الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد صارت هذه أغنية يتغنى بها عندنا في السودان حينًا من الدهر من أغاني الدفوف في عاميتنا قولهم:
حمام السنده
…
أنا يا هي (1)
سكنوه البرنده
…
أنا يا هي
والرقص التقليدي في أعراس السودان تُقلد فيه الفتيات مذهب الحمامة من الزيفان بالصدر والقطف في الخطأ. وقد تقول المغنيات للراقصة ما قدمت لك من قولهن «يا حمام السنده» وقد يقلن «عومي يا الوزين» أي يا إوزة ويا أخت الإوزين، والمراد صفة الحركة الرشيقة. ورقص الفتيان عندنا يحاكون به بخترية الصقور ووثبها وفحولتها ويسمى «الصقرية» نسبة إلى الصقر، وقد يستعينون فيه بالتلاعب بالعصى والسيوف. وعلاقة ما بين الحمامة والصقر من قديم ما غرى به الشعر العربي في الجاهلية والإسلام وهي علاقة ما يخشى أن يُصاد بما يخشاه أن يصيده.
هذا وقد بدا لي بعد طويل النظر أن سائر أصناف رموز الحمامة مردها إلى ثلاثة أصول: أولها،
الأصل النوحي
، وثانيها، اليمامي، وثالثها، الهديلي نسبة إلى سيدنا نوح وزرقاء اليمامة والهديل.
الأصل النوحي:
في التوراة أن سيدنا نوحًا أرسل الغراب، بعد أربعين يومًا من سير سفينته في الطوفان، لينظر هل انحسر الماء، فمضى ولم يعد ولعله أصاب جيفة فمكث عندها كما تزعم العرب. وإلى هذا المعنى أشار عروة بن حزام في نونيته المشهورة حيث قال:
ألا يا غُرابي دمنة الدار بينا
…
أبالبين من عفراء تنتحبان
فإن كان حقًا ما تقولان فاذهبا
…
بلحمي إلى وكريكما فكُلاني
(1) أنا يا هي، صيحة طرب وهي بإمالة ألف بعد الهاء وليست بضمير المؤنثة الغائبة.
كلاني أكلاً لم ير الناس مثله
…
ولا تقضما جنبي وازدر داني
أناسية عفراء ذكرى بعدما
…
تركت لها ذكرًا بكل مكان
وقد أوشك عروة أن يجعل من عفرائه في هذا البيت الأخير غرابًا لما وصفها به من إدمان النسيان، والغراب في قصة نوح كما ترى تشخيص للنسيان والبطء وقلة الغناء والدناءة وانقطاع الرجاء كما أن فيه معنى الموت والافتراس والغوائل. وقد تعلم أن الغراب قد صار علمًا للبين الذي لا رجعة معه، وتشاءم به الناس من الدهر القديم إلى زماننا هذا، وربطوا بينه وبين معاني الغربة والخراب أيما ربط. قال الجاحظ (1): «وليس في الأرض بارح ولا نطيح ولا قعيد ولا أعضب ولا شيء مما يتشاءمون به إلا والغراب عندهم أنكد منه، يرون صياحه أكثر إخبارًا، وأن الرجز به أعم، قال عنترة:
حرق الجناح كأن لحيى رأسه
…
جلمان بالأخبار هش مولع. أهـ»
هذا ولما استيأس سيدنا نوح من الغراب، دعا عليه بالخوف عقابًا له فهو لا يزال قلقًا حذرًا خائفًا أبد الأبيد. وقد ضرب الناس المثل في البطء بالغراب. وعندنا في السودان يزعمون له في ذلك أساطير، منها أن النساء أرسلنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ليجيئهن بإحلال أربعة من الرجال للمرأة، كما أربع نساء حلال للرجل، فيقال إن النساء يرقبن عودته إلى زماننا هذا ويقال إنهن كلما سمعن غرابًا ينعب إنما يقلن «إن شاء الله خير» رجاء أن يكون قد جاءهن بما يأملن من خبر السماء.
هذا، ثم إن سيدنا نوحًا أرسل الحمامة، فأمعنت في البحث عن مكان يابس، فلم تجد شيئًا، ووجدت الماء محيطًا بكل مكان، فعادت. ثم إن نوحًا عليه السلام لبث
(1) الجيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هرون الحلبي- مصر- 1938 - 2 - 316.
