الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي قائمة المخطوطات السريانية في المتحف البريطاني أسماء مخطوطات تاريخية ودينية أخرى ذات فائدة كبيرة في هذا الباب1. وفي مجموعة الكتابات اليونانية واللاتينية2 وفي المجموعات التي تبحث في أعمال القديسين وفي انتشار النصرانية، إشارات مهمة إلى بلاد العرب. وهناك كتاب نشره المستشرق "كارل مولر carl muller" لمؤلف مجهول اسمه "glaucus" يبحث في "آثار بلاد العرب"3.
وهناك طائفة من المؤرخين النصارى من روم وسريان عاشوا في أيام الدولة الأموية والدولة العباسية، ألفوا في التاريخ العام وفي تواريخ النصرانية إلى أيامهم، فتحدثوا لذلك عن العرب في الجاهلية وفي الإسلام. ومؤلفات هؤلاء مفيدة من ناحية ورود معارف فيها لا ترد في المؤلفات الإسلامية عن الجاهلية والإسلام، تفيد في سد الثغر في التاريخ الجاهلي وفي الوقوف على النصرانية بين العرب وعلى صلات الروم والفرس بالعرب.
وأكثر الموارد المذكورة هي، ويا للأسف، مخطوطة، مخطوطة، ليس من المتيسر الاستفادة منها، أو مطبوعة ولكنها نادة؛ لأنها طبعت منذ عشرات من السنين فصارت نسخها محدودة معدودة لا توجد إلا في عدد قليل من المكتبات. ثم إنها في اليونانية أو اللاتينية أو السريانية، أي في لغاتها الأصلية، ولهذا صعب على من لا يتقن هذه اللغات الاستفادة منها، ولهذه الأمور ولأمثالها، لم يستفد منها الراغبون في البحث في التاريخ الجاهلي حتى المستشرقون منهم استفادة واسعة، فحرمنا الوقوف علىأمور كثيرة من أخبار الجاهلية كان في الإمكان الوقوف عليها لو تيسرت لنا هذه الكنوز.
1 Wrigrht، W.، Catalogue of the Syriao Manuscripts in the British Museum، in 3 Vols، London، 1870-1872.
2 Corpus Inscriptlonum Lattnarum، Conailio et Auctoritate Acad&miae litterarum Regiae Porussicae، Berlin، 1862، (15 Vola) .
3 Glauciis، Archaelogla Arabics، by، Carl Muller، In Pragmenta Historicorum Graecorum، Vol.، 4، Paris،
الموارد العربية الإسلامية:
وأعني بها الموارد التي دوّنت في الإسلام وقد جمعت مادتها عن الجاهلية من
الأفواه، خلا ما يتعلق منها بأخبار صلات الفرس بالعرب وبأخبار آل نصر وآل غسان وبأخبار اليمن المتأخرة، فقد أخذت من موارد مرتبة يظهر أنها كانت مكتوبة كما سأتحدث عن ذلك.
والموارد المذكورة كثيرة، منها مصنفات في التاريخ، ومنها مصنفات في الأدب بنوعيه. من نثر ونظم، ومنها كتب في البلدان والرحلات والجغرافيا وفي موضوعات أخرى عديدة، هي وإن كانت في أمور لا تعد من صميم التاريخ، إلا أنها مورد من الموارد التي يجب الاستعانة بها في تدوين تاريخ الجاهلية؛ لأنها تتضمن مادة غزيرة تتعلق بتاريخ الجاهلية القريبة من الإسلام والمتصلة به، لا نجد لها ذكرًا في كتب التاريخ؛ فلا بد لمؤرخ الجاهلية من الأخذ منها لإتمام التاريخ.
