تجد شيئًا تدفعه به غير قولها:«ألست ترى السمار والناس أحوالي» ، وكانت من قبل نظرتها تصده. ويجوز أن يكون حراسها بمعنى الذي ادعاه من نومهم فيما بعد بحلفة الفاجر التي حلفها وكانوا أيقاظًا.
ويمضي امرؤ القيس في حديث الوصال:
فلما تنازعا الحديث وأسمحت
…
هصرت بغصنٍ ذي شماريخ ميال
وقد ذكرنا هذا بمعرض الحديث عن بيت المعلقة «هصرت بفودي رأسها» . والهصر هناك للفودين، وهنا للغصن كله، وقد جعله ذا شماريخ ليوحي بمعنى الثمر، ثم أيضًا لا يخلو ذكره للشماريخ من إشارة إلى معنى «الفودين» «والمستشرزات إلى العلا» التي ي المعلقة.
فأصبحت معشوقًا وأصبح بعلها
…
عليه القتام سيء الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه
…
ليقتلني والمرء ليس بقتال
وهذا شوب من تجاربي شتى.
واصباح البعل عليه القتام موضع سؤال- إذ أتى له، وقد كان يغط، أن يعلم بعض الذي كان أو يحدسه؟ وأحسب أن امرأ القيس خلع من تجربته مع أم جندب
وعلقمة، على صورة البعل ههنا، كأن مراده أن يقول، ينبغي له بعد الذي كان بيني وبينها أن يصبح عليه القتام، سيء الظن والبال. وما في هذا من الرثاء لنفسه لا يخفي.
وغطيط البكر يدل على مخافة وفزع. وقوله «شد خناقه ليقتلني إلى آخر البيت» يدل على مخافة وفزع أيضًا. ولكن ذلك مشوبٌ بسخرية وزراية ومقت، كما فيه من الحسرة والرثاء صدى مما في البيت الذي قبله:«فأصبحت معشوقًا إلخ» .
وامرؤ القيس مما يلقي بكلامه إلقاء من أعاق عقله الباطن، دفعة واحدة، وفيه تجارب كثيرات، فيبدون كأنهن تجربة واحدة، ذلك بأنه أوتي ملكة خارقة مع الصدق والحذق وصفاء الديباجة والمقدرة على الاسترسال.
وأحسب أن المخافة التي في غطيط البكر، تحمل صدى ذكرى سحيقة من عهد مخافته أباه، حين اتهمه بإحدى نسائه فأمر بقتله. قالوا، ولكن الذي وكله بقتله رحمه فأبقى عليه، واصطاد جؤذرًا فاقتلع عينيه، وحملها إلى حجر يوهمه بهما أنهما عينا امرئ القيس.
وقد تعرضنا لبعض هذا في حديثنا عن هذه الأبيات في الجزء الأول، ولا أكاد أشك أن قوله «يغط غطيط البكر» فيه كالإشعار بصفة الغول. ويؤيد هذا قوله من بعد:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
…
ومسنونةٌ رزقٌ كأنياب أغوال
وظاهر هذا البيت فخر. وفيه أيضًا غزل، كأنه يشير به إلى خمصانة المعلقة، أنها المشرفي المضاجع له، ومنه يستمد الشجاعة.
وباطنه ذعر، وهرب ذريع. يدلك على ذلك من سره هذا التهويل. كأن السيف وحده، ولابد فيه من المساورة عن قرب، لا يكفيه، فاحتاج إلى المسنونة الزرقة وهي السهام.
«وأنياب الأغوال» كأنها صدى لغطيط الغول. وعندنا في الخرافات الدائرة في الغول والسعلاة، وأصل ذلك، لا شك عربي، أن الغول يغط إذا صحا ولا يغط إذا نام. قالوا في قصة الجفيلة، إنه لما اختطفها الغول، وعلم بذلك ابن عمها الجفيل، خرج في طلبها، ولا يعلم أين صير بها. فلقيته عجوز، وكانت حكيمة ذات علم من السحر، فأعانته في بعض ما كان من أمره، ودلته على دار الغول، وقالت له تحذره:«إن الغول نومه شهر وصحوه دهر، وإذا صحا كان له شخير يُسمع من بعيد، وإذا نام فليس له شخير، فلا تقربن داره إن سمعت الشخير» . فانطلق الجفيل إلى دار الغول، فوجده نائمًا لا حس عنده. ووجده متوسدًا شعر الجفيلة، وكانت كأنها نائمة، ولما تستسعل بعد، وقد كادت، ولو قد نالها لقد كانت استسعلت فلم يكن دون أكله شيءٌ. فأيقظها برفق، فعرفته وفرحت به. وقص شعرها من تحت الغول، وأردفها وراءه هاربين، إلى آخر القصة (1).
