الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهجرات السامية:
تقول كل النظريات التي رأيناها عن أصل الوطن السامي، بهجرات الساميين من ذلك الوطن الأم إلى أوطان أخرى في أزمان مختلفة متباينة، وذلك لأسباب عديدة منها: ضيق أرض الوطن من تحمل عدد كبير من الناس، وتزاحم الناس على الرزق، مما دعاهم إلى التحاسد والتباغض والتفتيش عن وطن جديد، وظهور تغيّرات في طبيعة ذلك الإقليم، إلى عوامل أخرى.
وقد تصوّر القائلون أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، بلاد العرب كخزَّان هائل يفيض في حِقَب متعاقبة، تبلغ الحُقبة منها زهاء ألف عام، بما يزيد على طاقته من البشر إلى الخارج، يقذف بهم موجات أطلقوا عليها "الموجات السامية"1.
وفي علّل القائلون بنظرية أن جزيرة العرب هي مهد الجنس السامي، سبب هذه الهجرات بعدم استطاعة جزيرة العرب قبول عدد كبير من السكان يزيد على طاقتها، فلا يبقى أمامهم غير سلوك طريق الهجرات إلى الأماكن الخِصْبَة في الشمال. وقد كانت الطرق الساحلية من أهم المسالك التي أوصلت المهاجرين إلى أهدافهم.
وفي جملة أسباب ضيق جزيرة العرب عن استيعاب العدد الكبير من السكان تغيّر مستمر طرأ عليها، أدى إلى انحباس الأمطار عنها وشيوع الجفاف فيها مما أثّر على قشرتها وعلى أحيائها، فهلك من هلك وهاجر من هاجر من جزيرة العرب، وقد استمر هذا التغير آلافا من السنين حتى حوّل بلاد العرب أرضين غلبت عليها الطبيعة الصحراوية، وقلّت فيها الرطوبة، وغلب على أكثر بقاعها الجفاف2.
وقد رأى بعض العلماء أن جزيرة العرب كانت في عصر "البلايستوسين""pleistocene" خصبة جدًّا كثيرة المياه، تتساقط عليها الأمطار بغزارة في جميع فصول السنة، وذات غابات كبيرة وأشجار ضخمة، كالأشجار التي نجدها في الزمان
1 Montgomery، Arabia and the Bible، P.، 21. حتى ص13
2 Montgomery، Arabia and the Bible، PP.، 90، < The Problem of the Physical change in Arabia
الحاضر في الهند وإفريقية، وأن جوّها كان خيرًا من جوّ أوروبة في العصور الجليدية التي كانت تغطي الثلوج معظم تلك القارة، ثم أخذ الجوّ يتغير في العالم، فذابت الثلوج بالتدريج، وتغير جوّ بلاد العرب بالطبع، حدث هذا التغير في عصر ال"نيوليتك neolithic" أو في عصر ال "كالكوليتك""chalcolithic"، ولم يكن هذا التغير في مصلحة جزيرة العرب، لأنه صار يقلّل من الرطوبة ويزيد من الجفاف، ويحوّل رطوبة التربة إلى يبوسة فيُمِيت الزرع بالتدريج، ويهيج سطح القشرة فيحوّلها ورمالا وترابا ثم صحاري لا تصلح للإنبات ولا لحياة الأحياء1.
فاضطر سكان الجزيرة الذين كانوا من الصيادين إلى أن يكيفوا أنفسهم بحسب الوضع الجديد، فأخذ ناس منهم يهاجرون إلى مناطق أخرى ملائمة توائم حياتهم ومزاجهم، وأخذ ناس آخرون يعتمدون على الزرع وتدجين الحيوانات، وعلى الاكتفاء بصيد ما يرونه من حيوانات تحملت الجو الجديد متنقّلين من مكان إلى مكان حيث الكلأ والماء. وهكذا تعرض حياة الأجسام الحية من نبات وحيوان لتغيرات تدريجية مستمرة، فرضها عليها تغير الجو.