الحق أننا أردنا البحث عن مورد يصور لنا أحوال الحياة الجاهلية، ويتحدث لنا عن تفكير أهل الحجاز عند ظهور الإسلام، فلا بد لنا من الرجوع إلى القرآن الكريم ولا بد من تقديمه على سائر المراجع الإسلامية، وهو فوقها بالطبع. ولا أريد أن أدخله فيها؛ لأنه كتاب مقدس، لم ينزل كتابًا في التاريخ أو اللغة أو ما شاكل ذلك، ولكنه نزل كتابًا عربيًا، لغته هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها أهل الحجاز، وقد خاطب قومًا نتحدث عنهم في هذا الكتاب؛ فوصف حالتهم وتفكيرهم وعقائدهم، ونصحهم وذكَّرهم بالأمم والشعوب العربية الخالية1، وطلب منهم ترك ما هم عليه، وتطرّق إلى ذكر تجاراتهم، وسياساتهم وغير ذلك. وقد مثّلهم أناس كانت لهم صلات بالعالم الخارجي، واطلاع على أحوال من كان حولهم. وفيه تفنيد لكثير من الآراء المغلوطة التي نجدها في المصادر العربية الإسلامية؛ فهو مرآة صافية للعصر الجاهلي، وهو كتاب صدق لا سبيل إلى الشك في صحة نصه.
وفي القرآن الكريم ذكر لبعض أصنام أهل الحجاز، وذكر لجدلهم مع الرسول
1 سورة هود سورة 11 آية 95، سورة الحج، سورة 22 آية42، سورة الشعراء، سورة 26 آية 141، سورة الحاقة، سورة 69 آية 4، سورة ق، سورة 50 آية 14، سورة الدخان، سورة 44 آية 37، سورة الفيل، سورة 105، آية 1، سورة البروج، سورة 85 آية 4.
في الإسلام وفي الحياة وفي المثل الجاهلية. وفيه تعرّض لنواحٍ من الحياة الاقتصادية والسياسية عندهم، وذكر تجارتهم مع العالم الخارجي، ووقوفهم على تيارات السياسة العالمية، وانقسام الدول إلى معسكرين، وفيه أمور أخرى تخص الجاهلية وردت فيه على قدر ما كان لها من علاقة بمعارضة قريش للقرآن والإسلام. وفي كل ما وردت فيه دليل على أن صورة الأخباريين التي رسموها للجاهلية، لم تكن صورة صحيحة متقنة، وأن ما زعموه من عزلة جزيرة العرب، وجهل العرب وهمجيتهم في الجاهلية الجهلاء، كان زعمًا لا يؤيده القرآن الكريم الذي خالف كثيرًا مما ذهبوا إليه.
والتفسير، مصدر آخر من المصادر المساعدة لمعرفة تأريخ العرب قبل الإسلام. وفي كتب التفسير ثروة تأريخية قيمة تفيد المؤرخ في تدوين هذا التأريخ، تشرح ما جاء مقتضبًا في كتاب الله، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت الإسلام، وتحكي ما سمعوه وما وعوه عن القبائل العربية البائدة التي ورد لها ذكر مقتضب في السور، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات.
ولكن كتب التفاسير -ويا للأسف- غير مفهرسة ولا مطبوعة طبعًا حديثًا، وهي في أجزاء ضخمة عديدة في الغالب، ولهذا صعب على الباحثين الرجوع إليها لاستخراج ما يُحتاج إليه من مادة عن التأريخ الجاهلي، حتى إن المستشرقين المعروفين بصبرهم وبجلدهم وبعدم مبالاتهم بالتعب، لم يأخذوا من معينها إلا قليلًا، مع أن فيها مادة غنية عن نواحٍ كثيرة من أمور الجاهلية المتصلة بالإسلام.
وكتب الحديث وشروحها، هي أيضًا مورد غني من الموارد التي لا بد منها لتدوين أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام؛ إذ نجد فيها أمورًا تتحدث عن نواحٍ عديدة من أحوال الجاهلية لا نجدها في مورد آخر. فلا مندوحة من الرجوع إليها والأخذ منها في تدوين تأريخ الجاهلية، ولكن أكثر من بحث في التأريخ الجاهلي لم يغرف من هذا المنهل الغزير، بسبب عدم انتباههم لأهميته في تدوين تأريخ عرب الحجاز عند ظهور الإسلام؛ فعلينا نحن اليوم واجب الأخذ منه، لنزيد علمنا بتأريخ هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام.