ولا أستبعد أن يكون العرب الأولون قد كانوا يعتقدون في أمر غطيط الغول مثل هذا الاعتقاد، أو قريبًا منه.
ومما يقوي معنى الفزع في بيت الغطيط وبيت المشرفي، قوله من بعد:
وليس بذي رمحٍ فيطعنني به
…
وليس بذي سيفٍ وليس بنبال
وكرر ذكر النبل، ودلالته على البعد والهرب والاحتماء من كان قصيٌ لا تخفى. وقوله «فيطعنني به» واضح الدلالة على الذعر. على أن في هذا البيت احتقازًا وزراية بعد، ليست ببعيدة المجرى من زرايته حيث ذكر البكر المخنوق الذي غط عنه بعد أن توعده بالقتل.
وعندي أن امرأ القيس قد خالط في مراده بهذه الزراية ذات المقت بين بعلٍ
(1) أوردنا القصة كلها كاملة في كتابنا الأحاجي السودانية فليرجع إليه.
يحتقره، خالفه إلى حليلته، وبين قوم آخرين كان يكرههم ويزدريهم كأشد ما تكون الكراهية والازدراء. ولا يخلو في هذا من أن كان يفزع منهم أيضًا. تأمل قوله في أخريات هذه القصيدة، يصف العقاب:
تخطف خزان الأنيعم بالضحا
…
وقد جُحرت منها تعالب أورال
والخزان بكسر الخاء وتشديد الزاي الأرانب. جمع خزز بضم ففتح أي أرنب وأورال موضع في ديار بني أسد، ذكره عبيد بن الأبرص، كما مر بك. والأنيعم كأنه في ديار بني أسد، وهو كثير في أسماء المواضع. وروي صاحب الدواوين الستة أن مكانه «الشربة» وهي في ديار غطفان، وقد كانوا لبني أسد حلفاء.
وصفة امرئ القيس للعقاب لا تخلو من كناية عن نفسه وعن بني أسد الذين قتلوا أباه غدرًا ثم انجحروا كما تنجحر الثعالب، وكان يود لو أنه ظفر بهم ليتخطفهم كما تُتخطف الأرانب، أو كما قال:
وأفلتهن علباءٌ جريضًا
…
ولو أدركنه صفر الوطاب
وقد كان حجر أبو امرئ القيس طاغية جبارًا. زعموا أنه قتل من بني أسد جماعة بالعصا، فسموا لذلك عبيد العصا. وقد ذكر هذا المعنى عبيد بن الأبرص في كلمته الميمية يمدحه بها حيث قال:
أنت المليك عليهم
…
وهم العبيد إلى القيامة
وكان حجر قد قيد عبيدًا ليقتله فلما سمع هذا منه عفا عنه وأطلقه، فما كان من عبيد بعد أن أطلق إلا أن كفر يده، وكان من أكبر المؤلبين عليه، والمعادين لابنه من بعده، والساعين في تخريب ملكه وإحباط مساعيه.
وغير بعيد أن يكون مما أحفظ بني أسد على حجر أنه انتهك من أعراضهم. والذي كان عليه من الجبرية مما قد يكون معه انتاك الأعراض. ولعل أطراف حجر
من بنيه وبني عمومته وعصبيته كانوا يفعلون كمثل فعله- شأن طسم مع أختهم جديس في الدهر الأول. ومما يقوي هذا الحدس ما ذكره الرواة من أن الحرث آكل المرار، أبا حجر، وجد امرئ القيس، قد كان ممن واطئوا كسرى قباذ على مذهب المزدكية والإباحة. وعسى أن يكون هذا خبرًا مفتعلاً افتراه أعداء بني آكل المرار، من المناذرة ومن بني أسد وسائر مضر، لينتقموا به من ذكراهم. ومع هذا فهو لا يخلو من دلالة ما، على بعض ما نحن بصدده.
