الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريّث في البتّ في وطن الجنس السامي، حتى تتهيّأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، وبمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلًا علميًا مقنعًا في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هذا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وإن كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدّت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام يفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، وأنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض.
إن نظرية موطن الجنس السامي، هي في نظري جزء من مسألة كبرى معقدة، هي مسألة موطن الجنس البشري بكامله، هل هو موطن واحد في الأصل، أو جملة مواطن، وإذا كان ذلك الموطن موطنًا واحدًا، فأين كان؟ وكيف ظهرت هذه الأجناس البشرية بألونها المتعددة وبسِحَنها المختلفة؟ إن هذه بحوث، على البشرية أن تضني نفسها في البحث عنها! وكل بحوثنا الآن حدس وتخمين، حتى يترقّى العلم البشري إلى درجات فدرجات.
اللغة السامية الأم:
تدفعنا هذه النظريات التي قالها العلماء عن السامية وعن القرابة اللغوية التي نراها في مجموعة اللغات السامية، وعن اشتراكها في كثير من أسس النحو والصرف، إلى التفكير في أن جميع هذه اللغات تفرّعت من لغة واحدة هي أم اللغات السامية، "URSEMITICSCH"، كما يعبر عنها بالألمانية. ويدفعنا ذلك إلى البحث عن أقدم النصوص المدونة في اللغات السامية، وعن الخصائص الأساسية المشتركة بين كل هذه اللغات، للوقوف على اللغة السامية الأولى التي انقرضت، وبقيت آثارها في هذه الجذور التي غذت اللغات السامية القديمة منها والحديثة بالخصائص السامية، وعن أقرب الفروع التي انفصلت من الأم.
لقد بحث المستشرقون في هذا الموضوع ولا يزالون يبحثون فيه؛ فمنهم من وجد أن العبرانية أقدم اللغات السامية، وأقربها عهدًا بالأم، ومنهم من رأى أن العربية على حداثة عهدها جديرة بالدراسة والعناية، لأنها تحمل جرثومة السامية، ومنهم من رأى القِدَم للآشورية أو البابلية، وهناك من رأى غير
ذلك1. وبالجملة، لم يدّعِ أحد من العلماء أنه توصل إلى تشخيص لغة "سام"، وتمكن من معرفة اللغة التي تحدث بها مع أبيه "نوح" أو مع أبنائه الذين نسلوا هذه السلالات السامية.
وكان من جملة العوامل التي ألهبت نار الحماسة في نفوس علماء التوراة والساميات للبحث عن اللغة السامية الأولى أو أقرب لغة سامية إليها، القصص الوارد في التوراة عن سام وعن لغات البشر، وبابل ولغاتها والطوفان وما شاكل ذلك، ثم وجد المستشرقون المعاصرون أن البحث في هذا الموضوع ضربٌ من العبث، لأن هذه اللغات السامية الباقية حتى الآن هي محصول سلسلة من التطورات والتقلّبات لا تُحْصَى، مرّت بها حتى وصلت إلي مرحلتها الحاضرة، كما أنها حاصل لغات ولهجات منقرضة. واللغة السامية القديمة لم تكن إلا لغة محكية زالت من الوجود، دون أن تترك أثرًا. ومن الجائر أن يهتدي العلماء في المستقبل إلى لغات أخرى، كانت عقدًا بين اللغات السامية القديمة التي لا نعرف من أمرها شيئًا وبين اللغات السامية المعروفة. والأفضل أن ننصرف الآن إلى دراسة اللغات السامية والموازنة بينها؛ لنستخلص المشتركات والأصول. ومتى تتكون هذه الثروة اللغوية، يسهل البحث في اللغة السامية الأم، كما تستحسن الموازنة بين هذه اللغات واللغات التي ظهرت في القارة الإفريقية، مثل المصرية القديمة والبربرية والهررية وبقية اللهجات الحبشية، لتكوين فكرة علمية عن الصلات التي تربط بين الحاميين والساميين وكانت من جملة العوامل التي دفعت بعض العلماء إلى القول بأن أصل الجنسين واحد، كان يقيم في قارة إفريقية.
وبالجملة إن هناك جماعة من المستشرقين ترى أن اللغة العربية على حداثة عهدها بالنسبة إلى اللغات السامية الأخرى، هي أنسب اللغات السامية الباقية للدراسة وأكثرها ملاءمة للبحث، لأنها لغة لم تختلط كثيرا باللغات الأخرى، ولم تتصل باللغات الأعجمية قبل الإسلام، فبقيت في مواطنها المعزولة صافية، أو أصفى من غيرها في أقل الأحوال، ثم إنها حافظت على خواص السامية القديمة مثل المحافظة على الإعراب على حين فقدت هذه الخاصة المهمة أكثر تلك اللغات،
1 Carl Brocklemann، Vergleichende Grammatik Der semitischen spachen Berlin، 1908 Zimmern، Vergleichende Grammatik der Semitischen sprachen، 1898.