والشعر الجاهلي، مورد آخر من الموارد التي تساعدنا في الوقوف على تأريخ الجاهلية والاطلاع على أحوالها، وقديمًا قيل فيه إنه "ديوان العرب". "عن عكرمة. قال: ما سمعت ابن عبّاس فسّر آية من كتاب الله؛ عز وجل،
إلّا نزع فيها بيتًا من الشعر، وكان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله؛ فاطلبوه في الشعر؛ فإنه ديوان العرب، وبه حُفظت الأنساب، وعُرفت المآثر، ومنه تُعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله وغريب حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحديث صحابته والتابعين"1. "وعن ابن سيربن قال: قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"2. وقال الجمحيّ فيه، أي في الشعر الجاهلي: "وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم ومنتهى حكمهم، به يأخذون، وإليه يصيرون3".
وقد جُمع الشعر الجاهلي في الإسلام، جمعه رواة حاذقون، تخصصوا برواية شعر العرب. قال "محمد بن سلام الجمحي":"وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، حمّاد الرواية، وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار"4. واشتهر بجمعه أيضًا "أبو عمرو بن العلاء" المتوفى سنة "154" للهجرة5، وخلف بن حيّان أبو محرز الأحمر6، وأبو عبيدة، والأصمعي، والمفضَّل بن محمد الضبي الكوفي7 صاحب المفضليات، وهي ثمان وعشرون قصيدة، قد تزيد وقد تنقص وتتقدم القصائد وتتأخر بحسب الرواية8.
1 المزهر "2/ 470"، "وأخرج أبو بكر الأنباري في "كتاب الوقف" من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب"، المزهر "2/ 302"، التبريزي، شرح الحماسة "1/ 3".
2 الجمحي: طبقات الشعراء "ص10""طبعة لندن".
3 طبقات الشعراء "ص10".
4 طبقات الشعراء "ص14"، توفي حماد سنة 156 للهجرة، الفهرست "ص140".
5 البيان والتبيين "1/ 321"، المزهر "2/ 304"، الفهرس "ص48".
6 "وكان من أمرس الناس لبيت شعر، وكان شاعرًا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم.. وله من الكتب: كتاب العرب وما قيل فيها من الشعر"، الفهرست "ص80".
7 طبقات الشعراء "ص9"، الفهرست "ص108".
8 الفهرست "ص108".
وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني المتوفى سنة 206 للهجرة1، قيل: إنه جمع أشعار العرب؛ فكانت نيفا وثمانين قبيلة2. وأبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي، المتوفى سنة 231 للهجرة3، وأبو محمد جنّاد بن واصل الكوفي4، وخلّاد بن يزيد الباهلي5، وغيرهم ممن تفرغوا له، وصرفوا جلّ وقتهم في جمعه وحفظه وروايته.
"قال ابن عوف عن ابن سيرين. قال عمر بن الخطاب: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام، فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد، وغزوا فارس والروم، ولهيت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يألوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم أكثره"6. وورد عن "أبي عمرو بن العلاء" أنه قال: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم علم وشعر كثير"7. ولا جدال بين العلماء حتى اليوم في موضوع ذهاب أكثر الشعر الجاهلي، وفي أن الباقي الذي وصل إلينا مدونًا في الكتب، هو قليل من كثير. وقد عللوا سبب اندثار أكثره وذهابه بسبب عدم تدوين الجاهليين له، واكتفائهم بروايته حفظًا، فضاع بتقادم الزمان، وبموت الرواة، وبانطماس أثره من الذاكرة، وبانشغال الناس بأمور أخرى عن روايته؛ ولا سيما رواية القديم منه الذي لم يعد يؤثر في العواطف تأثير الجديد منه الذي قيل قبيل الإسلام.
نعم جاء في الأخبار أنه "قد كان عند النعمان بن المنذر منه ديوان فيه أشعار
1 "وأخذ عند دواوين أشعار القبائل كلها"، "قيل مات في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي سنة ثلاث عشرة ومائتين"، الفهرست "ص107 وما بعدها".
2 الفهرست "ص107".