والذي يذكر من شأن امرئ القيس وامرأة أبيه مما يقوي هذا أيضًا. وفي شعر امرئ القيس شواهد الإباحة كثير. منها في هذه القصيدة، مثلاً قوله:
أيقتلني أني شغفت فؤادها
…
كما شغف المهنوءة الرجل الطالي
وهو فظيع في تهالكه. ولا يخلو من معنى حسرة، لعلها بعض ما خلعه من صورة نفسه، على صفة هذا البعل، وهو يكني عن أمر أم جندب. ويقوي هذا المعنى الثاني قوله من بعد:
وقد علمت سلمى وإن كان بعلها
…
بأن الفتى يهذي وليس بفعال
للذي يخالطه من روح الفكاهة والتسلي.
ومن شواهد الإباحة أيضًا قوله:
وماذا عليه أن ذكرت أوانسًا
…
كغزلان رملٍ في محاريب أقوال
وبعض هذا كأنه التفات إلى أبيه وإلى فزعه من غطيط البكر، أو قل غطيط الغول. ولو قد اكتفى امرؤ القيس بصدر البيت وحده إلى قوله «أوانسا» لكان كلامه بمنزلة التبرؤ الساذج. ولكن عجز البيت ينحو بهذه البراءة وبهذه السذاجة إلى معنى من الإباحة قريب من قوله:
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه
…
بما احتسبا من لين مس وتسهال
ومما يقوي هذا المعنى، إنه مهد بتشبيه «كغزلان رملٍ في محاريب أقوال» إلى قوله من بعد:
وبيت عذارى يوم دجنٍ ولجته
…
يطفن بجباء المرافق مكسال
ونعود بك الآن إلى ما كان من قوله:
يغط غطيط البكر شد خناقه
…
ليقتلني والمرء ليس بقتال
وقوله:
وليس بذي رمحٍ فيعطنني به
…
وليس بذي سيفٍ وليس بنبال
ألست ترى ههنا مزيجًا من احتقار امرئ القيس وعدواته وفزعه من عبيد بن الأبرص وعلباء بن الحرث والطماح ولفهم الذين قتلوا أباه وشردوه كل مشرد، وإنما كانوا عبيدًا له ولأبيه، وكأن قوله:«وليس بذي رمح» لم يرد به إلا عبيدًا ومن احتقاره (1) وازدرائه ببعل، لعله كان من بني أسد، كان هو يخالفه إلى سلماه، وكان يغط عن غطيط البكر شد خناقه، ينام أو يتناوم، ولعله أن يكون ائتمر به هو ورهط من قومه ليقتلوه سرًا، فمنعهم من ذلك خوف حجر وسطوته، ومسنونته الزرق. ويقوي هذا الحدس قوله من المعلقة:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا
…
عليّ حراصًا لو يُسرون مقتلي
وانس الأحراس، فليس البعل مما يدخل فيها- وقد قدمنا لك من تأويلها، وعسى أن لا تخلو من معنى حجر للذي تعلم من أمر ملكه ورهبة امرئ القيس له. ويُقويه أيضًا قوله ههنا:
ليقتلني والمرء ليس بقتَّال
(1) الجار والمجرور متعلق بالفعل ترى المتقدم.
هذا، وقولنا أنه مهد بتشبيهه «كغزلان رملٍ في محاريب أقوال» لنعت العذارى بعده، شاهده أن في هذا التشبيه، عدا الذي قدمناه من معنى الإباحة، معنى مزدوجًا، كلاً وجهيه أراده امرؤ القيس فيما نرى. ذلك بأنه شبه الأوانس بالغزلان أولاً، وجعلهن في محاريب أقوال أي ملوك، ليدل بذلك على أنهن مكنونات متنعمات دونهن المخاوف والأحراس. ثم إنه شبه الأوانس بالغزلان التي في المحاريب- وهذه صورٌ أو تماثيل بلا ريب. قال تعالى يصف جن سليمان:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ (1)} فجمع بين المحاريب والتماثيل كما ترى.
