الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه المؤرخون عن ذلك التأريخ، وأن ما جاءت به كتب الأدب عن ملوك الحيرة وعن الغساسنة، وعن ملوك كندة وعن أخبار القبائل العربية، هو أكثر بكثير مما جاءت به كتب التأريخ، بل هو أحسن منها عرضًا وصفاءً، وأكثر منها دقة. ويدل عرضه بأسلوبه الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عريبة خالصة، وقد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه. وقد أفادنا كثيرًا في تدوين تأريخ الجاهلية الملاصقة للإسلام، ولشأنه هذا أودّ أن ألفت أنظار من يريد تدوين تأريخ هذه الحقبة إليه، وأن يرعاه بالرعاية والعناية وبالنقد، وسيحصل عندئذ على رأي لا يستطيع العثور عليه في كتب أهل التأريخ.
وقد صارت كتب المؤرخين المسلمين لذلك ضعيفة جدًّا في باب تأريخ العرب قبل الإسلام، ومادتها عن الجاهلية هزيلة جدّ قليلة بالقياس إلى ما نجده في كتب التفسير والحديث والفقه والأدب وشروح دواوين الشعراء الجاهليين والمخضرمين والموارد الأخرى. والغريب أن تلك الكتب اكتفت في الغالب بإيراد جريدة لأسماء ملوك الحيرة أو الغساسنة أو كندة أو حمير، مع ذكر بعض ما وقع لهم في بعض الأحيان، على حين نجد كتب الأدب تتبسط في الحديث عنهم، وتتحدث عن حوادث وأمور لا نجد لها ذكرًا في كتب المؤرخين؛ بل نجد فيها أسماء ملوك لم تعرفها كتب التأريخ، مما صيرها في نظري أكثر فائدة وأعظم نفعًا لتأريخ الجاهلية من كتب المؤرخين.
المؤرخون المسلمون:
لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة في الموارد الإسلامية عن الجاهلية؛ إلا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير. أما ما روي على أنه فوق ذلك، فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه؛ لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نصّ مكتوب، وإنما أخذ من أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية؛ لأننا حتى إذا سلمنا إن رواة تلك الأخبار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وأنهم كانوا صدوقين في كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة في النقد وفي
التمييز بين الصحيح والفاسد؛ فإننا لا نتمكن من أن نسلم أن في استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وأن تروي القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة. لذا وجب علينا الحذر في الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وإن تكاثر واشتهر وتواتر؛ فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، ويُتداول في الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر في حين أنه من الأخبار الآحاد في الأصل.
ولا أدري كيف يمكن الاطمئنان إلى نصّ قصة طويلة فيها كلام وحوار أو قصيدة طويلة زعم أن التبع فلانًا نظمها، في حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصًّا بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوّنًا مكتوبا، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص. ولا أعتقد أن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلًا بين النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق، والحديث الطويل العذب، الذي جرى بين وفد النعمان الذي اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور1.
ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رحيب. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بين القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه في هذا الموضع؛ لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة، وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجُرْهُم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المباني "العادية" وعن جنّ سليمان وأسحلة سليمان، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرا إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى "إبليس"، قالوا إنه نظمه في الردّ على شعر "آدم" المذكور، وأنه أسمعه
1 راجع النصوص في بلوغ الأرب "1/ 147 فما بعدها".
"آدم" بصوته دون أن يراه1. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، وإلى أكثر من ذلك، ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت في أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت في تذكر حوادث حدثت في السنين الأولى من الإسلام. كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهرًا طويلًا قبل الإسلام، ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا في أيام لم تبعد بعدًا كبيرًا عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذي نزل به القرآن. ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبي رغال"، وعن حادث نجران وذي نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها في أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عدم فهم لما وقع، وعن عدم إدارك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا في بعض منها، وفي كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نقيًا خالصًا من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمدًا طويلًا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغيّر من طبائع المحفوظ.
والأخباريون إذا رووا ذلك ودوّنوه، لم يكونوا أول من وضع وصنع وافتعل وجاء بالقصص والأساطير على أنها باب من أبواب التأريخ؛ فقد فعل فعلهم اليونان والرومان والعبرانيون وسائر الشعوب الآخرى، يوم أرادوا تدوين تواريخ العصور التي سبقت عندهم عصور الكتابة والتدوين؛ إذ لم يجدوا أمامهم غير هذا النوع من الروايات الشفوية البدائية التي عبث بصفائها الزمان كلما طال أجلها إلى زمن التدوين، فدوّنوه ورووه، إلى أن وصل إلينا على النحو المكتوب.
وللسبب المذكور نرى في الأخبار الواردة عن ملوك الحيرة، أو عن صلات الفرس بالعرب أخبارًا قريبة إلى منطق التاريخ وإلى الواقع يمكن أن نأخذ بها وأن
1 مروج الذهب "1/ 26 وما بعدها"، "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد".
نستعين بها في تدوين تاريخ الحيرة وتاريخ الساسانيين مع العرب. ويعود سبب ذلك إلى رجوع الرواة إلى موارد مدونة، أو إلى شهود عيان أدركوا أنفسهم الحوادث، وكلها من الحوادث القريبة من الإسلام والتي وقع بعضها في أيام الرسول. أما حوادث آل نصر، أو أخبار الفرس مع العرب البعيدة؛ فلا نجد فيها هذا الصفاء والنقاء، بل نجد فيها قترة وغبرة، لنقلها بالسماع والمشافهة وتقادم العهد على السماع. وهكذا صار تاريخ الحيرة المروي في التواريخ غيومًا تتخلّلها فجوات متبعثرة تنبعث منها أشعة الشمس.
نعم جاء أن أهل الحيرة كانوا يعنون بتدوين أخبارهم وأنساب ملوكهم وأعمار من ملك منهم، وكانوا يضعون ذلك في بيع الحيرة1. وورد أن النعمان ملك الحيرة أمر فنسخت له أشعار العرب في الطّنوح، وهي الكراريس، فكتبت له ثم دفنها في قصره الأبيض؛ فلما كان المختار بن أبي عبيد، قيل له: إن تحت القصر كنزًا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار2. وذكر ابن سلام الجُمَحِي أنه "كان عند النعمان بن المنذر ديوان فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته؛ فصار ذلك إلى بني مروان، أو ما صار منه"3.
ولكنني على الرغم من ورود هذ الأخبار لا أستطيع أن أقف منها الآن موقفًا إيجابيًّا؛ إذ لم أسمع أن أحدًا من رواة الشعر ذكر أنه رجع إلى تلك الطّنوج والدواوين فأخذ منهما، أو أن بني مروان عرضوها على أحد. ولو كانت تلك الدواوين موجودة، لم يسكت عنها رواة الشعر الجاهلي وطلابه الذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان. ثم إن الأخباريين يذكرون أن "الوليد بن يزيد بن عبد الملك"، كان يرسل إلى "حمّاد" رسلًا ليأتوا إليه بما يريد الوقوف عليه من الشعر الجاهلي، وأنه "جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها الوليد بن يزيد بن عبد الملك وردّ الديوان إلى حمّاد وجناد"4، وأنه أحضر5 إلى الشام، واستنشده أشعار "بَلِيّ" وأشعارًا أخرى، ولو كان لدى "بني
1 الطبري "2/ 37".
2 تاج العروس "2/ 70"، لسان العرب "3/ 142"، ابن جني، الخصائص "1/ 392 وما بعدها".
3 طبقات فحول الشعراء "ص10، المزهر "2/ 474".
4 الفهرست "ص140".
5 الأغاني "6/ 94".
مروان" ديوان "النعمان بن المنذر" الذي جمع فيه أشعار الفحول وما مدح به هو وأهل بيته، لما احتاج "الوليد" إلى أن يسأل حمادًا وجنادًا ليرسلا إليه ديوان العرب، وهو ديوان لا ندري اليوم من أمره شيئًا، ولم يذكر "ابن النديم" صاحب الخبر، ما علاقة الرجلين المذكورين بذلك الديوان. هل كانا اشتركا معًا في جمعه، أو أن كل واحد منهما قد جمع بنفسه الأشعار في ديوان؛ فأرسل الوليد إليهما يطلب منهما ما جمعاه، ليجمعه مع ما عنده في ديوان.
ثم إننا لم نسمع أحدًا يقول:"كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ابن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم، لآل كسرى، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها"1؛ غير الرواية "هشام بن محمد الكلبي". فَلِمَ وقف "ابن الكلبي" وحده على تلك الكنوز، ولم يلجأ غيره إلى بيع الحيرة، ليأخذ منها أخبار نصر؟ ألم يعلم بوجودها أحد غيره؟ ثم لِمَ اختلفت روايات "ابن الكلبي" وتناقضت في أمور من تأريخ الحيرة، ما كان من الواجب وقوع اختلاف فيها، ولِمَ لجأ أيضًا إلى رواية القصص والأساطير عن منشأ "الحيرة"، وعن "عمرو بن عدي"، وعن جذيمة، وعن "قصر الحورنق" وعن غير ذلك، ليقصها على أنها تأريخ آل نصر2. أيعد هذا دليلًا على أخذه من موارد قديمة مكتوبة مدوّنة؟ نعم، من الجائز أن يكون قد أخذ من صحف كانت قد دوّنت أسماء آل نصر المتأخرين، وبعض الأخبار المتعلقة بهم، أما نه أخذ أخبارهم كاملة مدونة من كتاب أو من كتب تأريخ بالمعنى المفهوم من الكتاب؛ فذلك ما أشك فيه، لأن الذي ينقل أخباره من كتاب في التأريخ لا يروي تاريخ تلك الأسرة وتاريخ عربها على الشكل الذي رواه.
قال "الطبري": "كان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمّالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة، متعالمًا، مثبتًا عندهم في كنائسهم وأسفارهم"3، وتدل هذه الملاحظة التي تؤيد رواية "ابن الكلبي" المتقدمة -ولعلّ "الطبري" أخذها من رواية لابن
1 الطبري "1/ 628""طبعة دار المعارف بمصر".
2 الطبري "1/ 609 وما بعدها""طبعة دار المعارف بمصر".
3 الطبري "1/ 628""طبعة دار المعارف بمصر".
الكلبي، دون أن يشير إليه- على وجود أسفار في تواريخ أهل الحيرة؛ إلا أني أعود فأقول إن أكثر المروي عنهم، لا يدل على أنه منقول من موارد مدوّنة: لما فيه من اضطراب وتناقض، ولغلبة طابع الروايات الشفوية عليه. والأخبار الوحيدة التي يمكن أن تكون منقولة من موارد مدوّنة، هي الأخبار المتأخرة التي تعود إلى أواخر أيام الحيرة، الأيام المقاربة للإسلام إلى زمن فتح المسلمين لها. ثم إن لقربها من زمن التدوين علاقة بوضوح هذه الأخبار المتأخرة وبدرجة صفائها.
