المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها ‌ ‌مدخل … الفصل الخامس: طبيعة جزيرة - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ١

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: تحديد لفظة العرب

- ‌الفصل الثاني: الجاهلية ومصادر التاريخ الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌موارد التاريخ الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌ النقوش والكتابات:

- ‌تاريخ الكتابات:

- ‌ التوراة والتلمود والتفاسير والشروح العبرانية:

- ‌ الكتب الكلاسيكية:

- ‌الموارد النصرانية:

- ‌الموارد العربية الإسلامية:

- ‌المؤرخون المسلمون:

- ‌الفصل الثالث: إهمال التأريخ الجاهلي وإعادة تدوينه

- ‌مدخل

- ‌تدوين التأريخ الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: جزيرة العرب

- ‌مدخل

- ‌ الحِرار، أو الأرضون البركانية:

- ‌ الدهناء:

- ‌ النفود:

- ‌مصدر الصحاري:

- ‌الدارات:

- ‌الجبال:

- ‌الأنهار والأودية:

- ‌أقسام بلاد العرب

- ‌مدخل

- ‌العربية السعيدة:

- ‌العربية الصحراوية:

- ‌العربية الحجرية، العربية الصخرية:

- ‌التقسيم العربي

- ‌مدخل

- ‌تهامة:

- ‌اليمن:

- ‌العروض:

- ‌اليمامة:

- ‌نجد:

- ‌الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها

- ‌مدخل

- ‌الطرق البرية:

- ‌الفصل السادس: صلات العرب بالساميين

- ‌مدخل

- ‌وطن الساميين:

- ‌الهجرات السامية:

- ‌اللغة السامية الأم:

- ‌العقلية السامية:

- ‌الفصل السابع: طبيعة العقلية العربية

- ‌الفصل الثامن: طبقات العرب

- ‌مدخل

- ‌العرب البائدة:

- ‌هود:

- ‌لقمان:

- ‌ثمود:

- ‌طسم وجديس:

- ‌جديس:

- ‌أميم:

- ‌عبيل:

- ‌جرهم الأولى:

- ‌العمالقة:

- ‌حضورا:

- ‌هلاك العرب البائدة:

- ‌فهرس

الفصل: ‌ ‌الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها ‌ ‌مدخل … الفصل الخامس: طبيعة جزيرة

‌الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها

‌مدخل

الفصل الخامس: طبيعة جزيرة العرب وثرواتها وسكانها

لم تدرس طبيعة أرض جزيرة العرب دراسة علمية مستفيضة شاملة، بالرغم من قيام الشركات الأجنبية بالبحث، في أنحاء منها، عن طبيعة تربتها للتوصل بذلك إلى اكتشاف ما في باطنها من ثروات؛ فأرض جزيرة العرب، أرض واسعة، تغطي الرمال أكثر مساحتها، فليس من السهل البحث فيها بحثًا علميًا عميقًا عن تركيبها وعن تطورها في كل أنحائها، لهذا كان علمنا بهذه النواحي من البحث ضحلًا مختصرًا في الغالب.

يتألف ثلثا الأقسام الشرقية من أرض المملكة العربية السعودية، من طبقات رسوبية يقال لها في علم طبقات الأرض "sedimentry formation"، تكون نوعًا من الصخور يتأثر ببعض المؤثرات الأرضية، فتكون من أحسن الأماكن الملائمة للبترول والفحم. وتتألف هذه الطبقات الرسوبية في الدرجة الأولى من الحجارة الكلسية. وتتكون أرض منطقة آبار البترول عند "الظهران" والمناطق الأخرى التي أصابت شركة البترول العربية السعودية الأمريكية فيها البترول، من هذا النوع من الصخور1.

وتوجد آثار طبقات رسوبية في المناطق الغربية من جزيرة العرب المطلّة على

1 Twitchell، Saudi Arabia، P.، 8.

ص: 186

البحر الأحمر عند جزر "فرسان"1 و "جيزان"2 و"صبيا"3 و "أملج"4 و"المويلح"5 الواقع على مقربة من رأس خليج العقبة، و "ضبا"6، وحجارة رملية في العلا في القسم الشمالي الغربي من الجزيرة بكميات واسعة، وحجارة بركانية ولا سيما في مناطق الحِرَار، وصخور تكونت بفعل الترسبات المتأثرة بالضغط والحرارة، وهي التي يقال لها:"metamorphic formation"، وتساعد على تكوين المعادن. وقد وجدت في هذه المنطقة7، خامات المعادن؛ ولكنها لم تستغل حتى الآن استغلالًا تجاريًا، كما أن هذه الخامات والأرضين لم تفحص فحصًا فنيًّا لمعرفة النسب المعدنية فيها.

وتوجد الصخور الرملية في عسير وفي وادي الدواسر، وتشاهد في منطقة هذا الوادي تلال تتجه من الشمال إلى الجنوب، تقع إلى جنوب "الخماسين" وعلى ارتفاع "2200" قدم، يظهر أنها تكوّنت من الصخور "الأيولينية""aelian sandstone" ومن حجارة "الكوارتس" الضخمة، وقد حوت مقدارًا من "أكاسيد الحديد" أعطت هذه السلسلة لونًا أحمر غامقًا. ويتكون فتات هذه الحجارة على هيأة ألواح صلبة، وعند قطعها يلاحظ أنها تتكوّن من طبقات، ويمكن فصلها على أشكال ألواح، وقد تكوّنت على حافات هذه السلسلة وجوانبها أشكال طبيعية مدهشة أخاذة بتأثير فعل الرياح والرمال فيها.