وهذا التشبيه للأوانس بالغزلان المصورة أو بالتماثيل فيه رجعةٌ إلى ما كان قاله أولاً:
فيا رب يومٍ قد لهوت وليلةٍ
…
بآنسةٍ كأنها خط تمثال
وأقرب شيء أن تكون هذه الآنسة التي كأنها خط تمثال، هي جباءُ المرافق المكسال (وهذه صفة بدن) المذكورة في قوله:
وبيت عذارى يوم دجنٍ ولجته
…
يطفن بجباء المرافق مكسال
وقد وصف امرؤ القيس العذارى فجعلهن خماصًا طوالاً سمهريات القامات لتتم المقابلة بينهن وبين بادنته:
سباط البنان والعرانين والقنا
…
لطاف الخصور في تمامٍ وإكمال
وهؤلاء السباط البنان والعرانين والقنا، الهيفاوات، الفارعات، تجعلهن مع فتاة المعلقة، ذات البنان الأساريع، والقامة البردية، ومع سلمى التي في أول هذه القصيدة، التي كانت تريه منصبًا وجيدًا كجيد الرئم، والتي كأنها خط تمثال.
(1) سورة سبأ وعند أبي عمرو وغيره تثبت ياء الجوابي وصلا لا وقفًا.
ولعل هذا من صنع امرئ القيس، يذكرك صنيعه في المعلقة، حيث مهد لنعت خمصانته بالبادنات واختتم بذكر الليل والنجوم والفراش المشرق.
وقد جعل امرؤ القيس نعت العذارى خاتمة لقصته التي قصتها وصفته التي افتن فيها:
نواعم يُتبعن الهوى سبل الردى
…
يقلن لأنه الحلم ضلٌّ بتضلال
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
…
ولست مبقليّ الخلال ولا قالي
وههنا كما ترى تصريح بمعنى الفزع الذي كنا بصدده، وبشيء من معنى الأحراس التي ذكرها في المعلقة.
ونسأل بعد ما بيت العذارى هذا الذي ينعته امرؤ القيس؟ ولم يكن يطفن؟ ؟ ؟ المرافق التي نعتها؟ أيجوز لنا أن نفترض أن الدوار -وكان صنمًا تطوف به العذار- ربما جُعل شخصًا حيًّا أحيانًا: امرأة جميلة تقف كالتمثال، أو قل كالآلهة، والعذارى يطفن حولها طوفهن بالصنم؟
هذا ثم يقول:
كأني لم أركب جوادًا للذةٍ
…
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
وأصداء المعلقة هنا لا تخفى- كأنه يشير إلى قوله «وانتحى بنا بطن خبت» وقوله «هضيم الكشح ريا المخلخل» . وفي البيت بعد رجعة إلى معنى أول القصيدة:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
من التذكر والتحسر. وأحسب أن قبل هذا البيت ما روي من قوله:
ألا إنني بالٍ على جملٍ بال
…
يسير بنا بالٍ ويتبعنا بال
ولا شك أنه له، وموضعه بين خشية الردى، وبين هذا التذكر، من العودة وإحكام الربط بحيث ترى.
ونريد بعد أن ننبه إلى طريقة امرئ القيس في النعت بعد هذا، من إشرابه أوصافه شيئًا من معنى البدن واليسر والسعة، مع مراعاة المقابلة بصور أقل بدنًا وأشد أسرًا. وهذا من جهة المذهب الفني شبيه بصنيعه في المعلقة، ويباينه من حيث إنه، هتاك، غلَّب جانب ما يلائم الضمر وانصلات القامة.
من ذلك وصف امرئ القيس لحصان الغزوة- إذ جعله عبل الجرازة، ناتئ الحجبات، كأن أعلى ردفه فرخ نعام.
وقد تعلم أن الحصان الذي نعته في المعلقة هيكل مثل هذا الحصان. ولكنه في المعلقة باعده، وحكى لك حال جريه وهو ينجرد وراء الأوابد من مكان بعيد، دريرًا كخذروف الوليد، وهنا قربه بأنه جعله جوّالاً، يمضي شيئًا ثم يكر راجعًا، في معترك القتال الضيق، وهذا يتيح من تأمل أعضائه ما لا تتيحه حال الانجراد.
وقد جعل واديه هنا خصبًا أنفًا «رائده خال» وغيثه وسميٌّ، والرماح تتحاماه، لعزة من يحميه. وفي هذا كما ترى ذكرى أيام ملكه وصدى من حاضر أمانيه. وهذه الصفة غير صفته للوادي في المعلقة. إذ ثم يندفع فيه السيل، ويكب الدوح على الأذقان، ويدمر الديار، ويُغرق الأرجاء، فلا يبدو في أتيه المنفهق إلا رأس المجيمر، ؟ ؟ ؟ العنصل، والأطم المشيدات بالجندل وثبير ذو البجاد في عرانين الوبل، ؟ ؟ ؟ فوق ذلك كله غناء المكاكي.