وقد أدى انحباس المطر وازدياد الجفاف ويبوسة الجو إلى انخفاض الرطوبة من سطح الأرض، وهبوط مستوى الماء بالتدريج عن قشرة الأرض، وظهور الأملاح في الآبار، وجفاف بعض الآبار، فأدى ذلك إلى ترك الناس هذه الأماكن، إذ صعب عليهم استغلالها بالزراعة، وإصلاحها بحفر آبار لا تساعد مياهها الملحة على نمو النبات، ومعيشة الحيوان. حدث ذلك حتى في العصور الإسلامية حيث نسمع شكاوى مريرة من هذه العوارض الطبيعية2.
1 BOASOR، Suppl.، No. 7-9، P، 41، "1950"، Discoveries، P. 82، A. Grohmann.، Arabien،
S. 5، B. Thomas، Anthropological Observations in South Arabia، Proceedings
of the Royal Anthropological Institute.
2 تجد أمثلة كثيرة وبحثا قيما في هذا الموضوع كتبه "موريتس B. Moritz"
في كتابه:
Arabien، Studien Zur PhysikaMschen und Historischen Geographie des Landes
وقد تحدث "فلبي" عن هبوط مستوى مياه بعض الآبار التي زارها عام 1917م في الخرج1، كما تحدث غيره من السياح عن حوادث مشابهة حدثت في تهامة والحجاز وأماكن أخرى2.
ويعزو علماء طبقات الأرض انخفاض مستوى سطح الماء في جزيرة العرب إلى عوامل أخرى، إضافة إلى الجفاف مثل هبوط درجات الضغط على قشرة الأرض. وقد رأى الخبير الأمريكي "تويجل""twitchell"، أن الماء قد انخفض زهاء سبع وعشرين قدمًا عن مستواه الذي كان عليه قبل ألفي عام3. ومن العلماء من يرى أن مستوى سطح الماء في البحر الأحمر وفي الخليج العربي قد انخفض كذلك، فذهب بعض علماء دراسة التوراة إلى أن مستوى سطح الماء في خليج السويس قد انخفض "25" قدمًا عما كان عليه في "أيام الخروج4- exodus". وذهبت جماعة منهم إلى أن هذا الهبوط لم يكن كبيرًا، وإنما بلغ زهاء ست أقدام أو أقل من ذلك في خلال ثلاثة آلاف سنة5. أما مستوى سطح الخليج العربي، فقد هبط على رأي بعضهم زهاء عشر أقدام أو خمس أقدام خلال ألفي عام، وإن ماء البحر قد تراجع في هذه المدة، ويستدلون على ذلك بوجود السباخ في الأحساء والقطيف، وهي، في رأيهم، من بقايا تأثر البحر في الأرض وربما ذهب إليه بعضهم من أن الربع الخالي، وقد عثر فيه على بقايا بحر واسع في السهل المنخفض الذي يقال له أبو بحر، كان متصلًا بالبحر العربي6. ومهما يكن من شيء، فإن هبوط مستوى سطح الماء مهما كان مقداره قد أثر في سطح الأرض.
وقد وجد السياح محارًا من النوع الذي يكون في المياه العذبة، وأدوات من الصوان ترجع إلى ما قبل التأريخ والعصور الحجرية، وبقايا عظام ترجع إلى هذه العصور في مناطق صحراوية، ويدل وجودها فيها على أنها كانت مأهولة، وأنها لم تهمل إلا لعوارض طبيعية قاهرة لم يكن من الممكن التغلب عليها، حولت
1 Philby، The Heart of Arabia، P.، 37، 38، BOASOR، SuppL، Nos، 7-9، P.، 41.
راجع كتاب "موريتس" المذكور Discoveries، P.، 83.
3 Twltchell، Saudi Arabia، P.، 44، 51.
4 BOASOR، Suppl.، Stud.، Nos، 7-9، P. 42.
5 المصدر نفسه
6 Philby، The Heart of Arabia، P.، 31، Dougherty، The Sealand، P.، 160.
تلك المناطق الخصبة في ألوف من السنين على مناطق لا تتوفر فيها شروط الحياة، فهُجِرت1.