ولا تعني هذه الملاحظات أننا ننكر وجود مدوّنات عند أهل الحيرة في التاريخ أو في الشعر أو في أي موضوع آخر، ولا أعتقد أن في استطاعة أحد نكران وجود التأليف عندهم. فقد ورد في التواريخ الكنائسية أسماء رجال من أهل الحيرة ساهموا في المجالس الكنائسية التي انعقدت للنظر في أمور الكنيسة ومشكلاتها، ومنهم من برز وألّف في موضوعات دينية وتاريخية، كما ورد في أخبار أهل الأخبار أن أهل الحيرة كانوا يتداولون قصص رستم واسفنديار وملوك فارس، وأن "النضر بن الحارث" الذي كان يعارض الرسول، تعلّم منهم، وكان يحدّث أهل مكة بأخبارهم معارضًا رسول الله، ويقول: أينا أحسن حديثًا؟ أنا أم محمد1؟
ولا بد أن يكون معين القصص الذي تعلمه "النضر بن الحارث هو في هذا المعين المدون في كتب الفرس. وقد كانت للفرس كتب في سير ملوكهم وآدابهم ترجم بعضها في الإسلام، مثل كتاب "سير العجم"2، أو "كتاب خداي نامه"3، أو كتاب "سير الملوك" أو "سير ملوك العجم"، ترجمة "عبد الله بن المقفع"4 و "كتاب التاج"5 للمترجم نفسه، وكتب أخرى لم تترجم
1 سيرة ابن هاشم "1/ 381""تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد".
2 ابن قتبية: عيون الأخبار "1/ 117".
3 الفهرست "ص172"، "خداي نامة، وهو الكتاب الذي لما نقل من الفارسية إلى العربية سمي كتاب تأريخ ملوك الفرس"، حمزة "ص15"، وهو في حكاية جمل ما في خداي نامة لم يحكها ابن المقفع ولا ابن الجهم، فجئت بها في آخر هذا الكتاب
…
"، "كتاب خدينامه في السير"، حمزة "ص43".
4 عيون الأخبار "1/ 117".
5 عيون الأخبار "1/ 5"، "كتاب التاج في سيرة انوشروان"، الفهرست "ص 172".
كانت شائعة عند الفرس معروفة، يحافظون عليها ويتداولونها، منها استمد المؤرخون العرب الإسلاميون أخبار الفرس ومن حكم منهم من ملوك1.
ولقد قال "كولد تزهير" و "بروكلمن" بوجود أثر فارسي في ظهور علم التأريخ عند المسلمين2. أما أثر الموارد الفارسية في مادية الفصول المدونة عن الفرس وعن ملوك الحيرة، فواضح ظاهر، ولا يمكن لأحد الشك فيه، وأما أثرها فيما عدا ذلك، ولا سيما في كيفية عرض التأريخ وفي أسلوب تدوينه وتبويبه؛ فدعوى أراها غير صحيحة؛ لأن طريقة الابتداء بالزمان ثم ابتداء الخلق وعدد أيام الخلق وخلق آدم ثم التحدث العام عن الأنبياء بحسب تسلسل رسالاتهم، وهي الطريقة التي سار عليها من دوّن في التأريخ العام للمسلمين مثلًا، كما فعل "الطبري" في تأريخه، طريقة لا يمكن أن تكون فارسية؛ لأن الفرس مجوس، والمجوس لا يعتقدون بهؤلاء الرسل والأنبياء. والصحيح أنها طريقة المؤرخين الذين جاءوا بعد الميلاد؛ فهم الذين روّجوا الأسلوب المذكور في تدوين التأريخ. ويمكن إدارك ذلك من المقابلة بين الأسلوبين: الأسلوب الإسلامي في تدوين التأريخ وفي كيفية تبويبه وتصنيفه وأسلوب الكتب التأريخية المدوّنة في اليونانية وفي السريانية إلى زمن تدوين التأريخ عند المسلمين.
والرأي عندي أن علمنا بأسلوب التأريخ عند الفرس: كيفية عرضه وطرقه وتبويبه علم نزر؛ لأن ما وصل إلينا من كتبهم معدود محدود، وما ورد فيه سير ملوكهم وأيامهم وما نجده مترجمًا ومنشورًا في المؤلفات العربية، هو من نوع القصص الذي يغلب عليه الطابع الأدبي، فيه أدب السلوك ومواعظ الحكم وأقوال في الحكمة، وحتى القسم المتصل منه بالتأريخ قد وضع بأسلوب عاطفي أدبي. ومن هنا ابتعد عن أسلوب المؤرخين اليونان واللاتين، وعن أسلوب المؤرخين الذين ظهروا بعد الميلاد. وقد يكون لاختلاف الذوق دخل في اختلاف الأسلوبين. ومهما يكن من أمر فأنا لا أريد أن أكون متسرعًا عجولًا في إصدار حكم على فن التأريخ عند الفرس، فأبغض الأشياء إليّ التسرُّع في إصدار الأحكام
1 المسعودي: مروج "1/ 146"، "وقد ذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، عن عمر كسرى في كتاب له في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف...."، المروج "1/ 199"، والتنبيه والإشراف "ص92".
2 الموسوعة الإسلامية، مادة: تأريخ.
في التأريخ، ومن الحكمة وجوب التريث والانتظار؛ فلعل الأيام تتحفنا بتواريخ فارسية، ترينا أن للفرس رأيًا أصيلًا في التأريخ، وأن لهم طريقة المؤرخين في تدوين تأريخ العالم وتأريخ بلادهم وفي تدوين سير الملوك والأشخاص، وأنهم كانوا قد عينوا مراسلين يلازمون جيوشهم لتدوين أخبار الحروب، كما فعل الروم، ولكن بعقلية مستقلة لم تتأثر بطريقة اليونان واللاتين.
ويكاد يكون أكثر ما دوّن عن "الغساسنة" في المؤلفات العربية الإسلامية مأخوذًا من الروايات الواردة عن ملوك الحيرة وعرب الحيرة، أنداد الغساسنة، ولذلك لم تكن في جانبهم، وتكاد تلك الأخبار ترجع في الغالب إلى شخص واحد، تحصص بأخبار الحيرة وملوك الفرس، هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وهو الذي روى هذه الأخبار اعتمادًا على بحوثه الخاصة، وعلى البحوث والدارسات التي قام بها والده من قبله، ويجب أن نجعل لهذه الملاحظات الاعتبار الأول في تدوين تاريخ الغساسنة. وقد وردت أخبارهم في الطبري مع أخبار ملوك الحيرة والفرس لهذا السبب. وأما في سائر الأصول التاريخية الأخرى؛ فهي مقتضبة، وقد اكتفى بعض المؤرخين بإيراد جريدة بأسماء الملوك، وهو عمل ينبئك بقلة بضاعة القوم في تاريخ عرب الشام. وعلى كل حال؛ فإننا نجد في كتب الأدب وفي دوايين الشعر عونًا لنا في تدوين، تاريخ غسان، قد يسد بعض الفراغ في تاريخ هذه الإمارة، وإن كان ذلك كله لا يكفي، بل لا بد من الاستعانة بأصول أعجمية من يونانية وسريانية، ففيها مواد عن نواحٍ مجهولة من هذا التاريخ، كما أنها تصحح شيئًا؛ مما ورد في الموارد العربية من أغلاط1.
ولقد تأثرت روايات "ابن الكلبي" بطابع التعصب لأهل الحيرة على الغساسنة؛ لاعتماده على روايات أهل الحيرة وعلى أهل الكوفة في سرد تاريخ الغساسنة، وقد كان ملوك الحيرة أندادًا لملوك الغساسنة، ولهذا تتعارض رواياته وروايات من استقى من هذا المورد مع روايات علماء اللغة والأدب والشعر التي وردت استطردًا عن أهل الحيرة أو الغساسنة، وذلك في أثناء شرحهم لفظة أو بيت شعر أو قصيدة أو ديونًا أو حياة شاعر كانت له علاقة بالحيرة أو الغساسنة، أو عن
1 أمراء غسان لنولدكه، ترجمة الدكتور قسطنطين زريق والدكتور بندلي جوزي، "بيروت سنة 1933""ص1-2"
قصة من القصص، وما شاكل ذلك. ومرجع أولئك الروايات العربية الخالصة، وقد استمدت من رجال كانوا شاهدي عيان، أو رووا ما سمعوه من أفواه الناس، ويمكن إدراك اتجاهها وميولها بوضوح، ولهذا تجب الموازنة بين الروايتين.
أما روايات أهل "يثرب" أي "المدينة"؛ فهي في مصلحة الغساسنة في الأكثر، وقد كانوا على اتصال دائم بهم، ولهم تجارات معهم، وكان شعراؤهم يفتخرون بانتسابهم هم وآل غسان إلى أصل واحد ودوحة واحدة هي الأزد. ولهذا يستحسن التفكير في هذا الأمر بالنسبة إلى روايات أهل المدينة، ولا سيما أخبار حسان بن ثابت الأنصاري عن آل غسان.
ومما يؤسف عليه أن المؤرخين المسلمين لم يغرفوا من المناهل اليونانية واللاتينية والسريانية لتدوين أخبارهم عن تأريخ العرب قبل الإسلام، لا قبل الميلاد ولا بعده، مع أنها أضبط وأدق من الأصول الفارسية، ومن الروايات التي تعتمد على المشافهة بالطبع وقد كان من عادة اليونان إلحاق عدد من المخبرين والمسجلين الرسميين بالحملات لتسجيل أخبارها، كما حوت الموارد السريانية بصورة خاصة والموارد اليونانية المؤلفة بعد الميلاد أمورًا كثيرة فيما يخص انتشار النصرانية بين العرب، وفيما يخص المجامع الكنائسية التي حضرها أساقفة من العرب، وكذلك الآراء والمذاهب النصرانية التي ظهرت بين نصارى العرب.
نعم لقد وقف المؤرخون على تواريخ عامة وخاصة مدونة بالرومية والسريانية كانت عند جماعة من المشتغلين بالتأريخ من أهل الكتاب. وقد فسّروها، أو فسّروا بعضها لهم، ولا سيما ما يتعلق منها بموضوعات لها صلة بالقرآن الكريم، مثل كيفية الخلق والزمان والمكان وقصص الرسل والأنبياء والملوك، نجد طابعها ومادتها وأسلوبها في هذا المدوّن عن قبل الإسلام، والذي صار مقدمة لتاريخ الإسلام، درج المشتغلون في التأريخ العام على وضعها قبل تاريخ الرسالة. وقد استفاد من بعضها بعض المؤرخين، مثل المسعودي1 وحمزة الأصفهاني وآخرين،
1 مروج الذهب "1/ 187/ 302"، التنبيه "ص132"، "وهذه التواريخ أخذتها عن رجل رومي"، وقال وكيع: نقلت هذه التواريخ من كتاب ملك من ملوك الروم، تولى نقله إلى العربية بعض الترجمة"، حمزة: كتاب تأريخ سني ملوك الأرض والأنبياء "ص48، 52".