هذا وقد جعل امرؤ القيس للصيد ههنا عجلزة أي فرسًا قوية. وجعلها مترزة اللحم كأنه هراة منوال، أي عصا، وفي هذا نفس من قوله «كأنها خطُّ تمثال» .
ثم في الفرس مقابلة لحصان الغزوة الهيكل الذي ذكره آنفًا. وكأن ما ذكره من الإتراز والهراوة، تأكيد منه لأنها -مع كونها أنثى- ليست بدون ذلك الحصان، لا في عظم الهيئة ولا في متانة الأسر.
وقد تذكر أن الحصان الدرير الذي كخذروف الوليد، إنما كان في المعلقة قد نعته بمعرض الصيد. فمقابلة ما بين هذا وبين العجلزة لا تخفي.
ثم صوار المعلقة يعن، وهذا يدل على بعده. أما ههنا فالشاعر يذعره. وهذا يدل على قربه. ومن أجل هذا القرب يعطيك الشاعر من صفاته تأملاً ليس في المعلقة- لأنه في المعلقة يصف الصوار كله معًا:
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
…
بجيد معم في العشيرة مخول
وهو الجيد غير المعطال الذي مر وصفه.
وفي هذه القصيدة يتأمل أفراد الصوار:
ذعرت بها سربًا نقيًا جلوده
…
وأكرعه وشي البرود من الخال
كأن الصوار إذ تجاهد عدوه
…
على جمزى خيلٌ تجول بأجلال
فجال الصوار واتقين بقرهبٍ
…
طويل القرى والروق أخنس ذيال
فعادى عداء بين ثورٍ ونعجةٍ
…
وكان عداء الوحش مني على بال
ولهذا تأمله.
ويسر الصورة واتساعها لا يخفي. والقرهب الطويل القرى والروق كأنه خط التمثال، وكأنه جباء المرافق المكسال في بروز صورته وكأن الصوار حوله العذارى السباط البنان والعرانين والقنا. والصورة بعد معكوسة كما ترى. لأن القرهب في انصلات قامته أشبه بالعذارى اللطاف الخصور، والصوّار الجائلات رهوًا بأكرعهن ذوات الوشي أشبه في لين حالهن بالجباء المرافق المكسال.
والثور والنعجة يقابلان الهيكل والعجلزة.
ثم يشبه امرؤ القيس عجلزته بالعقاب الفتخاء الجناحين، أي اللينة الجناحين مع طول فيها:
كأني بفتخاء الجناحين لقوةٍ
…
صيودٍ من العقبان طأطأت شملالي
والطأطأة هي وجبه الشبه، شبه هويَّ فرسه وراء الثور والنعجة مطأطئةً عنقها، بهوي العقاب، مجنحةً بريشها الطويل.
ولا يخلو معنى العقاب الفتخاء من معنى البادنة المكسال التي تطوف حولها العذارى. وفي قوله المكسال ما يدل على نوع من طأطاة. وقوله «شملالي» ينفي به أن يكون في الطأطأة خورٌ أو فتور أو أن تكون مفاضة، على معنى البادنة الموصوفة من قبل.
ثم قوله صيود فيه ما قدّمنا من الكناية عن نفسه وبعده البيت الذي استشهدنا به بمعرض الحديث عن بني أسد:
تخطف خزان الأنيعم بالضحا
…
وقد جُحرت منها ثعالب أورال
وفصل هذا المعنى بقوله:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
ومقابلة الصورتين لا تخفى، وهي مما فطن له أهل البديع ونبهوا على حسن طباقه وتركيبه.
والبيت بعد نص في الذي نذهب إليه من طريقة امرئ القيس في القصد إلى إلقاء التجارب الكثيرة دفعة واحدة معًا. وفيه كناية عما قدم من أوصاف الضمر والبدن. كما فيه كناية عن حاله مع أعدائه أن جعلته هو العقاب. ولعل العناب أمثال علباء الذي أفلت جريضًا. والحشف أمثال عبيد الذي لم يكن ذا رمح ولم يكن بنبال، ولكن كان شيخًا ماكرًا ذا غوائل ودهاريس.
وقول امرئ القيس من بعد:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشةٍ
…
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثل
…
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي