الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي
مدخل
…
الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي
اعتاد الناس أن يسموا تأريخ العرب قبل الإسلام "التأريخ الجاهلي"، أو "تأريخ الجاهلية"، وأن يذهبوا إلى أن العرب كانت تغلب عليهم البداوة، وأنهم كانوا قد تخلفوا عمن حولهم في الحضارة؛ فعاش أكثرهم عيشة قبائل رحّل، في جهل وغفلة، لم تكن لهم صلات بالعالم الخارجي، ولم يكن للعالم الخارجي اتصال بهم أميّون عبدة أصنام، ليس لهم تاريخ حافل، لذلك عرفت تلك الحقبة التي سبقت الإسلام عندهم ب"الجاهلية".
و"الجاهلية" اصطلاح مستحدث، ظهر بظهور الإسلام، وقد أطلق على حال قبل الإسلام تمييزًا وتفريقًا لها عن الحالة التي صار عليها العرب بظهور الرسالة، على النحو الذي يحدث عندنا وعند غيرنا من الأمم من إطلاق تسميات جديدة للعهود القائمة، والكيانات الموجودة بعد ظهور أحداث تزلزلها وتتمكن منها، وذلك لتمييزها وتفريقها عن العهود التي قد تسميها أيضًا بتسميات جديدة1. وفي التسميات التي تطلق على العهود السابقة، ما يدل ضمنا على شيء من الازدراء والاستهجان للأوضاع السابقة في غالب الأحيان.
وقد سبق للنصارى أن أطلقوا على العصور التي سبقت المسيح والنصرانية
1 "وفي كتاب لابن خالويه أن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة"، المزهر "176"، بلوغ الأرب "1/ 15".
"الجاهلية"، أي "أيام الجاهلية"، أو "زمان الجاهلية"، استهجانًا لأمر تلك الأيام، وازدراءً بجهل أصحابها لحالة الوثنية التي كانوا عليها، ولجاهلة الناس؛ إذ ذاك وارتكابهم الخطايا التي أبعدتهم، في نظر النصرانية، عن العلم، وعن ملكوت الله. "وقد أغضى الله عن أزمنة هذا الجهل فيبشر الآن جميع الناس في كل مكان إلى أن يتوبوا"1.
وقد وردت لفظة "الجاهلية"، في القرآن الكريم، وردت في السور المدنية"2. دون السور المكية؛ فدل ذلك على أن ظهورها كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة، وأن إطلاقها بهذا المعنى كان بعد الهجرة، وأن المسلمين استعملوها منذ هذا العهد فما بعده.
وقد فهم جمهور من الناس أن الجاهلية من الجهل الذي هو ضد العلم أو عدم اتباع العلم، ومن الجهل بالقراءة والكتابة، ولهذا ترجمت اللفظة في الإنكليزية بـ "the time of tgnorance"، وفي الألمانية ب3"zeit der unwissenheit" وفهمها آخرون أنها من الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله، وذهب آخرون إلى أنها من المفاخرة بالأنساب والتباهي بالأحساب والكبر والتجبر وغيرذلك من الخلال التي كانت من أبرز صفات الجاهليين4.
ويرى المستشرق "كولدتزهير" goldziher" أن المقصود الأول من الكلمة
1 أعمال الرسل، الإصحاح السابع عشر، الآية 30.
2 آل عمران، الآية 154، المائدة، الآية 50، الأحزاب، الآية 23، الفتح، الآية 26.
3 Ency، vol. I، p. 999، zwemer، Arabia the Cradle of Islam، p. 158.
4 لسان العرب "13/ 137، أساس البلاغة "1/ 145، صحاح الجوهري"2/ 169"، القاموس المحيط "3/ 253"، "الطبعة الرابعة"، ذيل أقرب الموارب"ص147"، شرح المعلقات السبع للزوزني "176"، شرح ديوان عنترة بن شداد، "ص126"، الأغاني "21/ 207"، بلوغ الارب "1/ 16"، فجر الإسلام "1/ 87".
