الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوصاف النساء ومداخل الغزل:
ذكرت العرب من أوصاف النساء ضروبًا لا تكاد تحصى، ومن مداخل الغزل كذلك. ومن هذا كثير تقدم. فما ذكرته في أوصافهن المرأة المنعمة، والجميلة الفارعة، والقصيرة الدميمة، والضخمة التي يضيق عنها الباب، والعوان ذات البقية والشمطاء الوالهة، والكزة الرهيبة، والجليلة المهيبة، قال علقمة:
منعمةٌ لا يستطاع كلامها
…
على بابه من أن تزار رقيب
ويدخل في هذا وصف الممنعة المحجوبة- قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا
…
علي حراصًا لو يسرون مقتلي
وفي ذكر الأحراس كناية عن المغامرة كما سنذكر إن شاء الله.
والممنعة النفور، قال عروة بن الورد:
يعاف وصال ذات البذل قلبي
…
ويتبع الممنعة النوارا
والكريمة الشريفة العفيفة، والحظية الجارية، قال النابغة:
والراكضات ذيول الريط فانقها
…
برد الهواجر كالغزلان بالجرد
وقال الأعشى:
والبغايا يركضن أكسية الإضـ
…
ـريح والشرعبي ذا الأذيال
والقينة الهلوك، قال طرفة:
رحيبٌ قطاب الجيب منها رفيقةٌ
…
بجس الندامى بضة المتجرد
والبغي ذات السطوة، قال الأعشي:
هركولة فنقٌ درمٌ مرافقها
…
كأن أخصمها بالشوك منتعل
ومن رميات النقاد له في هذا الباب ما ذكروه من أن قوله:
قالت هريرة لما جئت زائرها
…
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
أخنث ما قالته العرب. ومن ذلك أيضًا تعريض المعري به في رسالة الغفران على لسان النابغة الجعدي وتصريحه.
ومن أوصافهن السعلاة، إذ تزوجها بعضهم، والمرأة الشرسة، والزوجة المغاضبة، قال الجميح:
أمست أُمامة صمتًا ما تكلمنا
…
مجنونةً أم أحست أهل خروب
والزوجة المشاركة، وقد تكون هي العاذلة كما في قول عمرو بن الأهتم الذي مر بك، وكما في قول مرة بن محكان:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
…
ضُمي إليك رحال القوم والقربا
ومرة إسلامي كما تعلم.
والأم المربية، والأم الغائرة من حماتها، والمطلقة تتبعها النفس كما في شعر زهير، والمطلقة لا تتبعها النفس أو كذا يدعي الشاعر كما في قول الأعشى:
أيا هذه بيني فإنك طالقة
وكأن المعري يتهمه بأن نفسه قد تبعتها في قوله من اللزوميات:
وما هاج قلبي بارقٌ نحو بارقٍ
…
ولا هزني شوق لجارة هزان
وقال في رسالة الغفران على لسان النابغة الجعدي: «ولقد وفقت الهزانية في تخليتك، عاشرت منك النابح» وأجاب بلسان الأعشى: «وذكرت لي طلاق
الهزانية، ولعلها بانت مسرة الكمد، والطلاق ليس بمنكر للسوق ولا للملوك» (1) وهذا الاعتذار الأخير مشعر بنفس مما في اللزوم.
والخليلة المصارمة كما رأيت من قول المثقب، وعسى أن سترى من قول المرقش والعائدة المترفقة، قال الآخر:
وما عليك إذا خبرتني دنفًا
…
وغاب بعلك يومًا أن تزوريني
وتأخذي نغبةً في الكوز باردةً
…
وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني
وتائية الشنفري فيها هذا الباب.
ونحو هذه الأوصاف والنماذج، كثير.
ومن مداخلهم إلى الغزل سوى ما تقدم، القصة، وقد تكون ملحمية وهذا أسير نموذج كالذي عند امرئ القيس، وقد تكون غير ملحمية كقول عنترة:
تجللتني إذ أهوى العصا قبلي
…
كأنها صنمٌ يُعتاد معكوف
وكرائية عروة بن الورد في امرأته التي يقول فيها:
سقوني النسٍ ثم تكنفوني .. عداة الله من كذبٍ وزور
وقد مر خبر ذلك فيما مضى. والقصص غير الملحمي في الظاهر مما يداخل الملحمي ويكون فرعًا وطرفًا وتبيينًا، وهذا سنعرض له، ككثير مما في معلقة امرئ القيس وغيرها.
ومنها الالتفات القصصي وهذا مسلك لا حبٌ، وقد يُضمنه الحوار، كقول عبد يغوث:
وتضجك مني شيخةٌ عبشمية
…
كأن لم ترى قبلي أسيرًا يمانيًا
(1) رسالة الغفران 221، 222.
ومنها المذهب المسرحي وهذا يكون كالالتفاتة، فيكون من باب الالتفات القصصي كبيت عبد يغوث الذي مر، وكقول المنخل:
فدفعتها فتدافعت
…
مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست
…
كتنفس الظبي البهير
وبكت وقالت ما بجسمك
…
يا منخل من حرور
ما شف جسمي غير حبك
…
فاهدني عني وسيري
وكقول امرئ القيس:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وأكثر الالتفات من الغيبة إلى الحضور ومن الحضور إلى الغيبة داخل في هذا الباب. والمناجاة والمناغاة وأصناف مخاطبة النساء مثل قول علقمة:
فلا تعدلي بيني وبين مغمر
…
سقتك روايا المزن حين تصوب
تدخل أيضًا في هذا الباب. وأصناف أخر كثيرات غير هذا-
ولقد تسأل كيف ننسب إلى العرب مذهبًا مسرحيًا وهم لم يعرفوا ما نسميه المسرح وإنما المسرح عندهم كان مسرح السائمة ثم ما يحمله المجاز عليه كمسرح الطرف وهلم جرا.
وجوابنا أن العرب كانوا أهل قصص وأسمار وأحاديث وولع بالأخبار. ولقد بلغ من ولعهم بالأخبار أن يتتبعوها من غير كبير أرب لأنفهسم وراءها، اللهم إلا أملاً غرزيًا أو كالغرزي فيما أحسب، أن يتأتى لهم سداد أرب من معرفتها. من شواهد ذلك مثلاً خبر السيرة في غزوة بدر إذ ألم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحب له بشيخ من العرب فسألاه عن خير الناس، فإذا عنده خبر المسلمين وخب قريش معًا (1).
(1) سيرة ابن هشام 2/ 254 - 255.
ولقد كانت الجن التي تعمر صحراء العرب تشاركهم الولع بالأخبار. وقد أثبت القرآن في هذا أخبارًا لا مدفع لها، من وفود جن نصيبين أو سواها على الرسول صلوات الله عليه، في مرجعه من الطائف، فقالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} وفي سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} . وفي السيرة أن إبليس تمثل بصورة شيخ نجدي ليشهد نجيّ قريش، وأن الجن هتفت بهجرة النبي. وقصة استراق الجن للسمع من السماء معروفة.
وقد كانوا يوالون من العرب ويعادون. وربما تيموا أو قتلوا. وممن قتله الجن في الجاهلية حرب بن أمية:
وقبر حربٍ بمكانٍ قفر
…
وليس قرب قبر حربٍ قبر
وسيدنا سعد بن عبادة في الإسلام:
قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين فأصمينا فؤاده
وادعاء الكهان والشعراء في تلقي الأخبار من الجن والشياطين معروف.
هذا، وكان التبليغ الواضح بمكافحة اللسان والبيان، أكبر وسائلهم في نقل الأخبار. وهذا كان يقتضي المسرحية في التعبير ضربة لازم. وكان الشاعر بحكم طريقته المباشرة لإرادة التبليغ كما قدمنا في أول تمهيدنا، مسرحيًا في جل تعبيره، قصصيًا واصفًا في كثير منه، مطربًا ممتعًا متغنيًا في كثير منه. فاجتمعت بذلك لديه في مذهبه الواحد فنون الشعر الثلاثة التي زعمها نقاد الإفرنج، وغيرها مما لم يذكروه كالذي رأيت من اشتباكات الكناية والرمز والوحي والتلميح، على نحو ما -هو نحو
القصيدة- ومن أجل هذا ما ننكر وسم القصيدة بأنها فن غنائي خالص من فنون الشعر، إلا في قول من يقول إن الشعر كله غناء.
ولقد اتسعت معارف الناس الآن حتى قد علموا أن ليست المسرحية هي الفصول وخشبة المسرح ذات الستائر وما بمجراها، وتعدد الأشخاص المتحاورين والعقدة، كما قد اتسعت في زمان مضى في أوروبا فألغت ما كان يشترطه المذهب الكلاسيكي من وحدة الزمان والمكان والحدث.
وجوهر المسرحية الخطابة الموضحة لحال مع التشخيص بالصوت. وتعدد الأشخاص واتخاذ موضع يعين على تمثيل الحال من خشبة مسرح وما إليها، كله من باب تجويد المسرحية وقد ينتقد بأنه فيه افتئات على خيال السامع وذكائه. وقد عرض لهذا المعنى بريستلي في كتاب له مختصر عن المسرح. وقد كان الإغريق يتوسطون بين تعداد الأشخاص وأفراد قاص، بالرسول الذي يضعون على لسانه صفات الأحداث الهامة ويعهدون إليه بتشخيصها. وكانوا مما يتلطفون إلى مجاملة خيال السامع وذكائه بالنشيد المشترك (الخورس) الذي يبعد به عن جو المشاهدة إلى جو من التأمل. وقد كانوا مما يتجنبون الحركة ويعتمدون على جهارة الصوت وتنويعه، ويتخذون لذلك الأبواق. ومما يدلك على أن العقدة ليست بشرط، أن المآسي الإغريقية كانت معروفة، فلم يكن من غرض الشاعر عندهم تشويق السامع إلى نهايتها أو أحداثها، وإنما كان غرضه إيقاع العبرة والعظة وروح التعبد بما يفتتن فيه من إتقان. ولقد يكفي الآن في الفن المسرحي أن يشخص الممثل قطعًا من خطب شكسبير فيهبر بالافتنان من دون أن يمضي في الرواية إلى آخرها. ومسرحية ميلاد المسيح ورسالته، وهي مما مهد لفن المسرح الأوروبي الحديث كانت تجري بعض هذا المجرى. والحق أن العقدة لاحقة بالقصة، فمن أراد القصة في أداء مسرحي عقد، ومن لم يرد لم يعقد.
ونحن لا نريد ههنا أن ندعي للعرب أنهم عرفوا فن الدرامة كما عرفه إغريق
الأمس وإفرنج اليوم. ولكنا نزعم أنهم عرفوا جوهر الفن الدرامي، وجاءوا به في كثير من أدائهم، وأحسنوا أيما إحسان في الذي جاءوا به.
وقد تعلم ما يُذكر من أمر القصص والقصاص أيام الخلافة الأولى، ولاسيما خلافة بني أمية. ولقد نفق أمرهم حتى أوشك القاص أن يكون ضربًا متممًا للتعبئات الحربية، من شواهد ذلك ما يروي في خبر عتاب بن ورقاء، إذ سأل فيما سأل عنه وهو بإزاء قتال الخوارج عن قاص يحدث الناس عن أخبار عنترة ليثير فيهم الفراسة والحماسة. فلم يجبه أحد. فتفاءل من ذلك شرًا. ثم إن أصحابه أسلموه فقاتل حتى قتل.