وتتكون أرض "قرية" من صخور كلسية، وهناك آبار قديمة تبلغ أعماقها

1 وهبة ص40، البلدان "6/ 359"، صفة 47، 52، 53، 74، 75، 98، twitchell، p،، 8، 63

2 "ميناء صغير على بعد مائتي ميل من جنوب الجنوب الشرقي للقنفذة، وهي واقعة أمام مجموعة جزائر فرسان، ويحيط بها من جهة الداخل جبل جيزان"، وهبة ص40.

3 البلدان "5/ 337"، صفة 54، 73. 12 "صبيا على بعد عشرين ميلًا في الداخل وهي إلى الجنوب الشرقي من جيزان، وكانت عاصمة الأدراسة"، وهبة 40.

4 "أملج: قرية بها نحو مائة منزل، بها قلعة صغيرة، وأمامها تقع جزيرة حسان التي من رملها يصنع الزجاج، بها مزارع ونخيل، ومنها تمتد طريق في الداخل إلى اصطبل عنتر، إحدى محطات سكة حديد الحجاز"، وهبة 15، 20.

5 قرية وقلعة على بعد 150 ميلًا إلى الجنوب من العقبة، وهبة 19.

6 إلى جنوب المويلح، المحل الرئيس لقبيلة الحويطات، اتخذها الأتراك مركز دفاع عن الشاطئ، وهبة ص19.

7 twitchell، p. s..

ص: 187

تسعين قدمًا، حفرت في طبقات أرضية مؤلفة من حجارة الكلس، تتخللها طبقات من الحجارة الرملية غير أنها ليست ثخينة1. أما أرض "بئر حما" التي يبلغ ارتفاعها زهاء أربعة آلاف قدم فوق سطح البحر، وتقع على الحافات الغربية للربع الخالي؛ فإنها مؤلفة من الحجارة الرملية الأيولينية الحمراء، وعلى مسافة "35" ميلًا إلى الجنوب الغربي من "حما" موضع يقال له "بئر الحسينية" فيه بئر يبلغ عمقها "129" قدمًا، وقد حفرت في أرض فيها طبقات ثخينة من "الغرانيت".وتتألف أكثر الأرضين التي تمتد من هذا الموضع إلى نجران من حجارة "غرانيتية". وتظهر الحجارة الرملية في القسم الجنوبي والغربي من هذه المنطقة التي ترتفع زهاء "1500" قدم عن مستوى سطح الوادي الموصل إلى نجران، والذي يرتفع هو نفسه زهاء أربعة آلاف قدم عن سطح البحر. وتتألف مناطق واسعة من اليمن من حجارة رملية ومن الطبقات المترسبة2 "sediments".

قلت: إن هنالك مناطق في الحجاز مكونة من طبقات مترسبة تعد من أحسن الصخور والطبقات الأرضية، ملائمة للنفط والفحم، وإن هنالك مناطق فيها صخور بركانية ونارية، وقد تكوّنت أكثرها من تغييرات كبيرة وعمليات طويلة من ضغط هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تكون العمود الفقري لجزيرة العرب.

وترتفع زهاء "9000- 11000" قدم عن مستوى البحر في اليمن على ما تحتها من طبقات.

ونجد مناطق واسعة من "اللابات" مبعثرة على طول هذه السلسلة، منها ما هو حديث التكوين. ويشاهد في الزمن الحاضر لسان بارز من "اللابة" في شرقي "أبي عريش"3 يمتد حتى يتاخم حدود اليمن، كما نشاهد مناطق أخرى مؤلفة من هذه الحجارة في مواضع عديدة بين "شقيق"4 و "خور البرك"5 مثلا حيث تصل "اللابة" إلى البحر الأحمر فتدخل فيه. وكذلك في شمالي "شقيق" عند "جهمة" حيث توجد بقايا بركان يكوّن جزيرة في البحر مقابل هذا

1 Twitchell، P. 9.

2 Twitchell، P. 9.

3 أبو عريش في تهامة على بعد سبعين ميلا شمالي اللحية، وهبة 40.

4 في تهامة، وهبة 38.

5 البرك، وهبة 38.

ص: 188

الموضع1.

وعلى مسافة اثني عشر ميلا من مكة جبل، يقال له جبل النورة، حيث تحرق حجارة الكلس المكونة له، لاستخراج النورة واستعمالها في البناء2. وهذه الحجارة الكلسية هي من الطبقات المترسبة المتحولة. وهناك أماكن أخرى تكوّنت من هذه الحجارة، يشاهدها المارّ من جدّة إلى موضع "مهد الذهب"، الذي تستغل الآن مناجمه، لاستخراج الذهب، وتتكون تلال مهد الذهب من الحجارة المترسبة التي تعرضت لتغيرات طبيعية عديدة، عليها طبقات من حجراة "البازلت""basalt". وفي حجارة المناجم خامات معادن متعددة، وفيها حجارة "الكوارتس"3 "quartz". وتوجد في منطقة الطائف صخور "الغرانيت"، وفي نهاية هذه السلسلة الجبلية الطويلة التي تنتهي في اليمن تشاهد "لابات" الحِرار4 وبقايا الحِرار التي كانت تزعج اليمانيين؛ إذ هي قد تقذفهم حممها في يوم من الأيام فتسومهم سوء العذاب.

وفي أرض اليمن عدد كبير من الحرار، ذكر السياح بعضها، مثل حرة "أرحب"، وتقع شمالي "صنعاء" ولها لابة استخرد منها الناس حجارة سودًا لبناء البيوت5. وعلى مقربة من "ذمار" تكون الأرض بركانية6. وتوجد الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"7، وفي الوادي بين "صرواح" و "مأرب"8. وقد حمل بعض المستشرقين وجود الحِرار في اليمن بهذه الكثرة وعلى مقربة من المدن القديمة، على تفسير هلاك بعض المدن كخراب "مأرب"9و "حقة"10 و "شبوة"11 بتأثير هياج البراكين.