كما أننا نجد في الكتب العربية ذكر أشجار ضخمة كانت تنمو في مناطق لا تُنْبِت شيئًا ما في الزمان الحاضر، وذكر مناطق كان تحمي، يقال لها "الحمى" وقد جفّ معظمها، وعاد أرضين قفرة جرداء، فهلاك هذه النباتات وجفاف هذه الأرضين، لا يمكن أن يعزى إلى سوء الأوضاع السياسية وهجرة القبائل والمزارعين إلى أماكن أخرى لفساد الإدارة في الأماكن البعيدة حسب، بل لا بد أن يكون للطبيعة يد في هذا التحوّل ونصيب. إن هذا التغيّر الذي حدث في جوّ جزيرة العرب، فساعد على ازدياد الجفاف وانحباس الأمطار، قد أباد النباتات، وقاوم نموّ المزروعات، وعفى على الأشجار الضخمة التي كانت تعيش من امتصاص جذورها العميقة للرطوبة من أعماق الأرض، كما أثّر في حياة الحيوان كالأسد الذي قلّ وجوده، وقد كان كثير الوجود، ويدل على كثرة وجوده هذه الأسماء الكثيرة التي وضعت له وحفظت في كتب اللغة2. وحمار الوحش وقد كان من الحيوانات التي يخرج الناس لصيدها في الحجاز وفي نجد، والنعامة3. والرّئْم أو بقر الوحش، والفهد، والنَّسر4.
ومن العلماء الذين نسبوا هجرة السامين من جزيرة العرب إلى خارجها، إلى عامل الجفاف والتغيّر الذي وقع في جوّ جزيرة العرب، العالم الإيطالي "كيتاني""l.caetani". لقد تصوّر "كيتاني" بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارتها مدة طويلة وكانت سببًا في رسم تلك الصورة البديعة في مَخِيلَة كتّاب التوراة عن "جنة عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر "كيتاني" في جزيرة العرب،
1 المراجع نفسها، مجلة سومر 1949، المجلد الخامس، 2/ 127 فما بعدها.
2 المخصص "8/ 59 فما بعدها" وقد اشتهرت بعض الأماكن بأسودها، مثل "عثر" قال الهمداني:"وإلى حارة عثر تنسب الأسود التي يقال لها أسود عثر، وأسود عتود وهي قرية من بواديها وقد ذكرها ابن مقبل"
جلوسا بها الشم اللجان كأنهم
أسود بثرج أو أسود بعتودا
Moritz، S. 35. ff. 40، Noeldeke، In ZDMG، 49، 713. F.
3 Moritz، S. 42، Wellhausen، Lieder der Hudhailiten، No. 175 176، Euting. I، 230
4 صفة ص202.
غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحاري ورمالًا، حتى اضطر أصحابها إلى الارتحال عنها إلى أماكن تتوافر فيها ضروريّات الحياة على الأقل فكانت الهجرات إلى العراق وبلاد الشام ومصر والمواطن السامية الأخرى. وكانت هذه الهجرات كما يقول قويّة وعنيفة بين سنة 2500 وسنة 1500 قبل الميلاد، فدخل الهكسوس أرض مصر، وهاجر العبرانيون إلى فلسطين، ثم ولي ذلك عدد من الهجرات1.
ويرى "كيتاني" أن هذا التغير الذي طرأ على جوّ جزيرة العرب؛ إنما ظهر قبل ميلاد المسيح بنحو عشرة آلاف سنة، غير أن أثره لم يبرز ولم يؤثر تأثيرا محسوسا ملموسا إلا قبل ميلاد المسيح بنحو خمسة آلاف سنة. وعندئذ صار سكّان بلاد العرب، وهم الساميون، ينزحون عنها أمواجًا، للبحث عن مواطن أخرى يتوفر فيها الخصب والخير، وحياة أفضل من هذه الحياة التي أخذت تضيق منذ هذا الزمن2.
وقد تصوّر "كيتاني" أودية جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهارًا كانت ذات مياه غزيرة تنساب إليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثّرت فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلّلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري فيها المياه إلا أحيانًا، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار3.
وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق الألماني "فرتز هومل" أيضا، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار إليها، هي وادي الدواسر، ووادي الرمة، ووادي السِّرحان، ووادي حَوْران4. وأما "كلاسر"، فذهب إلى أن نهري
1 المقتطف، جزء يوليو 1944، ص123 فما بعدها، الجزء الثاني من المجلد الخامس بعد المائة، مجلة سومر، الجزء الثاني، المجلد الخامس 1949، ص123 فما بعدها.