وقد كان في القصص -يدل على ذلك ما بأيدينا الآن من سير وأخبار شديدة حيوية التعبير كالسيرة والأيام مثلاً- كثير من من المذهب الدرامي مما ينبئ أن القصاص قد كانوا مما يتبعون أسلوبًا دراميًا تشخيصيًا في التعبير. وقد ذكر أن سيدنا عثمان رضي الله عنه سأل أبا زبيد الطائي الشاعر وصف الأسد، فاندفع هذا حتى إذا بلغ من ذلك مبلغًا قال له سيدنا عثمان: مه فقد أخفت المسلمين. ومثل هذا النهي لا أحسبه نشأ إلا من قوة تشخيص شخصها أبو زبيد (1).
ومما كيد لابن إسحق به فأخرج من المدينة أن مجلسه كانت تجتمع إليه النساء وما كان بالرجل من ريبة فقد كان من الفضلاء أهل المعرفة والإتقان. ولكنه كان فيما يبدو حلو الحديث جيد الأداء حسن الهيئة والتشخيص فيما يقص والنساء مما يأخذ ذلك بقلوبهن، فلعله كره هذا من صنيعه بعض أهل التحرز والتحفظ.
هذا وفي السير والأخبار شعر كثير كمساجلات ما بين المسلمين والمشركين، وما بين أصحاب علي ومعاوية يُنشد على ألسن الأبطال قبل القتال وفي أثنائه ومن بعده، وهذا مما يدل على مذهب مسرحي، إذ مجمع على أن الصحيح من هذه الأشعار قليل،
(1) راجع ترجمته في معجم الأدباء «حرملة بن المنذر» - 10 - 1511.
وأن أكثرها انتحال القصاص، ولا ريب أنهم انتحلوه على حذو نماذج قديمة، كقصة البسوس وداحس والغبراء وأقاصيص طسم وجديس وهلم جرا. وسنعرض لهذا الباب إن شاء الله إذا عرضنا لحديث الجزالة واللين.
والأمثلة بعد كثيرة. وعسى هذا الذي ذكرناه أن يوضح ما زعمناه من المذهب المسرحي في معرض الإيحاء باللوعة والهوى. وجلي أن المذهب المسرحي قد يلابس القصص الغرامية، ملحميها وغير ملحميها والالتفات القصصي وسائر ما يكون من الأوصاف.
هذا ومن مداخل الغزل رفث القول. وهذا يحملونه محمل الهزل، ومحمل المغايظة، والأول يحتمل، والثاني قد يُحفظ، ولكنه يُحتمل في الكثير الغالب لمجراه مجرى الهزل في الحقيقة، ومنه قول زهير:
تعلم أن شر الناس حي
…
ينادي في شعارهم يسار
ولولا عسبه لرددتموه
…
وشر منيحة عسبٌ معار
الأبيات.
ومن هذا المجرى ما يقع من المهاجاة بين الشعراء والشواعر كالذي ذكروا من حديث الأغلب وصاحبته إذ هجاها بقوله (الخزانة 2 - 205):
جاريةٌ من قيسٍ بن ثعلبه
ومن حديث ليلى الأخيلية والنابغة الجعدي؟ ونقائض جرير والفرزدق تدخل في هذا الباب وهي امتداد وتفريع له وموضع جميع ذلك باب الأغراض.
وباب الملح أو ما يسمى الملح والنوادر يدخل فيه كثير من هزل الرفث، وأكثره قطع مفردات يحسن إلحاقها بقريّ النسيب دون الخروج والأغراض، كما في آخر كتاب الحماسة لأبي تمام كقول الآخر:
جزى الله منكم ذات بعلٍ تصدقت
…
على غزبٍ منا وليس له أهل
فإنا سنجزيها الجميل بفعلها
…
إذا ما تزوجنا وليس لها بعل
وكقول الأخرى تصف زوجها فيما زعموا:
كأن خصييه إذا ما هبا
…
دجاجتان تلقطان الحبا
وكما يستشهد به النحاة واللغويون ومن إليهم كثيرًا في نعوت ما لا ينعت إلا هزلاً مثل قول الأخرى:
إن هنى حزنبلٌ حزابيه
…
إذا قعدت فوقه نبا بيه
كالأرنب الجاثم فوق الرابيه
وكبيت سيبويه (2 - 64):
إن لها مركنًا إزربًا
…
كأنه جبهة ذرى حبًا
وكأبيات أبي النجم العجلي التي أولها:
علقت خودًا من بنات الزط
ومن أقدم هذا قول النابغة وإذا لمست إلى آخر ما قال.
ونحو هذا كثير، ويلحق به باب نرى أن نسميه الهجاء الغزلي أو بعضه وسيلي إن شاء الله. ومن عجائب العرب أنهم مع غيرتهم كانوا إذا هزلوا أو غايظوا بكالهزل لا يكنون، وهذا من مذهب البداوة في التعبير، لا ترى به بأسًا، وتراه ضربًا من خشونة القول، وقد كانوا مع هذا تنبو أذواق أهل الحس المرهف منهم عنه، إلا أن يلجئوا إليه إلجاء كالذي رأيت من زهير والنابغة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذروة الذروة من الحس المرهف فحين كان يسمع خشونة أصحابه في هذا المجرى كان مما ينهي أو تبدو عليه صوات الله عليه ظلل الحياء كالذي فعله من قوله لسلمة بن سلامة
ابن وقش، من قوله له «مه أفحشت على الرجل» فيما روى ابن إسحاق (1). وكما روت سيدتنا عائشة من استحيائه من مسألة بعض نساء الأنصار (2). إلا أن يرى أن ذلك كان في وجه حق كمقالة سيدنا أبي بكر لعروة بن مسعود الثقفي قبيل صلح الحديبية. وكما أمر به من النهي عن عزاء الجاهلية وكنى بما أدبه الله من الحياء وحث على ألا يكنى في هذا الباب.
ونبو أذواق أهل التحضر عن نحو هذا على خلاف نبو أهل الذوق. لأن أهل الذوق كما قدمنا ينبو إرهاف إحساسهم عن الخشونة. أما أهل التحضر فينبو تواضعهم الذوقي عن الجرأة والتصريح. وفي التحضر من ألوان الفسق ما ليس في البداوة ولا يعن بخاطرها، فهذا سر انزعاج الحضري مما يفصح به البدو، وبين المذهبين في النبو كما ترى بون بعيد، كبعد ما بين التلطف والتأفف والله أعلم.
وقد كانت العرب مما تكره أن ينحي برفث القول إلى جد أو كالجد. فلهذا ما كان يحفظها بعض الهجاء يورده صاحبه كالهازل وهو جاد. وصبر الناس على هجاء جرير دون الفرزدق من العجب، لأن في كثير مما عاب به أقرانه، عدا أمر جعثن، رنة صدق موجعة. ولا هكذا كان الفرزدق. وأحسب أن عمدهم أن يحملوا قول جرير على حاق الهزل حتى فيما يكون عرّض به وهو يعلم. كان مما يتطلبه أيضًا مذهب الغيرة والحفاظ سياسة ودهاء مثال ذلك قوله:
فما خفيت هضيبة حيث جرت
…
ولا إطعام سخلتها الكلابا
وهذا لا يناقض ما قدمنا آنفًا مبدأ حديثنا عن الغيرة، إذ بدعوى التهازل قد احتاط جرير لنفسه. وقد صار الجرح الموجع له مذهبًا عرفه به الناس حتى قد كاد
(1) السيرة 2/ 252.
(2)
صحيح مسلم.
يقارب إليه أو يبلغ في بعض ما ابن به جعثن نفسها، وذلك قوله:
وقد علم الفرزدق حين تشكو
…
عروق الكليتين من الطحال
على أنه قد اعتذر لهذا بالهزل في البيتين قبله وبعده.
ومما يدلك على كراهة العرب أن ينحي بهذا وما إليه منحى الجد ما عابوه على امرئ القيس في قوله:
فمثلك حُبلى قد طرقت ومُرضعٍ
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
…
بشق وتحتي شقها لم يُحول
والبيتان جيدان وللفن حدود ينبغي أن يوقف عندها وكان امرؤ القيس لا يقف فمن أجل هذا ما عاقبته العرب عقابًا لم تعاقب به سيدًا من ساداتها، حتى لقد آل أمره إلى أن يكون ماله المعزي بعد الإبل، وإلى أن تتجهمه بنو شمجي بن جرم وإلى أن تلاحقه العرب بالتعيير بعد رحلته إلى قيصر فينسبوا إلى موته ما نسبوا من أمر الحلة المسمومة. وقد أثبت الإسلام له فضيلته في الشعر، ثم جعله من أهل النار حتى إن أبا العلاء لم يجسر على الاحتيال له في جنته الخيالية، ولو قد قدر لفعل.
وقد علمت العرب أن النابغة لم يكن بجاد على ما جاء بكلامه في محمل الجد، فلاحقته بشيء من معرة. وأثبتت رأيها في أنها لم تنسب الغيرة إلى النعمان بادي بدا على قبحه وأشره، ولكن نسبتها إلى المنخل وادعت له علاقة حب من المتجردة، وكأنها أحست حسًا نما ما في نحو قوله:
فبكت وقالت ما بجسمك يا منخل من حررو
فجعلته بشيء بالنابغة عند النعمان. فجعلت كما ترى غيرة النعمان بأخرة وأرتنا عطفًا على النابغة، وانتصفت له بما كان من قبول اعتذاره، وبما يذكر من أن المنخل حُمل على اليحموم فاندقت عنقه.
وبعد فنريد الآن، بعد الذي ذكرناه، لنعرض عرضًا يسيرًا لهذا الذي يقول به بعض المعاصرين من اتهام العرب بالجنسية والمادية وأنهم لم يفطنوا في باب الغزل إلى نعت النساء بما يكون من محاسن الأخلاق أو يدخل في باب محاسن الأخلاق.
وقد سبق منا أن أجبنا بإجابات في هذا الباب وعسى أن تكون كافية. ولكن ينبغي أن نضيف ههنا تتميمًا وإكمالاً على ما سبق، أن سائر ما كنا فيه من تعداد نماذج أوصاف النساء يشمل جانب كبير منه ما يتعلق بالأخلاق، مساوئ ومقابح. ومنه ما يتعلق بأمر المودة والجفاء في خالص ما يكون من العلاقات البشرية، بغض النظر عن الجنس، وإن كان الجنس كما قدمنا مما لا يمكن أن يدعي استبعاده إلا على وجه التصوف الخالص أو كما قال ابن قتيبة في قول أسلفناه:«لما قد جعل الله في تركيب العباد من الغزل والف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام (1)» .