في تدوين تاريخ ملوك الروم، وقد صارت طريقتهم، كما قلت سابقًا أنموذجًا للمؤرخين ساروا عليه في عرض التأريخ وفي تدوينه؛ غير أن هذا النقل لم يكن ويا للأسف قد تجاوز هذا الحد؛ فكان ضيق المجال محدود المساحة، وقد كان من الواجب عليهم الاستعانة بتلك الموارد في علاقات العرب بالروم وفي موضوع النصرانية في بلاد العرب على الأقل، وهي موارد فيها مادة مفيدة في هذا الباب.
وأودّ أن أشير إلى الخدمة التي أدّاها علماء الأخبار برجوعهم إلى الشّيب وإلى حفظة أخبار القبائل من مختلف القبائل لجمع أخبار القبائل وإيامها وحوادثها قبل الإسلام. وقد وضعت في ذلك جملة مؤلفات ضاع أكثرها ويا للأسف، ولم يبقَ منها إلا الاسم؛ ولكننا نجد مع ذلك مادة غنية واسعة منها في كتب الأدب، أستطيع أن أقول أنها أوسع وأنفع بكثير من هذه المواد المدونة المجموعة في كتب التأريخ. وهذا شيء غريب؛ إذ المأمول أن تكون كتب التأريخ أوسع مادة منها في هذا الباب، وأن تأخذ لب ما ورد فيها؛ مما يخص التأريخ لتضيفه إلى ما تجمع عندها من مادة. والظاهر أن المؤرخين، ولا سيما المتزمتين منهم المتقيدين بالتأريخ على أنه حوادث مضبوطة مقرونة بوقت وبمكان وبعيدة عن أسلوب الأيام والقصص، رأوا أن ذلك المروي عن أخبار القبائل والأنساب وحوادث الشعراء هو ذو طابع أدبي أو طابع خاص لا علاقة له بالحكومات والملوك؛ فلم يأخذوا به، وتركوه؛ لأنه خارج حدود موضوع التأريخ كما فهموه. وهو فهم خاطئ لمفهوم التأريخ ولمفهوم الموارد التي يجب أن يستعان بها لتدوينه. فأضاعوا بذلك مادة غزيرة لم يدركوا أهميتها وفائدتها إذ ذاك. وإهمالهم لتلك الموارد هو من جملة مواطن الضعف التي نجدها عند أولئك المؤرخين. أما نحن؛ فقد وجدنا فيه ثروة تزيد كثيرًا على الثروة الواردة في مؤلفات المؤرخين. وإهمال المؤرخين لتلك الموارد هو من أسباب الضعف التي نجدها في فهمهم للمنابع التي يجب أن يستعان بها في تدوين التأريخ.
وإذا كان القدامى قد أخطئوا في فهم معنى التأريخ، ووقعوا من ثم في خطأ بالنسبة إلى الموارد التي يجب أن يرجع إليها في تدوين تأريخ الجاهلية؛ فعلينا يقع في الزمن الحاضر وعلى القادمين من بعدنا بصورة خاصة واجب مراجعة الموارد الأخرى من كتب في التفسير وفي الحديث وفي الفقه وفي الأدب وغير ذلك، لاستخراج ما فيها من مادة عن الجاهلية، لأنها كما قلت أغزر مادة وأقرب إلى
المنطق في بعض الأحيان في فهم الحوادث من كتب المؤرخين.
والغريب أن المستشرقين الذين عُرفوا بجدّهم وبحرصهم على الإحاطة بكل ما يرد عن حادث، أهملوا مع ذلك شأن الموارد المذكورة، ولم يأخذوا منها إلا في القليل. ولو راجعوها، لكان ما جاءوا به عن الجاهلية أضعاف أضعاف ما جاءوا ما به وكتبوه، ولكانت بحوثهم أدق وأعمق مما هي عليه الآن.
وفي طليعة مَنْ اشتغل برواية أخبار ما قبل الإسلام: عبيد بن شَرْيَة، ووهب ابن منبه، ومحمد بن السائب الكلبي، وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وآخرون. وبعض هؤلاء مثل عبيد بن شَرْيَة وكعب الأحبار ووهب ابن منبه، قصاص أساطير، ورواة خرافات، وسمر مستمد من أساطير يهود، وأولئك وأمثالهم هم منبع الإسرائيليات في الإسلام.
فأما عبيد بن شَرْيَة، فقد كان من أهل صنعاء "في رواية" أو من سكان الرقة "في رواية أخرى"1. وكان معروفًا عند الناس بالقصص والأخبار؛ فطلبه معاوية، فصار يحدثه بأخبار الماضين2، ومن الكتب المنسوبة إليه: كتاب الأمثال3، وكتاب الملوك وأخبار الماضين، وقد طبع في ذيل "كتاب التيجان في ملوك حمير" المطبوع بحيدرآباد دكن بالهند بعنوان "أخبار عبيد بن شَرْيَة الجُرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"4، وقد وضع الكتاب على الطريقة
1 الفهرست "ص138"، السجستاني: كتاب المعمرين "ص40"، ياقوت: إرشاد "5/ 10"و
Brockelmann، Bd.، I، S.، 64، Suppl.، Bd.، I، S.، 100
Von Kremer Sudarabische Sage، 16-32، Muh. Stud.، Bd.، I، S.، 183.
2 "فأمر به معاوية، فأنزله في قربة، وأخدمه، وأمر من يجري وظيفته، ووسع عليه، وألطفه فإذا كان في وقت السمر فهو سميره في خاصّته من أهل بيته. وكان يقص عليه ليله، ويُذهب عنه همومه، وأنساه كل سمير كان قبله، ولم يخطر على قبله شيء قط إلا وجد عنده شيئًا وفرحًا ومرحًا، فإذا كان يحدثه وقائع العرب وأشعارها وأخبارها أمر أهل ديوانه أن يوقعوه ويدونوه في الكتب
…
"، أخبار عبيد بن شَرْيَة الجرهمي في أخبار اليمن وأشعار وأنسابها "ص312 فما بعدها".
3 "كتاب الأمثال نحو خمسين ورقة رأيته"، الفهرست "128"، إرشاد "12/ 190".
4 طبع سنة 1347هـ، ويرى المستشرق "كرنكو"، أن الجامع له ابن هشام، راجع ملحوظة 1 ص312.
التي تروى بها الأسمار وأيام العرب، وفيه أشعار كثيرة وضعت على لسان عاد وثمود ولقمان وطَسْم وجَديس والتبابعة1، وفيه قصص إسرائيلي وشعبي يمثل في جملته السذاجة وضعف ملكة النقد، وبساطة القص والقصة، ومبلغ علم الناس في ذلك الوقت بأخبار الأوائل2.
وقد حصل "كتاب الملوك وأخبار الماضين" على شهرة بعيدة، وطُلب في كل مكان، وكثرت نسخه، ومع هذه الكثرة اختلفت نسخه، حتى صعب العثور على نسختين متشابهتين منه3. وقد نقل الهمداني "المتوفى سنة 334 للهجرة" بعض الأخبار المنسوبة إلى عبيد4. ولِمَا نقله، أهمية كبيرة في تثبيت مؤلفات عبيد؛ إذ يمكن مقابلته بما نشر، ومطابقته بما طبع، فيمكن عندئذ معرفة ما إذا كان هناك اتفاق أو اختلاف. ويمكن عندئذ تعيين هوية المطبوع.
والطابع الظاهر على أخبار عبيد، هو طابع السمر والقصص والأساطير المتأثرة بالإسرائيليات. وأما الشعر الكثير الذي روي على أنه من نظم التبابعة وغيرهم، وفيه قصائد طويلة؛ فلا ندري أَمِن نظمه أم من نظم أشخاص آخرين قالوها على لسان من زعموا أنهم نظموها، أو أنها أضيفت فيما بعد إلى الكتاب ونسبت روايتها إلى عبيد؟ وعلى كلٍّ فإنها تستحق توجيه عناية الباحثين إلى البحث عن زمن ظهورها وأثرها في عقلية أهل ذلك الزمن.
وأما "وهب بن منبه"؛ فقد كان من أهل "ذمار"، وكان قاصًّا أخباريًّا، من الأبناء، ويقال إنه كان من أصل يهودي، وإليه ترجع أكثر الإسرائيليات المنتشرة في المؤلفات العربية. وقد زعم أنه كان ينقل من التوراة ومن كتب بني إسرائيل، وأنه كان يقول:"قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسبعين كتابًا"، وأنه كان يتقن اليونانية والسريانية والحميرية، ويحسن قراءة الكتابات القديمة الصعبة التي لا يقدر أحد على قراءتها5. قال المسعودي: "وجد في
1 Mull. Stud.، Bd.، 2، S.، 204.
دائرة المعارف الإسلامية، الترجمة العربية "ص483".
3 مروج الذهب "2/ 153""طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد"
3 Muti. Stud.، Bd.، I، S.، 182.f.، Brockeimann، Bd.، I، S.، 64. Wustenfeld Geschichte. S.، 5، Lidsbarski، De Propheticis qu. d. Legendis Arabicis، Leipzig، 1893، 1-2.
4 الإكليل"طبعة الكرملي"، "8/ 71، 184، 215، 232، 234، 240 ومواضع أخرى".
5 إرشاد الأريب "7/ 232".
حائط المسجد1 لوح من حجارة، فيه كتابة باليونانية؛ فعرض على جماعة من أهل الكتاب فلم يقدروا على قراءته، فوجّه به إلى وهب بن منبه، فقال: هذا مكتوب في أيام سليمان بن داوود، عليهما السلام، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. يا ابن آدم، لو عاينت ما بقي من يسير أجلك، لزهدت فيما بقي من طول أملك، وقصرت عن رغبتك وحيلك؛ وإنما تلقي قدمك ندمك إذا زلّت بك قدمك، وأسلمك أهلك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تُدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد؛ فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الفوت، وقبل أن يؤخذ منك بالكظم، ويحال بينك وبين العمل. وكتب في زمن سليمان بن داوود2".
وفي كتاب "التيجان في ملوك حمير" رواية ابن هشام نماذج لقراءته، وهي على هذا النسق الذي يدل على سخريته بعقول سامعيه إن كان ما نسب إليه حقًّا، وأنه قرأه عليهم صدقًًا، ومن يدري؟ فلعلّه كان لا يعرف حروف اليونانية، ولا يميّز بينها وبين الأبجديات الأخرى. ثم هل يعجز أهل دمشق عن قراءة نصّ يوناني أو سرياني أو عبراني وقد كان فيها في أيام وهب بن منبه علماء فطاحل حَذَقة بهذه اللغات هم نفر من أهل الكتاب؟
والذي يهمنا من أمر "وهب بن مبنه" أخباره عن الجاهلية. ولوهب أخبار عن اليمن والأقوام العربية البائدة، ونجد روايته عن نصارى نجران وتعذيب "ذي نواس" إياهم، وقصة الراهب "فيميون" مطابقة للروايات النصرانية ولما جاء في كتاب "شمعون الأرشامي" عن هذا الحادث3. والظاهر أنه كان قد أخذها من المؤلفات النصرانية أو من أشخاص كانوا قد سمعوا بما ورد عن حادث "نجران" من أخبار. وقد ذكر أن وهبًا كان يستعين بالكتب، وأن أخاه "همام بن منبه بن كامل بن شيخ اليماني" أبا عقبة الصنعاني الأبناوي، كان يشتري الكتب لأخيه4. ولعلّه استقى أخباره عن بعض الأمور المتعلقة
1 يعني مسجد دمشق، وذلك في أيام الخليفة الوليد.