Caetani، Studi della Historia Orientale، Vol.، I، P.، 64، 185، 186، 188، i92. 277. Musil، Negd، P.، 311، 305، Caetani، Studi، Vol. 2، PP. 53، 65.
2 Montgomery، Arabia and the Bible، P.، 95.
3 Caetani، Studi، Vol.، I، P.، 64، 80، 243، Vol. 2، PP. 53- 65. Musil. Negd. P.، 305، Caetani، Annali DelTIalam، H، Part II، (1907) ، 831. ff.
4 Montgomery، Arabia، PP.، 9، F. Hommel، Opua Magnum Ethnologie und Geographie des Alten Orients، II.5.8. 547، 1926،
"جيحون"و "فيشون"، وهما من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة1، هما في جزيرة العرب2.
ويعتقد "كيتاني" أن الفيلة والحيوانات الضخمة التي يندر وجودها اليوم في بلاد العرب، كان موجودة فيها بكثرة، ولا سيما في أرض "مدين". وكان الصيّادون يخرجون لاصطيادها لأكل لحومها3. وقد جاء بأمثلة لتأييد رأيه من كتب "الكلاسيكيين"4.
وقد قسم "كيتاني" جزيرة العرب إلى قسمين: غربي وشرقي. أما القسم الغربي، فهو الذي على ساحل البحر الأحمر الشرقي، وفيه سلاسل جبلية ومرتفعات. وأما القسم الشرقي، فالأرضون التي تأخذ في الانحدار والميل. وهي عند السفوح الشرقية للجبال، وتمتد نحو الخليج. وقد كان سكان المناطق الغربية –في رأيه- في مستوى راقٍ من المدنية، وكان لهم سلطان كبير على المناطق الشرقية، وعلى سكانها الذين كان يغلب عليهم الفقر. وقد كان فعل الجفاف أشد وأسرع في الأرضين الشرقية منه في الأقسام الغربية، لذلك بدأت الهجرات من هذه المناطق قبل المناطق الغربية، وظهرت فيها البداوة بصورة أوضح من ظهورها في الأرضين التي على ساحل البحر الأحمر والمتصلة باليمن وبلاد الشام. ولما توسعت منطقة الجفاف وأخذت الرطوبة تقل في جو بلاد العرب الغربي، ظهرت أعراض الصحراوية في تلك الأرضين كذلك، واضطر السكان إلى الهجرة منها إلى مناطق أخرى5.
وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجًا بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التأريخ العربي6. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تأريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا
1 التكوين، الإصحاح الثاني، الآية 10 فما بعدها.
2 Glaaer، Sklzze، S.، 314، Montgomery، P.، 94.
3 Musil، Nega، P.، 308.
4 Strabo، Geography، XVI، 4، 18، Periplus، PP.، 177، (Mueller Ed.) ، Diodorus. Bibliotheca Historica، Hi، 43. f.
5 Musil، Neg-d، P.، 311، Caetani، Studi.، P.، 210.
6 Musil، Negd، P.، 304، Arnold، The Caliphate، (1924) ، PP. 23.
فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية" التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، وقد جرت في مناطق محدودة فلم تفخص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصًا علميًّا فنيًا، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التأريخية1.
يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحوّل الأرضين الخصبة صحاري، وإلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحوّل الطرق التجارية2. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل والرؤساء، وانشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه وأهله وماله. فخراب سدّ "مأرب" مثلًا لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثّر على السدّ كما تصوّر ذلك "كيتاني"3، بل يعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شئون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس؛ مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن السادس للميلاد4، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدّع السدّ بسبب ضغط الماء على جوانبه، هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف5.
1 MusU Negd، P.، 304.
2 MusU، Negd، PP.، 317.
3 MusU، Negd، P.، 309، Caetani، Studi.، 267، 296.
4 Corpus Inscriptionum Semiticarum، (1911) ، Part، 4، Vol.، 2، Nos. 384، 540، 641.
5 Musil، Negd، P.، 310، Corpus Inscript. Semit، NO. 540، II، 54-64.
ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعُمّرت قُرَى، وشُقَّت ترعٌ، وحُفِرَت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعدّ من الأرضين الصحراوية1، فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكوّن هذه الصحاري، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المُتفرّج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمالها خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وإن من الممكن إعادة قسم من الأرضين الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، وإقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون2.