ولكي نثبت عند القارئ ما نحن بصدده حتى لا نحتاج إلى العودة إليه، نضرب إليه أمثلة ثلاثة من شعر الجاهليين دون غير هم، فيهن ذكر الأخلاق ونعتهن، وهنٌ بعد يتفاوتن في مدلولات الإيحاء فيما بين لوعة الجنس التي يلابسها اشتهاء ولوعة الجنس التي تتسامى إلى الروحي من التسامي، وليضف هذا إلى ما سبق ما زعمناه أمثلة متسامية إن شاء الله. أول هذه الأمثلة قول الشنفري:
ألا أم عمرو أجمعت فاستقلت
…
وما ودعت جيرانها إذ تولت
وقد سبقتنا أم عمرو بأمرها
…
وكانت بأعناق المطيِّ أظلت
بعيني ما أمست فباتت فأصبحت
…
فقضت أمورً فاستقلت فولت
فوا كبدا على أميمة بعدما
…
طمعت فهبها نعمة العيش زلت
فيا جارتي وأنتِ غير مليمةٍ
…
إذا ذُكرت ولا بذات تقلت
(1) الشعر والشعراء- 20
لقد أعجبتني لا سقوطًا قناعها
…
إذا ما مشت ولا بذات تلفت
تبيت بعيد النوم تُهدي غبوقها
…
لجارتها إذا الهدية قلت
تحل بمنجاةٍ من اللوم بيتها
…
إذا ما بيوتٌ بالملامة حلت
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه
…
على أمها وإن تكلمك تبلت
أميمة لا يخزي نثاها حليلها
…
إذا ذُكر النسوان عفت وجلت
إذا هو أمسى آب قرة عينه
…
مآب السعيد لم يسل أين ظلت
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
…
فلو جن إنسان من الحسن جنت
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا
…
بريحانةٍ ريحت عشاءً وطلت
بريحانة من بطن حلية نورت
…
لها أرجٌ ما حولها غير مسنت
وباضعة حمر القسي بعثتها
…
ومن يغز يغنم مرة ويُشمت
«ومفتاح» هذه الكلمة كما يقول الأستاذ العقاد قوله «فبتنا» فإن كانت زوجته فالكلمة فيها ما ترى من تعت محاسن الأخلاق ولسنا نحتاج إلى الأمثلة الأخريات في معر ض الاحتجاج. وإن لم تكن زوجته فهذا مشكل مع الذي قدمه من نعوت، ونحن أميل إلى هذا، والله أعلم.
تأمل قول الشنفري حين ابتدأ بالتنبيه «ألا» ثم أعطاك الرحلة كلها معًا على منهج علقمة «رحلة فركوب» ثم ذكره للوداع للجيران كلهم، مخفيًا نفسه بينهم. ثم يصير بعد إلى ضمير الجمع المتكلم «سبقتنا» فلم نشعر إلا بها هي والمطي واسم كان ضمير الشأن وهذا لا يخفى. ثم صار بعد إلى ضمير المتكلم الواحد، فصار هو الجيران كما ترى. وذلك قوله «بعينيّ» ثم تتبعها ظاعنة لا يتأمل تأمل القطامي، وكيف يتأمله وهو لا يريد إلا معنى متعة ونظر، ولا تأمل المثقب، وكيف وهو لا يريد إلى قلق من عتاب وخصام، ولا تأمل زهير، وكيف وهو وإن تك نفسه تابعة ما ظعن، فما نال أخلد في نفسه أثرًا وأدعى إلى أن يتفكر فيه ويتعظ به ويتلذذ بذكره ويتحسر كيف فات،
وإنما هي الدنيا تنيل وتأخذ؟ وقد جزع لما فات فلا أكثر من أن يصرح بالجزع جهيرًا وأن يسر في نفسه، حياء وتقية ما قد جزع عليه مما فات. وحسبه من ذلك أن يجعل أم عمرو وهي كنية التجلة والتفخيم، أميمة وهي تصغير التمليح والحنين والترخيم، ثم أن ينعتها بأنها نعمة العيش. وأنها قد ولت، وليس بعد النعمة إلا الشقاء.
ثم إذ دعاها أميمة قارب مقاربة بعد ذلك فجعلها جارة له، وناداها بجارتي، وبعيد أن يكون أراد بذلك زوجتي وإنما معناه «كزوجتي» ، وهذا سر الإسراع بنفي الملامة عنها لما يتبادر من معنى الملامة مع مثل هذا التقريب ممن ليست بزوجته. وفسر معنى الجوار بأنها ليست «بذات تقلّت» ، وتقلت هنا حكاية كما يقول النحويون، أي لا يقال في مثلها إنها متلقية تتعازب وتتغطرس وتتبغض، ولكن تبر وتداني وتحسن، فما إحسانها وما مداناتها وما برها؟ وهنا يفاجئك المسرحي العربيّ بالتفات. وذلك أنه يؤجل ذكر ما أحسنت به إليه، ليحدثك عما أعجبه منها هي حين أحسنت إليه، وحين يراها في الحي فيذكر أنها هي بعينها التي أحسنت إليه.
لقد أعجبته أنها متحشمة لا يتساقط قناعها كما تفعل بعضهن ترائيا حين يمشين، وأنها لا تتلفت عفافًا وكبرياء نفس ودقة حس وأنها برة:
تبيت بعيد النوم تُهدي غبوقها
…
لجارتها إذا الهدية قلت
وأن برها أشد ما تكون الحاجة يكون بخفية وفي ستر، وقد خشي الشاعر أن يحمل قوله هذا على الإيحاء -وسترى أنه كذلك كما سنذكر لك من بعد- فبادر إلى تكرار نفي الملامة عنها كل النفي، ملامة البخل بالطعام وملامة ما تلام به النساء إذ أنها كهمك من حليلة بعلٍ نقاءً وصفاءً، أبعد ما يكون بيتها عن أن يؤبن بريبة، وغيرها ممن عسى أن يصطنعن الجفاء والبخل وعزمة العفاف لسن كذلك. وعسى أن يكون الشنفري ههنا يعرض بجارة لهذه الفاتنة أو بنت حي من حيها.
ثم يدلف الشنفري يتأملها وهو مشغوف، إذ هي تمشي والحياء يطأطئ رأسها
كأن له في الأرض نسيا تقصه، وهي تكلمه، ولعل هذا كان حين أحسنت عليه، فتتعثر عليها اختلاجات الكلمات من فرط الحياء- ولا يخفى ما في هذا من اقتراح اللوعة الجنسية أي اقتراح وإيحائها أيما إيحاء.
والشاعر أفطن شيء لهذا الإيحاء فهو يبادر لينفي ما قد يحمله عليه السامع ولولا صدقه إن يكاد ليدنو ما يقوله من السخرية الرفيقة اللمس:
أميمة لا يخزي نثاها حليلها
…
إذا ذُكر النسوان عفت وجلت
وقوله أميمة مستفاد منه «هذه التي أدعوها أميمة يا هذا» وليس كقوله أميمة أول ما بدأ بهذا التصغير التحبيبي.
وفرع عن معنى ذكر العفة والحليل في قوله:
إذا هو أمسى آب قرة عينه
…
مآب السعيد لم يسل أين ظلت
وصدر هذا البيت إلى نصف عجزه فيه دليل الغبطة وأنه ينفس على بعل أميمة ما وهبه الله من متعة العيش بها، واللوعة هنا مستكنة ظاهرة كما ترى. أما آخر البيت فيوشك أن يداني رفيق المس السخري لولا الذي قدمناه من صدق لهجة الشاعر. ثم الذي نزعمه من المس السخري ليس بمستنكر في ذات نفسه، أن أبهنا إلى أن ما ناله الشاعر نيل عظيم، يناقض من جهات كثيرة ما يرضى به الحليل ويثير الغيرة إن عُلم أمره أي إثارة، ثم هو بعد لا يناقض خالص العفة.
وإذ قد أشعر الشنفري بغبطته حليل أميمة جاملنا فوصف لونا مما غبطه فيه من جلال سمتها وهيئتها واسبكرار جمال جسدها وكماله، وفي الاسبكبرار كناية عامة عن سائر ما تفتن به المرأة في معارض جسدها، ثم عبر الشاعر عن حاق نشوته لهذه الفتنة بقوله:
فلو جن إنسانٌ من الحسن جنت
ثم أضرب عن ذكر ما أحسنت إليه به، وعمّى ليبلغ بالإيحاء إلى ذروته فقال:
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا
…
بريحانة ريحت عشاءً وطلت
والشاعر حين يعمى أشد ما يكون إرشادًا إلى تجربته، جوهرها وسر حقيقتها. إذ الذي ناله الشنفري من أميمة أنه انتشى وثمل من مجلسها حتى لكأن البيت قد شملته ريحانة- ريحانة منظرًا وريحانة حديثًا وريحانة لطفًا وعطفًا وإحسانًا ولذة غزل، وافتن الشاعر بعد في نعت هذه الريحانة وجاز عصره في هذه النشوة حتى بلغ عصر أبي تمام العباسي في استحلاء الجناس المتقن «بريحانة ريحت عشاء وطلت» وما نفس أبي نواس عنه ببعيد:
وأضغاث ريحانٍ جنيٌّ ويابس
ثم ارتاح إلى الريحانة فذكر موضعها وأنها قد نورت، وإنما ارتاح ليتجلد إذا حوله الأرج المسنت، إذ الغارة والموت والجيف والنقمة بعد النعمة، ولكن هذا أيضًا مما تهتاج له النفس، ويندفع في قريان منه فيض الحيوية والنبل الإنساني، كما اندفع من أميمة. أليس يذكر الشاعر في معرض نعته له ذات العيال التي زودته حرصًا على سياسة القتال، هو وأصحابه، زادًا أو تحت فيه وتقلت، على أنها للذي يصف من مكرمتها وجودها بنفسها، ليست بذات تقلت، كما أميمة ليست بذات تقلت. وإنما هي كما قال:
تخاف علينا العيل إن هي أكثرت
…
ونحن جياعٌ أي ألٍ تألت
وما إن بها ضنٌّ بما في وعائها
…
ولكنها من خيفة الجوع أبقت
وكذلك أوتحت أميمة وأقلت من خيفة العار، إذ هي لا سقوط قناعها ولا يخزي نثاها حليلها. وإنما زودته أميمة قعبا من لبن إذ هو مريض، وإذ هي قد رقت له وعادته. وقوله:
تبيت بعيد النوم تُهدى غبوقها
…
لجارتها إذا الهدية قلت
جاء به شرحًا لقوله «ولا بذات تقلت» فورّى وعمّى ونبه به على صفتها من بر جارتها وتلك حسنة. وليس ما زعمه ههنا بمستبعد أن يكون قد عهد نحوه من صفتها فمدحها به. ولكن السياق يقتضي أن الجارة هذه ليست إلا الجار الذي كان جيرانًا في مطلع القصيدة، وهو الشنفري نفسه ومما يقوى هذا المعنى أن قوله «بعيد النوم» مع دلالته على خفيّ البر دون معلنه فيه أشبه بالذي نذهب إليه من معنى العيادة والزيارة. وأن قوله «تبيت» كأنه صدى لقوله «فبتنا» أو كأن قوله «فبتنا» صدى له وليس الشعراء الحذاق مما يجيئون بنحو هذا عبثًا، وقوله في آخر القصيدة:
ألا لا تعدني إن تشكيت خلتي
…
شفاني بأعلى ذي البريقين عدوتي
مدح ودال على هذا المعنى الذي ذكرناه وقد عمّي الشنفري تقية وشكرانًا لهذه التي أحسنت إليه أن يجيء ما قد يحمل على التصريح في أمرها فجعلها خلة وخاطبها بخطاب الخلة الرجل لا الأنثى -ألا لا تعدني وفي قوله «ألا» رجع صدى من قوله «ألا أم عمر وأجمعت فاستقلت» - وإنما الأمر أنه يعجب لنفسه كيف يستأهل أن يعاد وهو لا يقدر الحياة قدرها، ولا يختار أن يبقى مع الريحان حين تدعوه الغارة ذات الأرج المسنت.