1 Twitchell، P.، 10.

2 Twitchell، P.، 10.

3 Twitchell، P.، 10.

4 Twitchell، P.، 10.

5 H. Scott، In the High Yemen، London، 1947، P.، 8، 114. Scott، P113.

6 Scott، P. 113.

7 Philby، Sheba's Daughter's، P.، 380.

8 المصدر نفسه ص392.

9 كذلك ص389.

10 Scott، P.، 195.

11 Philby، in Geogr. Journal، 92، PP.، 127، August، 1938، Sheba's، 103.

ص: 189

كذلك توجد مناطق حرار في العربية الجنوبية، في عدن1 وحضرموت وعمان2 وفي الربع الخالي، وقد استعمل القدماء حجارة البراكين في البناء، ولا يزال الناس يستعملونها في البناء حتى اليوم، وقد وجد بين الحجارة المكتوبة عدد من صخور البراكين. وقد استغل الجاهليون بعض الحِرار لاستخراج الكبريت منها، وذكر "نيبور" أن أهل اليمن كانوا يستخرجون الكبريت من جبل يقع في شرقي ذمار، ويظهر أن هذا الجبل بركان قديم3.

وتتكون بعض هضاب اليمن من الصخور المتبلورة التي مرت في أدوار طويلة، ويرى العلماء أنها كانت في الأصل تحت سطح البحر، ثم ترسبت عليها طبقات ثخينة من المواد الرسوبية حتى تبلورت وتصخرت4. وقد استعلمها الجاهليون ولا تزال تستعمل في النوافذ، لتقوم مقام الزجاج. وهناك طبقة طباشيرية وطبقات من صخور رملية غذت المناطق المنخفضة، وهي تهائم اليمن، بالرمال. وكذلك المنطقة التي يقال لها الرمل5. وتتكون التربة في تهامة وفي سهل صنعاء من المواد الصلصالية التي تعود إلى الأرمنة "الجيولوجية"، المتأخرة، ومن المتكونات "الأيولينية" التي حصلت بتأثير فعل الرياح في الصخور الرملية6. ويكثر وجود الصخور المتبلورة في الحجاز وفي العربية الجنوبية كذلك7. وتوجد الصخور والطبقات الرسوبية في اليمن وفي حضرموت وعمان، وقد وجدت في هذه المناطق علائم وجود البترول.

والسواحل الشرقية لجزيرة العرب، أي السواحل الواقعة على الخليج، هي سهول، ولكنها سهول من الرمال في الغالب، ولهذا قلّت فيها الزراعة، إلا في المواضع التي تتوافر فيها المياه الجوفية، وتتفجر عيونًا، مثل الأحساء والقطيف.

وهناك سباخ ومستنقعات ناتجة من انخفاض الأرض، جوّها غير صحي، والبترول في القرن العشرين، هو الذي أغاث أهل هذه الأرض، وجلب لهم الثراء والمال

1 Stamp، P.، 140.

2 D.G. Hogarth، The Nearer East، P.، 97. Scott، P.، 114، 237، Niebuhr، Relsebeschreibung، S.، 324.

3 Scott، PP. 6.

4 Scott، pp. 6.

5 Handbook، Vol.، 1، PP.، 145.

6 Scott، P.، 8.

7 In Unknown Arabia، PP.، 421، Stamp، P.، 109.

ص: 190

الوافر والسيارات الفارهة وآلات التبريد ووسائل الترف والرفاهية، وبعث فيها الحياة بعد أن كانت خامدة خاملة.

وقد كانت حال هذه السواحل قبل الإسلام أحسن بكثير من حالها في القرن التاسع عشر إلى يوم استنباط البترول في القرن العشرين، بدليل ما نقرؤه في الموارد التأريخية من أسماء مواضع كانت مأهولة، زالت واندثرت، وأسماء قبائل كانت تنزل بها، اضطرتها أحوال قاهرة متعددة متنوعة إلى هجرها، فقلَّ عدد سكانها بالتدريج.

وتعد البحرين من أكثف المناطق في جزيرة العرب. فإن نسبة عدد سكانها بالقياس إلى مساحة أرضها عالية نسبيًّا قبل الإسلام وفي الإسلام. وسبب ذلك هو توافر الماء فيها، واعتمادها على استخراج اللؤلؤ من البحر وعلى صيد السمك الذي يقدم للأهلين المادة الأولى للمعيشة. والماء فيها غير عميق عن سطح الأرض وقد كوّن عيونًا في بعض الأماكن ولهذه المميزات صارت موطنًا للحضر قبل الإسلام بزمن طويل.

وفي جزيرة العرب خامات معادن، ومن الممكن استغلال بعضها استغلالًا اقتصاديًّا، ومن هذه المعادن الذهب. وقد ذكر الجغرافيون العرب أسماء ومواضع عرفت بوجود خام الذهب بها، مثل موضع "بيشة" أو "بيش"، وقد كان الناس يجمعون التبر منه، ويستخلصون منه الذهب1. و "ضنكان"، وكان به معدن غزير من التبر2، والمنطقة التي بين القنفذة و "مرسي حلج"3.

ويظهر من المؤلفات اليونانية ومن الكتب العربية أن المنطقة التي بين القنفذة و"عتود"، كانت معروفة بوجود التبر فيها؛ فكان الناس يشتغلون هناك باستخلاص الذهب منه، ولهذا رأى "موريتس" أن هذه المنطقة هي منطقة "أوفير""OPHIR" التي ورد ذكرها في التوراة على أنها كانت تصدر الذهب4. ويشاهد في وادي تثليث على مقربة من "حمضة" وعلى مسافة 183 ميلًا من

1 البلدان "2/ 333 فما بعدها"، صفة "127، 257"، المسالك والممالك "188" فؤاد حمزة، في بلاد عسير "61 فما بعدها"، MORITZ، S،105.