ويرى "موسل" أيضًا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسألة لا يمكن البت فيه الآن لقلّة الدراسات العلمية3. كما أن ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مردّه إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجوّ الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مَرَدُّه في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله إياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عيّنها أولئك الكتّاب، ولكنها بقلّة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد وحيوانات أخرى في مواضع قلَّ فيها وجودها الآن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدّل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وأن اعتداء البشر على الحيوان شرٌّ من اعتداء الطبيعة عليه4.
ولا يوافق "موسل" على نظرية "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق
1 Musil، Negd، P.، 310.
2 MuaU، Negd، P.، 318.
3 Musil، Negd، P.، 305، Caetani، Stud!.، P.، 60، 87.ff.
4 Musil، Negd، P.، 309.
أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية"السّراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السّراة" إلى الخليج والبحر العربي1.
وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، ولهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سببًا لظهور الصحاري الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي2.
ويرى "موسل" أن هذا تقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية وجغرافية، ولا إلى آراء "الكلاسيكيين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم، وأنه مجرد رأي لا يمكن أن يكون حجة لإثبات مثل هذا الرأي3.
ولموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" وغيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تأريخي قوي. فليست لدينا حتى الآن براهين كافية تثبت -على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيين" مثلا من جزيرة العرب4. كما أن ما ادّعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قيل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فَلِمَ ظلّت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد؟ أزادت الرطوبة وتحسن الجو؟ أم أن القبائل الكبيرة كانت قد تجزَّأت إلى قبائل صغيرة، وعشائر وأفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محالّ صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة، ولا إلى مياه غزيرة؟ فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة. وهل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية اللتين كانتا قد سدّتا أبواب جزيرة العرب على أهلها، فلم تسمحا للقبائل بتخطِّي هذه الحدود؟ ويرى أن
1 Musil، Negd، P.، 311.
2 caetani، P.، 210، Musil، Negd، P.، 311.
3 Musil، Negd، P.، 311.
4 Musil، Negd، P.، 311
ما ادّعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملَا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب؛ حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيّده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهِلَة بالسكان، تمرّ بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتها بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايح" من أهل الهلال الخصيب، ولم يكونوا مهاجرين وَرَدُوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تَزَعّمه بعض الرويات1.
ويأخذ "موسل" على "كيتاني" تصديقه الرواية العربية عن هجرة القبائل ونظريتها في الأنساب، واعتدادها من جملة الأدلة التي تثبت نظرية الجفاف. ويرى أنها -مع التسليم بحصتها- تنطبق على الوضع الذي كان في القرن السابع للميلاد وفي الجاهلية القريبة من الإسلام، وأنها رواية تستند إلى خير مسوغ لا يصحّ إن يكون سندًا في إثبات الهجرات لما قبل الميلاد2.
ويمكن تفسير انتساب القبائل -على حد قول موسل- بصورة أخرى، هو أن العرب الجنوبيين كانوا قد هيمنوا في الجاهلية وقبل الإسلام بقرون على الطريق التجارية التي تصل الشام باليمن وعلى الطرق التجارية الأخرى، وكانت لهم حاميات فيها لحماية القوافل من غارات الأعراب، فلما ضعف أمر حكومات اليمن، استقلت هذه الحاميات، وكان كثيرًا من أفرادها قد تزاوجوا مع من كان يجاورهم من القبائل، واتّصلوا بهم. ولما كان لليمن مقام عظيم وشرفٌ بين القبائل، انتسب هؤلاء إلى اليمن، وصاروا يعدّون أنفسهم مهاجرين، يتصل نسبهم بنسب اليمن. ومن هنا نشأت، في رأي "موسل" أسطورة الأنساب! ثم جاء علماء الأنساب في "المدينة" و "الكوفة" فسجّلوها على أنها حقيقة واقعة، ومنهم انتقلت إلى كتب التأريخ، فتوسّعت وتضخمت في الإسلام3.