ثم علام يأسف، فقد استفاد من الغارة صحبة صديق حميد، وقد شفى نفسه بمأثرة إدراك الثأر في مشهد فظيع:
جمار منى وسط الحجيج المصوت
وقد آب ليرى أنه بما اختار من مذهب حياته غرض الموت، طال العهد أو قصر. ثم ماذا عسى أن يشين ذلك. أليس كل حي غرض الموت؟ أم ليس حسب الفتى أن يكون مثله، على سجيته طلقا سجحا، حلوا إن أريدت حلاوته ومرا إذا نفس العزوف استمرت.
وهل عزف عن أميمة لشائبة من كبرياء. كلا. إنه ليأبى ما يؤبى، وينتحي إلى من ينتحي في مسرته، كأميمة، وإن حال دونها البين- بين الحياء، وبين العفاف، وبين أنه تقلت لئلا تخوى وليست بعد «بذات تقلت» .
فهل يا ترى كانت مقيمة أم قد أجمعت حقًا واستقلت؟
فهذا المثل شاهد عدل على أن الجاهليين كانوا يعرفون ويتقنون نعت الأخلاق. ثم هو بعد شاهد عدل في أن الأخلاق في أقصى ذرا مثلها العليا مما لا يخرج في باب الغزل عن معاني لوعة الجنس.
ولعلك قائل بعد فهذا مثل منفرد. والجواب عن هذا ما قال ابن سلام من ضياع أكثر الشعر الجاهلي، وما قدمت من أن الشعراء القدماء كانوا في حرصهم على التجويد وعلى التقية معًا، لا يخترعون نماذج من عند أنفسهم. وإنما يسيرون على ما يعلمون أنه معهود. ومثل الذي قاله الشنفري يعلمك أن نموذجه معهود قول علقمة الذي مر بك من قبل:
منعمة ما يُستطاع كلامها
…
على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
…
وتُرضي إياب البعل حين يؤوب
وهذا كقول الشنفري:
إذا هو أمسى آب قرة عينه
…
مآب السعيد لم يسل أين ظلت
وقال عنترة واختصر:
دارٌ لآنسةٍ غضيضٍ طرفها
…
طوع العناق لذيذة المتبسم
وقوله غضيض طرفها كقول الشنفري «ولا بذات تلفت» وقوله «كأن لها في الأرض نسيا إلخ» .
وأكد عنترة مراده من نعت الأخلاق فيما اختصر من قوله:
ولقد نزلت فلا تظني غيره
…
منى بمنزلة المحب المكرم
فذكر الإكرام مع الحب كما ترى.
وقال امرؤ القيس، وفي الذي قاله معاني ما طرقه الشنفري، وامرؤ القيس أبو هذا الباب فيما يزعمون من الغزل المادي:
خليليّ مرا بي على أم جندب
…
نقض لبانات الفؤاد المعذب
فإنكما إن تنظراني ساعةً
…
من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وحام حول هذا المعنى الشنفري على جودته فلم يصب منه إلا بقدر أن قال «ألا لا تعدني البيت» :
ألم ترياني كلما جئت طارقًا
…
وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
وهذا ما فصله الشنفري في قوله «وبتنا إلخ» :
عقيلة أترابٍ لها لا دميمةٍ
…
ولا ذات خلق إن تأملت جانب
بفتح الخاء. أي هي لا دميمة خلقة ولا تتخلق فتبدو عليها دمامة من كزازة وتجنب، وليس المراد بعجز البيت نعت صورة وجهها بنفي القبح الجسدي عنها فحسب إذ لا معنى على هذا الوجه لقوله «إن تأملت» وقد سبق قوله «لا دميمة» - وإنما أراد نحوا من قول الشنفري «ولا بذات تقلت» وإنما ينعتها بالنسبة إلى ما يكون من ملاقاة المواجهة، أنها بشيرة، ولا سيما إلى النساء، وقد يدخل في هذا أنها تبرهن ولا تتكبر عليهن، كزعم الشنفري الذي تأولناه، حيث قال بعد «ولا بذات تقلت» أنها «تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها إلخ» .
ألا ليت شعري كيف حادث وصلها
…
وكيف تراعي وصلة المتغرب
أقامت على ما بيننا من مودةٍ
…
أميمة أم صارت لقول المخبب
ومن هنا أخذ الشنفري «أميمته» :
فإن تنأ منها حقبةً لا تُلاقها
…
فإنك مما أحدثت بالمجرب
والسؤال الذي تساءله أنسب لمذهب الحديث عن الزوجة (إذ أم جندب زوجته) من التقرير الذي قرره الشنفري وهو يتحدث عن زوجة آخر فيما رجحنا، وإنما جاء الشنفري بالنموذج وهو نموذج زوجة كما رأيت ولا ريب في سبق امرئ القيس له، ليحدث فيه ما قدمنا من التحوير المنبئ بالإيحاء؟ والتي ذكرها كأنها زوجته.
ثم قال امرؤ القيس:
وقالت متى يُبخل عليك ويعتلل
…
يسؤك وإن يُكشف غرامك تدرب
وهذا حديث حليلة. والعجب لأم جندب كيف فضلت بائية علقمة على هذه البائية. ولقد أصاب، فيما أرى من حيث مذهب الظن امرؤ القيس حين اتهمها. وهذا من باب عكس قضية الفرزدق إذ قال وهو يريد أن يعكس مذهب الجاهليين:
موانع لأسرار إلا لأهلها
…
ويُخلفن ما ظن الغيور المشفشف
في ادعاء السعاة عند المآب. وسنعرض لهذا في موضعه إن شاء الله.
وقد جاء نموذج العيادة عند طرفة، من قصيدة قالها وقد أطرده قومه، وهذا نحو ما كان فيه الشنفري من حال الصعلكة والاطراد. وطرفة بعد الذي يقول:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجبٌ
…
ببهكنةٍ خلف الطراف المعمد
ولا مادية بعد هذا إن كان فيه حقًا مع الذي قبله وبعده من المعاني صدق علوق بالمادية!
قال:
ولم يُنسى ما قد لقيت وشفني
…
من الوجد أني غير ناسي لقائك
وما دونها إلا ثلاث مآوب
…
قدرن لعيسٍ مسنفات الحوارك
ولا غرو إلا جارتي وسؤالها
…
ألا هل لنا أهلٌ؟ سُئلت كذلك
تغير سيري في البلاد ورحلتي .. ألا رب دار لي سوى حر دارك
وليس امرؤٌ أفنى الشباب مجاورًا
…
سوى حبه إلا كآخر هالك
ألا رب يومٍ لو سقمت لعادني
…
نساءٌ كرامٌ من حييٍّ ومالك
وأول القصيدة:
قفي ودعينا اليوم يا ابنة مالكٍ
…
وعوجي علينا من صدور جمالك
قفي لا يكن هذا تعلة وصلنا
…
لبين ولا ذا حظنا من نوالك
أخبرك أن القوم فرق بينهم
…
نوىً غربةٌ ضرارةٌ لي كذلك
ولا يخفى أن ابنة مالك وبنات مالك وبنات حيي كل ذلك ههنا كناية عن دار قومه التي أطرد منها أو قومه الذي أطردوه. والصلة النموذجية بين هذا وبين كلام الشنفري لا تخفى. وألفت القارئ بعد إلى أن ابن الرومي، من مقدمي المولدين، قد نظر إلى هذا النموذج، ولو بعين عقله المستتر الباطن، في أبياته التي يذكر فيها وطنه:
ولي وطنٌ آليت ألا أبيعه
…
وألا أرى غيري له الدهر مالكًا
والبحر والروي شاهدان يشفان. وليس ابن الرومي ممن يقال ليس له عهد بطرفة. وما الاستراق ولا الإغارة، فيما أرى، أراد. وإنما هذا توارد الخواطر، ذات العلم، كما يقع الحافر على الحافر.
وبعد فأحسب أن مرادنا من الذي تمثلنا به في قول الشنفري قد استبان. والآن إلى المثال الثاني، وهو قول الجميح الأسدي:
أمست أمامة صمتًا ما تكلمنا
…
مجنونةً أم أحست أهل خروب
مرت براكب ملهوزٍ فقال لها
…
ضري الجميح ومسيه بتعذيب
ولو أصابت لقالت وهي صادقة
…
إن الرياضة لا تنصبك للشيب
يأبى الذكاء ويأبى أن شيخكم
…
لن يُعطى الآن عن ضربٍ وتأديب
أما إذا حردت حردي فمجريةٌ
…
جرداء تمنع غيلاً غير مقروب
وإن يكن حادثٌ يُخشى فذو علقٍ
…
تظل تزيره من خشية الذيب
فإن يكن أهلها حلوا على قضةٍ
…
فإن أهلي الألى حلو بملحوب
لما رأت إبلي قلت حلوبتها
…
وكل عامٍ عليها عام تجنيب
أبقى الحوادث منها وهي تتبعها
…
والحق صرمة راعٍ غير مغلوب
كأن راعينا يخدو بها حمرًا
…
بين الأبارق من مكران فاللوب
فإن تقرِّي بنا عينًا وتحتفضي
…
فينا وتنتظري كري وتغريبي
فاقني لعلك أن تحظي وتحتلبي
…
في سحبلٍ من مسوك الضأن منجوب
وهذا كما ترى خطاب زوجة مغاضبة والشاعر ينسب غضبها إلى أنها لقيت قومها، أو لقيت راكب ملهوز، أي راكب بعير موسوم بغير وسمه، أي عدوا منافسًا له فيها، فأغراها بأن تتنكر عليه ليطلقها هو فيتزوجها هذا العدو. وزعم «ليال» في مقدمته الإنجليزية (1) إلا أنه يفسد حاق المعنى غير قليل. ثم يقول «ليال» أنه يبدو أن تنكرها له قد كان سببه أن قل ماله (2) وأشار إلى الأبيات. وكأنه قد شك أن يكون هذا هو السبب الحقيقي. وهذا أيضًا اجتهاد حسن منه.
وقد فطن «ليال» إلى أن الذي جاء به الجميح ههنا له نموذج يشبهه في شعر عبيد بن الأيرص وهو من جيل متقدم من نفس قبيلة الجميح كما قال (3).
(1) الترجمة الإنجليزية ص 7 - 8.
(2)
الترجمة الإنجليزية ص 7 - 8.
(3)
الترجمة الإنجليزية ص 7 - 8.
والحق أن مثله نموذجان ظاهران في شعر عبيد وسواهما مما هو مختصر. أما الظاهران فقوله (1):
ألا عتبت عليّ اليوم عرسي
…
وقد هبت بليلٍ تشتكيني
فقالت لي كبرت فقلت حقًا
…
لقد أخلقت حينًا بعد حين
تُريني آية الإعراض منها
…
وفظت في المقالة بعد لين
ومطت حاجبيها أن رأتني
…
كبرت وأن قد ابيضت قروني
فقلت لها رويدك بعض عتبي
…
فإني لا أرى أن تزدهيني
وعيشي بالذي يُغنيك حتى
…
إذا ما شئت أن تنأي فبيني
فإن يك فاتني أسفًا شبابي
…
وأمسى الرأس مني كاللجين
أي الزبد الجاف
وكان اللهو حالفني زمانًا
…
فأضحى اليوم منقطع القرين
أي بعيدًا عني
فقد ألج الخباء على العذارى
…
كأن عيونهن عيون عين
أي ممن كن أجمل منك وأشب.
يملن علي بالأقراب طورًا
…
وبالأجياد في الريط المصون
الأقراب جوانب الخصور، وهذا كأنه مكشوف، وقد لقي عبيد شرا من مصرع امرئ القيس.