3 الفهرست "ص108 وما بعدها".
4 "كان من أعلم الناس بأشعار العرب وأيامها" الفهرست "ص141".
5 الفهرست "ص162".
6 طبقات الشعراء "ص10".
7 المصدر نفسه.
الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان أو ما صار منه"1. وورد عن "حماد الرواية" أنه ذكر أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس؛ فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض. فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره، فأخرج تلك الأشعار2.
ووردت عنه أيضًا حكاية أهل مكة للمعلقات على الكعبة3. ووردت أخبار أخرى تدل على وجود تدوين للشعر عند الجاهليين؛ إلا أننا لا نجد حمادًا ولا غير حماد ينص على أنه نقل ما دوّنه من تلك الموارد المدونة أو من غيرها مما وجده مدوّنًا. وهذا ما حدا بالعلماء قديمًا وحديثًا إلى البحث في هذا الموضوع: موضوع الشعر الجاهلي من ناحية وجود تدوين له، أو عدم وجود تدوين له. وأثر ذلك على درجة ذلك الشعر من حيث الصحة والأصالة والصفاء والنقاء4.
وفي الشعر الجاهلي الواصل إلينا، شعر صحيح وشعر موضوع منحول حمل على الشعراء. وقد شخص أهل الفراسة بالشعر الصحيح منه ونصوا على أكثر الفاسد منه. ولم يقل أحد منهم أن الشعر الجاهلي موضوع كله فاسد لا أصل له. فدعوى مثل هذه، هي دعوى كبيرة لا يمكن أن يقولها أحد؛ إنما اختلفوا في درجة نسبة الصحيح إلى الفاسد، أو نسبة الفاسد إلى الصحيح.
"وكان ممن هجّن الشعر وأفسده وحمل كل غُثاء، محمد بن إسحاق مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف. وكان من علماء الناس بالسير فنقل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها، ويقول لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله،
1 طبقات الشعراء "ص10"، المزهر "2/ 474".
2 تاج العروس "2/ 70"، لسان العرب "2: 142" الخصائص لابن جني "1/ 392 وما بعدها".
3 المزهر "2/ 480"، ياقوت، إرشاد الأديب "4/ 140"
4 طه حسين، في الشعر الجاهلي، 1926، ثم في الأدب الجاهلي، مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، وتحت راية القرآن، محمد الخضري: محاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي محمد الخضر حسين: نقض كتاب في الشعر الجاهلي، محمد أحمد الغمراوي. النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، محمد أحمد الغمراوي. النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، محمد فريد وجدي: نقد كتاب الشعر الجاهلي، محمد لطفي جمعة: الشهاب الراصد.
ولم يكن ذلك له عذرًا؛ فكتب في السير من أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرًا قطّ، وأشعار النساء فضلًا عن أشعار الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود أفلا يرجع إلى نفسه: فيقول من حمل هذا الشعر، ومن أداه منذ ألوف من السنين، والله يقول:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} وقال في عاد: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} . 1
وآتهم "حمّاد الرواية" بالكذب وبوضع الشعر على ألسنة الشعراء، فقيل فيه:"وكان غير موثوق به. كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار"2. وقال "أبو جعفر النحاس" المتوفى سنة 328 للهجرة في أمر "المعلقات": "إن حمّادًا هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة"3، واتهم غيره ممن ذكرت من جهابذة حفظة الشعر الجاهلي بالوضع كذلك. وقد نصوا في كثير من الأحايين على ما وضعوه، وحملوه على الجاهليين. وذكروا أسباب ذلك بتفصيل4، كالذي فعله مصطفى صادق الرافعي في "تأريخ آداب العرب"5.
وبعد هذه الكلمة القصيرة في الشعر الجاهلي – الذي سأتحدث عنه بإطناب في الجزء الخاص باللغة- أقول: إن إليه يعود فضل بقاء كثير من الأخبار المتعلقة بالجاهلية، فلولاه لم نعرف من أمرها شيئًا. ولست مبالغًا إذا قلت إن كثيرا من الأخبار قد ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسباتها، وإن أخبارًا خلقت خلقًا؛ لأن واضع الشعر أو راويه اضطر إلى ذكر المناسبة التي قيل فيها، فعمد إلى الخلق والوضع. وهو من ثم صار سببًا في تخليد الأخبار6، لسهولة حفظه، ولاضطرار راويه إلى قص المناسبة التي قيل فيها.