ويدّعي "موسل" أنه لو كانت هنالك هجرات حقًّا، لرأينا أثرها في لغة
1 Musil، Negd، p. 312، Kuseir 'Amra، PP. 131.
2 Caetani، PP. 268، Musil، Negd، P. 311.
3 Musil، Negd. P.، 312
القبائل النازحة إلى الشمال وفي عقيدتها الدينية وفي ثقافتها وفي أساطيرها وفي قصصها الشعبي، ولوجدنا في أقل الأحوال إشارةً في الكتابات العربية الجنوبية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. ولكننا لا نجد شيئًا من ذلك، وهذا ما يفنّد رأي القائلين بالهجرات، وبأن أصل كثير من القبائل التي كانت تقيم في شمال جزيرة العرب، ومن هؤلاء الغساسنة والمناذرة، هم من اليمن1.
ويعترض "موسل" أيضًا على دعوى "كيتاني"، وغيرها من المستشرقين؛ ممن زعموا أن الفتح الإسلامي هو آخر هجرة سامية قذفت بها جزيرة العرب إلى الخارج، وأنها كانت بسبب الجفاف والجوع، ويرى أن ما جاء في هذه الدعوى لا يتفق مع الحقيقة، وأن ما ذكره "كيتاني" عن عدد نفوس الحجاز مبالغ فيه، وأن الجيوش التي اشتركت في فتح العراق والشام وفلسطين لم تكن حجازية أو نجدية حسب، بل كانت فيها قبائل عراقية وشامية نصرانية، ساعدت أبناء جنسها العرب مع اختلافها مع المسلمين في الدين، وحاربت الروم والفرس، ولذلك فليست الفتوحات الإسلامية هجرة من جزيرة العرب إلى الخارج على نحو ما تصوّره "كيتاني" بدافع الفقر والجوع2.
والرأي عندي أن ما يسمّى بموضوع تغيّر الجوّ في جزيرة العرب وبالهجرات السامية والاستشهاد بآثار السكنى عند حافات الأودية وفي أماكن مهجورة نائية؛ لاتخاذ ذلك دليلًا على الوطن السامي وعلى هجرة الساميين، هو موضوع لم ينضج بعدُ، وهو لا يزال بعدُ يحتاج إلى دراسات علمية وإلى نتائج أبحاث علماء "الجيولوجيا" والعلوم الأخرى، ليقولوا كملتهم في هذا الموضوع. فعلى بحث هؤلاء يتوقّف الحكم في موضوع تطوّر الجوّ وتغيّر الإقليم. أما الحدس والتخمين، وأما الاعتماد على حوادث وعلى بحوث لغوية ومقابلات ومطابقات في أمور دينية وثقافية أخرى، فإنها لا تكفي في نظري للبتّ في قضايا يجب أن يكون فيها الحكم والكلمة للعلوم لا للحدس والتصور والتخمين. هذا هو رأيي الآن في هذا الموضوع، وفي كل الآراء الواردة عن مواطن الساميين.
فقد رأينا أن بعض تلك الآراء إنما قيلت لاعتقاد أصحابها بما ورد في التوراة،
1 Musil، Negd، P. 313.
2 Musil، Negd، P.، 313، Caetani، Studi.، P.، 307.
فجاءت بكل ما عندها من حجج وأدلة لإثبات رأيها هذا، ورأينا أن في بعض الأدلة متناقضات واستشهادات ضعيفة، ورأينا أن الاستشهاد باشتراك اللغات في الألفاظ لا يمكن أن يكون دليلًا قاطعًا على الأصل المشترك، ثم إننا لا نملك سجلًّا تاريخيًّا للنَّبات والحيوان ولظهور الألفاظ حتى نستشهد به في إثبات نظرية من النظريات، وكل ما لدينا من هذا النوع إنما هو مجرد رأي وحدس، والرأي لا يكون رأيًا علميًّا إلى بحجة قاطعة وبدليل علميٍّ دامغ وبحوث مختبرية وآثار تثبت ذلك للعِيَان، فمن حقي إذن أن ألتزم التريّث والانتظار وأستعجل العلماء المتخصصين في دراسة طبقات الأرض، لنرى نتائج بحوثهم لنستنير بها في إعطاء أحكام في هذه الآراء.