لامية العرب، للشنفرى، "ولا يزدهي الأجهال حلمي"، 53 فجر الإسلام ص 86، "الطبعة الثالثة"، الأساطير العربية قبل الإسلام ص3، "وهذا يؤيد قول المستشرق كولدزهير الذي أثبت أن الجهل ضد الحلم، لا ضد العلم".
Ency، vol. P. 999، muh. Stu. I،s، 219. f. Nicholson، A literary، 1941 P. 30
"السفه" الذي هو الحلم، والأنفة والخفة والغضب وماإلى ذلك من معان، وهي أمور كانت جد واضحة في حياة الجاهليين، ويقابلها الإسلام، الذي هو مصطلح مستحدث أيضًا ظهر بظهور الإسلام، وعمادة الخضوع لله والانقياد له1 ونبذ التفاخر بالأحساب والأنساب والكبر وما إلى ذلك من صفات نهى عنها القرآن الكريم والحديث.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع منه2، منها آية سورة الفرقان:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 3، وآية سورة البقرة:{قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 4، وآية سورة الأعراف:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 5، وآية هود:{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 6. وفي كل هذه المواضع ما ينم على أخلاق الجاهلية. وقد ورد في الحديث: "إذا كان أحدكم صائمًا، فلا يرفث ولا يجهل" 7، وورد أيضًا:"إنك امرؤ فيك جاهلية" 8 وبهذا المعنى تقريبًا وردت الكلمة في قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق الجاهلينا9
أي: لا يسفه أحد علينا، فنسفه عليهم فوق سفههم، أي نجازيهم جزاء يربي عليه.
1 فجر الإسلام "ص87،
Ency، vol. I، p. 999، ،uh. Stud. Bd. I، s. 244 f.
2 راجع فهارس القرآن الكريم
3 سورة الفرقان، اية 63، تفسير الطبري "19/ 21""إنهم يمشون عليها بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم"، بلوغ الأرب" 1/ 16".
4 سورة البقرة، آية 67.
5 سورة الأعراف 7 آية 198، تفسير الطبري "9/ 104"، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، هامش تفسير الطبري" 9/ 105".
6 سورة هود11 آية 46.
7 بلوغ الأرب"1/ 16".
8 ذيل أقرب الموارد" 3/ 115"، فجر الإسلام "1/ 87"، بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها".
9 بلوغ الأرب "1/ 16"، محيط المحيط ص309، أساس البلاغة "1/ 145، فجر الإسلام "1/ 87"، شرح المعلقات السبع للزوزني 151.
واستعمال هذا اللفظ بهذا المعنى كثير1.
وجاء في سورة المائدة: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2 أي أحكام الملة الجاهلية وما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام والتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة3.
وأطلقوا على "الجاهلية الجهلاء"، والجهلاء صفة للأولى يراد بها التوكيد، وتعني "الجاهلية القديمة"4. وكانوا إذا عابوا شيئًا واستبشعوه، قالوا: "كان ذلك في الجاهلية الجهلاء".5 و"الجاهلية الجهلاء" هي الوثنية التي حاربها الإسلام. وقد أنب القرآن المشركين على حميتهم الوثنية؛ فقال: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 6.
والرأي عندي أن الجاهلية من السفه والحمق والأنفة والخفة والغضب وعدم الانقياد لحكم وشريعة وإرادة إلهية وما إلى ذلك من حالات انتقصها الإسلام؛ فهي في معنى "اذهب يا جاهل" نقولها في العراق لمن يتسفه ويتحمق وينطق بكلام لا يليق صدوره من رجل، فلا يبالي أدبًا ولا يراعي عرفًا، و "رجل جاهل" نطلقه على من لا يهتم بمجتمع ودين، ولا يتورع من النطق بأفحش الكلام. ولا يشترط بالطبع أن يكون ذلك الرجل جاهلًا أميا، أي ليس له علم، وليس بقارئ كاتب.