هذا والنموذج الآخر قوله:
تلك عرسي غضبي تريد زيالي
…
ألبينٍ تريد أم لدلال
(1) ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق الدكتور حسين نصار، طبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، (133 - 134) و (106 - 108).
إن يكن طبك الفراق فلا أحفل أن تعطفي صدور الجمال
أو يكن طبك الدلال فلو في
…
سالف الدهر والليالي الخوالي
أي قد مضى زمان ذاك منك ومني، وما يلي يكشف هذا المعنى
ذاك إذ أنت كالمهاة وإذ آ
…
تيك نشوان مُرخيًا أذيالي
فدعي مط حاجبيك وعيشي
…
معنا بالرجاء والتأمال
زعمت أنني كبرت وأني
…
قل ما لي وضن عني الموالي
أي جفاني بنو العمومة
وصحا باطلي وأصبحت شيخًا
…
لا يُواتي أمثالها أمثالي
وازن بين هذا وبين قوله آنفًا أنها هي أيضًا قد كبرت.
أن رأتني تغير اللون مني
…
وعلا الشيب مفرقي وقذالي
فارفضي العاذلين واقنى حياءً
…
لا يكونوا عليك خط مثال
والمثال ما يحذى عليه وأراه أراد مثال النعل الذي كان يحذو عليه الإسكاف ما يصنعه، من شواهد ذلك قولهم بأخرة لصورة النعل النبوية «مثال» - والمثال معروف كما تعلم، في باب التبرك، وفي أزهار الرياض للمقري، أشعار كثيرات فيه. ونعود بعد إلى قول عبيد:
وبحظٍّ مما نعيش فلا تذ
…
هب بك الترهات في الأهوال
أي نعيش بحظ، ومما للتكثير، ذكر سيبويه أنه يقولون مما يفعل ومما أن يفعل كلتاهما بمعنى.
واتركي صرمةً على آل زيد
…
بالقطيبات كن أو أورال
لم تكن غزوة الجياد ولم ينقـ
…
ـب بآثارها صدور النعال
وهذا كآخر كلام الجميح، وربما فصلناه بعد.
در در الشباب والشعر الأسود والراتكات تحت الرحال وإلى هنا نظر المتنبي كمنا تعلم
والعناجيج كالقداح من الشوحط يحملن شكة الأبطال
ثم خرج إلى نعت الخيل.
ومما اختصره عبيد من مجرى هذا النموذج قوله:
هبت تلوم وليست ساعة اللاحي
…
هلا انتظرت بهذا اللوم إصباحي
قاتلها الله تلحاني وقد علمت
…
إن لنفسي إفسادي وإصلاحي
كان الشباب يُلهينا ويعجبنا
…
فما وهبنا ولا بعنا بأرباح
ومما اختصره غيره مام مر بك من قول عمرو بن الأهتم. وقول زهير في أم ولده كعب:
قالت أم كعب لا تزرني
…
فلا والله مالك من مزار
رأيتك عبتني وصددت عني
…
فكيف عليك صبري واصطباري
فلم أُفسد بنيك ولم أقرب
…
إليك من الملمات الكبار
أقيمي أم كعبٍ واطمئني
…
فإنك ما أقمت بخير دار
وهذا نفسه مختلف عما قاله في أم أوفى، وإن يك ليس مما يستبعد أن يكون قد عنى أم أوفى ببعض ما فيه.
وقول ورقة بن نوفل:
تلك عرساي تنطقان بهجر
…
وتقولان قول أثر وعثر
تسأ لاني الطلاق إن رأتاني
…
قل مالي أتيتماني بنكر
ويك أن من يكن له نشبٌ يُحـ
…
ـبب ومن يفتقر يعش عيش ضر
خفضًا ما لديكما غير الدهـ
…
ـر ولابد للضريك بصبر
فلعلي أن يكثر المال عندي
…
ويعرى من المغارم ظهري
وقد جعلهما ورقة عرسين كما ترى. والنموذجية في مسلكه لا تخفى.
وقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
بصيرٌ بأدواء النساء طبيب
يُردن ثراء المال حيث علمنه
…
وشرخ الشباب عندهن عجيب
مما يجري هذا المجرى، وإن لم يك قد جاء به في نموذج المرأة المغاضبة. والحق أن ذكر الصحو كما في قول زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
وذكر بكاء الشباب بمعرض الإقبال على جد المشيب مقارب المعاني لنموذج المرأة المغاضبة كما عند عبيد وكما عند ابن الأهتم وكما عند الجميح الذي رأيت. ثم الشاعر يحوّر بعد ذلك في النموذج لإيحاء التجربة كما تعلم. والمرأة المغاضبة نموذجيتها ما هي إلا ضرب من الكناية عن هواجس النفس إلى اللذات ومتع العيش ولهوه والإضراب عن الجد. والشاعر في النموذج يدّعي ذهاب الشباب ويبكيه إظهارًا للحنين والرقة. ثم إنه يقبل كالراثي لنفسه يدعي أن النساء تحامينه، لذهاب روقه، ثم إن ماله قد أنفدته المكارم فهذا يمنع أن يرغبن فيه كل المنع، وأن زوجته، وهي رمز النساء جميعهن في هذا الباب، ورمز سائر ما ترمز إليه النساء من معنى المرح واللهو، قد أقبلت عليه تلحاه، وأنه إزاء هذا كله لا يرى أن يعني نفسه بما لا يستطيع مما كان لديه وفاته، ولكنه يرى أن يزبرها ويزجرها، فإن رضيت أقامت وإن لم ترض رحلت غير مأسوف عليها وخير لها أن تقني حياءها وتقيم. ذلك بأن لم يبق لديه من داعي
العيش ما يتعزى به إلا جد الشيوخ وحزمهم ومذهبهم في القصد وتثمير المال وابتغاء سنن الشرف والاعتداد أمام مجامع الفخر بما كانوا أسلفوه أبام الشباب. وهي أيضًا ينبغي ألا يكون لديها من دواعي العيش إلا أن تحط معه في هواه وطريقته، كما قال ابن الأهتم:
ذريني وحطي في هواي فإنني
…
على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
وكما قال الأخنس بن شهاب التغلبي:
وقد عشت دهرًا والغواة صحابتي
…
أولئك خلصاني الذين أصاحب
رفيقًا لمن أعيا وقلد حبله
…
وحاذر جراه الصديق الأقارب
فأديت عني ما استعرت من الصبي
…
وللمال عندي اليوم راعٍ وكاسب
هذا هو هيكل النموذج. والآن نعود إلى كلمة الجميح.
يذكر الرواة أن امرأة الجميح كانت من بني سعد من تميم (من بني أنف الناقة). وسارع «ليال» فبنى على هذا قوله أن هذا كان زواجًا من خارج القبيلة. والحق أنه ليس بخارجها كل الخروج خروجًا تنبني عليه عقدة هذه القصيدة أو يكون هو مفتاحها، إذ بنو سعد وبنو تميم عامة كانت تجمعهم وبني أسد وكنانة وهذيل وقريش ومن إليهم شواجر الأرحام من أمهم خندف. قال جرير يفخر على الراعي:
علوت عليك ذروة خندفي
…
ترى من دونها رتبًا صعابا
له حوض النبي وساقياه
…
ومن ورث النبوة والكتابا
وقال الفرزدق يفتخر على الناس جميعًا:
لنا حيث آفاق البرية تلتقي
…
عديد الحصى والقسوري المخندف
فافتخر بمشهد الحج وبقريش وبالخلافة. وكلا الفرزدق وجرير تميميان كما تعلم. وكان بنو أسد موالي قريش (أي بني عمهم) في النسب الأعلى إذ جدهم خزيمة
جد قريش، وكان منهم كثير حالفوا بني عبد مناف منهم رجالات في السيرة كآل جحش وكعكاشة بن محصن. وقال بشر بن أبي خازم الأسدي يفخر على جذام:
وكنا دونهم حصنًا حصينًا
…
لنا الرأس المقدم والسنام
وقالوا لن تقيموا إن ظعنا
…
فكان لنا وقد ظعنوا مقام
أثافي من خزيمة راسياتٍ
…
لنا حل المناقب والحرام
فإن مقامنا ندعو عليكم
…
بأسفل ذي المجاز له أثام
فافتخر بمواسم الحج ومكان أسد فيها كما ترى.
وكان بين هذه القبائل وبين تميم تصاهر. وأحسب أن هذا كان مما يقويه مكان تميم من ولاية الإجازة التي ورثوها من صوفة. وفي خبر بدر الكبرى أن عتبة بن ربيعة خشى أن يشجر ابن الحنظلية أمر الناس وإنما كان ابن الحنظلية أبو جهل. وحنظلة بيت تميم. وأحسب أن عتبة نسب أبا جهل إلى أمه من حنظلة لينسب حدته إليهم دون قريش، على ما كان لهم من سيادة وشرف وآصرة قربى.
وإذ قد وضح هذا، فإنه لا يستبعد أن قد كانت بين الجميح وبين رهط امرأته السعدية صلة رحم دنيا سوى الرحم العليا في خندف وقد بدأ الجميح كلامه يذكر أن امرأة لا حتة بليل، وفي هذا إيذان بالهم والأرق وذلك قوله «أمست» ثم ذكر أن لحاءها كان صمتًا، وهذا مما يكون أدخل في حاق الغضب من الذي ذكره عبيد بن الأبرص من مط الحواجب وأن يفظ المقال بعد لين. ثم إنه كبر اسمها فقال «أمامة» وقد كان اسمها «أميمة» على صيغة التصغير- ورووا له:
ما لأميمة أمست ما تُكلمنا
كأن أصحاب هذه الرواية يحملونها على مذهب التحبب والتزلف، كقراءة علي «ونادوا يا مال» بالترخيم على لسان الكفار يتقربون به إلى مالك خازن النار.
وإنما كبر الجميح اسمها لأنها قهرته فكبرت في نفسه:
أما إذا حردت حردي فمجريةٌ
…
جرداء تمنع غيلاً غير مقروب
وكبر نفسه تكلفًا ليضاهئ ما كان من تكبيرها فقال «ما تكلمنا» بضمير التعظيم. ثم تساءل دهشًا فزعًا مغلوبًا على أمره «مجنونة؟ » أي أمجنونة هي فلا تتكلم؟ وكأنه أنكر مكان هذا السؤال وما يدل به على حيرته وانهزامه، فهرب منه إلى تفسير وتأويل يتأوله فقال «أم أحست أهل خروب» وهم قومها -كأنه يوهمك أنهم نزلوا قريبًا فهي تحس لقربهم في نفسها كبرياء وزهوًا من عصبية. ثم كأن هذا لم يرضه، فاخترع -على طريقة نموذج الملاحاة- (أليس في نموذج الملاحاة يزعم عبيد أن صاحبته قد كبرت ثم يرجع فيجعلها شابة ويقول «لا يؤاتي أمثالها أمثالي» - راكبًا خياليًاعرض لأميمة وهو مستن في طريقه فسلب فؤادها وأغراها ذلك بأن تضره وتعذبه، بل ذلك في ذاته مما يكون ضررًا وتعذيبًا كأبلغ ما يكون من ضرر وتعذيب؟ ثم اشتط وراء هذا الاختراع فجعل الراكب غريبًا ذا جمل ملهوز أي موسوم بغير ميسمه هو وفي هذا إشعار بالمباينة والعداوة والضدية- ثم فيه أيضًا (كما يبدو لنا مما يدل عليه ظاهر سياق ابن الأنباري في شرح هذا الحرف) تلميح بأن قد تكون أميمة رغبت في راكب الملهوز لأنه ذو عدد من قومه، وأن له إخوة كثيرين ففي ذلك عصبية له، إذ الأخوة قد يخالفون فيما بين الوسم الواحد يسمون به أبلهم ليشعروا باختلاف ما يملكه كل واحد منهم منها، فهذا ضرب من الوسم الملهوز. ثم إذ استطرد الجميح هذا الاستطراد في متابعة خياله يعتذر عن الانهزام أمام أمامته القاهرة تكلف إيقاع الملامة عليها، مستمرًا في تبرير موقفه: ما لها لم تقل لذلك الراكب، ولو قالت لكانت مصيبة ولكانت صادقة، أن الرياضة إنما تكون للصغار، فلا يبتلينك الله برياضة الشيب مثل زوجي الجميح، أعرض عن هذا، فإن رياضة الشيب عناء.