وما قلته في أهمية الشعر الجاهلي بالقياس إلى عمل مؤرخ الجاهلية، ينطبق
1 طبقات الشعراء "ص4".
2 طبقات الشعراء "ص14".
3 المزهر "2/ 480".
4 طبقات الشعراء "ص15، 60، 61 وما بعدها، ومواضع عديدة أخرى"
5 راجع الصفحات 277 فما بعدها.
6 دائرة المعارف الإسلامية، مادة "تأريخ""ص484"، الترجمة العربية،
أيضًا على أهمية شعر الشعراء المخضرمين بالقياس إلى عمل هذا المؤرخ؛ فقد أسهم أكثر الشعراء المخضرمين في أحداث وقعت في الجاهلية، وكان منهم من جالس "آل نصر" و "آل غسان"، وبقية سادات العرب، فورد في شعرهم أخبارهم وأحوالهم وطباعهم وغير ذلك. كما نجد في شعرهم مادة عن الحياة العقلية والمادية في أيامهم. ثم إن حياتهم اتصلت بالإسلام؛ فلم يكن شعرهم وما قالوه ورووه بعيد عهد عن أهل الأخبار ورواة الشعر، وهو من ثم أقرب إلى المنطق والواقع من شعر الجاهليين لبعدهم عن الرواة بعض البعد.
ولم ينج هذا الشعر أيضًا من الوضع؛ فحمل على بعض الشعراء مثل "حسان ابن ثابت" بعض الشعر لأغراض، منها العصبية القبيلة، كما سأتحدث عن ذلك بعد. وفي الجملة إن المؤرخ الحاذق الناقد لن تفوته هذه الملاحظة حين رجوعه إلى هذا الشعر إلى ما ورد على ألسنة الشرّاح.
وتعرضت كتب السِيَر والمغازي لأخبار الجاهلية بقدر ما كان للجاهلية من صلة بتاريخ الرسول، كما تعرضت لها كتب الأدب وكتب الأنساب والمثالب والبيوتات ومجامع الأمثال والكتب التي ألّفت في أخبار المعمرين، وفي الأيام، وفي البلدان، وفي المعجمات والجغرافية والسياحات وغير ذلك، فورد في ثناياها أخبار قيّمة عن هذه الجاهلية المتصلة بالإسلام. وهي موارد عظيمة الأهمية لمؤرخ هذه الحقبة، كثيرة العدد، هيأها عدد كبير من العلماء لا يمكن استقصاؤهم في هذه المقدمة، ولا التحدث عن مؤلفاتهم، وهو حديث يحتاج إلى فصول.
على أنّا يجب أن نأخذ بعض هذه الموارد المذكورة بحذر جدّ شديد، ولا سيما كتب "الأخبار والمثالب والمناقب والمآثر والأنساب"، فإن مجال الوضع والصنعة بها واسع كبير، لما للعواطف القبيلية فيها من يد ودخل، وللحزبية والأغراض فيها من تأثير. وطالما نسمع أن فلانًا وضع كتابًا في مثالب القبيلة الفلانية أو في مدحها ترضية لرجال تلك القبيلة، أو لحصوله على مال منها. ومن هنا وجب الاحتراس كل الاحتراس من هذه الموارد، ووجوب نقد كل رواية فيها قبل الاعتماد عليها والأخذ بها كمورد صحيح دقيق.
وفي كتب الأدب ثروة تأريخية قيمة، مبثوثة في صفحاتها، لا نجد لها مثيلًا ولا مكانًا في كثير من الأحايين في كتب أهل التأريخ عن التأريخ الجاهلي، حتى إني لأستطيع أن أقول إن ما أورده رجال الأدب عنه هو أضعاف أضعاف ما