2 مروج الذهب "2/ 151 وما بعدها". "طبعة عبد الرحمن محمد".
3 راجع الطبري "2/ 103"، أيضًا ما كتبته فيه في الجزء الأول من مجلة المجمع العلمي العراقي في "موارد تأريخ الطبري" سنة 1950م.
4 تهذيب التهذيب "11/ 67"، ابن سعد "5/ 395".
بالنصرانية مثل مولد وحياة المسيح من تلك الموارد، أو من اتصاله بالنصارى1. أما ما ذكره عن التبابعة والعرب البائدة، فإنه قصص. وأما علمه بأخبار العرب الآخرين؛ فيكاد يكون صفرًا، فلا نجد في رواياته شيئًا يعد تأريخًا لعرب الحيرة أو الغساسنة أو عرب نجد. فهو في هذا الباب مثل "عبيد بن شَرْيَة" من طبقة القصاص. لم يصل إلى مستوى أهل الأخبار، ولعله وجد نفسه ضعيفًا في التأريخ وفي أخبار العرب؛ فمال إلى شيء آخر لا يدانيه فيه أحد، وهو مرغوب فيه مطلوب، وهو القصص الإسرائيلي، وما يتعلق بأقوام ماضين، ذكروا في القرآن الكريم، وكانت بالمسلمين الأولين حاجة إلى من يتحدث لهم عن ذلك القصص وأولئك الأقوام.
ومن الكتب المنسوبة إلى وهب "كتاب الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم"2، وقد تناول أخبار التبابعة. والظاهر أن "كتاب التيجان في ملوك حمير" الذي طبع في الهند3، رواية ابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري "المتوفى سنة 213 أو 218 هـ" قد استند إليه، بعد أن أضاف إليه أخبارًا أخذها من مؤلفات محمد بن السائب الكلبي4 وأبي مخنف لوط بن يحيى5 وزياد بن عبد الله بن الطفيل العامري أبي محمد الكوفي المعروف بالبكائي رواية ابن إسحاق6 وهو خليط من الإسرائيليات والقصص
1 تفسير الطبري "3/ 147، 177"، "مولد المسيح وحياته"، "16/ 43""الحمل"، المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن تأليف "كولدتزهير"، ترجمة علي حسن عبد القادر، ص88، تأريخ الطبري "1/ 102"، تفسير الطبري "16/ 43"، مجلة المجمع العلمي العراقي "1/ 190"، Ency. Vol. 4 P. 1084
2 إرشاد "7/ 232"، "كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وغير ذلك"، وعثر على مجموعة من أوراق مخطوطة في خزانة كتب "هايدلبرك" بألمانية، رأي "بيكر" أنها جزء من كتاب في المغازي، ينسب إلى وهب بن منبه،
C.H. Becker، Papyri Schott-Reinhardt، I. 8، Fuck، Muhammad idn Ishaq، s. 4 Ency. Vol. 4، P. 1084. f.
3 في حيدرآباد دكن سنة 1347هـ، وبذيله "كتاب أخبار عبيد بن شَرْيَة الجرهمي في أخبار اليمن وأشعارها وأنسابها"، وقد مر ذلك.
4 التيجان ص 132، 212، 213 ومواضع أخرى.
5 التيجان ص 125، 180 ومواضع أخرى.
6 التيجان ص66، 75، ومواضع أخرى. راجع عن البكائي: لسان الميزان "6/ 836"، سيرة ابن هشام "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد"، "1/ 16"، وكتاب الكنى والألقاب "2/ 82" لعباس بن محمد رضا القمي، طبع مطبعة العرفان بصيدا سنة 1358هـ.
اليماني ومن مواد أخرى قد تكون من وضعه، أو من صنعة آخرين، صنعوها قبله، فأخذها من ألسنة الناس، مثل تلك القصائد والأشعار الكثيرة المنسوبة إلى التبابعة وغيرهم. وقد أورد في الكتاب أسماء أُخذت من التوراة ذكرها بنصها كما تلفظ بالعبرانية؛ مما يبعث على الظن أنها أخذت من مورد يهودي1. وأما سائر الأخبار الورادة في الكتاب، فالغالب عليها السذاجة؛ إذ لا نجد فيها عمقًا ولا مادة تأريخية غزيرة كالمادة التي نجدها في مؤلفات ابن الكلبي، وفي مؤلفات الهمداني الذي عاش بعده.
وأودّ أن ألفت أنظار العلماء إلى أهمية روايات "وهب بن منبه" وأخباره بالنسبة إلى من يريد الوقوف على الدراسات التوراتية والتلمودية في ذلك العهد؛ ففيها فقرات كثيرة زعم "وهب" أو آخرون قالوا ذلك على لسانه، أنها قراءات أي ترجمات أُخذت من التوراة ومن كتب الله الأخرى. وإذا ثبت بعد مقابلتها بنصوص التوراة والتلمود والمشنا وغيرها من كتب اليهود، أنها من تلك الكتب حقًا، وأنها ترجمان صحيحة، فنكون قد حصلنا بذلك على نماذج قديمة لمواضع من تلك الكتب قد تفيد في إرشادنا إلى ترجمات أقدم منها، كما تعيننا في الوقوف على النواحي الثقافية للعرب في ذلك العهد.
ولأبي المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 204 أو 206هـ، فضل كبير على دراسات تأريخ العرب قبل الإسلام؛ فأغلب معارفنا عن هذا العهد تعود إليه2. وقد سلك مسلكًا جعله في طليعة الباحثين في الدراسات الآثارية
1 راجع ما كتبه "كرنكو" عن الكتابين: كتاب التيجان وكتاب أخبار عبيد، في مجلة:"the Islamic culture" المجلد الثاني بعنوان:"the two oldest books on Arabic folkiore"، دائرة المعارف الإسلامية الترجمة العربية ص484 مادة:"تأريخ".
2 والده أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي المتوفى سنة 146هـ، من علماء الكوفة بالتفسير والأخبار والأنساب، الفهرست 139، الأغاني "9/ 16"، "11، 48""18/ 161"، ابن سعد: الطبقات "6: 250، ابن خلكان: وفيات "3/ 134 وما بعدها"، إرشاد "7/ 250"، تذكرة الحفاظ: 1/ 313"، تأريخ بغداد "14/ 45" وما بعدها أنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء "116"، تهذيب التهذيب "9/ 178"، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي باشا،
Ency.، vol.، 2،' P.، 689، Muh. Stud.، I، S.، 186، Noldeke Gesch. d'er Araber'und Perser، S.، XXVii، ZDMG.، XUii، Brockelmann، Ed.، I، S-، 211.
عند المسلمين، برجوعه إلى الأصول، واعتماده على المراجع التأريخية، متبعًا سبيلًا تختلف عن سبيل أهل اللغة في البحث، وهو -بطريقته هذه- قريب من طريقة المؤرخين في تدوين التأريخ1.
ولكنه لم يخلّ مع ذلك من مواطن الضعف التي تكون عادة في الإخباريين، مثل سرعة التصديق، ورواية الخبر على علاته دون نقد أو تمحيص. وقد اتُّهم بالوضع والكذب2. ولذلك تجنب جماعة من العلماء الرواية عنه، وقالوا عن بعض أسانيده أنها سلسة الكذب3. وذهب "بروكلمن" إلى أن ما اتُّهم عليه ابن الكلبي لم يكن كله صحيحًا، وأن البحوث العلمية التي قام بها المستشرقون دلتهم على أن الحق كان في جانبه في كثير من المواضع التي اتُّهم عليها4.
وأنا لا أريد أن أبرِّئه من الوضع أو من تهمة أخذه كل ما يقال له، ولا سيما إذا كان القائل من أهل الكتاب، دون مناقشة ولا إبداء رأى؛ ففي المنسوب إليه شيء كثير من الإسرائيليات والقصص الممسوخ الذي يدل على جهل قائله أو استخفافه بعقل السامع وعلمه، مثل اختراع سلاسل من النسب زعم أنها واردة في التوراة، أو عند أهل النسب، مع أن الوضع فيها بيّن واضح، وهي غير واردة في التوراة ولا في التلمود. ولعل حرصه على الظهور بمظهر العالم المحيط بكل شيء من أخبار الماضين، هو الذي حمله على الوضع، وقد وضع غيره من أقرائه شعرًا ونثرًا، وصنع قصصًا؛ ليتفوق بذلك على أقرانه وخصومه وليظهر بمظهر العالم الذي لا يفوته شيء من العلم.
1 Brockelmann، Bd.، I، S.، 138.
2 لسان الميزان "6/ 196 فما بعدها"، تذكرة الحفاظ "1/ 313"، الأغاني "9/ 19"، "وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي، والتوليد فيه بين، وشعره شعر ركيك غث لا يشبه أشعار القوم؛ وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي"، الأغاني "18/ 161".
3 مثل سنده عن أبي صالح عن ابن عباس، ووجد من دافع عنه، إرشاد "2/ 158".
4 Brockelmann، I، S.، 139، Noldeke، Ubers. d. Tabari، XXVII،
Ency.، 2، P.، 689.
وقد عالج بعض الباحثين زعم "ابن الكلبي" أنه كان يستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر ومبالغ أعمار من عمل منهم، وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة؛ فرأى أن كتابات أهل الحيرة كانت بالكتابة النبطية وبالأرقام النبطية، كما أثبت ذلك نصّ "النمار" أيضًا، وأن "ابن الكلبي" لم يكن يحسن قراءة النبطية ولم يفهمها، وعندما حاول قراءتها لم يتمكن من ذلك فوقع في أوهام، وجاء بأمثلة على ذلك تتعلق بما ذكره "ابن الكلبي" من مدد حكم أولئك الملوك؛ فوجد أنه لم يميّز مثلًا بين الرقم "20" والرقم "100" وذلك لتشابه شكل الرقم الأول مع شكل الرقم الثاني في النبطية، فقرأ العشرين مائة، فزاد سني حكم الملو. ومن هنا أخطأ في ضبط مدد حكم ملوك الحيرة، ولا سيما بالنسبة للقدامى منهم؛ لأن الكتابات النبطية المتقدمة لم تكن مثل الكتابات النبطية المتأخرة في قربها من الأبجدية العربية القديمة1.
هذا ولم يُبحث موضوع أخذ "ابن الكلبي" من بيع الحيرة حتى الآن بحثًا علميًا مركزًا. وهو موضوع أرى أنه جدير بالدراسة والعناية. وحري بأن يقارن ما ذكره "ابن الكلبي" بما جاء في الموارد النصرانية عن "آل نصر"، لنرى مقدار الصحة من الخطأ في فهم "ابن الكلبي" لتلك الموارد التي ذكر أنه قرأها وأنه استعان بها في جمع تأريخ عرب العراق قبل الإسلام.
