المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه ‌ ‌مدخل … الفصل الثالث: إهمال التأريخ - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: تحديد لفظة العرب

- ‌الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌موارد التاريخ الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌ النقوش والكتابات:

- ‌تاريخ الكتابات:

- ‌ التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية:

- ‌ الكتب الكلاسيكية:

- ‌الموارد النصرانية:

- ‌الموارد العربية الإسلامية:

- ‌المؤرخون المسلمون:

- ‌الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه

- ‌مدخل

- ‌تدوين التأريخ الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: جزيرة العرب

- ‌مدخل

- ‌ الحِرار، أو الأرضون البركانية:

- ‌ الدهناء:

- ‌ النفود:

- ‌مصدر الصحاري:

- ‌الدارات:

- ‌الجبال:

- ‌الأنهار والأودية:

- ‌أقسام بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌العربية السعيدة:

- ‌العربية الصحراوية:

- ‌العربية الحجرية، العربية الصخرية:

- ‌التقسيم العربي

- ‌مدخل

- ‌تهامة:

- ‌اليمن:

- ‌العروض:

- ‌اليمامة:

- ‌نجد:

- ‌الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها

- ‌مدخل

- ‌الطرق البرية:

- ‌الفصل السادس: صلات العرب بالساميين

- ‌مدخل

- ‌وطن الساميين:

- ‌الهجرات السامية:

- ‌اللغة السامية الأم:

- ‌العقلية السامية:

- ‌الفصل السابع: طبيعة العقلية العربية

- ‌الفصل الثامن: طبقات العرب

- ‌مدخل

- ‌العرب البائدة:

- ‌هود:

- ‌لقمان:

- ‌ثمود:

- ‌طسم وجديس:

- ‌جديس:

- ‌أميم:

- ‌عبيل:

- ‌جرهم الأولى:

- ‌العمالقة:

- ‌حضورا:

- ‌هلاك العرب البائدة:

- ‌فهرس

الفصل: ‌ ‌الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه ‌ ‌مدخل … الفصل الثالث: إهمال التأريخ

‌الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه

‌مدخل

الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه

من الأمور التي تثير الأسف، تهاون المؤرخين في تدوين التأريخ الجاهلي، ولا سيما القسم القديم منه، الذي يبعد عن الإسلام قرنًا فأكثر، فإن هذا القسم منه ضعيف هزيل، لا يصح أن نسميه تأريخًا، بعيد في طبعه وفي مادته عن طبع التواريخ ومادتها.

لقد وفق المؤرخون العرب في كتابة تأريخ الإسلام توفيقًا كبيرًا، من حيث العناية بجمع الروايات والأخبار واستقصائها، وفي رغبتهم في التمحيص. أما التأريخ الجاهلي، فلم يظهروا مقدرة في تدوينه، بل قصروا فيه تقصيرًا ظاهرًا. فاقتصر علمهم فيه على الأمور القريبة من الإسلام، على أنهم حتى في هذه الحقبة لم يجيدوا فيها إجادة كافية، ولم يُظهروا فيها براعة ومهارة، ولم يطرقوا كل الأبواب أو الموضوعات التي تخص الجاهلية. فتركوا لنا فجوات وثُغرًا لم نتمكن من سدّها وردمها حتى الآن ولا سيما في تأريخ جزيرة العرب؛ حيث نجد فراغًا واسعًا، وهو أمر يدعو إلى التساؤل عن الأسباب التي دعت إلى حدوثه: هل كان الإسلام قد تعمّد طمس أخبار الجاهلية؟ أو أن العرب عند ظهور الإسلام لم تكن لديهم كتب مدوّنة في تأريخهم ولا علم بأحوال أسلافهم، وكانت الأسباب قد تقطعت بينهم وبين من تقدمهم؛ فلم يكن لديهم ما يقولونه عن ماضيهم غير هذا الذي وعوه فتحدثوا به إلى الإسلاميين، فوجد سبيله إلى الكتب؟ أو أن العرب لم يكونوا يميلون إلى تدوين تواريخهم؛ فلم يكونوا مثل

ص: 107

الروم أو الفرس يجمعون أخبارهم وأخبار من تقدم منهم وسلف؛ فلما كان الإسلام، وجاء زمن التدوين، لم يجد أهل الأخبار أمامهم شيئًا غير هذا الذي رووه وذكروه، وكان من بقايا ما ترسب في ذاكرة المعمرين من أخبار.