2 صفة 120.

3 Moritz، S. 110، Glaser، Skizze، S. 29.

4 Hommel، Grundriss، Vol.، 1، S.، 13، Moritz S.، 110.

ص: 192

نجران آثار التبر، ويظهر أنه كان من المواضع التي استغلت قديمًا لاستخراج الذهب منها1. وقد اشتهرت ديار بني سليم بوجود المعادن فيها2، وفي جملتها معدن الذهب، ويستغل اليوم الموضع الذي يقال له "مهد الذهب"، ويقع إلى الشمال من المدينة باستخراج الذهب منه، وتقوم بذلك شركة تستعمل الوسائل الحديثة، تحرّت في مواضع عديدة من الحجاز الذهب والفضة ومعادن أخرى؛ فوجدت أماكن عديدة، استغلت قديمًا لاستخراج "التبر" منها، ولكنها تركتها لعدم تمكنها من الحصول على الذهب منها بصورة تجارية، تأتيها بأرباح حسنة، واكتفت بتوسيع عملها في "مهد الذهب"؛ لأنه من أغزر تلك الأماكن بخام الذهب، وظلت تنقب به إلى أن تركت العمل فيه، وحلت نفسها، وتركت كل شغل لها بالتعدين3.

وقد ذكر الكتبة اليونان أن الذهب يستخرج في مواضع من جزيرة العرب خالصًا نقيًّا، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب الغريبة ولا يصهر لتنقيته. قالوا ولهذا قيل له "إبيرون""APYRON". وقد ذهب "شرنكر" إلى أن العبرانيين أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة4.

وقد عثرت الشركة في أثناء بحثها عن الذهب في "مهد الذهب" على أدوات استعملها الأولون قبل الإسلام في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، وشاهدت آثار القوم في حفر العروق التي تكوّن الذهب، وأمثال ذلك مما يدل على أن هذا المكان كان منجمًا للذهب قبل الإسلام بزمن طويل، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى "سليمان"؛ فأضيف إلى كنوزه، على نحو ما هو مذكور في التوراة5.

1 The middle East، "Royal Inst. Of Inter. Affairs" P. 91، "1950"، Twitchell، P. 77.

2 صفة 113، 153، ومواضع أخرى

3 "شركة التعدين السعودية العربية"، ويشمل امتيازها كل أرض الحجاز، وتقوم بالبحث عن جمع المعادن، وقد بحثت في منطقة الطائف؛ غير أنها لم توسع أعمالها كثيرًا، تأسست سنة 1934م، ثم صفت أعمالها وتوقفت عن العمل،

"Saudi Arabian Mining Syndicate، Ltd"، Twitchell، P. 146، 157، Sheba's، P. 15 The، Middle East، 1948، P. 248.

4 Montgomery، Arabia، P. 39.

5 Sanger، the Arabian Peninsula، P. 20، 23.

ص: 193

ويظن بعض الباحثين أن منجم "مهد الذهب" هو المنجم الذي كان لبني سُليم؛ فعرف باسمهم وقيل له: "معدن بني سُليم"، وقد وهبه الرسول إلى بلال بن الحارث1.

وعرفت "أرض مدين" وما والاها من الأرضين في شمال "وادي الحمض" بوجود التبر فيها واستخراج الناس له هناك قبل الميلاد بمئات من السنين. وتوجد آثار المناجم التي كانت تستغل مبعثرة في مواضع عديدة حتى اليوم2.

وتوجد خامات معادن أخرى في الحجاز منها الكبريت والنحاس والقصدير والحديد3، وتستخرج الأملاح من الصخور الملحية التي في الحجاز وفي عسير عند جيزان، ويستخرج الأهلون منها مسحوقًا لاستعماله في عمل المفرقعات4 كما أن هنالك مثل هذه الصخور الملحية في السلف من اليمن. ويمكن الاستفادة من هذه الأملاح فائدة كبيرة من الوجهة الاقتصادية حيث تدخل في كثير من الصناعات.

وفي منطقة "رابغ" توجد رواسب "البارايت""barite" وتدل البحوث الأولية على أنه من الممكن استخراج عشرة آلاف طن من "البارايت" في كل عام5. وتدل الدلائل على أن هنالك منجمًا قديمًا في منطقة "رابغ" كان يستغل لاستخراج "الكالينة" "galena"؛ غير أن النماذج التي فحصت فحصًا أوليًّا دلّت على أن هذه المادة قليلة فيها. ويظهر أن هناك كميات كبيرة من تراب الحديد في "العقيق" على مقربة من "مهد الذهب" كما شوهدت خامات المعادن في موضع "برم" جنوب الطائف6 وفي موضع "نفى"7، ولا يستبعد العثور على البترول في الحجاز في المواضع المتكونة من الطبقات المترسبة "sedimentary formations"، وتوجد في الحجاز الرمال التي تصلح لصنع الزجاج8.

وتستغل أرض الأحساء في استخراج "البترول"9،ويكثر وجود البترول في

1 Naval، P.، 517.

2 Richard Burton، The Arabian Peninsula، P.، 17.

3 TwitcheU، P.، 162.

4 Twitchell، P.، 163. TwitcheU، P164.

5 Twitchell، P.، 164

6 المصدر نفسه ص 164، "معدن البرم"، البلدان "8/ 94".

7 "نفي" البلدان 8/ 308"، twitchell، p،، 164.

8 وهبة 20.