سبعة أيام بعد ذلك، ثم أرسلها مرة أخرى، فرجعت عند المساء وفي فمها غصن زيتون في رواية التوراة ومن كرم في رواية العرب. فسر سيدنا نوح من ذلك وتزعم العرب أنه كافأها على حسن قيامها بما عهد إليها به أو أنها جعلت عليه ذلك أن هي عادت بنبأ يسر. قال الجاحظ في الحيوان على لسان صاحب الحمام (1)«أما العرب والأعراب والشعراء فقد أطبقوا على أن الحمامة هي التي كانت دليل نوح ورائده، وهي التي استجعلت عليه الطوق الذي في عنقها، وعند ذلك أعطاها الله تعالى تلك الحلية، ومنحها تلك الزينة بدعاء نوح عليه السلام، حين رجعت إليه ومعها من الكرم ما معها، وفي رجليها من الطين والحمأة ما برجليها، فعوضت من ذلك الطين خضاب الرجلين، ومن حسن الدلالة والطاعة طوق العنق» .
وكما صار الغراب علمًا للشؤم في قصة نوح هذه، صارت الحمامة علمًا للمأوى والرجاء وانتظار الأوبة (2) والوداعة وحسن الخلق والزينة والبهجة، وخفة الحركة. ثم لا يخفى عنك ما في القصة من إشارة إلى خصوبتها وأنوثتها في الخضاب والطوق والغصن الذي هو دليل الريف والرفه والخصب. وما أحسب أمن الحمامة بمكة إلا قد نشأ من هذا المعنى، إذ الغراب، وهو المقرون بالحمامة في القصة النوحية على سبيل التفاوت والتباين، غير آمن بها أمن الحمامة، بل قتله مباح، ومن نعته أنه فويسق وذلك من أسماء إبليس كما ذكر الجاحظ.
هذا وقد أكترث الشعراء من ذكر الحمام وأمنه بمكة. قال الآخر (3).
لقد علم القبائل أن بيتي
…
تفرع في الذوائب والسنام
وأنا نحن أول من تبنى
…
بمكتها البيوت من الحمام
(1) نفسه 3 - 195.
(2)
وأصل هذا من تأليف أزواج الحمام كما مر بك في أول هذا الفصل.
(3)
نفسه 3 - 194.
و (من) ههنا بمعنى مكان وبدل في هذه الرواية، أي نحن سبقنا الحمام إلى اتخاذ البيوت بمكة.
وقال كثير عزة:
ونحن بحمد الله نتلو كتابه
…
حُلولاً بهذا الخيف خيف المحارم
بحيث الحمام آمنات سواكن
…
وتلقى العدو كالولي المُسالم
وفي قوله سواكن دلالة واضحة على معنى السكون والسكينة والوداعة واللطف.
وأحسب أن الرمزية اليسارية الحديثة في الحمامة وغصن الزيتون وهما يرمزان إلى السلام كما تعلم، راجعة في أصلها إلى هذا المعنى الذي قدمنا ذكره من أمن الحمام بالحرم، وإلى أصل هذا المعنى في قصة الحمامة كما روتها التوراة.
وكثير من بغاث اليسارية يحسبون أن رمزية الحمامة من اختراع لينين وماركس وستالين إلى آخر السكباج.
هذا، ولا أستبعد أن تكون قصة التوراة التي بأيدينا نفسها قد استمدت من أصل سامي قديم أقدم من التوراة. وعسى أن يكون العرب قد أخذوا قصتهم من ذلك الأصل السامي القديم، كما أخذتها التوراة. وفي اختلاف قصة العرب اختلافًا يسيرًا عن نص التوراة ما ينبئ شيئًا ما عن استقلال في الرواية.
هذا وغير غائب عنك بعد، ما في قصة سيدنا نوح نفسها من معاني النجاة والأمل والسلامة وتجديد النسل وزكائه ونمائه بعد البلايا والأهوال. فكون الحمامة قد كانت رائدًا له في هذه القصة، مما يدل على أنها ذات صلة قوية جدًا بسائر المعاني التي ترمز إليها القصة مما قد ذكرناه وما يجوز أن يتفرع منه.