لقد عزا بعض الباحثين هذا التقصير إلى الإسلام، فزعم أن رغبة الإسلام كانت قد اتجهت إلى استئصال كل ما يمت إلى أيام الوثنية في الجزيرة العربية بصلة، مستدلًا بحديث:"الإسلام يهدم ما قبله"1؛ فدعا ذلك إلى تثبيط همم العلماء عن متابعة الدراسات المتصلة بالجاهلية، وإلى محو آثار كل شيء يتفرع عن النظام القديم، لم يميزوا بين ما يتعلق منه الوثنية والأنصاب والأصنام، وبين ما يتعلق بالحالة العامة كالثقافة والأدب والتأريخ، فعلوا ذلك كما فعل النصارى في أوروبة في أوائل القرن السادس للميلاد؛ فكان من نتائجه ذهاب أخبار الجاهلية، ونسيانها، وابتدأ التأريخ لدى المسلمين بعام الفيل2. ولهذا "كان المؤرخون أو الأخباريون، الذين يترتب عليهم تدوين أخبار الماضي وحفظ مفاخره، من الذين ينظر إليهم شزرًا في المجتمع الإسلامي، وخاصة في العهد الإسلامي الأول. أما مؤرخو العرب العظام، فلم ينبغوا إلا بعد تلك الفترة، وحتى هؤلاء فإنهم صرفوا عنايتهم إلى التأريخ الإسلامي، ولم يدققوا فيما يخص الجاهلية، وبالإضافة إلى ما سبق، أصبح لكلمة مؤرخ "أخباري" معنى سيِّئ بل أصبحت صفة تفيد نوعًا من الازدراء. وقد ألصقت هذه الصفة بابن الكلبي، كما ألصقت بكل عالم تجرأ على البحث في تأريخ العرب قبل عام الفيل؛ لكن لم يهاجم أحد من المؤرخين بعنف كما هوجم ابن الكلبي. والراجح أن السبب في ذلك هو انصرافه لدراسة الأشياء التي قرر الإسلام طمسها، أعني بذلك الديانات والطقوس الوثنية في بلاد العرب"3.

1 مجلة الأبحاث "ص189"، السنة ال3، الجزء ال2، حزيران 1950، الإكليل: مقدمة نبيه أمين فارس ص "ب"، دراسات عن المؤرخين العرب، تعريب الدكتور حسين نصار، تأليف "مارغليوث""ص53 وما بعدها".

2 مقدمة نبيه أمين فارس للجزء الثامن من الإكليل"ص ب"، قال:"وقد يكون للحديث المنسوب إلى النبي أثر في ذلك؛ فقد جاء في الحديث أن "الإسلام يهدم ما قبله"، ولا بد أن عنى النبي في قوله هذا الديانات الوثنية الشائعة في الجزيرة قبيل ظهوره من عبادة الأصنام والأنصاب وغيرها. أما اتباعه، قد فدفعتهم غيرتهم على تثبيت دعائم الدين الحنيف إلى عدم التمييز بين الغث والسمين، فكادوا يقضون على جميع معالم الثقافة والأدب

إلخ".

3 الأبحاث، الجزء المذكور "ص189".

ص: 108

ثم سبب آخر، هو أن الإسلام ثورة على مجتمع قائم ثابت، وعلى مثل تمسك بها أهل الجاهلية، وعلى قوم كانوا قد تسطلوا وتحكموا وتجبروا بحكم العرف والعادات، وككل ثورة تقع وكما يقع حتى الآن، وسم الإسلام الجاهلية، بكل منقصة ومثلبة، وحاول طمس كل أثر لها وكل ما كان فيها، حتى ظهرت تلك الأيام على الصورة التي انتهت إلينا عن "الجاهلية" وكأن الناس فيها جهلة لم يكن عندهم شيء من علم في هذه الحياة يومئذ، وكأن عهدهم في هذا العالم لم يبدأ إلا ببدء الإسلام.

وجاءوا بدليل آخر في إثبات أن الإسلام كان له دخل في طمس معالم تأريخ الجاهلية؛ إذ ذكروا أن الخليفة "عمر" سأل بعض الناس "أن يرووا بعض التجارب الجاهلية، أو ينشدوا بعض الأشعار الجاهلية؛ فكان جوابهم: لقد جب الله ذلك بالإسلام، فلِمَ الرجوع"1. فوجدوا في امتناعهم عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الجاهلية، دلالة على كره الإسلام لرواية تأريخ الجاهلية وانتهاء ذلك إلى طمس معالم ذلك التأريخ.

أما حديث "الإسلام يهدم ما قبله"؛ فهو حديث لا علاقة له البتة بتأريخ الجاهلية ولا بهدم الجاهلية، وقد استل من حديث طويل ورد في صحيح مسلم في "باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج"، وبعد "باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية"، وقد ورد جوابًا عن أسئلة الصحابة عن أعمال منافية للإسلام ارتكبوها في الجاهلية، هل يغفرها الله لهم، أو تكتب عليهم سيئات يحاسبون عليها؟ فقالوا:"يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ "2. وقد ورد في صحيح مسلم بعد هذا الباب باب آخر بهذا المعنى، هو "باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده".

ولإعطاء رأي صحيح عن هذا الحديث، أنقل إلى القارئ نصه كما جاء في صحيح مسلم قال: "حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت يبكي طويلًا، وحول

1 دراسات عن المؤرخين العرب "ص53". وقد اقتطعت نصّ هذا الدليل من الترجمة العربية لكتاب المستشرق "مرغليوث"، المسمّى: دراسات عن المؤرخين العرب، لعدم وجود النص الإنكليزي لدي، فأنا أرويه على مسئولية المعرب وإن كنت أرى أن في الترجمة وهما.

2 صحيح مسلم "1/ 77".

ص: 109

وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشّرك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مني، ولا أحب إليّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال لكنت من أهل النار؛ فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: أبسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي، قال مالك يا عمرو؟ قال: قلت أردت أن أشترط. قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له. ولو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري من حالي فيها، فإذا أنا متّ، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا عليّ التراب شنًّا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي1.