ولم يبقَ من القائمة الطويلة التي ضمنها "ابن النديم" مؤلفات ابن الكلبي غير قليل2. وهي في المآثر والبيوتات والمنافرات والمئودات وأخبار الأوائل، وفيما قارب الإسلام من أمر الجاهلية، وفي أخبار الشعر وأيام العرب، والأخبار والأسماء والأنساب3.
وهناك بعض الشبه بين بحوث أبي عبيدة "المتوفى سنة عشر
1 Di Araber، IV، S. 3. f.
2 الفهرست 140، إرشاد "7/ 251"،
Brockelmann، I، S. 138، Supp1. I، S. 211. f.
3 الفهرست 140، وفيات الأعيان "2/ 258"، "قال ياقوت في معجم البلدان 2: 158: لله درّه ما تنازع العلماء في شيء من أمور العرب، إلا وكان قوله أقوى حجة، وهو مع ذلك مظلوم وبالقوارض مكلوم"، تأريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان "3/ 31"، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار.
ومائتين"1 الذي كان له علم بالجاهلية، ومصنفات وبحوث في القبائل والأنساب2، وبين ابن الكلبي في اتجاهه ومناحيه؛ ولكنه دونه في أخباره عن الجاهلية، ومؤلفاته في أمور الجاهلية لا تعد شيئًا بالنسبة إلى ما ينسب إلى ابن الكلبي من مؤلفات، كما أن أخباره ورواياته عنها قليلة بالنسبة إلى أخبار ابن الكلبي ورواياته.
وهناك عدد آخر من العلماء، كالأصمعي، و "الشرقي بن القطامي"3، وسائر من اشتغل بالأنساب واللغة والأدب، كان لهم فضل كبير في جمع أخبار الجاهلية المتصلة بالإسلام، وقد تولدت من شروحهم وأماليهم وكتبهم ثروة تاريخية قيمة لم ترد في كتب التاريخ؛ ولكن عرض أسمائهم هنا وذكر بحوثهم ومؤلفاتهم يضطرنا إلى كتابة فصول طويلة عن جهودهم وأتعابهم وعن ضعف رواياتهم أو قوتها، وذلك يخرجنا عن حدود كتابنا، ولهذا اكتفي هنا بما كتبت وذكرت، على أن أتعرض لآراء الباقين في المواضع التي ترد فيها، فأُشير إلى صاحبها وإلى روايته عن الحادث. ولكن لا بد لي من التحدث عن عالمين من علماء اليمن، ألّفا في تأريخ اليمن القديم، وجاءا بمعلومات ساعدتنا كثيرًا في توسيع معارفنا بالأماكن الأثرية هناك؛ إذ أشار إلى أسماء أبنية ومواضع، وشخصا أمكنه، ووصفا عاديات رأياها، فأفادنا بذلك فائدة كبير.
أما أحدهما، فهو الهمداني، أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف المتوفى سنة 334هـ4. أو بعد ذلك كما ذهب إلى ذلك الحوالي5. وأما
1 "وقيل إحدى عشرة، وقال أبو سعيد: سنة ثمان، وقيل سنة تسع."، "أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي"، "وقيل: كان شعوبيًا يطعن في الأنساب، الفهرست "ص79"، إرشاد "7/ 165".
2 Ency.، Vol.، I، S.، 195، Flugel،
Die Grammatischen Schulen، S.، 68، Brockelmann، 1، S.، 103.
3 وقد اتهم بالوضع والتلفيق، الفهرست "ص132".
راجع عن الهمداني: تأريخ آداب اللغة العربية "2/ 204"، ابن القفطي: تأريخ الحكماء "أخبار الحكماء"، "طبعة lippert، 113، إرشاد "3/ 9"، السيوطي: بغية الوعاة "217"، مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق: الجزء الأول من المجلد الخامس والعشرين سنة 1950 ص62، مقالة للسيد حمد الجاسر بعنوان: "الجزء العاشر من الإكليل".
4 Brockelmann، I، S-، 229، Suppl.، I، S.، 409، Ency.، 2 P.، 246، Muller، Sudarab. Stud.، 170.
واشتهر ب"ابن الحاثك" وب"ابن أبي الدمينة"، الإكليل"8/ 297" طبعة الكرملي.
5 محمد بن علي الأكوع الحوالي، محقق الجزء الأول من كتاب الإكليل للهمداني الإكليل"1/ 60".
الآخر؛ فهو "نشوان بن سعيد الحميري"، المتوفى سنة 573هـ.
لقد بذل الهمداني مجهودًا يقدر في تأليف كتبه وفي اختيار موضوعاته، وسلك في بحوثه سبيلًا حسنًا بذهابه بنفسه إلى الأماكن الآثارية وبوصفه لها في كتبه؛ فأعطانا بذلك صورًا لكثير من العاديات التي ذهب أثرها واختفى رسمها، بل طمست حتى أسماء بعضها. وبمحاولته قراءة المسند وترجمته إلى عربيتنا، للوقوف على معناها ومضمونها، يكون قد استحق التقدير والثناء؛ لأن عمله هذا يدل على إدراكه لأهمية الكتابات في استنباط التوريخ. على أننا يجب أن نذكر أيضًا أن الهمداني لم يكن أول من عمد إلى هذه الطريقة، طريقة قراءة الكتابات لاستنباط التواريخ منها؛ فقد سبقه غيره في هذه القراءات، وكانوا مثله يبغون الوقوف على ما جاء فيها، ومعرفة تواريخها. وقد أشار "الهمداني" نفسه إليهم وذكرهم بأسمائهم، مثل "أحمد بن الأغر الشهابي من كندة" و "محمد ابن أحمد الأوساني" و "مسلمة بن يوسف بن مسلمة الحيواني" وغيرهم1.
فهم مثله يستحقون الثناء والتقدير أيضًا، وهم بطريقتهم هذه في جمع مادة التأريخ يكونون على شاكلة الآثاريين المحدثين في إدراك أهمية دراسات الآثار والكتابات بالنسبة إلى اكتشاف تواريخ العاديات، وهم بطريقتهم هذه يكونون قد فاقوا غيرهم من المؤرخين العرب في الأمكنة الأخرى بهذه الطريقة؛ فقلما نجد مؤرخين في الأماكن الأخرى، لجأوا إلى دراسة الآثار ودراسة الكتابات ووصف الأمكنة الآثارية لاستنباط التواريخ منها كما يفعل الآثاريون في الزمن الحاضر.
وقد أثنى الهمداني بصورة خاصة على أساتذ له أخذ منه، فوسمه بأنه "شيخ حمير، وناسبها، وعلامتها، وحامل سفرها، ووارث ما ادّخرته ملوك حمير خزائنها من مكنون علمها، وقارئ مساندها، والمحيط بلغاتها"2 وسمّها "أبا نصر محمد بن عبد الله اليهري". وقال: إنه كان مرجعه فيما كان يشكل عليه من أخبار أهل اليمن، والمنبع الذي غرف منه علمه بأحوال الماضين، إلى أن قال: "وكان بحاثة، قد لقي رجلًا وقرأ زبر حمير القديمة ومساندها الدهرية؛ فربما نقل الاسم على لفظ القدمان من حمير، وكانت أسماء فيها ثقل، فخففتها العرب،
1 الإكليل"10/ 15، 16، 19، 20، 111".
2 الإكليل"1/ 9".
وأبدلت فيها الحروف الذلقية، وسمع بها الناس مخففة مبدلة؛ فإذا سمعوا منها الاسم الموفّر، خال الجاهل أنه غير ذلك الاسم، وهو هو. فمما أخذته عنه، ما أثبته هنا في كتابي هذا من أنساب بني الهميسع بن حمير وعدة الأذواء وبعض ما يتبع ذلك من أمثال حمير وحكمها، إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة، ومن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف"1.
ولملاحظة "الهَمْداني" على الأسماء اليمانية القديمة، وثقلها على ألسنة الناس في أيامه وقبل أيامه، شأن كبير؛ إذ ترينا أن لسان أهل اليمن كان قد تغير وتبدل، وأن ذلك التغير قد تناول حتى الأسماء، فصارت الأسماء القديمة ثقيلة على أسماعهم، غليظة الوقع عليهم، فخففوها أو بدّلوها، والواقع أننا نشعر من المساند المتأخرة التي وصلت إلينا وقد دُوّنت في عهود لا تبعد كثيرًا عن الإسلام، ومن الموارد الإسلامية أن الأسماء اليمانية المدوّنة في كتابات المسند التي يرجع عهدها إلى ما قبل الميلاد، هي أسماء أخذت تقل في كتابات المسند المدونة بعد الميلاد إلى قبيل الإسلام، وأن أسماء أخرى جديدة أخف على السمع حلت محل الأسماء المركبة القديمة. وفي هذا التطور دلالة على حدوث تغير في عقلية أهل اليمن بعد الميلاد، وعلى حصول تقارب بين لغتهم ولغة أهل الحجاز وبقية العرب الذين يسميهم المستشرقون "العرب الشماليين".
وقد حملني قول الهمداني أنه أخذ أخبار رجال حمير وكهلان من "سجل خولان القديم بصعدة"2، على مراجعة متن الجزء الأول من الإكليل للوقوف على الأماكن التي اعتمد فيها على هذا السجل، لأتمكن بها من تكوين رأي عنه، ومن الحصول على فكرة عما جاء فيه. وقد وجدته يقول في موضع منه: "وقرأت في السجل الأول: أولد قحطان بن هود أربعة وعشرين رجلًا، وهم: يعرب، والشلف الكبرى، ويشجب، وأزال وهو الذي بنى صنعاء، وبكلي الكبرى، بكسر الياء، وخولان: خولان رداع التي في القفاعة، والحارث وغوثا، والمرتاد، وجُرهما، وجديسا، والمتمنع، والملتمس، والمتغشمر، وعبادا، وذا هوزن، ويمنا، وبه سميت اليمن، والقطاميّ،
1 الإكليل"1/ 13 فما بعدها".
2 المصدر نفسه.
ونباته، وحضرموت، فدخلت فيها حضرموت الصغرى، وسماكًا، وظالمًا، وخيارًا، والمشفتر1". ووجدته يقول في موضع آخر:"وأصحاب السجل يقولون مثل قول بعض الناس فيما بين عدنان وإسماعيل"2، ووجدته يقول:"وفي سجل خولان وحمير بصعدة: أولد مهرة الآمري، والدين، ونادغم، وبيدع.."3 ويقول في "باب نسب خولان بن عمرو"، "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطللت على أخبار خولان وأنسابها، ورجالها كما أطللت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد ابن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام"4. وقال في موضع: "وقال بعض وضعة السجل ونساب الهميسع"5. ويتبين من هذه الملاحظات أن السجل المشار إليه هو مجموعة أجزاء، وضعها جملة أشخاص، كل جزء سجل قائم بذاته في الأنساب، وهو متفاوت الأزمنة، ويشمل القبائل والناس. وقد جمعت جمعًا، على طريقة رواة النسب في رواية الأنساب. ولا أستبعد أن يكون السجل قد وضع في صدر الإسلام، حينما شرع في أيام "عمر" بتسجيل النسب في ديوان. فدونت عندئذ أنساب القبائل، ورجع في ذلك إلى ما كان متعارفًا عليه من النسب في الجاهلية الملاصقة للإسلام وفي صدر الإسلام، ثم أكمل على مرور الأيام، ولذلك تعددت الأيدي في كتابته، وصار على شكل فصول في أنساب القبائل، كل سجل في نسب قبيلة وما يتفرع منها. والطابع البارز عليه هو الطابع اليماني المحليّ المتأثر بالروايات التوراتية عن "اليقطانيين"، الذين صُيروا قحطانيين بتأثير روايات أهل اليمن من أهل الكتاب وعلى رأسهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، وربما من أناس آخرين سبقوهم، ومن الروايات اليمانية المحلية التي تعارف عليها أهل اليمن في أنساب قبائلهم آنئذ. ولهذا نجد الطابع اليماني المحلي بارزًا في مؤلفات أهل اليمن التي نقل منها الهمداني وأمثاله، ولا نجدها على هذا النحو في مؤلفات
1 الإكليل"1/ 131 وما بعدها"
2 الإكليل"1/ 136".