9 The Middle East، (1950) ، P.، 90.

ص: 194

العروض حيث حفرت الآبار في الكويت والبحرين، وتدل الدلائل على وجوده في قطر وعمان، كذلك دلّت التحريات على وجوده في حضرموت في منطقة "شبوة"1، وفي المناطق وراء شبوة إلى داخل جزيرة العرب؛ حيث يحتمل العثور على مناجم للذهب كذلك2. ويجري البحث عن البترول في محمية "عدن" وفي اليمن.

ودلت التقارير الأولية على وجود الفحم في حضرموت في منطقة "شبوة"، وتوجد الصخور الملحية مترسبة في بطن طبقات الأرض يقتطعها الأهلون، وتستغل في الأعمال التجارية، كذلك توجد هذه الصخور الملحية في اليمن، وقد تكونت بفعل العوامل "الجيولوجية" والضغط المتواصل، فتحجرت بمرور آلاف السنين عليها، وتكمن تحت سطح الأرض في بعض الأماكن حيث تحفر جوانب التلال للوصول إلى قلب مناجم الملح المتحجرة، وقد يفتت باستعمال المواد المتفجرة "الديناميت"3، وتستخرج صخوره من بعض المناجم صافية بيضاء كأنها البلور4. مثل المِلْح المستخرج من "جبل الملح" بمأرب، فإن ملحه كما يقال صافٍ كالبلور5. وتشتهر "السلف" بوجود مناجم ملح فيها، تقع على مسافة أربعين ميلًا إلى الشمال من الحديدة. وتوجد في جزيرة "قمران" المقابلة لهذا الموضع مناجم ملح، وكذلك في "اللحية"6.

وإلى وجود مثل هذه الصخور الملحية في كثير من أنحاء جزيرة العرب، يجب أن يعزى ظهور قصص بناء القصور من الملح المنتشرة في كتب التأريخ والأدب.

ولما كانت أرض اليمن وأكثر الأنحاء الأخرى من الجزيرة، لم تفحص حتى الآن فحصًا فنيًّا، ولم تطأها أقدام الخبراء، فمن الصعب التحدث عن مواطن المعادن فيها، وعن أنواع التربة، وأثرها في الحضارة الجاهلية.

وقد وجدت مصنوعات حديد في اليمن، عثر عليها في الخرائب والآثار

1 sheba's، p،، 103.

2 المصدر نفسه ص 198.

3 كذلك ص 99، 114.

4 أيضًا، ص114، 127.

5 صفة ص 201.

6 scott، p،، 114، 237.

ص: 195

والأماكن العادية، كما اشتهرت اليمن بسيوفها، في الجاهلية وفي الإسلام؛ غير أننا لا نعرف الآن المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وقد ذكر الرّحّالة "نيبور" أنه كان في "صعدة" منجم، يستخرج منه الحديد، وأن أماكن أخرى كانت تستغل لإنتاج هذه المادة1.

وذكر "الهَمْداني" من معادن اليمن الذهب والفضة، وقال: إنه كان يستخرج من "الرضواض" ولا نظير لفضته، والحديد، وكان يستخرج من "نقم" و "غمدان" و "فصوص البقران"، وتستخرج من جبل أنس. و "فصوص السعوانية" وتستخرج من "وادي سعوان" جنب صنعاء، وهو فص أسود فيه عرق أبيض ومعدنه بشهارة وعيشان من بلد حاشد إلى جنب هنوم وظليمة والجمش من شرف همدان، وحجر "العشاري"، وهو الحجر العشاري من عشار بالقرب من صنعاء، والبلور، والمسنى الذي تعمل منه أنصاب السكاكين والعقيق الأحمر، والعقيق الأصفر من الهان والجزع الموشى والمسير، والشزب تُعمل منه ألواح وصفائح وقوائم سيوف وأنصاب سكاكين ومداهن وقحفة وغير ذلك2. وعرفت اليمن بعقيقها الذي يقال له "عقيق يماني" و "حجر يماني" وهو "الجزع"3 "onyx".

وقد بقيت بعض المواضع المذكورة تستغل معادنها في الإسلام؛ إلّا أن تغيّر الوضع في جزيرة العرب في الإسلام وهجرة كثير من القبائل إلى البلاد المفتوحة، ووجود صناعات فيها ومعادن أثمانها أرخص من أثمان معادن الجزيرة، ثم تقدم العالم بعد ذلك وظهور الثورة الصناعية، كل هذا وأمثاله أثر في وضع التعدين وفي صناعة المعادن في جزيرة العرب، فدثرها، أو تركها مشلولة لا تعمل إلا في حدود مرسومة ضيقة وفي مجال محلي.

وليست دولة الحيوان في جزيرة العرب دولة ضخمة عظيمة، وكيف تكون ضخمة وأكثر أرض الجزيرة عدو للحيوان ولكل ذي روح؟ والجمل هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وبصلابته على السير بجبروت وبتبختر فوق

1 scott، p،، 114، 237.

2 صفة ص 202 فما بعدها.

3 scott، p، 237.

ص: 196

رمال الصحاري، غير عابئ بالرياح العاتية التي تَذْرُو الرمال في الأعين، وتنقل أكوامًا منها معها، تكفي لدفن الجمل ومن عليه أو من معه ومع ذلك فإن هذا الحيوان الصبور العنيد. لم يتوفق أيضًا في تحطيم جبروت البوادي في كل مكان؛ فظلّ بعضها أرضًا حراما عليه وعلى السابلة، تحطم من يريد التجاوز عليها والاعتداء على استقلالها، بأن تميته عطشا، فتفتح ذرات رملها الناعم، وعندئذ تغوص قوائم الجمل فيها فيبقى في مكانه حتى ينفق.