وبعد فأيّة علاقة إذن بين هذا الحديث وبين الحث على تهديم الجاهلية وإهمال التأريخ الجاهلي يا ترى؟

وأما اتخاذهم نهي بعض الصحابة عن رواية الشعر الجاهلي أو أخبار الأيام دليلًا على كره الإسلام لإحياء ذكرى الجاهلية ومحاولته طمس معالمها وتأريخها، وحكمهم من ثم عليه بمساهمته في طمس تأريخ الجاهلية وإطفائه له؛ فإنه دليل بارد ليس في محله، فإن الذين نهوا عن رواية الشعرالجاهلي أو رواية الأيام، أو امتنعوا هم أنفسهم عن روايتهما، لم ينهوا ولم يمتنعوا عن روايتهما مطلقًا، أي عن رواية جميع أنواع الشعر الجاهلي أو أخبار كل الأيام التي وقعت في الجاهلية، بل نهوا أو امتنعوا عن رواية بعض أبواب الشعر، وبعض أخبار تلك الأيام، لما كان يحدثه هذا النوع من الشعر أو يوقعه هذا الباب من رواية

1 صحيح مسلم "1/ 78".

ص: 110

الأخبار من شرّ في النفوس ومن فتن قد تجدد تلك العصبيات الخبيثة التي حاربها الإسلام، لتمزيقها الشمل، وتفريقها الصفوف. "ومن ثم نهى الفاروق، رضي الله عنه، الناس بديأ أن ينشدوا شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال: في ذلك شتم الحي بالميت، وتجديد الضغائن، وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام، ومرّ عمر بحسان يومًا، وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله، فأخذ بأُذنه، وقال: أرغاء كرغاء البعير؟ فقال حسان: دعنا عنك يا عمر؛ فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد مَنْ خير منك، فقال عمر: صدقت، وانطلق"1. ولم يأخذ عمر على حسّان رواية ذلك الشعر في مسجد رسول الله إلا لأنه كان من ذلك الشعر المثير للنفوس المهيج للعواطف، وإنشاده في نظره يعيد الناس إلى ما كانوا عليه من قتال قبل الإسلام. فللمصلحة العامة نهى بعض الصحابة عنه. ومع ذلك، تساهل عمر مع حسان، وتركه ينشد شعره، بعد أن حاجَّه حسان بما رأيت.

وهناك رواية أخرى تشرح لنا الأسباب التي حملت عمر على النهي عن رواية بعض الشعر الجاهلي، وهي أنه "قدم المدينة، في خلافة الفاروق، عبد الله بن الزبعرى وضرار بن الخطاب -وكانا شاعري قريش في الشرك- فنزلا على أبي أحمد بن جحش، وقالا له: نحبّ أن ترسل إلى حسان بن ثابت حتى يأتيك فتنشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا؛ فأرسل إليه، فجاءه. فقال له: يا أبا الوليد: هذان أخواك ابن الزبعرى وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالوا لك وقلت لهما. فقال ابن الزبعرى وضرار: نعم يا أبا الوليد، إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا. فقال حسان: أفتبدآن، أم أبدأ؟ قالا: نبدأ نحن، قال: ابتدئا. فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبًا، ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة، فخرج حسان حتى دخل على عمر، فقص عليه قصتهما وقصته. فقال له عمر: لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله، وأرسل من يردّهما، وقال له عمر: لو لم تدركهما إلا بمكة، فارددهما عليّ

فلما كان بالروحاء، قال ضرار لصاحبه:

1 شرح ديوان حسان بن ثابت الأنصاري، لعبد الرحمن البرقوقي، القاهرة 1929 "ص. س. م"

ص: 111

يا ابن الزبعرى، أنا أعرف عمر وذبّه عن الإسلام وأهله، وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به، وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا؛ فأرسل في آثارنا، وقال لرسوله: إن لم تلحقهما إلا بمكة، فارددهما عليّ.. فأربح بنا ترك العناء، وأقم بنا مكاننا، فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها. وإن أخطأ ظني؛ فذلك الذي نحب. فقال ابن الزبعري: نعم ما رأيت. فأقاما بالروحاء، فما كان إلا كمرّ الطائر حتى وافاهما رسول عمر، فردّهما إليه. فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله. فقال لحسان: أنشدهما مما قلت لهما فأنشدهما، حتى فرغ مما قال لهما، فوقف. فقال له عمر: أفرغت؟ قال: نعم. فقال له: أنشداك في الخلا، وأنشدتهما في الملأ.. وقال لهما عمر: إن شئتما فأقيما، وإن شئتما فانصرفا. وقال لمن حضره: إني كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا، دفاعًا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم؛ فأما إذ أبوا، فأكتبوه، واحتفظوا به. قال الراوي: فدونوا ذلك عندهم. قال: ولقد أدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاده.."1.

بل كان الرسول كما رأينا في خبر "حسان"، وكما ذكر في أخبار أخرى يجلس وأصحابه يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أشياء من أمور الجاهلية، وهو يسمع ويساهم معهم في الحديث، وينشدهم شيئًا مما حفظه2. ولم ينهَ عن رواية شعرٍ ما إلا ما كان فيه فحش، أو إساءة أو إثارة فتنة. أما ما شابه ذلك، لما كان يحدثه ذلك الشعر من أثر سيِّئ في النفوس. لقد تمثل بشعر "أميّة بن أبي الصّلت" مع أنه كان من خصومه اللدّ"، وسمع الناس ينشدون شعره، ولم يكره منه إلا ما كان منه في تحريض قريش بعد وقعة "بدر" على المسلمين ورثائه من قتل منهم3.