3 الإكليل"1/ 193.
4 الإكليل"1/ 199".
5 الإكليل"1/ 355"، "قال أهل السجل"، الإكليل"2/ 1، 16".
النسّابين الشماليين الذين ينسبون أنفسهم إلى اليمن مثل "ابن الكلي" وأضرابه؛ لأنهم كانوا بعيدين عن اليمن؛ فعلمهم بالروايات اليمانية، ولا سيما رويات أهل حمير وصعدة وخولان وصنعاء وغيرهم من النسابين المحليين، لذلك، قليل.
وقد أورد الهمداني في الجزء الثاني من كتابه "الإكليل" جملة تدل على أن "السجل القديم" الذي يشير إليه في كتابه، كان سجل نسّابة عرف بـ "ابن أبان"؛ إذ يقول:"قال الهمداني: قال علماء الصعديين وأصحاب السجل القديم: سجل ابن أبان"1. ولعل "ابن أبان" كان قد وضعه وجمعه في أبواب، ثم جاء جمع من النسابين؛ فأضافوا عليه فصولًا جديدة في الأنساب، وعرف الكتاب كله وبجميع فصوله ب"السجل". وقد كان أصحاب السجل من أهل صعدة، لما ذكره الهمداني من قوله:"عن الصعديين من أصحاب السجل"2.
وكان "الهمداني"، قد نصّ في الجزء الأول من "الإكليل" على أن ذلك السجل، هو سجل "محمد بن أبان الخنفري"؛ وذلك في أثناء حديثه على بطون "صعدة"، إذ قال:"فهذه الآن بطونها على ما روى رجال خولان وحمير بصعدة. وقد سكنت بها عشرين سنة، فأطللت على أخبار خولان وأنسابها ورجالها، كما أطللت على بطن راحتي، وقرأت بها سجل محمد بن أبان الخنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في هذا الكتاب، ومنها ما دخل في كتاب الأيام"3. ويُفهم من هذا النص، أن السجل المذكور هو سجل "محمد بن أبان" وكان يحفظه، وقد ورثه من الجاهلية.
ويظهر من إشارات "الهمداني" إليه، أنه قصد بهذا السجل "السجل القديم"، وأما السجلات الأخرى؛ فقد كانت من وضع علماء آخرين من علماء النسب كانوا بمدينة صعدة، وقد جمعوا أنساب خولان وحمير وقبائل أخرى، وأضافوها على شكل مشجرات نسب إلى ذلك الديوان؛ فصار مجموعة سجلات. ولهذا كان ينبه "الهمداني" إلى الموارد التي كان يستقي منها من غير ذلك السجل، كالذي ذكره من "أنساب بني الهميسع بن حمير"، إذ قال: "إلا
1 الإكليل "2/ 14".
2 الإكليل "2/ 16".
3 الإكليل "1/ 199"، "وفي سجل خولان وحمير بصعدة""1/ 193".
ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل خولان القديم بصعدة وعن علماء صنعاء وصعدة ونجران والجوف وخيوان وما أخبرني به الآباء والأسلاف"1.
وأما ما يذكره "الهمداني" من أن أصل السجل القديم وأساسه جاهلي؛ فأمر لا أريد أن أبتّ فيه الآن. لا أريد أن أنفيه، ولا أريد أن أُثبته أيضًا. بل أقف منه موقف المحايد الحذر، لأني لا أجد في المنقول منه في كتاب "الإكليل" ما يشير إلى جاهلية وأصل جاهلي، فالمشجرات المذكورة هي من هذا النوع المألوف الذي نراه في كتب الأنساب المؤلفة في الإسلام، وبعضه متأثر بروايات التوراة، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أرجعه إلى ما قبل الإسلام، ولا أستطيع أن أتبحر فيه وفي أصله ما دمت لا أملك "السجل" نفسه، لا القديم منه ولا الجديد، أو نصوصًا طويلة أُخذت منه، حتى يسهل عليّ الحكم من قراءتي لما ورد ومن دراسته على أصل ذلك الكتاب وصحة نسبته إلى الجاهلية.
وأما "الخنفري"، صاحب السجل، فهو:"محمد بن أبان بن ميمون بن حريز الحنفري"2. ولد في ولاية معاوية بن أبي سفيان في سنة خمسين، وتُوفي في سنة خمس وتسعين ومائة، ودفن في رأس "حدبة صعدة"3. هذا ما رواه "الهمداني" عنه. وذكر "الهمداني" أنه عاش "125" سنة، ولو أخذنا بهذا الرقم الذي ذكره "الهمداني"، فيجب أن تكون سنة وفاته "175"، لا "195" للهجرة. ولذلك، فيجب أن يكون في تأريخ المولد أو الوفاة وربما في مدة عمر "الخنفري" خطأ. وإني أشك في طول ما ذكره عن عمره.
وكان لغير أهل صعدة كتب في الأنساب أيضًا، دوّنوا فيها أنسابهم، كما كان هناك نسابون حفظوا أنساب قبائلهم أشار "الهمداني" إليهم في مواضع من كتابه4. وهم من غير أصحاب السجل. وكان بعض منهم قد قابل بين ما دوّنه عن القبائل وبين ما دوّن في السجل عنها، كما كان أهل السجل يعرضون
1 الإكليل "1/ 13 فما بعدها".
2 إكليل "1/ 199، 227"، الإكليل" 2/ 118.
3 الإكليل "2: 119".
4 الإكليل "2/ 102، 194"، "قال الهمداني: فخبرني محمد بن أحمد القهبي السمسار وكان خبيرًا بالخطيين"، الإكليل "2/ 65".
ما دوّنوه عن القبائل على نسّابيها لبيان رأيهم فيها. قال الهمداني "بطون الصدف، عن الصعديين من أصحاب السجل، مقروء على بعض نسّابة الصدف"1.
ونجد في الجزء الثامن من الإكليل مواضع ذكر فيها الهمداني "أبا نصر" أيضًا. وقد راجعتها وراجعت الأماكن التي أشير فيها إليه في الجزء الأول؛ فتبيّن لي أن علم "أبي نصر" بتأريخ اليمن القديم هو على هذا الوجه: إحاطة بأنساب القبائل اليمانية على النحو الذي كان شائعًا ومتعارفًا في أيامه ومسجّلًا في سجلات الأنساب في تلك الأيام، ورواية للأساطير التي راجعت عن التبابعة، وأخذ من موارد توراتيه ظهرت في اليمن من وجود اليهود فيها قبل الإسلام.
أما علمه بالمساند ومدى وقوفه عليها؛ فأنا أعتقد أن علمه بها لا يختلف عن علم غيره من أهل اليمن: وقوف على الحروف، وتمكن من قراءة الكلمات، وإحاطة عامة بالمسند. أما فهم النصوص واستنباط معانيها بوجه صحيح دقيق؛ فأرى أنه لم يكن ذا قدرة في ذلك، وهو عندي في هذا الباب مثل غيره من قرّاء الخط الحميري. ودليلي على ذلك أن القراءات المنسوبة إليه هي قراءات لا يمكن أن تكون قراءات لنصوص جاهلية، وإن تضمنت بعض أسماء يمانية قديمة، لسبب بسيط، هو أن أساليبها ومعانيها ونسقها لا تتفق أبدًا مع الأساليب والمعاني المألوفة في الكتابات الجاهلية، فقراءات أبي نصر وأمثاله قراءات بعيدة جدًّا عن النصوص المعهودة، هي قراءات إسلامية فيها زهد وتصوف وتوحيد وحضٌ على الابتعاد عن الدنيا. أما نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن فإنها نصوص وثنية لا تعرف هذه المعاني، وأسلوبها في الكتابة لا يتفق مع ذلك الأسلوب. وهي في أمور أخرى شخصية أو حكومية لا صلة لها بمثل هذه الآراء والمعتقدات.
وقد أورد "الهمداني" نصًّا قال: إنه قراءة من قراءة "أبي نصر" فيه نسب "عابر"، هذا نصه: "قال أبو نصر: الناس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم بن بضم بن عوضين بن شدّاد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ. وذكر أنه وجد هذا النسب في بعض مساند
1 الإكليل "2/ 16".
حمير في صفاح الحجارة"1. وقارئ هذا النص الذي هو مزيج من رواية توراتية ومن إضافة غريبة، يخرج من قراءته برأي واحد هو أن "أبا نصر"، كان لا يتوقف عن نسبة أمور من عنده إلى المساند، فيحلمها ما لا يعقل أن تحمله أبدًا؛ فلو كان النص حميريًا صحيحًا مأخوذًا من التوراة، لكان النسب على نحو ما ورد في التوراة، ولو كان صاحبه وثنيًّا لا يدين بدين سماوي، فإنه لا يعقل أن يخلط فيه هذا الخلط.
ولكنني لا أريد هنا أن أكتفي بتقديم التقدير إلى الهمداني وإلى الباقين من علماء اليمن الذين سبقوه أو جاءوا من بعده والثناء على طريقتهم المذكورة، بل لا بد لي من التحدث عن درجة علم هؤلاء العلماء بالمسند، وبقراءة الكتابات وبعلمهم بمعانيها، أي علمهم بقواعد وأصول اللهجات التي كتبت بها مثل اللهجة المعينية أو السبئية أو القتبانية أو الحضرمية وغيرها من بقية اللهجات، وذلك ليكون كلامنا كلامًا علميًّا صادرًا عن درس ونقد وفهم بعلم أولئك العلماء بتأريخ اليمن القديم.
ولن يكون مثل هذا الحكم ممكنًا إلا بالرُّجوع إلى مؤلفات "الهمداني" وغيره من علماء اليمن لدراستها دراسة نقد عميقة. ومقابلة ما ورد فيها من قراءات للنصوص مع قراءات العلماء المحدثين المتخصصين بالعربيات الجنوبية لتلك النصوص إن كانت أصولها أو صورها موجودة محفوظة، وعنذئذ يمكن الحكم حكمًا علميًا سليمًا على مقدار علم أولئك العلماء بلغات اليمن القديمة وبتأريخها المندرس؛ ولكننا ويا للأسف لا نملك كل أجزاء كتاب "الإكليل" ولا كل مؤلفات الهمداني أو غيره من علماء اليمن؛ فالجزء التاسع من الإكليل مثلا وهو جزء خصص بأمثال حمير وبحكمها باللسان الحميري وبحروف المسند2، هو جزء ما زال مختفيًا؛ فلم نر وجهه، وهو كما يظهر من وصف محتوياته مهم بالنسبة إلينا، وقد يكون دليلًا ومرشدًا لنا في إصدار حكم على علم الهمداني بلغة حمير. ولكن ماذا نصنع
1 الإكليل "1/ 93".