أما بعض الأمثلة التي استُشهد بها لإثبات تغير جو جزيرة العرب، فهي أمثلة لا يمكن أن تكون دليلًا للتغيّر، وإنما ترجع إلى عوامل أخرى مثل تغير طريق القوافل، وتغير اتجاهات السفن البحرية، وإلى الفتن والحروب وغارات القبائل المتوالية التي هي من شر الأوبئة التي فتكت بالمجتمع العربي، فسبّبت هرب الحضر من أماكن إقامتهم إلا أماكن أخرى، لعدم وجود قوّات نظامية وحكومة ترد اعتداءات الأعراب عليهم، ثم الحروب الأهلية التي وقعت في اليمن بين الحبش وأهل اليمن وأمثال ذلك مما وقع بين الفرس والعرب. أما في الإسلام، فقد كان للفتوحات دخل كبير في هجرة القبائل لنشر الإسلام وللاستمتاع بخيرات بقاع جديدة في العراق وفي بلاد الشام وفي أمكنة أخرى لا يوجد لها مثيل في جزيرة العرب، فتخربت لذلك بعض القرى والسدود القديمة التي كانت في الإسلام، وهي اليوم خراب. أضف إلى ذلك الحروب والفتن التي وقعت في اليمن وفي باقي العربية الجنوبية والعروض في أيام الأمويين والعباسيين وفي الأيام التي تلتهم فنشرت في تلك الديار الخراب، ثم إهمال الأمويين ومن جاء بعدهم من خلفاء وملوك وحكّام شأن جزيرة العرب، لفقرها وعدم وجود موارد غنيّة فيها، وانتقال أصحابها أصحاب الجاه والنفوذ إلى البلاد الغنية، فلم يبقَ من يدافع عنها ويتحدث بلسانها باعتبارها مهد العرب الأول ومهد الإسلام، فتقوى الخراب بذلك على العمار، وأخذ يبتلع ما يجده أمامه من مستوطنات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.
والدليل على ذلك، ورود أسماء مواضع عديدة في اليمامة وفي الحجاز وفي
نجد واليمن وفي كل أنحاء جزيرة العرب الأخرى في الموارد العربية الإسلامية، كانت مأهولة مزروعة في صدر الإسلام، خَرِبَت وهُجِرَت وصارت أثرًا، وقد ذهب عن أكثرها حتى الاسم. فلما كتب عنها الجغرافيون لم يجدوا من عمرانها شيئًا. بل نجد في كتب الجغرافيين أسماء مواضع نزلوا بها وأقاموا فيها، وكانت معمورة مسكونة. أما اليوم فلم يبقَ من أكثرها شيئًا، فهل نُرجع فعل هلاكها إلى الجفاف وتغير الجو وإلى اندثار الواحات والبحيرات والأنهار؟ إن الجغرافيين المذكورين لم يشيروا إلى وجود واحات وبحيرات وأنهار حتى نقول بفعل الجو فيها، بل هنالك عوامل أخرى عديدة اضطرت الناس إلى ترك مواطنهم تلك التي ذكرتها، وفي مقدمتها الفتن والغزو وتغير الطريق وعدم قيام حكومة قوية تحمي الأمن.
وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض يحتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي، وضعوا نظريتهم هذه قياسًا على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب، ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا نجد من ناحية أخرى أن التوراة تذكر أن الإسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والأخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة إسماعيل أي أنهم إسماعيليون، ويذكرون أنهم جاءوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدّهم رفع قواعد البيت الحرام. ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقوامًا من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وأن قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعلّه يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائما في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة تتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر
الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، وبمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تنتقل من مكان إلى مكان طلبا للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل، هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يَدْرُجُون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الإسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلقٌ اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمرّ السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم. فدمهم من هنا ليس بدم صافٍ نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخرًا مطلقًا بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب.
أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيّره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة1. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدّل تبدّلًا محسوسًا مؤثّرًا فيها منذ حوالي ألفي عام، ومنهم من عَزَا أسباب انخفاض مستوى الماء الأرضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعَزَا خراب القرى والمدن واندثار السّدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو2، ومع كل ذلك، فإن هذه الدراسات لم تنضج بعدُ، ودراسة أرض جزيرة العرب وجوّها لم تتم بصورة علمية مختبرية بعدُ، وأكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدث والتخمين، ولا يمكن بناء نظريات معقولة مقبولة على مثل هذا الآراء.
1 Discoveries، P. 82، E. Huntington، Palestine and its Transformation، Cambridge، 1911.
2 Discveries، P. 84.