وقد كان "أبو بكر"، وهو الخليفة الأول، من خفظة الشعر الجاهلي

1 شرح ديوان حسان "ص. س. م".

2 ابن سعد، الطبقات "1/ 2 ص95 وما بعدها"، الأغاني "3/ 7، 117""4/ 129"، "8/ 243" الأمالي "1/ 241"، المرزباني "203"، الفائق للزمخشري "3/ 52"، ابن سعد، "5/ 376".

3 الأغاني "4/ 122 ما بعدها"، الفائق "1/ 664".

ص: 112

الرّاوين له، المتشهدين به1. وكان "عمر" من العالمين بذلك الشعر الحافظين له البصيرين به2. وكذلك كان شأن كثير من الصحابة. لم يذكر أحد أنهم تحرجوا من روايته وإنشاده، وأنهم تهيبوا منه؛ إلا ما ذكرته من إحجامهم عن رواية بعض منه، وهو قليل جدًّا، لأسباب ذكرتها، وقد رووه مع ذلك ودوّنوه.

لقد حرم الإسلام أشياء من الجاهلية وأقرّ أشياء أخرى نصّ عليها في الكتاب والسنة3، ولم يرد أنه حرم أقلام الجاهلية أو الشعر الجاهلي أو النثر الجاهلي أو أي أدب أو علم جاهلي، ولم يصل إلى علمنا أنه أمر بهدم المباني الجاهلية وطمس معالمها، حتى محجات الأصنام بقيت على حالها، خلا الأصنام والأوثان وما يتعلق بها من أمور مما كان من صميم الوثنية أو كانت له علاقة بإعادتها إلى الذهن مثل التصوير. ولم نسمع أنه أمر بإتلاف كتابات الجاهلية، أو أنه نهى عن قراءتها والاستفادة منها، أو أنه منع استعمال اللهجات الأخرى، التي كان يستعملها الجاهليون، أو أن علماء الإسلام منعوا رواية أخبار الجاهلية، بل الذي نسمعه ونراه أن "ابن عباس" كان يستشهد بالشعر الجاهلي في تفسير القرآن، وبقية الصحابة يروونه ويحفظونه، وأن خلفاء بني أمية كانوا يدفعون الهدايا والجوائز لمن يروي لهم الشعر الجاهلي، ونرى أنهم كانوا يقضون لياليهم برواية أخبار الجاهلية وحالتهم فيها، وما وقع لهم في تلك الأيام من نادر وطريف، وقد سجل ما بقي منه في الذهن في كتب الأخبار والأدب، يوم شرع الناس في التدوين.

وأما أنهم كانوا ينظرون إلى "الأخباري" نطرة سيئة، فيها شيء من ازدراء وعدم التقدير، فما كان ذلك لروايته أخبار الجاهلية واشتغاله بجمع تأريخها والتحدث عنها، وما كانوا يريدون بلفظة "أخباري" راوي أخبار الجاهلية وحدها في أي يوم من أيام التأريخ الإسلامي؛ وإنما كان ذلك لإغراب الأخباريين في رواية الأخبار ومبالغتهم فيها مبالغة تجافي العقل، وسردهم الإسرائيليات والنصرانيات والشعبيات وغير ذلك من القصص المدونة في الكتب، وكذب بعضهم كذبًا يخالف

1 ابن سعد "6/ 57"، أبو بكر الصولي، أدب الكتاب "ص190".

2 الأغاني "8/ 199"، خزانة الأدب: للبغدادي "2/ 292"، العقد الفريد "6/ 93" وما بعدها"، البيان والتبيين "1/ 239 وما بعدها"، الشعر والشعراء "1/ 93".

3 المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي "1/ 393".

ص: 113

أبسط قواعد المنطق، وما رُمي "ابن الكلبي" بالكذب أو نظر إليه نظرة ازدراء لكونه من رواة أخبار الجاهلية؛ بل وثق في هذه الناحية وأخذ عنه دون ردّ أو اعتراض، كما يتبين ذلك من اعتماد العلماء عليه في هذا الباب وإشارتهم إليه؛ وإنما ضعف في أمور أخرى هي أمور إسلامية لا علاقة لها بالجاهلية ولا صلة لها بها البتة، مدوّنة في كتب التفسير والحديث.

ولو كان الإسلام قد حثّ على طمس أخبار الجاهلية أو إطفاء ذكر الأصنام والأوثان، لما كان في وسع "ابن الكلبي" ولا غيره التحدث عنها والإشارة إليها، ولما أخذ العلماء عنه ورووا كتبه وتوارثوا كتاب "الأصنام"، بل القرآن نفسه حجّة في ردّ هذا الزعم؛ ففيه ذكر لرءوس أصنام العرب، وفيه مفصل حياة أهل الجاهلية ومثلهم ما كانوا يقومون به، ولو شرًّا وباطلًا، وروت كتب التفسير وكتب الحديث والسير والأخبار أوصاف بعض أصنام العرب وهيأتها وشكل محجاتها وأوقات الحج، كما ذكرت ما أقر الإسلام من أمور كانت قائمة في الجاهلية وما حرم منها، ولو كان الإسلام قد تعمد طمس الجاهلية والقضاء على معالمها؛ لتحرج القرآن وتحرج المسلمون من الإشارة إليها ومن إحياء أسمائها وبعثها في ذاكرة الناشئين في الإسلام.