2 للوقوف على الأجزاء الأخرى من كتاب "الإكليل" تراجع مقدمة "نبيه فراس"
Brockelmann، vol. I، s. 229، Ency. Vol. 246
"قال الهمداني: أكثر ما وجد في المساند القبورية بكلام الحميرية، وأنا لما جعلنا الجزء السابع؟ مقصورًا على الكلام بالحميرية" الإكليل "8/ 143""طبعة الكرملي" وقد أخطأ الكرملي في كلمة "السابع"، والواجب أن يكون الرقم:"التاسع".
ونفعل، وقد حرمنا رؤية هذا الجزء، وليس في مقدورنا نشره وبعثه؛ فهل نسكت ونجلس انتظارًا للمستقبل، عسى أن يُبعث إلى عالم الوجود؟
هذا، وقد طُبع الجزء الثامن من الإكليل وكذلك الجزء العاشر منه، فاستفاد منهما المولعون بتأريخ اليمن القديم وبتأريخ بقية أجزاء العربية الجنوبية، وطُبع الجزء الأول من هذا الكتاب حديثًا برواية "محمد بن نشوان بن سعيد الحميري"، وقد ذكر أنه اختصر شيئًا في مواضع الاختلاف وفي النسب مما ليس له شأن في نظره دون أن يؤثر على الكتاب1.
وطُبع الجزء الثاني من الإكليل أيضًا، أخرجه ناشر الجزء الأول:"محمد ابن علي الأكوع الحوالي" من عهد غير بعيد2، وليس لنا الآن إلّا أن نرجو نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب؛ ليكون في وسعنا الحكم على ما جاء فيه من أخبار عن أهل اليمن الجاهليين.
إن أقصى ما نستطيع في الزمن الحاضر فعله وعمله لتكوين رأي تقريبي تخميني من علم الهمداني وعلم بقية علماء اليمن بلهجات أهل اليمن القديمة وبتأريخهم القديم، هو أن نرجع إلى المتيسر المطبوع من مؤلفاتهم، لدراسته دراسة نقد علمية عميقة؛ لاستخراج هذا الرأي منها. وهو وإن كان أقل من الضائع بكثير؛ ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، الموجود خير من المعدوم، وفي استطاعته تقديم هذا الرأي التخميني التقريبي. فلنبحث إذن في هذا المطبوع لنرى ما جاء فيه.
أما بخصوص الخط المسند، فقد ذكر "الهمداني" أن جماعة من العلماء في أيامه كانت تقرأ المسند؛ غير أن أولئك العلماء كانوا يختلفون فيما بينهم في القراءة، وكان سبب ذلك -على رأيه- اختلاف صور الحروف؛ "لأنه ربما كا للحرف أربع صور وخمس، ويكون للذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة"3. وقد عرف "الهمداني" أن كتّاب المسند كانوا يفصلون بين كل كلمة وكلمة في السطر بخط قائم، وذكر أنهم كانوا يقرءون كل سطر بخط. غير أنه لم يذكر عدد الحروف. وصرح أنهم "كانوا يطرحون الألف إذا كانت بوسط
1 طبع في مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة سنة 1963، ونشر برقم 2 من المكتبة اليمنية "15.
2 القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1966م.
3 الإكليل "8/ 122".
الحرف، مثل ألف همدان وألف رئام، فيكتبون رئم وهمدن، ويثبتون ضمة آخر الحرف وواو "عليهمو"1. وهي ملاحظات تدل على إحاطة عامة بالمسند، سوى ما ذكره من أنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويظهر أنه وغيره قد توصلوا إلى هذا الرأي من اختلاف أيدي الكتّاب في رسم الحروف ونقرها على الحجر؛ كالذي يحدث عندنا من تباين الخطوط باختلاف خطوط كتبته، فأدى تباين الخط هذا إلى اختلافهم في القراءة، وإلى ذهابهم إلى هذا الرأي، أو أنهم اختلفوا فيها من جراء تشابه بعض الحروف مثل حرف الهاء والحاء؛ فإن هذين الحرفين متشابهان في الشكل، فكلاهما على هيئة كأس يرتكز على رجل، والفرق بينهما، هو في وجود خط عمودي في وسط الكأس هو امتداد لرجل الكأس، وذلك في حرف "الحاء"، أما الهاء، فلا يوجد فيه هذا الخط الذي يقسم باطن الكأس إلى نصفين. ويشبه حرف "الخاء" حرف "الهاء" في رسم رأس الكأس؛ ولكنه يختلف عنه في القاعدة؛ إذ ترتكز هذا الرأس على قاعدة ليست خطًّا مستقيمًا، بل على قاعدة تشبه كرسي الجلوس ذي الظهر. ومثل التشابه بين حرفي الصاد والسين، فكلاهما على هيئة كأس وضعت وضعًا مقلوبا؛ بحيث صارت القاعدة التي ترتكز الكأس عليها إلى أعلى. أما الرأس، وهو باطن الكأس؛ فقد وضع في اتجاه الأرض. ولكن قاعدة "الصاد" هي على هيئة رقم خمسة في عربيتنا، أي على هيئة دائرة أو كرة بينما قاعدة حرف السين هي خط مستقيم، أما باطن كأس حرف "الصاد"؛ ففيه خط يقسمه إلى قسمين وذلك في الغالب، وقد يهمل هذا الخط المقسم، أما حرف السين، فلا يوجد فيه هذا الخط2.
وجاء "نشوان بن سعيد الحميري" بملاحظات عن "المسند" هي الملاحظات
1 الإكليل "8/ 122"، "طبعة نبية"، "8/ 141"، -طبعة الكرملي-، له ملاحظات أخرى في كيفية الكتابة بـ المسند، ذكرها في الجزء العاشر ص16، 17، "والمسند: خط حمير، مخالف لخطنا هذا، كانوا يكتبونه أيام مسكهم فيما بينهم، قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن، لسان العرب "4/ 206"، الفهرست ص8، الجزء الأول من مجلة المجمع العلمي العراقي في "جمهرة النسب"، ص345، سنة 1950.
2 للوقوف على أشكال حروف المسند، يستحسن مراجعة جدول الحروف الموضوع في هذا الجزء.
التي أوردها "الهمداني" عنه؛ فقال: المسند: خط حمير، وهو موجود كثيرًا في الحجارة والقصور، وهذه صورته على حروف المعجم.. وله صور كثيرة؛ إلا أن هذه الصورة أصحها. وأعلم أنهم يفصلون بين كل كلمتين بصفر؛ لئلا يخلط الكلام. وصورة الصفر عندهم كصورة الألف في العربي1.. وما قلته عن تعدد صور الحرف قبل قليل، ينطبق على ملاحظة "نشوان" أيضًا. ويظهر أن قومًا من أهل اليمن بقوا أمدًا في الإسلام وهم يتوارثون هذا الخط ويكتبون به؛ فقد جاء في بعض الموارد:"والمسند خط حمير، مخالف لخطّنا هذا، كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن"2؛ إلا أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الخط العربي الشمالي الذي دوّن به القرآن الكريم، فغلب على أمره، وتضاءل عدد الكتاب به حتى صار صفرًا.
ومما يؤسف عليه كثيرًا أننا لا نملك النسخ الأصلية التي كتبها أولئك العلماء بخط أيديهم حى نرى رسمهم لحروف المسند. فإن الصور المرسومة في المخطوطات الموجودة وفي النسخ المطبوعة، ليست من خط المؤلفين، بل من خط النساخ، فلا أستبعد وقوع المسخ في صور حروف المسند في أثناء النقل، ولا سيما إذا تعددت أيدي النساخ بنسخ أحدهم عن ناسخ آخر. وهكذا. فليس للنساخ علم بالمسند، ولذا لا أستبعد وقوعهم في الخطأ. ومن هنا فإن من غير الممكن إصدار رأي في مقدار إتقان الهمداني وبقية العلماء لرسم حروف الخط المسند.
وقد أشار "الدكتور كرنور" إلى هذه الحقيقة؛ إذ ذكر أن صور الحروف الحميرية في "الإكليل" تختلف باختلاف النسخ اختلافًا كبيرًا؛ فقد صوّر كل ناسخ تلك الحروف على رغبته وعلى قدرته على محاكاة النقوش، ومن هنا تباينت وتعددت؛ فأضاعت علينا الصور الأصلية التي رسمها الهمداني لتلك الحروف3.
أما رأينا في علم علماء اليمن بفهم المسند، فيمكن تكوينه بدراسة النصوص الواردة في مؤلفاتهم وبدراسة معرباتها ومقابلتها بالنصوص الأصلية المنقورة على الحجارة إن كانت تلك النصوص الأصلية لا تزال موجودة باقية، أو بمراجعة
1 منتخبات "ص52".
2 لسان العرب "4/ 206".
3 الإكليل "8/ 328""طبعة الكرملي".
النصوص المدونة ومقابلتها بمعرباتها لنرى درجة قرب التعريب أو بعده من الأصل. وعندئذ نستطيع إبداء حكم على مقدار فهم القوم لكتابات المسند. أما في حالة اكتفاء المؤلف بإيراد التعريب فقط أي معنى النص لا متنه، فليس أمامنا من سبيل غير وجوب مراجعة المعربات ودراستها من جميع الوجوه؛ لنرى مقدار انطباق أساليبها على الأساليب المألوفة في كتابات المسند، وعندئذ نتمكن من تكوين رأي في هذا الذي ورد في المؤلفات على أنه ترجمات، ونتمكن بذلك من الحكم بمقدار قرب تلك الترجمات والقراءات من المسند أو بعدها منه.
وخلاصة ما توصلت إليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري؛ إلا أنه لم يكن ملمًّا بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصوص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما كان قد ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبًا"، وهو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، ومعبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الأسرة المالكة لهمدان. وجعل "رياما"، وهو اسم مكان من الأمكنة المشهورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنًا من أبناء "نهافان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه؛ فوهب له أمًّا قال لها:"ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار"1.
وأورد "الهمداني" نصًّا ذكر أن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده بـ "ناعط"، فقرأه، فإذا هو:"علهان ونهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديمًا كان"2. وقد عدّ "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و"نهفان"، مع أن "علهان نهفان"، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ وسيأتي ذكره. وقد كان والده "يريم أيمن بن أوسلت رفشان" من قبيلة "همدان". وكلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". وكان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ورد ذلك في كتابة عثر عليها في "ريام"3؛ فلم يكن
1الإكليل "10/ 17، 18".
2 الإكليل "10/ 16".