وقد بلغ الجميح من مغالطة نفسه في هذا التبرير وهو ينظر إلى نموذج الملاحاة
أن فسر قوله «أم أحست أهل خروب» بقوله «مرت براكب ملهوزٍ» - كأن راكب الملهوز هذا من أهل خروب. وإنما هي فكرة أخرى عنت له بعد فكرته الأولى التي لم يرض عنها كل الرضا في مذهب الادعاء والتبرير. وأحسب «ليال» إنما وهم من ههنا حين ذهب إلى ما ذهب إليه. كما قد وهم أيضًا في حمل قوله «وهي صادقة» على النعت، وإنما هي جملة حالية.
ثم التفت الجميح، في مسرحية واضحة، من إيراد الحديث على لسان أميمة، فجاء بأسلوب الخطيب في قوله:
يأبى الذكاء ويأبى أن شيخكم
…
لن يعطى الآن عن ضربٍ وتأديب
وهنا قد يُسال الجميح؟ فمن ضربه، ومن أدبه؟ والجواب عن هذا، في ظاهر ما يذهب إليه أسلوب الشراح أنه مثلٌ تمثل به -يريد أنه شيخ مجرب وليس كالولد الصغير الذي يضرب ويؤدب. وإنما الذي هو كالولد الصغير يُضرب ويُؤدب ويُخوف من الذئب لأنه لو لم يؤخذ بهذا المأخذ لخيف عليه أن يصاب، ليس إلا أمامة- تلك التي حردت حرده فهي لبؤة جرداء تخيفه وتفزعه، أما إذا كان أمر ذو جد، «فذو علقٍ تظل تزبره من خشية الذيب» .
وقد أوحى الجميح إلينا بما كان في هذا الذي جاء به، ينظر فيه إلى النموذج ويبالغ ويهول، ليتستر وليبرر. ونحن في حل أن نظن غير بعيدين من إصابة الحق أنه قد وقع بينه وبين امرأته. وقد كان أسنّ منها بدليل ما يذكره عن نفسه معتدًا مدافعًا مهتاجًا من خبرة الشيخوخة وحنكتها- شيء ما يقع بين النساء وأزواجهن. فتجاوز هذا الشيء مداه إلى أن يخالفها هو في تأديب بعض الصبية وهذا مفهوم ضمنًا من قوله «مجريةٌ جرداء تمنع غيلاً غير مقروب» فتخالفه في ذلك ويغلب أمرها على أمره. وتجاوز هذا الشيء مداه أيضًا إلى أن يعرض هو لها بأهلها وإلى أن يعرض لها برجل و
رجال غرباء تحدثت إليهم. وإلى أن تنالها يداه بضرب لطمةٍ فما جاوزها. والتعذيب والضرر هو ما كان من بعد هذه اللطمة من إعراضها وصمتها وإضرابها عنه أيما إضراب. ولقد كان ينفعه لو قالت له بدل هذا الصمت، «لم تضربني وكيف تبتغي تأديبي بالضرب ومثلي لا يؤدب بالضرب بعد هذا النضج؟ -» وإذن لا نفتح باب من الأخذ والرد ربما عنّت منه سبيلٌ إلى التراضي وراحة الفؤاد.
ولا ريب أن قوله:
ولو أصابت لقالت وهي صادقةٌ
…
إن الرياضة لا تنصبك للشيب
مما كان يود لو قالته هي له بدليل قوله، في المطلع «أمست أمامة صمتًا ما تكلمنا» - وانس أهل خروبٍ وراكب الملهوز، فإن الكلام أكثر استقامة بهذا. ويكون «شيخكم» في قوله:
يأبى الذكاء ويأبى أن شيخكم
…
لن يُعطي الان عن ضربٍ وتأديب
إنما هو «شيختكم» وإنما هو «أمامة» ونموذج الملاحاة مما يسمح كما رأيت عند عبيد بتصغيرها وتكبيرها معًا. وهذا أشبه من أن تجعل الضرب والتأديب تمثيلاً.
وهذا مثل قول الأخرى:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه
…
أم الطعام ترى في ريشه زغبا
حتى إذا آض كالفحال شذبه
…
أباره ونفى عن متنه الكربا
أنشا يمزق أثوابي ويضربني
…
أبعد ستين عندي يبتغي الأدبا
وبعد هذه المقدمة النمامة جاز له أن يلتفت بقوله:
أما إذا حردت حردي فمجريةٌ
…
جرداء تمنع غيلاً غير مقروب
وإن يكن حادثٌ يُخشى فذو علقٍ
…
تظل تزبره من خشية الذيب
فاعترف بالهزيمة إذ جمته نفسها كما حمته أطفالها. وهو لا هي قد آض بمنزلة الطفل ذي العلق أمامها. والتشبيه مزدوج- فيه إشعاره بضعفه كما ترى، وفيه أيضًا إشعار بسطوتها إذ تبدو معرضة صامتة ولعلها كانت تبكي بدموع مسترسلات خافتات الجرس كدموع الطفل الصغير.
ثم رام الشاعر أن يخادعنا برجعة إلى النموذج بأن يذكر وجهًا ثالثًا غير أهل خروب وغير راكب الملهوز- فمهد لهذا الخداع بتذكيرنا أولاً بالذي كان بدأ به من ذكر أهل خروب:
فإن يكن أهلها حلوا على قضةٍ
…
فإن أهلي الألى حلو بملحوب
أي إن يكن لها قوم تعتز بها فإن لي قومًا أعتز بهم. وأضرب عن ذكر صاحب الملهوز لأنه لا معنى لذكره ههنا. وقد وهم «ليال» فحسب أن هذا البيت غير متصل بما بعده، لأن «لما» في قوله:
لما رأت إبلي قلت حلوبتها
…
وكل عام عليها عام تجنيب
ليس لها ما تتعلق به. ولما متعلقة بأول الكلام كما لا يخفى -أمست صمتًا لا تكلمنا لما رأت إبلي إلخ ....
وأخذ الشاعر يزعم أن امرأته إنما أنكرت ما آل إليه من الفقر بعد أن أتلف إبله في المكارم وتوالت على صرمتها الباقية سنوات الجدب بما يزهقه هو من عشراواتها.
وما هذا الخداع الذي يخادعنا به الشاعر إلا حكاية لما رامه إليها من خداع بعد أن ضاق ذرعًا بهجرها وجبروتها.
كأن راعينا يحدو بها حمرًا
…
بين الأبارق من مكران فاللوب
هذا في وصف الصرمة التي نقصتها حقوق الكرم واتقاء الذم بالقرى. ولكن
فيه أيضًا مذهبا من الكناية. إذ أن راعي الصرمة ليس أحدًا غيره، وما استلبه الذود بعد الذود حتى لم يبق لديه إلا قليلٌ، صرمة راعٍ لا تغلبه لقلتها، فأحرى أن يستلبه ما كان لديه من رعاة الأذواد من العبيد. على أن الرجل الترعية لا يعهد بابله إلى عبيده وإنما يكون الرجل حق ترعية في زمن الشباب وهو زمن الفحولة.
والراعي الذي يحدو الحمر إنما هو فحلها. والعرب كثيرًا ما تفزع إلى هذا النموذج في معرض الكناية عن الفحولة- فعل ذلك رؤية في قافيته وهو يجاري القدماء، فقابل بين الصائد الذي تقهره امرأته الشرسة والحمار الذي يتمرس بآتنه الثمان ويحدوها من مكان إلى مكان.
والإيماء ههنا أنه يقول لها هلمي إلى حاديك، يحدوك بين هذه الأبارق من شظف العيش، فإنك لن تجدي خيرًا منه حافظًا -قال مدلك بن نويرة وكان فارسًا كما كان الجميح فارسًا- (وهذا استشهد به ابن الأنباري في مستهل حديثه عن مطلع قصيدة الجميح وقد كان أعلم بما يستشهد به):
أرى خلتي أمست تتوق كأنما
…
ترى أهل دمخٍ أو ترى أهل يذبل
فأدنى حماريك ازجري إن أردتنا
…
فلا تذهبي في ريق لب مضلل
ثم إننا سنتجاوزها إلى المشرع العذب والمنهل الرفه:
فإن تقري بنا عينًا وتحتفضي
…
فينا وتنتظري كري وتغريبي
وترجم «ليال» (1) هنا «كرى وتغريبي» بمعنى الغارة وهو يجوز إلا أن الوجه أن يجعل الكر للأوبة- أي انتظري تقلبي في أرض الله الواسعة:
فاقني لعلك أن تحظى وتجلبي
…
في سحبلٍ من مسوك الضأن منجوب
(1) راجع ترجمته.
قالوا الضأن ههنا كناية عن الخصب قال الأصمعي: «إنما خص الضأن لأنهم إنما يهبون ويذبحون المعزى لضنهم بالضأن. فيقول فلعل الله أن يأتيك بخصب يقل فيه قدر الضأن حتى تذبح فتدبغ جلودها .. وسحبل: سقاء عظيم (1)» .
وهذان البيتان الأخيران هما ما صاداها به أو حكاية لما صاداها به وترضاها من القول حتى تلين وتريع إليه من صمتها الرهيب المهيب. ولا يعقل فيمن يقول هذا لزوجته أن تكون حقًا لقيت راكب ملهوز فأنساها إياه بمجرد مروره وكلمة ألقاها إليها.
ولا أحسب بعد إلا أن أمامة قد رضيت بعد هذا الذل الذي ذله لها شيخها- من لا يعطى الآن عن ضربٍ وتأديب!
ولا بأس ههنا أن نذكر أن فرق ما بين نموذجي عبيد ونموذج الجميح هو أن عبيد حمل كلامه كله محمل الهزل والفكاهة الساخرة، وجعل لنا من تغضب زوجته منظرًا يستضحكنا به ويتعرض فيه إلى شيء من هجو النساء- مط حاجبيها وفظاظتها على غير ما يتوقع المرء وعلى غير ما يعهد أو ينبغي أن يعهد من العقائل، بعد اللين الذي هو من صناعتهن وبضاعتهن، وإضمارها حسرة الجنس لأنه لا يؤاتي أمثالها أمثاله (2) - وماذا عليه من ذلك، أنه مكرمها ومستمتع بها إن أقامت، وأن أبت فلن تذهب نفسه عليها حسرات. ثم يصطنع عبيد مسرحية الرثاء لنفسه إذ يقول أنها تنكرت له من أجل بؤسه ومن أجل أن جميع الناس قد صاروا ألبًا عليه بعد الذي رأوا من انتكاس حالته حتى مواليه الأقربون- فهي معذورة وسبيلها إلى أن تزيد عليهم في هذا الباب أقرب. وكل ذلك منها يطربه مادامت في ملكه وهو يشدو به ويتغنى، كما تغنى من قبل، ولا زال يفعل، بتحطيم آمال امرئ القيس.