وقد تحدث "ابن النديم" في كتابه "الفهرست"، في المقالة الثالثة التي خصصها "في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث"، عن "ابن الكلبي" وعن أبيه، كما تحدث عن غيره من مشاهير العلماء من أمثال "عوانة ابن الحكم" و "ابن إسحاق" صاحب السيرة، و "أبي مخنف" و "الواقدي" و "الهيثم بن عدي" و "أبي البختري" و "المدائني" و "محمد بن حبيب" وغيرهم ممن ألف في أمور وقعت قبل الإسلام في أمور وأحداث إسلامية محضة، وقد ضعف بعضهم، مع أنهم لم يؤلفوا في أمور تخص الجاهلية ولا في أحداث وقعت قبل عام الفيل أو قبل الإسلام، وأطلقت عليهم لفظة "أخباري" أو "وكان أخباريًّا"؛ مع أنهم لم يكتبوا إلا في أخبار قريبة من الإسلام أو في أحداث إسلامية بحتة، فلفظة "أخباري" إذن لم تكن قد عُلمت بالشخص الذي تخصص برواية أخبار الجاهلية الواقعة قبل عام الفيل فقط، بل قصد بها هؤلاء وكل من اشتغل برواية الأخبار مهما كانت صفتها وعادتها وطبيعتها، روى تاريخ ما قبل الفيل أو ما بعد الفيل إلى الإسلام، أو أخبار الإسلام.

ص: 114

والأخباري في عرف ذلك اليوم وقبل أن ينتشر التأليف وتتصنف المعارف، هو من يروي الأخبار، تمييزًا له عن الآخرين الذين اشتغلوا بالنسب؛ فعُرف أحدهم بـ "النسابة"، وقيل عن أحدهم "أحد النسابين" أو "وكان ناسبًا"1. أو بالتفسير أو برواية الشعر وما شاكل ذلك من معارف؛ فهو مؤرخ ذلك الزمن إذن، ولهذا نرى لفظة "أخبار" بمعنى تأريخ، ورد في "الفهرست" في أثناء الحديث عن عبيد بن شَرْيَة الجرهمي ومعاوية: فسأله "أي معاوية عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم"2، وورد عن "ابن دأب" وكان "عالمًا بأخبار العرب وأشعارها"3 وذكر عن "عوانة بن الحكم" أنه كان "راوية للأخبار عالمًا بالشعر والنسب"4. وورد عن "أبي اليقظان النسابة" أنه كان "عالمًا بالأخبار والأنساب والمآثر والمثالب"5. وورد مثل ذلك عن أشخاص آخرين هم في أوائل من اشتغل بالتأريخ عند المسلمين، يخرجنا ذكرهم هنا عن حدود هذا الموضوع6.

ويظهر من دراسة "الفهرست" لابن النديم والمؤلفات الأخرى أن العرب في صدر الإسلام لم يكونوا يطلقون لفظة "المؤرخ" على من يشتغل بالتأريخ؛ ذلك لأن التأريخ نفسه في ذلك العهد لم يكن قد تطور وبلغ الشكل الذي بلغه في أواخر أيام الأمويين وفي الدولة العباسية؛ بل كانوا يطلقون على المؤرخ "الأخباري" كما ذكرت، لاشتغاله بالأخبار كائنة ما كانت أخبار ما قبل الإسلام أو أخبار الإسلام، وكانوا يطلقون على الموضوع نفسه "الأخبار"؛ ولهذا نرى أن أكثرية المشتغلين بها، أطلقوا على كتبهم:"الأخبار المتقدمة" و"أخبار الماضين" و "أخبار النبي"و "أخبار العرب" و "كتّاب السير في الأخبار والأحداث" وأمثال ذلك، ولم يقولوا:"تأريخ المتقدمة" أو "تأريخ الماضين" أو "تأريخ العرب" أو "تأريخ الرسول"، ويستعملون لفظة "سيرة" و "السير" في سير الأشخاص، ولا سيما "سيرة الرسول". وأما لفظة "تأريخ"؛ فقد

1 الفهرست "ص128".

2 الفهرست "ص138".

3 الفهرست "ص139".

4 الفهرست "ص140".

5 الفهرست "ص144".

6 يراجع الباب المسمى "المقالة الثالثة": في أخبار الأخباريين والنسّابين وأصحاب الأحداث.. من كتاب الفهرست، لابن النديم "ص137".

ص: 115

استعملت في عنونة بعض الكتب المؤلفة في التأريخ؛ فقد كان ل "عوانة بن الحكم" المتوفى سنة "147هـ" كتاب اسمه "كتاب التأريخ" كما كان له كتاب اسمه "كتاب سيرة معاوية وبني أمية"1. وكان للهيثم بن عدي المتوفى سنة "207هـ" كتاب يدعى "كتاب تأريخ العجم وبني أمية" و "كتاب تأريخ الأشراف"، و "كتاب التأريخ على السنين"2، وكان للمدائني المتوفى سنة "225" للهجرة كتاب عنوانه: "تأريخ أعمار الخلفاء" وآخر اسمه "كتاب تأريخ الخلفاء" وثالث اسمه "أخبار الخلفاء الكبير"3، لا أستبعد أن يكون هو هذا الكتاب.