3 المختصر في علم اللغة الجنوبية، تأليف "أغناطيوس غويدي" من نشريات الجامعة المصرية، القاهرة سنة 1930، ص21، راجع النص الموسوم ب: C.I.H. 315
والده إذن رجلًا اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة.
وأما "بتع"، فقبيلة من قبائل همدان، وأما جملة:"لهم الملك قديمًا كان"؛ فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية، وليس التعبير -وإن فرضنا أنها ترجمة للأصل- من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريبًا من هذا المعنى أو كان شيئًا آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير.
ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا على اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلًا على ذلك:"بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة. فقد تصوّر القوم عند قراءتهم لها، أنها تعني أبدًا "ابنًا" على نحو ما يُفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك" ابن بتع" أو "ابن همدان"، والمقصورد من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"؛ وبذلك تغيّر المعنى تمامًا، ومن هنا وقع القوم -على ما أعتقد- في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل وأسماء الأماكن الورادة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان، وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط1.
وجاء الهمداني بنصوص أُخر ذكر أنها كانت مكتوبة بالحميرية، مثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه:"شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة"2. وأمثال ذلك من النصوص. ولا أعتقد أنك ستقول: إن هذا نصّ حميري، ولا يسع امرأً له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص
1 Ditlef Nielsen، Der Sabaische Gott Ilmukah، Leipzig، 2.
2 الإكليل "10/ 19".
حميري؛ بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعلّه كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه؛ فجاء بهذه العبارة. وعلى كلٍ، إن كل الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا يمكن أن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلّنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره.
ويأتي "الهمداني" أحيانًا بأبيات شعر زاعمًا أنها من المسند؛ ففي أثناء كلامه مثلًا على قصر "شحرار" قال: "وفي بعض مساند هذا البنيان بحرف المسند"
شحرار قصر العلا المنيف
…
أسسه تبع ينوف
يسكنه القيل ذي معاهر
…
تخر قدّامه الأُنوف"1
أما نحن، فلم نعثر حتى اليوم على أية كتابة بالمسند ورد فيها شعر، لا بيت واحد ولا أكثر من بيت. وأما متن البيتين المذكورين، فليس حميريًّا ولا سبئيًّا ولا معينيًّا وليس هو بأية لهجة يمانية أخرى قديمة؛ وإنما هو بعربيتنا هذه، أي بالعربية التي نزل بها القرآن الكريم، نظمه من نظمه من المحدثين بهذه اللغة البعيدة عن لغات أهل اليمن.
أما الباب الذي عقده في الجزء الثامن بعنوان: "باب القبوريات"، فقد استمد مادته من روايات وأخبار "هشام بن محمد السائب الكلبي"2، و "ابن لهيعة"3 و "موهبة بن الدعام" من همدان4 و "أبي نصر"5 و "وهب بن منبه"6 و "كعب الأحبار" و "عبد الله بن سلام"7. وقد
1 الإكليل "8/ 66""طبعة الكرملي".
2 الإكليل "8/ 144، 147، 154 فما بعدها، 177، 196 ومواضع أخرى""طبع الكرملي".
3 الإكليل "8/ 145، 195".
4 الإكليل "8/ 146".
5 الإكليل "8/ 173".
6 الإكليل "8/ 180""وقد ذكر القصة كاملة وهب بن منبه في تيجان الملوك"، الإكليل" 8/ 186".
7 الإكليل "8/ 309""طبعة الكرملي".
أورد فيه نصوصًا زعم أنها ترجمات لنصوص المسند، عثر عليها في القبور عند الأجداث. وأورد بعضها شعرًا، زعم أنه مما وجد في تلك القبور، كالذي ذكره عند حديثه عن قبر "مرشد بن شدّاد1، وعن قبرين جاهليين عُثر عليهما ب"الجند" وقد نصّ على أن الشعر المذكور كان مكتوبًا بالمسند وقد دوّنه2. وهو وكل الأشعار الأخرى ومنها المرائي منظوم بعربية القرآن، وأما النثر، فإنه بهذه العربية أيضًا، وهو في الزهد والموعظة والندم والحث على ترك الدنيا؛ فكأن أصحاب القبور، من الوعاظ المتصوفين الزهاد، ماتوا ليعظوا الأحياء من خلال القبور، ولم يكونوا من الجاهليين من عبدة الأصنام والأوثان.
وهو قسم بارد سخيف، يدل على ضعف أحلام رواته، وعلى ضعف ملكة النقد عند "الهمداني" وعلى نزوله إلى مستوى القصاص والسمّار والأخباريين الذين يروون الأخبار ويثبتونها وإن كانت مخالفة للعقل؛ إذ أنه لا يختلف عنهم هنا بأي شيء كان.
ومجمل رأيي في "الهمداني" أنه قد أفادنا ولا شك بوصفة للعاديات التي رآها بنصه على ذكر أسمائها، وأفادنا أيضًا في إيراده ألفاظًا يمانية كانت مستعملة في أيامه استعمال الجاهليين لها: وقد وردت في نصوص المسند، فترجمها علماء العربيات الجنوبية ترجمة غير صحيحة؛ فمن الممكن تصحيحها الآن على ضوء استعمالها في مؤلفات الهمداني وفي مؤلفات غيره من علماء اليمن. أما من حيث علمه بتأريخ اليمن القديم؛ فإنه وإن عرف بعض الأسماء إلّا أنه خلط فيها في الغالب، فجعل اسم الرجل الواحد اسمين، وصير الأماكن آباءً وأجدادًا، وجعل أسماء القبائل أسماء رجال، ثم هو لا يختلف عن غيره في جهله بتأريخ اليمن القديم؛ فملأ الفراغ بإيراده الأساطير والخرافات والمبالغات، وأما علمه بالمسند فقد ذكرت أنه ربما قرأ الكلمات، ولكنه لم يكن يفقه المعاني، ولم يكن ملمًّا بقواعد اللهجات اليمانية القديمة، وقد حاولت العثور على ترجمة واحدة تشير إلى أنها ترجمة صحيحة لنصٍّ من نصوص المسند؛ فلم أتمكن من ذلك ويا للأسف.
1 الإكليل "8/ 175""طبعة الكرملي".
2 الإكليل "8/ 178".
وعلم "الهمداني" بجغرافية اليمن والعربية الجنوبية، يفوق كثيرًا علمه بتأريخ هذه الأرضين القديم؛ فقد خبّر أكثرها بنفسه وسافر فيها، فاكتسب علمه بالتجربة. أما علمه بجغرافية الأقسام الشمالية من جزيرة العرب، فإنه دوّن هذا العلم1.
وأفادت "القصيدة الحميرية"، لصاحبها "نشوان بن سعيد الحميري" فائدة لا بأس بها في تدوين تأريخ اليمن2. ولهذا المؤلف معجم سمّاه "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"3، ضمنه ألفاظًا خاصة بعرب الجنوب4. وينطبق ما قلته في الهمداني على نشوان أيضًا. فإذا قرأت كتبه، تشعر أنه لم يكن يفهم النصوص الحميرية ولا غيرها، وإن كان يحسن قراءة المسند. وما ذكره في كتابه "شمس العلوم" -وإن دل على حرص على جمع المعلومات، وعلى تتبع يحمد عليه للبحث عن تأريخ اليمن ولغاتها القديمة- يدل على أنه لم يكن يفهم نصوص المسند، وليس له علم بتأريخها وبتواريخ أصحابها، وأنه لا يمتاز بشيء عن الهمداني أو سائر علماء اليمن الذين كانوا يدعون العلم بأخبار الماضيين، وأكثر الذي ذكره في كتابه على أنه من اللهجات الحميرية والعربية الجنوبية هو من مفردات معجمات اللغة، ومن لهجات العربية الفصحى؛ خلا ذلك الذي كان يستعمله أهل اليمن، وهو قليل إذا قيس إلى سواه، وقد فسر معانيه على نحو ما كان يقصده الناس في أيامه. ومع هذا، فهذا النوع من الكلمات هو الذي نطمع فيه؛ لأنه من بقايا اللهجات البائدة، ويفيدنا فائدة عظيمة في فهم معاني النصوص وفي قراءتها وشرحها وتفسيرها، ولعلّه لم يكثر منها؛ لأنها كانت من كلام العوام فأشفق على نفسه من البحث في لغة العوام.
1 Moritz، S.، 20
2 تجد ترجمته في: إرشاد الأريب "7/ 206"، بغيه الوعاة "ص430"،
W. F. Prideuaux، The Lay of the Himyarites، Sehore، 1879،
Von Kremer، Die Himjarische Qaside، Leipzig، 1865
Brockelmann، I، S.، 301، Suppl.، I، 527، f.، R، Basset،
La Qaaidah Himyarite De N.B.S.، Alger، 1914
3 الإكليل"8/ ث وقيل: "شمس العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم" نشر منتخبات منه عظيم الدين أحمد في سلسلة تذكار "كب" ليدن، 1916، "ومنتخبات في أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"، وسأشير إليه بـ: منتخبات.
4 راجع منة مادة هجر منتخبات ص108.
ولم يزد "نشوان" في شروحه لأسماء الأعيان والأجذام والقبائل والعمائر والأمكنة على ما أورده الهمداني أو سائر علماء التأريخ وأهل الأنساب، فعدّ أسماء القبائل مثل همدان، أسماء أشخاص لهم أنساب وأولاد وأقرباء، وأخطأ في الأغلاط نفسها التي وقع فيها الهمداني؛ فذكر جملًا مسجوعة على أنها من وصايا التبابعة، وعبارات متكلفة على أنها قراءات لنصوص حميرية مكتوبة بالمسند1.
ومحمد بن نشوان بن سعيد الحميري نفسه هو ممن اعتمد على علم الهمداني، كما نصّ على ذلك في فاتحة الجزء الأول من الإكليل. فهذا الجزء الذي طبع حديثًا هو برواية محمد بن نشوان، رواه لمن سأله أن يوضح شيئًا من أنساب حمير وأخبارها وما حفظ من سيرها وآثارها، فما كان منه إلا أن أخذ الإكليل فكتب له، لم يغير فيه سوى ما قاله:"غير أني اختصرت شيئًا ذكره في النسب، ليس هو من جملته بمحتسب. بل هو مما ذكره من الاختلاف في التأريخ ونحوه، من غير أن أنسب الكدر إلى صفوه"2. وفي مقدمته لهذا الجزء ثناء عاطر على الهمداني، وتقدير كبير لعلمه في أخبار اليمن.
هذا هو كل ما أريد أن أقوله هنا عن مصادر التأريخ الجاهلي، وهو قليل من كثير، ولكن التوسع في هذا الموضوع يخرجنا حتمًا عن حدود بحثنا المرسوم، ويخرجنا إلى التحدث في شيء آخر لا علاقة له بالجاهلية، وإنما يعود إلى البحث في التأريخ، وفي نقده ودروبه عند المؤرخين. على أني أراني قد توسعت مع ذلك في هذا الباب، وذلك للحاجة التي رأيتها في ضرورة توضيح بعض الأمور الخاصة بتلك الموارد.
1 منتخبات ص 60، 75 ومواضع أخرى.
2 الإكليل "1/ 5".