والجمل، هو أيضًا من أقدم الحيوانات التي سمعنا بها عند العرب، وأعزّها وقد صوّر في النصوص الأشورية، عند ذكر معركة "قرقر" ومعارك أخرى، وقعت بين العرب والأشوريين. وطبيعي أن يقرن الجمل بالبادية، وأن يُجعل رمزًا لها، فليس لحيوان آخر القدرة على اجتياز البوادي واختراقها وتحمل مشقّاتها وعطشها مثل الجمل. ثم إنه مركب العرب، يحملهم، ويحمل تجارتهم وماءهم، وهو ممونهم بالوبر لصنع البيوت حتى قيل للأعراب "أهل الوبر" ومنه يصنعون أكسيه عديدة. ولبن الإبل، هو لبن أهل البادية، وإذا احتاجوا إلى لحم، ذبحوا الجمل، فأكلوه، وأفادوا من جلده.

والجمل ثروة، والثري العربي هو من يملك عددًا كبيرًا من الإبل، وتقدّر ثروته بقدر ما يملكه منها. وقد كان الجمل مقام "النقد"، أي مقام الدينار والدرهم في الغالب؛ فبعدد من الإبل يقدر مهر الفتاة، وبعدد من الإبل تُفَضُّ الديات والخصومات. وهكذا يتعامل به كما نتعامل اليوم بالنقود.

ويرى العلماء أن الإنسان ذلّل الجمل حتى صيّره أليفًا مطيعًا له في الألف الثانية قبل الميلاد1. وقد ذهب بعضهم إلى أن العربية الشرقية كانت الموطن الذي ذلّل فيه هذا الحيوان في الشرق الأدنى، استدلوا على ذلك بإطلاق العراقيين القدماء على الجمل اسم "حمار البحر"، وقالوا إن قصدهم من "البحر" الخليج، وأن لفظة "الجمل" "جملو" "كَمَلو" في الأكادية"؛ إنما وردت من بادية الشأم، ومعظم سكان البادية هم من العرب، وقد كانوا يستعملون الجمل استعمال الناس للسيارات ولوسائل الركوب في هذا الزمن. وقد استعملوه في الألف

1 W. F. Albright، Prom the Stone Age to Christianity، Baltimore، 1946، PP.، 107، \ 120، Reinhard Waltz، Zeitschrift der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft، 101، 1951، S.، 29، ff.، 1954، S.، 47. ff.، Discoveries، P. 35.

ص: 197

الثانية قبل الميلاد، فدخوله من البوادي إلى العراق هو دليل على أن العرب كانوا قد استخدموه أولًا ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى1.

ويرى "إلبريت" أن البداوة الحقيقية على نحو ما نعرفها اليوم من السكنى في البوادي والتنقل فيها من مكان إلى مكان، لم تظهر في جزيرة العرب إلا في أواخر النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، وذلك بتذليل الإنسان للجمل وبترويضه له لخدمة أغراضه، ففتح له بذلك أبواب البوادي، وتمكن من التوغّل فيها واجتيازها بفضل جمله خادمه المطيع. أما ما قبل الجمل؛ فقد كان العربي لا يستطيع اجتياز البوادي واختراقها لأن حماره الذي كان واسطة الركوب عنده، لا يتحمل ولوج البادية، ولا يستطيع أن يعيش فيها، وأن يصبر عن شرب الماء أو الأكل صبر الجمل؛ لذلك كان عرب الجزيرة في الألف الثانية، وقبل وقت تذليل الجمل رعاة في الغالب، وسائط ركوبهم الحمير، ولم يكونوا قد طرقوا البوادي أو توغّلوا فيها توغّل العرب أصحاب الوبر فيما بعد2.

فالجمل إذن هو الذي فتح لأهل جزيرة العرب آفاق البوادي، ووسع البداوة عندهم، حتى جعلها علمًا خاصًا يقابل عالم الحضارة في الجزيرة. وهو الذي صار أهم واسطة لنقل الأموال بالطرق البرية الطويلة التي تربط أجزاء الجزيرة بعضها ببعض، وتربط طرق الجزيرة مع الطرق الخارجية. وبفضل الجمل القادر على تحمل العطش والصبر على الجوع، وعلى تحمل الصعاب صار في إمكان العرب التنقل إلى مسافات بعيدة من الجزيرة وحمل أثقاله معه. فاستخدام العرب له هو في الواقع ثورة كبيرة في ذلك العهد بالنسبة على وسائط النقل والحمل وفي عالم التجارة والاقتصاد. ومن حق العربي إذا ما عبّر عن الغنى أن يعبر بكثرة ما عند الإنسان من إبل.

وقد عرف الجمل بوجود غريزة الانتقام فيه، وبعدم نسيانه أذى من يؤذيه؛ لذلك زعم أنه يبقى حاقدًا على المسيء إليه حتى ينتقم منه ولو بعد زمن طويل. ويظن أن لتفسير اشتقاق اسمه دخلًا في ظهور هذه الفكرة، فقد فسرت لفظة الجمل بأنها من فعل "كَمَلَ""جَمَلَ" كامل" "جامل"، أي انتقم، مع أنها تعني "حَمَلَ" أيضًا. وقالوا إن معنى "الجمل" "المنتقم"،

1 BASOR، uum. 160، 1960، P. 42

2 Recoveries، P. 87.

ص: 198

وقالوا إنه سُمي بذلك لأنه حيوان منتقم، ومن ثم وصف "أرسطو" و "أريان"، الجمل بأنه حيوان لا ينسى الأذى، سريع الانتقام. وقد يكون لأقوالهما ولأقوال غيرهم في الجمل دخل في تكوّن هذه الفكرة عنه عند الناس حتى اليوم1.