إلا أن هذا الإطلاق لم يكن واسعًا كثير الاستعمال، وفي استطاعتنا ذكر هذه الكتب وعدّها، وما دامت الحال على هذا المنوال؛ فليس من المعقول إطلاق لفظة "مؤرخ" و "المؤرخ" و "تأريخ" بصورة واسعة في هذا العهد، وفي جملة العهد الذي عاش فيه "ابن الكلبي"، ما دام العرف فيه إطلاق لفظة "أخبار" بمعنى "تأريخ"؛ وإنما طغت لفظة "تأريخ" و "مؤرخ" في الأيام التي تلت هذا العهد، ولا سيما أواخر القرن الثالث للهجرة فما بعده.

هذا من حيث استعمال لفظة "أخباري". وأما من حيث إهمال التأريخ الجاهلي وصلة الإسلام به؛ فقد ذكرت أنه لا علاقة للحديث المذكور بهدم الجاهلية أو بإهمال تأريخها؛ وإنما الإهمال هو إهمال قديم، يعود إلى زمان طويل قبل الإسلام، فعادة قلع المباني القديمة لاستخدام أنقاضها في مبانٍ جديدة، والاعتداء على الأطلال والآثار والقبور بحثا عن الذهب والأحجار الكريمة والأشياء النفيسة الأخرى، هي عادة قديمة جدًا، ربما رافقت الإنسان منذ يوم وجوده. وهي عادة لا تزال معروفة في كثير من بلدان الشرق الأوسط حتى اليوم، بالرغم من وجود قوانين تحرم هذا الاعتداء وتمنع هذا التطاول. وقد كان من نتائجها تلف كثير من الآثار، وذهاب معالمها، فصارت نسيًا منسيًّا. فتكبدت الآثار الجاهلية من أهل الجاهلية، أي في الأيام السابقة للإسلام مثل ما تكبدته وتتكبده الآثار الجاهلية والإسلامية معًا في أيام الإسلاميين حتى اليوم4.

1 الفهرست "ص140".

2 الفهرست "ص151 وما بعدها".

3 الفهرست "ص155".

4 راجع عن فتح القبور الجاهلية للحصول على ما فيها من كنوز، الإكليل "8/ 143 فما بعدها".

ص: 116

وأما موضوع إهمال الآثار وعدم توجيه عناية الحكومات نحوها؛ لرعايتها وللمحافظة عليها من التعرض للسقوط والتلف والأضرار ونحو ذلك؛ فإنه موضوع لم يدرك الناس أهميته إلّا أخيرًا، ولم تشعر الحكومات بأنه واجب مهم من واجباتها إلّا حديثًا، ولذلك لا نستطيع أن نوجّه اللّوم إلى القدامى لإهمالهم الآثار ولعدم اعتنائهم بالمحافظة عليها.

وكان من آثار هذا الجهل بأهمية الآثار أن أُزيلت معالم أبنية وقصور، وحطمت تماثيل وكتابات، لغرض استعمالها في البناء، وقد كان على مقربة من "سدوس"، أبنية قديمة يظن أنها من آثار حمير وأبنية التبابعة، وأن من جملتها شاخص كالمنارة، وعليها كتابات كثيرة منحوتة في الحجر ومنقوشة في جدرانها، فهدمها أهل سدوس؛ لاختلاف بعض السياح من الإفرنج إليها ملاحظة التدخل معهم1. ومثل ذلك حدث في اليمن وفي مواضع أخرى من أمكنة الآثار.

وقد هدمت قرى ومدن في الجاهلية وفي الإسلام من أجل استعمال أنقاضها في بناء أبنية جديدة. ذكر "الهمداني" حصن "ذي مرمر"، وهو من المواضع الجاهلية المهمة، وكذلك "شبام سخيم""يسخم"، وبقيا معروفين زمنًا طويلًا بعده، ثم جاء أحد الأتراك واسمه "حسن باشا" فهدم حصن "ذي مرمر" لينشئ في أسفله مدينة جديدة، أخذ معظم مواد بنائها من "شبام سخيم"2.

وذكر أن حكومة اليمن قامت بعد سنة "1945م" ببناء ثكنة لجنودها في المنطقة الشرقية من اليمن في "مأرب" على نمط الثكنة التي بناها الأتراك في صنعاء، فهدموا أبنية جاهلية كانت لا تزال ظاهرة قائمة، واستعملوا الحجارة الضخمة التي كانت مترامية على سطح الأرض، وأزالوا بعض الجدر والأسوار وحيطان البيوت عند بناء تلك الثكنة، فطمسوا بذلك بعض معالم تأريخ اليمن القديم3، وأساءوا بجهلهم هذا إلى قيم الآثار إساءة لا تقدر في نظر عشاق التأريخ والباحثين في تأريخ العرب قبل الإسلام.

ويضاف إلى ما تقدم عامل آخر، هَدَمَ الآثار وقضى عليها بالجملة،

1 الألوسي، تأريخ نجد، تحقيق الأستاذ محمد بهجت الأثري، المطبعة السلفية، القاهرة 1347 "ص28".