(1) المفضليات الكبير ص 29 س 12.
(2)
راجع قبله.
ويحسبنا هذا القدر ومنه تدرك إن شاء الله أن شتان ما بين الجميح وعبيد. وقد كان عبيد من الفحول غير مدافع وكان في قومه ذا جدل ولسان وخصومة وبيان. فمثل هذا القري منه لا يُستغرب، ولنا إليه معاد إن شاء الله.
هذا، وأحسب بعد أن مرادنا من المثال الثاني قد وضح وإن القارئ قد تبين فيه نعتًا صرفًا من نعت الأخلاق، وتجربة صادقة مما يجيء في باب المودة والجفاء بين الرجال والنساء. كما أحسبه لم يغب عنه أن اللوعة الجنسية في كلام الجميح لا تتجاوز بحال نداء ما بين الزوجين من حيث الرغبة إلى الألف والصفاء والموادعة إلى شيء من خالص عناصر الاشتهاء. ولعل هذا أن يقع عند القارئ الكريم موقعًا. من حيث أن فضائل الأخلاق نفسها غير منصوص على أسمائها ونعوتها نصًا كما عند الشنفري:
أميمة لا يخزى نثاها حليلها
…
إذا ذكر النسوان عفت وجلت
وما عن الشنفري ملابس ومخالط لمعاني الجنس التي هي شهوة، بل ذكر نعوت الأخلاق نفسها طريق إلى الإيحاء بهذه الشهوة فيه- وليس شيء من ذلك ههنا بحال. فتأمل.
والآن إلى المثال الثالث وهو قول المرقش الأصغر:
ألا يا اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما
…
ولا أبدًا ما دام وصلك دائمًا
وتأمل نفيه الصرم ههنا ودعوه دوام الوصل ثم نقضه هذا كله بما أقبل عليه من نعت الظعائن، ولا يكون ذلك إلا بينًا:
رمتك ابنة البكري عن فرع ضالةٍ
…
وهن بنا خوص يخلن نعائما
وقد نبهنا إلى ذكره النعائم ههنا وما فيه من إشعار بالبعد واقتحام الدو وزعم
«ليال» أن قوله «ابنة الكبرى» (1) ينفي ما زعمه الشراح من خبر ابنة المنذر، وهذا وهم منه.
تراءت لنا يوم الرحيل بواردٍ
…
وعذب الثنايا لم يكن متراكما
أما عذوبته فالحديث وهو يتأمل بريقه وأما كونه غير متراكم فنعت لتفلجه:
سقاه حبي المزن في متهللٍ
…
من الشمس رواه ربابًا سواجما
والصورة ههنا يوقف عندها -إذ تعرض لنا كل بهجة الخصومة- غيث رباب ساجم، تضاحكه الشمس فهي برقه، وتلقى عليه من شعاعها ما تلقى من الألوان. وإلى هنا نظر طرفة حيث قال في المعلقة:«سقته إياة الشمس إلخ» ولا ريب أن المرقش عني بهذه الصورة إشراقة الفم والرباب السواجم ثناياه وما حولهن من ألقٍ وإثمدٍ:
أرتك بذات الضال منها معاصما
…
وخذًّا أسيلاً كالوذيلة ناعما
أسيلا كالوذيلة أي ناضرا طلقا عليه لألاء. والوذيلة السبيكة من الفضة والمرآة. وهذا البيت في صفة الحديث كما ترى، إذ فيه حركة اليدين مع إسفار الوجه وإشراقه. ثم فيه بعد نظرة من الشاعر يدل عليها قوله «ناعما» - كأنه قد تأمل بشرة وجهها.
ثم بعد هذا التقريب، باعدها حتى أن تكون ظعينة، إذ لم يجعل بينه وبينها مسافة من بون السير ولكن دهرًا طويلاً من زمان المباعدة:
صحا قلبه عنها على أن ذكرة
…
إذا خطرت دارت به الأرض قائما
(1) الترجمة الإنجليزية.
وهذا يعود بنا كما ترى إلى المطلع حيث حياها وزعم أنه لا صرم له اليوم ولا أبدا وأن وصلها دائم- وإنما كل ذلك تذكر بلغ به من القوة أن نقل تجربة الماضي إلى الحاضر فعاشها الشاعر وغمرته وما دارت به الأرض قائمًا إلا لعلمه أنها ذكرى لا حقيقة وأن الحقيقة بين مر قاتم لا يلائمه هذا الاستحضار للماضي العذب اللذيذ.
ورجع الشاعر مرة أخرى إلى الظعائن- إلى الماضي، يتأمله ويلتذ به ثم يطأطئ رأسه وينكت الأرض أسى عيه، وتدور به الأرض وهو قائم، تقريعًا له على الذي فرط فيه:
تبصر خليلي هل ترى من ظعائن
…
خرجن سراعًا واقتعدن المفائما
وهذا يوضح ما زعمناه آنفًا في معرض الكلام عن معلقة زهير من معنى المقابلة بين حال انخراط الإبل وحال مقاعد الظعائن المفأمات.
تحملن من جو الوريعة بعدما
…
تعالى النهار واجتزعن الصرائما
ثم يقربهن لينظر إليهن على طريقة نعت الظعائن. وإنما يقرب ليترنم بذكرى مجالس من الماضي:
تحلين ياقوتًا وشذرًا وصيغةً
…
وجزعصا ظفاريًّا ودرًّا توائما
وهذا الترنم نموذجي السنخ كما ترى:
سلكن القرى والجزع تحدى جمالهم
…
ووركن قوًّا واجتزعن المخارما
وترجم ليال على رواية من روى «تخدى» وفضلها وليست بأفضل إذ في ذكر الحداة إشعار بأن الظعائن قد صير بهن إلى حال أخرى لا يذكرنه معها من الانصراف إلى سماع الحداة ومشاركة الجماعة الراحلة، من رجال ونساء، فيما هي آخذة فيه.
وقوله «ووركن قوًّا» ليس فيه ما في قول زهير:
وإن يك زهير قد يجوز أنه أخذ قوله «وركن» منه لأنه أقدم. ذلك بأن «وركن قوًّا» في كلام المرقش تشعرك بمجاوزتهن قوًّا. وأما زهير فقد جعل توركيهن في السوبان وجعلهن يعلون متنه وفي هذا من بطء الاصعاد ما فيه ثم وقف يتأملهن أو يتأمل صاحبته منهن كما قلنا حيث قال «عليهن دل الناعم المتنعم» .
وقول المرقش «واجتزعن المخارما» تأكيد لمعنى السرعة والبعد. إذ اجتزاع المخارم منبئ بتجاوز الجبال إلى السهل، ومن ثم إلى الماء «زرقا جمامة» وهنا يعود الشاعر إلى التقريب، من الدهر البعيد، ويرجع بنا مرة أخرى إلى معنى المطلع:
ألا حبذا وجه ترينا بياضه
…
ومنسدلات كالمثاني فواحما
ولك في المنسدلات النصب على المعية وهذا داخل في مدلول الترائي، أو الرفع وهذا تأمل لشعرها كما قد تأمل وجهها والرفع أحب إلى إذ التأمل أشبه بالذكرى. ثم ينفر المرقش من هذه المداناة إلى بعد سحيق: إلى ذكره تدور منها به الأرض قائمًا:
وإني لأستحيي فطيمة جائعًا
…
خميصًا وأستحيي فطيمة طاعما
ولا تسل لم يستحيي، فقد كفانا النقاد القدماء مئونة هذا بالذي ذكروه من أن المرقش كان يواد فاطمة بنة المنذر.
قال المفضل الضبي فيما روى ابن الأنباري عن أبي عكرمة (498):
«كان من حديث مرقش الأصغر واسمه ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك: وهو عم طرفة والأكبر عم أبيه. وكان الأصغر أشعرهما وأطولهما عمرا. وهو صاحب فاطمة بنت المنذر. وكانت لها جارية يقال لها بنت عجلان. وكان لها قصر بكاظمة. وكان لها حرس يجرون كل ليلة الثياب حول قصرها فلا يطؤه إلا بنت عجلان. وكانت بنت عجلان تأخذ كل عشية رجلاً من أهل الماء يبيت عندها. فقال عمرو بن جناب بن عوف بن مالك لمرقش (ونسبه بعضهم إلى حرملة بن سعد بن مالك، فأما
حماد فقال هو عمرو بن حرملة أخي مرقش الأكبر وعم هاذا الأصغر) فقال له عمرو بن جناب: أن ابنة عجلان تأخذ كل عشية رجلاص ممن يعجبها فيبيت عندها. وكان مرقش ترعية لا يفارق ابله. فأقام الماء. وترك ابله ظماء. وكان من أجمل الناس وجهًا وأحسنهم شعرًا. وكانت فاطمة بنت الملك تقعد فوق القصر تنظر إلى الناس. فجاء مرقش فبات عند ابنة عجلان، حتى إذا كان من الغد، تجردت عند مولاتها، فقالت: ما هذا بفخذيك. وإذا نكت كأنها التين. قالت: رجل بات معي الليلة. وقد كانت فاطمة قالت لها قبل ذلك، رأيت بالماء رجلاً جميلاً قد راح لم أره قبل ذلك. قالت، فإنه فتى قعد على ابله يرعاها. فلما رأت ما بفخذيها سألتها عنه فقالت هو عمل الفتى الجميل الذي أنكرت. قالت فاطمة: فإذا كان غد فأتيه بمجمر فمريه أن يجلس عليه. وأعطيه مسواكًا فإن استاك به أو رده فلا خير عنده. وإن قعد على المجمر أو رده فلا خير عنده. فأتته بالمجمر فقالت اجلس عليه. فأبى وقال أدنيه مني. فدخن لحيته وعرض جمته وأبى أن يقعد عليه. وأخذ السواك، فقطع رأسه واستاك به. فأتت بنت عجلان فاطمة فأخبرتها بما صنع. فازدادت به عجبًا. فقالت ائتيني به. فتعلقت به كما كانت تتعلق. وانصرف أصحابه. فقال القوم حين انصرفوا أخذت راعى إبل ثم أنها حملته على عنقها حتى أدخلته عليها. وكان الملك يأمر بقبتها فيشاف ما حولها. فإذا أصبحت غدوة جاءت القافة فينظرون هل يرون أثرًا. فنظروا فإذا هو أثر ابنة عجلان وهي مثقلة. فلبث بذلك حينًا يدخل إليها. وكان عمرو بن جناب بن عوف بن مالك يرى ما يفعل. فقال له: ألم تكن عاهدتني ألا تكتمني شيئًا ولا أكتمك (قال غير أبي عكرمة: ولا نتكاذب). فأخبر المرقش الخبر فقال لا أرضى عنك ولا أكلمك أبدًا حتى تدخلني إليها. وحلف له على ذلك. فانطلق المرقش إلى المكان الذي كان يواعدها فيه فقال: اقعد حتى تأتيك ابنة عجلان، وأخبره كيف يصنع. وكانا مشتبهين، غير أن عمرو بن جناب كان أشعر (أي أكثر شعر البدن). فتنحى مرقش. وأدخلت ابنة عجلان عمرا. فصنع ما أمره به مرقش. فلما أراد
مباشرتها وجدت مس شعر فخذيه فأنكرته. فإذاهو يرعد. فدفعت في صدره. ثم قالت: قبح الله سرًا عند المعيدي. ودعت ابنة عجلان فذهبت به، وانطلق إلى موضع صاحبه. ولم يلبث إلا قليلاً. فلما رآه قد أسرع الكرة، عرف أنه قد افتضح. فعض على إصبعه فقطعها. ثم ذهب إلى أهله وترك الماء الذي كان يرعى فيه حياء مما صنع. وقال في ذلك: ألا يا سلمى وإلخ».