الجمل المعروف في جزيرة العرب، هو الجمل ذو السنام الواحد. وهناك نوع من الجمال يقال للواحد منها "الهجين"، وهو الجمل المُضرب، ويكون أصغر حجمًا من الجمل العربي الأصيل؛ إلا أنه أسرع عدوًا منه2. وقد عدّ الجمل عند العبرانيين من موارد الثروة والغنى كذلك، ولذلك عُدّ "أيوب" من أغنياء زمانه لأنه كان يملك ألفي جمل، وعد "المديانيون" "أهل مدين" وهم من العرب، أغنياء، لأنهم كانوا يملكون عددًا كبيرًا من الجمال3.

وللجمل في العربية أسماء كثيرة. أما في العبرانية وفي اللغات السامية الأخرى، فلا نجد فيها مثل هذه الكثرة. ويقال للجمل "كمل" و "بكرة". ويراد بـ "كمل" الجمل. أما "بكرة" فالجمل الصغير. والجمل من أقدم الحيوانات المذكورة في التوراة، وذكر أنه كان لإبراهيم عدد كبير من الجمال4.

وبالرغم من اشتهار جزيرة العرب بجمال خيلها، وبتربيتها لأحسن الخيل، وبتصديرها لها. فإن الخيل في جزيرة العرب إنما هي من الحيوانات الهجينة الدخيلة الواردة عليها من الخارج، ولا ترتقي أيام وصولها إلى الجزيرة إلى ما قبل الميلاد بكثير. قيل إنها وردت إليها من العراق. ومن بلاد الشام، أو من مصر5، وإن وطنها الأصلي الأول هو منطقة "بحر قزوين". ولهذا لا نجد في الكتابات الأشورية، أو في "العهد القديم" أو في المؤلفات "الكلاسيكية"، إشارات إلى تربية الخيل في جزيرة العرب، أو استعمال العرب لها في حلهم وترحالهم وفي حروبهم.

وقد بقي العرب إلى ما بعد الميلاد، بل إلى ظهور الإسلام، لا يملكون عددًا كبيرًا من الخيل. وفي غزوات النبي ومعاركه مع المشركين، كان عدد الخيل التي اشتركت في المعارك محدودًا معدودًا، مع أنها كانت مهمة جدًّا وعدة

1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 338".

2 قاموس الكتاب المقدس "1/ 339".

3 القضاة، الإصحاح السابع، الآية 12.

4 Hastings، 1. p. 344.

5 Sanger، The Arabian Peninsula، P.، 77.

ص: 199

حاسمةً في إحراز النصر. وذلك بسبب قلتها إذ ذاك، وعدم تمكن كل الناس من اقتنائها؛ إلا من كان موسرًا منهم، أو في حال حسنة. فقد كانت تكاليف الخيل كثيرة لا يتحملها إلا ذَوُو الدخل الحسن، فالخيل في حاجة إلى عناية ورعاية، وطعامها للمحافظة على صحتها يكلف باهظًا. فلا بد من تقديم الحشائش والحبوب لها ثم إن مجال استعمالها في البادية محدود لأنها لا تستطيع تحمل جوع الصحراء وعطشها تحمل الجمل، كما أنها لا تستطيع السير في رمال البوادي المهلكة المتعبة مسافات بعيدة لهذا لم يقبل الأعرابي العادي على شرائها أو تربيتها في تلك الأيام، فصارت من نصيب أهل اليسر والحال الحسنة، يمتلكها ويعتني بها من يملك السيارات في هذه الأيام. كثرتها عند الرجل علامة على ثرائه ووجاهته بين الناس.

ونظرًا لسرعة الخيل وخفّتها في الكرّ والفرّ، صارت أهم سلاح لنجاح الغزو وإلحاق الأذى بالعدو، يغِير عليها المغير فيبَاغِت خصمه بهجوم سريع خاطف، فيربكه، ولهذا أخذت القبائل، ولا سيّما القبائل الساكنة في مضارب قريبة من الأرياف ومن الحضر، تشتري الخيل وتعتني بها للمحافظة على حياتها في الدفاع والهجوم. وعدّت القبائل القوية، هي التي تملك عددًا كبيرًا من الخيل، وصار للفارس مقام خطير في ذلك الزمن، لشجاعته وصبره في الدفاع عن مواطنيه؛ فهو بمثابة "الكومندو" في هذه الأيام1.

واستعملت الخيل للتسلية واللهو واللعب، فتسابق على ظهورها الفرسان في حلبات السباق، وتراهن الناس على السابق، ولعب الفرسان بعض الألعاب: ألعاب الفروسية وخرجوا على ظهورها للصيد، فالصياد الراكب، أقدر من الصياد الراجل على مطاردة الصيد.

وفي القرآن ذكر للخيل كمصدر من مصادر القوة، يرهب بها المسلمون أعداءهم ومصدر من مصادر الثروة، ومصدر من مصادر الزينة وبهجة الحياة الدنيا2. وفي الحديث ذكر لها كذلك وثناء عليها. وعُدّت الخيول من الحيوانات

1 قاموس الكتاب المقدس "1/ 155 وما بعدها".

2 آل عمران، الآية 14، الأنفال، الآية 60، النحل، الآية 8، الحشر، آية 6 الإسراء، آية 64.

ص: 200

الشريفة الرفيعة في التوراة1، وصوّرت على شكل خيول من نار فيها، تهبط على أعداء الرب لتنزل بهم الهلاك والدمار2.