2 Beirtage، S. 18.

3 Beitrage، S. 28.

ص: 117

وأعني به الحروب. وسوف نرى حروبًا متوالية اكتسحت جميع مناطق العربية الجنوبية، وأتت على مدنها؛ إذ استعمل القادة سياسة حرق المدن والمواقع والمزارع، وقتل السكان بالجملة فأدى ذلك إلى اندثار الآثار وتشريد الناس وهربهم إلى البوادي وتحول الأرضين الخصبة إلى أرضين جُرد، حتى ضاعت بذلك معالم الحضارة القديمة، فخسرنا من جرّاء ذلك علمًا كثيرًا، وا أسفاه.

وهناك تقصير آخر لا يمكن أن ينسب إلى الإسلاميين، بل يجب عزوه إلى الجاهليين فالظاهر من رجوع الصحابة إلى ذاكرتهم وإلى ذاكرة الشَّيَبة الذي أدركوا الجاهلية في تذكر أيامها وما كانوا عليه قبل الإسلام، ومن جلب "معاوية بن أبي سفيان" المولع بسماع الأخبار لـ "عبيد بن شَرْيَة" ليقص عليه "الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبليل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد"1، ومن رجوع أهل الأخبار إلى الأعراب لأخذ أخبار قبائلهم وأيامهم وأنسابهم وشعرهم وغير ذلك، أن غالبية أهل الجاهلية لم تكن لهم كتب مدونة في تأريخهم، ولم تكن عندهم عادة تدوين الحوادث وتسجيل ما يقع لهم في كتب وسجلات؛ بل كانوا يتذاكرون أيامهم وأحداثهم وما يقع لهم، ويحفظون المهم من أمورهم مثل الشعر حفظًا. ولما كانت الذاكرة محدودة الطاقة، لا تستطيع أن تحمل كل ما تحمل، ضاع الكثير من الأخبار، بتباعد الزمن، وبوفاة شهود الحوادث، ولم يبقَ بتوالي الأيام غير القليل منها. ومن هنا كان تعليل علماء العربية ضياع أكثر الشعر الجاهلي؛ فقالوا:"كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه؛ فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته؛ فلما كثر الإسلام، وجاءت الفتوح واطمأن العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر، فلم يئلوا إلى ديوان مدوّن، ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثير"2. وإذا كان هذا ما وقع للشعر مع مكانته عندهم وسهولة بقائه في الذاكرة بالقياس إلى النثر، وتعصب القبائل لشعر شعرائها؛ فهل في استطاعتنا استثناء الأخبار من هذا الذي يحدث للشعر؟

1 الفهرست "ص138".

2 المزهر "2/ 474".

ص: 118

بل ما لنا وللجاهلية، ولنراجع تأريخ الإسلام نفسه، خذ تأريخ آباء الرسول وطفولة الرسول إلى يوم مبعثه؛ بل حتى بعد مبعثه، ثم خذ سير الصحابة وما وقع في صدر الإسلام من أحداث، ترَى أن ما ورد من سيرة آباء الرسول وسيرة الرسول إلى الهجرة، مقتضبًا بعض الاقتضاب، وأن ما ذكر هو من الأمور التي تحفظها الذاكرة عادة، وما فيما عدا ذلك مما وقع للرسول؛ فغير موجود، وترى اقتضابًا مخلًا في سيرة الصحابة، واضطرابًا في تواريخ الحوادث، واختلافًا بين الصحابة في ذلك. أما سبب ذلك فهو عدم تعود الناس إذ ذاك تسجيل أخبار الحوادث وما يقع لهم، وعدم وجود مسجلين مع السريا والغزوات والفتوح يكون واجبهم تسجيل أخبارهم وتدوين وقائعها، حتى ما سجل من أمر ديوان الجند والأنساب وأمثال ذلك، لم يكن في نسخ عديدة؛ فضاع أكثره، ولم يصل إلى الأخباريين لذلك يوم شرعوا في التدوين. وإذا كان هذا حال أخبار الإسلام، وهي أمور على جانب خطير من الأهمية بالقياس إلى المسلمين، فهل يعقل بقاء أخبار الجاهلية كاملة إلى زمن شروع الناس في التدوين في الإسلام، وقد ضاعت قبل الإسلام بزمان؟

لقد قلت فيما سلف إن الهَمْداني وغيره ممن عنوا بأخبار اليمن، لم يعرفوا من تأريخ اليمن القديم إلّا القليل، ولم يعرفوا من أخبار دول اليمن القديمة شيئًا، ولم يحفظوا من أسماء ملوكها إلا بعض الأسماء، وقد حرف حتى هذا البعض، أما معارفهم من معبودات أهل اليمن القديمة، فصفر؛ فلسنا نجد في كتبهم إشارة ما إلى عبادة "عشتر" ولا إلى عبادة "أنبى" و "ذات صنتم" و "نكرح" و "سين" و "حوكم""حكم" و "هوبس" ولا إلى بقية المعبودات. نعم، أشار "الهمداني" إلى اسم إله من آلهة "همدان" هوم "تالب"، وكانت محجته في "ريم""ريام"، يقصدها الناس في ذلك الزمن للزيارة والتبرك؛ ولكنه لم يعرف أنه كان إلهًا، بل ظن أنه ملك من ملوك همدان، فدعاه باسم "تالب"، وزعم أنه ابن "شهوان"1. وجعل "المقه"، وهو إله سبأ العظيم، المقدم عندهم على جميع الأصنام، اسم بناء من أبنية جنّ سليمان. وقد بُني على ما

1 الإكليل "10/ 17".