وقد اختلف المفسرون في المراد من الجاهلية الأولى في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} 7، فقيل: "الجاهلية الأولى التي
1 بلوغ الأرب "1/ 16".
2 سورة المائدة 5 آية 50 تفسير الخازن "1/ 516"، مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي، حاشية على الخازن "1/ 516".
3 محيط المحيط "309"، تفسير الخازن "1/ 516".
4 محيط المحيط 309، أساس البلاغة "1/ 145"، صحاح الجوهري "2/ 169"، أقرب الموارد ص "147""وقالوا الجاهلية الجهلاء فبالغوا". لسان العرب "13/ 137" شمس العلوم، "ج 1 ي2، ص 368"
5 أقرب الموارد 147.
6 سورة الفتح 48 آية 26. عن الجاهلية والجهل وما ورد بهذا المعنى في القرآن الكريم، راجع تفصيل آيات القرآن الحكيم، تأليف جون لابوم، نقله إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقي ص621.
7 سورة الأحزاب رقم 33، آية 33.
ولد فيها إبراهيم، والجاهلية الأخرى التي ولد فيها محمد"1. وقيل "الجاهلية الأولى بين عيسى ومحمد"2، وقد أدى اختلافهم في مفهوم هذه الآية إلى تصور وجود جاهليتين جاهلية قديمة، وجاهلية أخرى هي التي كانت عند ولادة الرسول3.
واختلف العلماء في تحديد مبدأ الجاهلية، أو العصر الجاهلي؛ فذهب بعضهم إلى أن الجاهلية كانت فيما بين نوح وإدريس4. وذهب آخرون إلى أنها كانت بين آدم ونوح، أو أنها بين موسى وعيسى، أو الفترة التي كانت ما بين عيسى ومحمد5. وأما منتهاها، فظهور الرسول ونزول الوحي عند الأكثرين، أو فتح مكة عند جماعة6. وذهب ابن خالوية إلى أن هذه اللفظة أطلقت في الإسلام على الزمن الذي كان قبل البعثة7.
والذي يفهم خاصة من كتب الحديث أن أصحاب الرسول كانوا يعنون بـ "الجاهلية" الزمان الذي عاشوا فيه قبل الإسلام، وقبل نزول الوحي؛ فكانوا يسألون الرسول عن أحكامها، وعن موقفهم منها بعد إسلامهم، وعن العهود التي قطعوها على أنفسهم في ذلك العهد، وقد أقر الرسول بعضها، ونهى عن بعض آخر8، وذلك يدل على أن هذا المعنى كان قد تخصص منذ ذلك الحين،
1 طبقات ابن سعد "8/ 143، 145".
2 بلوغ الأرب "1/ 17"، مفتاح كنوز السنة "تأليف فنستك" ص109.
3 "وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى، وقد أوقع لفظ الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام كما لا يخفى" بلوغ الأرب "1/ 18".
4 تأريخ الطبري "1/ 83"، الأساطير العربية قبل الإسلام ص2.
5 بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها"، "والفترة ما بين كل نبيين. وفي الصحاح: ما بين كل رسولين من رسل الله عز وجل من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة، وفي الحديث فترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام"، لسان العرب "13/ 137".
6 بلوغ الأرب "1/ 16 فما بعدها".
7 بلوغ الأرب "1/ 15"، المزهر 176 وفي "كتاب ليس" لابن خالويه: أن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة".
8 صحيح مسلم "1/ 79"، صحيح البخاري ك 24 ب24، ك34 ب100، ك49 ب12، ك78 ب16، ك88 ب1، ك 33 ب5، 15، ك 64، ب54، "قال صلى الله عليه وسلم: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، بلوغ الآرب "1/ 17"، مسند أحمد بن حنبل "2/ 11، 103، 187"، "3/ 425"، مفتاح كنوز السنة ص108.