وإنما سقنا لك القصة كلها لأنها نص في الذي ذكرناه لك من قبل من أن الظعائن مذهب قولي نموذجي لا يدل على رحلة النساء ضربة لازم، إذ المرتحل ههنا المرقش وإنما كانت صاحبته مقيمة في قصر محروس.
والقصة خرافية فيها بطلولات الخرافية. ابنة عجلان التي تحمل رجلاً على كتفها بل رجلاً بعد رجل. والقائف الذي يرى الأثر فيعلم أنه مثقل. والشاب البدوي الجميل النظيف بأدب الفطرة حتى لقد فطن إلى ما امتحن به من مجمر وسواك. والأميرة المحجوبة من وراء القصور، والحراس، وهي مع ذلك تتطلع فترى وتحتال فتنال وتتخير فيما تحتال إليه. والصاحب الشبيه الذي لم تفطن لشبهه حتى ابنة عجلان وهو صديق وهو أيضًا حاسد، وفيه عيب دخيل كنايته شعر بدنه.
وجوهر القصة أن للمرقش خبرًا مع كريمة ذات شأن وصديق ذي عقارب. ولعل هذه الكريمة قد كانت من بغايا الأشراف وكانت ابنة عجلان لها رائزة. وعنصر الخصوبة في القصة لا يخفى. ولا يستبعد أنها كانت فاطمة بنت المنذر نفسه، فقد أبنوا المتجردة زوجة النعمان بأنها كانت لها صلة لقاء بالمنخل اليشكرى.
وقد استبعد «ليال» (1) صحة هذه القصة محتجًا بأن التي يذكرها المرقش «ابنة البكري» وبكر قبيلته لا قبيلة ابنة المنذر. وليس هذا بشيء -فبكر قبيلة واسعة،
(1) الترجمة الإنجليزية.
وإن يكن أمر المرقش مع ابنة المنذر قد ألم الناس منه بطرف، فل أبلغ من أن يجعل المرقش كنايته بامرأة من قبيلته الواسعة، ويكون في قوله البكري، كأنه ينسبها إلى الشرف والسناء والصون.
وأنكر «ليال» أيضًا أن تكون ابنة عجلان جارية لأنها عربية. وأحسبه غاب عنه أن الجواري والأرقاء كل أولئك مما كانوا يكونون من نفس العرب- شواهد ذلك السباء مثلاً.
وبعد فما يقوله المرقش بعد هذا ظاهر منكشف الأمر. ولا ريب أنه جاء فاحشة آبدة لا تغفر، بالذي أذاله من سر خليلته إلى صاحبه عمرو بن جناب. وعسى المرقش أن يكون -أيام وصاله- لم يفطن إلى حقيقة ما كان هو فيه من نعمة، ولم يكن يرى هذه التي أنالته إلا بعين من يرى البغي، من أنها ليست بذات سر جد نفيس فيصان. ولكن لما انتبه إلى شناعة ما قد فعل، ولعله رام عودة إليها فصد وابتذل، أشرق عليه بفجاءة أنه يحبها- ومن هنا مبدأ المأساة. وهذا تأويل قوله:
ألا يا اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما
…
ولا أبدًا ما دام وصلك دائمًا
ولا سبيل له -بعد أن أدرك أنه يحبها- أن يعود إليها، لما يكبره حبه في عينه من حقيقة جرمه الذي ارتكب أي تكبير، ولما يغمره الحياء المنكسر والشعور بالخزي إزاء هذا الجرم أي غمر. وهو يأكل ويشرب لأنه في الأحياء. وقد بلغ أن يرى أنه ليس أهلاً لأن يكون في الأحياء لولا هذا الذي يستشعره من حبها وذكرى وصلها الدائم في نفسه والأمل الخرافي المنزع من وراء اليأس ومع تيقن اليأس. وهو من أجل هذا كله يستحيي فطيمة إذ هو جائع إذ حقه الموت ويستحييها إذ هو طاعم إذ في ذلك من بلادة الحس وعدم المبالاة بما صنع ألا يضرب له من الطعام ومن كل شيء يراد.
وإني لأستحييك والخرق بيننا
…
مخافة أن تلقى أخًا لي صارما
أي مجرد التفكر في أنك قد تلقين امرأ تذكرينني له فيقع في إذ لا وجد له غير أن يقع في، مما يخزيني. وقد يعلم المرقش أنها ستلقي امرأ بعد امرئ. لما كانت بحكم شرفها وسموقها ستستمر فيه من إرسال ابنة عجلان لتروز واحتيالها ليصل إليها من بعد ذلك من تختار- وهذا نفسه قد كان يحز في نفسه.
ثم أن في البيت بعد إشارة إلى ما كان من أمر عمرو بن جناب. أي أني ليحزيني أني صنعت ما صنعت، ولا أقدر أن أفكر أو أقوى على أن أستحضر ساعة رأيت أنني قد أرشدت إليك سواي وقد خنت ما عهدته إلى، وقد انحططت إلى درك استرخاصك بما رخصت معه نفسي الغالية. وسماه صارمًا للذي كان من إلحاحه الذي إنما كان ضربًا من العداوة والحسد.
وإني وإن كلَّت قلوصي لراجمٌ
…
بها وبنفسي يا فطيم المراجما
هذا هو الوجه. إذ لا يكون مع ما كان إلا الفرار المخروط لا يلوي على شيء لو قد يستطاع الفرار. وكيف يستطاع مع هذه الذكرى الملاحقة: هذه الذكرى المشوبة من الخزي والندم والألم وفائت اللذة والنعمة والشوق والشكران المستسر على نيل ما قد نيل:
ألا يا أسلمي بالكوكب الطلق فاطما
…
وإن لم يكن صرف النوى متلائما
واستشعار الشكر يحيى الأمل على أن لا أمل:
ألا يا اسلمي ثم اعلمي أن حاجتي
…
إليك فردي من نوالك فاطما
ولا سبيل إلى رد النوال الذي فات. ولكنه في أمل يأسه يشتط به ولع الإلحاح، حتى ليكاد يغفر لنفسه زلتها، ويمحوها كل المحو من أن تكون قد حدثت، ثم يقبل على فاطمة كمن قد كفر وتطهر وخلق نقيًا بريء النفس من جديد:
أفاطم لو أن النساء ببلدةٍ
…
وأنتِ بأخرى لاتبعتك هائما
وهذا صدق ولكنها ستعرض عنه وتحمله على المبالغة الباردة بعد الذي كان.
وهنا يحتج أشد الاحتجاج على هذا الإعراض منها حتى ليوشك أن يدنو من البغض لها:
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله
…
ويعبد عليه لا محالة ظالما
ويعبد أي يغضب وبه فسر بعضهم قوله تعالى {فَأنَا أَوَل العَابِدِين} وهو ليس بقوى في التفسير، والراجح أن العبد فيه إشعار بما يكون من غضب العبيد لا العباد أنبياء الله الطاهرين، إذ العبد فيه معنى الأنفة وفيه معنى الإحنة، وأشبه شيء أن يكون أصله من غضب العبد أنفةً لنفسه وخنزوانةً مما يصيبه بعضه من سيده.
أي إذ قد صح الود فإن الصرم ظلم. وأن الأنفة لا تكون من الخليل إلى الخليل، وذلك إن شاءه مثلك، وأنت مما يشاء ولا يستكره، فهو أظلم أي ظلم.
ويحتمل البيت أيضًا معنى التعريض المر بما كان من عمرو بن جناب، هذا الذي ظنه هو ذا ودٍ، وإذا به يشاء أن يصنع ما يكون معه الصرم، وإذا به يحلف ويأنف كأنفة العبيد حسدًا منه لينال جانبًا مما كان يتاح له هو فينال.
والوجهان معًا يحتملهما البيت، يكون أحدهما جوهر معناه والآخر ظلاً له. ومما يدلك على التعريض بما صنع عمرو قوله بعد:
وآلى جنابٌ حلفةً فأطعته
…
فنفسك ولٍّ اللوم إن كنت لائما
قال هذا حين أدرك أن هذه الصلاة التي يصليها لفاطمة من رجاء واستعطاف واستجداء ليست بما يكون وراءه طائل. وأقبل على نفسه الآثمة يلحاها- هذه النفس الضعيفة التي خالت عمرًا ذا ودٍ فلانت له من أجل حلفة يحلفها، وماذا كان يضير المرقش إن لم يأبه لحلفه، وماذا كان يضيره لو صارمه فلم يعد بينهما إلا المعاداة الصارحة أخرى الليالي. لقد خار وانهار وجبن وخزى، فالملامة واقعة به هو دون كل
أحد. فليصبر لها. ومع الصبر، لو قد تستقيم سبيله، الحكمة:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره
…
ومن يغو لا يعدم على الغيِّ لائما
وكأنه بهذه الحكمة يريد أن يهوّن من شأن الجرم، بزعمه أن الذي فعله مما يفعله كثير أمثاله فلا يئولون إلى ما آله. وعسى أن يكون غيره وصل إلى فاطمة ثم دل آخر عليها- وهو بعد ناعم قرير عين لم تهجره. فلماذا يشقى هو دون سائر هؤلاء؟
ولا يخفى أن في هذا التهوين لونًا من الاعتذار لعمرو صديقه الذي حلف. وعسى أن يكون عمرو، عندما عاتبه هو، أجابه بمثل هذه المقالة، واحتقر «حساسيته» وهون لديه أمر فاطمة وابنة العجلان جميعًا.
ولكن الأمر أن فاطمة قد وضعته من قلبها موضعًا لم تضعه غيره، وقد كان يعلم هذا. ثم إنه قد كان يحبها وقد تحقق الآن حبها- وهذا يفرقه عن سائر الناس. فليس شأنه فقط أنه قد غوى «ومن يغو لا يعدم على الغي لائما». ولكن شأنه أنه قد جاء الإد الذي لا يغفر. قال:
ألم تر أن المرء يجذم كفه
…
ويجشم من لوم الصديق المجاشما
والندم وجذم الكف ولوم الصديق الذي حمل نفسه عليه حملاً وتجشمه بدافع الأسف تجشمًا، وما كان بعد ذلك من معاداته وهجرانه مليًّا، كل ذلك مما قد ينزل بعض منزلة التكفير ولكنه من بعد ليس بذي جدوى ولا غناء.
أمن حلمٍ أصبحت تنكت واجما
…
وقد تعترى الأحلام من كان نائما
أجل. ولكنه ليس بنائم. وهنا يصح لنا أن نرجع إلى المطلع.
ألا يا اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما
…
ولا أبدًا مادام وصلك دائما
وبعد فلعلك أيها القارئ الكريم قد رأيت في هذا المثال الثالث ما نراه من