ص: 119

زعمه بأمر سليمان1. وتحدث عن "رئام" فقال: "أما رئام، فإنه بيت كان متنسك، تنسك عنده ويحج إليه. وهو في رأس جبل أقوى من بلد همدان"، ونسبة إلى "رئام بن نهفان بن تبع بن زيد بن عمرو بن همدان"2. وقد ذكره "ابن إسحاق" و "ابن الكلبي" و "السهيلي" و "ياقوت الحموي" وغيرهم أيضًا3 وفي كل الذي ذكروه دلالة على أن ما رووه لم يكن عن مصدر مدوّن؛ وإنما هو رويّ عن أفواه الرجال. وأن تلك الأفواه قد نسيت كثيرًا من الأصل، فحاولت سدّ الثُغر بالقصص المذكور.

بل خذ ما ذكره رجال هم أقدم من "ابن الكلبي" ومن "الهمداني" في الزمان، وألصق منهما عهدًا بالجاهلية مثل "ابن عباس" و "عبيد بن شَرْيَة" وغيرهما، ترَى أن ما ذكراه عنها لا يدل على أنهما أخذا أخبارهما من مورد مكتوب ومن كتب كانت موجودة، ولا أعتقد أن "معاوية بن أبي سفيان"، وهو نفسه، من أدرك الجاهلية، كانت به حاجة إلى "عبيد" وأمثال "عبيد" من قوّال الأساطير، وإلى الاستماع إلى أخبارهم، لو كان عنده شيء مدوّن عن أمر الجاهلية، ثم إنه لو كانت عند "ابن عباس" و "عبيد" وطلاب الشعر الجاهلي والأخبار مدوّنات، لما لجأوا إلى الذاكرة وإلى الرواة والأعراب يلتمسون منهم الأخبار والأشعار وأمور القبائل!

إن جهل أهل الأخبار بأصنام أهل اليمن القديمة التي ترد أسماؤهم في كتابات المسند، وذكرهم أسماء أصنام جديدة زعموا أنها كانت معبودة عند أهل اليمن لم يرد لها ذكر في كتابات المسند، أشار "ابن الكلبي" وغيره إلى بعضها، وإشاراتهم إلى دخول اليهودية والنصرانية إلى اليمن، وإلى تهود "تبّع" وهو في "يثرب" في طريقه إلى اليمن، وأخذه حبرين من أحبار يهود معه، وأمره بتهديم معبد "رئام"، بناء على إشارة الحبرين4، ثم ظهو جمل وألفاظ في كتابات المسند تدل على التوحيد وعلى وقوع تغيّر وتطور في ديانات أهل اليمن، مثل عبادة "الرحمن" وعبادة "ذو سموي"، أي "ذو السماء" أو "صاحب

1 Detlef Nielsen، Der Sab. Gott Ilmukad، S. 2، D.H. Mueller، Burgen und schloesser، Bd. 2 S. 972.

2 الإكليل "8/ 66"، "8/ 82"، "طبعة الكرملي".

3 الأصنام "12"، الإكليل"8/ 82 فما بعدها""طبعة الكرملي".

4 الأصنام "12 فما بعدها"، البلدان "4/ 345".

ص: 120

السماء"1: إن كل هذه الأمور وأمثالها، هي دلائل على حدوث تغير وتطور في عقليات أهل اليمن، أثرت في معتقداتهم فجعلتهم ينسون آلهتهم القديمة، بل يتنكرون لها، ويبتعدون بذلك عن ثقافتهم الوثنية القديمة، ومثل هذا التطور والتغير لا بد أن يؤدي طبعًا إلى نسيان الماضي وإلى الالتهاء عنه بالتطور الجديد، وقد وقع هذا قبل الإسلام بزمان.

كان لدخول اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخلٌ من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد دخولهم في اليمن لتهويد ملوك اليمن وأقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويذيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجنّ سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض حكّام اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد.

ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك؛ فتنصرت قبائل وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين، واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية، ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، وأعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنيين، وصار عدد قرّائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري؟ فلعلّ رجال الدين الجدد، صاروا يعلّمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سببًا من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد.

وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تأريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتأريخ بعضها إلى ما بعده2، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه

راجع النصوص:

1 "Zur Geachichte des Judentums iin Jemen"، in Alt-Orientalische Forschungtn، I، 336. "A Monotheistic Himjarite Inscription"، by F.V. Winnet، Glasser 399، Whackier، Asrnare، I، Ryk 203، he Museon، LII، P.، 51ff. BOASOB 83 (1941) ، P.، 22، CIH537، 538، 539، 543، 645، Res 4109، Bose 13، RES 4069، Stambul، 7608 Rea 3904

2 The Qariya Ruin Field، Geographical Journal، June، 19492 Sanger، The Arabian Peninsula، P.، 139، Philby، Two notes from Central Arabia،

ص: 121

المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام؛ مما يبعث على الظن أن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلمًا جديدًا مشتقًا من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع، وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند.

ولا أستبعد أن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتأريخ؛ فقد كان من بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني؛ فليس من المستبعد أن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين. ومثل هؤلاء لا بد أن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل، ودليل ذلك أن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عمومًا على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غُطّي بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاجته يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، أن يكون موضوعًا لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين.

ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب تدوينًا للتأريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها؛ وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقتها بالقبائل الأخرى، وحوادثها وأيامها، ورواة تخصّصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي

ص: 122