أما البغال، فإنها من الحيوانات المعروفة بتحملها للمشقّات، وقدرتها على السير في المناطق الوَعِرة، مثل الهضاب والأرضين المتموجة والجبال. وقد استعملت في الحمل وفي الركوب، وهي تؤدي خدمات في هذه المناطق يَعْسُر على الجمل القيام بها، وقد يعجز عنها. أما هي: فإن من الصعب عليها العمل في البوادي ذات الرمال، كما أنها لا تستطيع الصبر صبر الجمل على تحمل الجوع والعطش أيامًا متوالية عديدة؛ لذلك لم يقبل عليها أهل البادية، ولم يعتنوا بها.

وقد حرم قدماء العبرانيين على أنفسهم تربية البغال، وأول من أباح ذلك وجوز لهم استعمالها هو "داود"، ومنذ ذلك الحين، أقبلوا على تربيتها والاستفادة منها في أرض فلسطين3. ويظهر أن قدماء العبرانيين لم يكونوا يعرفون البغال، فلما وجدوها عند أمم وثنية غريبة عنهم، كرهوا استعملها فحرموها على أنفسهم، حتى انتبه "داود" لفائدتها ومنافعها، فاستعملها، ثم قلده في ذلك بقية العبرانيين بالتدريج.

ويظهر أن البغال لم تكن كثيرة الاستعمال في جزيرة العرب حتى ظهور الإسلام. فقد ورد في كتب السير أن "دلدلًا"، بغلة النبي، "أول بغلة رُئِيتْ في الإسلام أهداها له المقوقس، وأهدى معها حمارًا يقال له عُفير"4. وورد أيضًا: "أُهْدِيَ لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، بغلة شهباء فهي أول شهباء كانت في الإسلام"5.

وورد: "أهدى فروة بن عمرو إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بغلة يقال لها فضة"6.

1 أيوب، 39 آية 19 وما بعدها، قاموس الكتاب المقدس "2/ 155".

2 الملوك الثاني، الإصحاح الثاني، الآية 11، قاموس الكتاب المقدس "2/ 156".

3 اللاويون 19، 19، صموئيل، 13، 29، 18، 9، الملوك الأول، 321، 10، 25، 18، 5، hastings، p،، 637.

4 ابن سعد الطبقات "1/ 491""طبعة دار صادر".

5 المصدر نفسه.

6 كذلك.

ص: 201

وورد في القرآن الكريم: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً......} 1؛ مما يدل على أن من الناس من استعمل البغال للركوب وللزينة. وقد كان من الأشراف والوجهاء من يتخذ البغال للركوب في الطرق الوَعِرة. أما مَنْ هم دونهم في المنزلة، فكانوا يتخذون الحمير.

وقد ورد في شعر ل "بشر بن أبي خازم الأسدي" ما يفيد أن البغال كانت معروفة في بعض المواضع، وأن أبوالها كانت تترك وَقِيعًا أي أثرًا على الأرض2. والظاهر أنه قصد بعض الأرضين الوعرة التي كان من الصعب على غير البغال السير بها، وذلك مثل بلاد اليمن التي كانت تستعمل البغال للركوب ولرفع الأثقال.

والحمير هي أول واسطة للركوب وللحمل عند الحضر وأهمها، هي للحضري مثل الجمال للبدوي، وهي مركب مريح لا يسبب إزعاجًا، ولا سيّما إذا كان أتانًا؛ لأنها أهدأ وآمَنْ من العثار. هذا، إلى أنها صبور تتحمل المشقّات، ولعل صبرها وتحملها وسكوتها عند ضربها، قد حمل كل الناس على وسمها بالبلادة. فشُبِّه البليد بالحمار، فإذا أريد تعبير شخص بالبلادة وعدم الفهم قيل إنه "حمار". ليس ذلك عند العرب وحدهم، بل عند غيرهم من الشعوب القريبة منهم مثل العبرانيين، والبعيد عنهم. فشهرة الحمار بالبلادة شهرة عالمية3. ويقال للحمار "حامور" "hamor" في العبرانية. أما الأنثى. فإنها "أتون""athon" أي "أتان" في العربية. وأما الحمار الصغير، وهو ما يقال له "الكر" أو "الجحش"؛ فإنه "عير""ayir" في العبرانية4.

ويظهر من ملاحظات بعض الباحثين أن الحمار في جزيرة العرب هو أقدم عهدًا من الجمل ومن الخيل والبغل؛ إذ كان واسطة الركوب والنقل في أوائل الألْف الثانية قبل الميلاد. فلما حلّ الجمل محله خفف من واجباته وأعماله، وصار عند العرب في منزلة هي دون منزلة الجمل بكثير.

1 النحل، الآية:8.

2

وقد جاوزن من غمدان أرضا

لأبوال البغال بها وقيع.

وفي بعض الكتب "عيدان" في مكان "غمدان" ديوان بشر "ص132".

3 Hastings، p. 59

4 Hastings، p.، 59

ص: 202

والبقر من الحيوانات القديمة في بلاد العرب، وهي من الحيوانات الملازمة لأهل الحضر في الغالب، ولا سيّما لأهل الريف، أما الأعراب فإن استفادتهم منها غير ممكنة وتكاليفها كثيرة بالنسبة إليهم، ثم إنها لا تستطيع تحمل طبيعة البادية، لذلك لم يقبلوا عليها، ولم يعتنوا بتربيتها، بل ربما نظروا إلى أصحابها نظرة ازْدِرَاء وعدم احترام. ويستفاد من ألبانها ومن لحومها وجلودها، كما يستفاد منها في حرث الأرض، وفي سحب الماء من الآبار، وفي جر العربات. وقد عُثر على ألواح مكتوبة بالمسند وعليها صور ثيران تقوم بحراثة التربة لتهيئتها للزرع.

والأغنام، هي المادة الرئيسية لتمويل الناس باللحوم والصوف. تربى في كل أنحاء جزيرة العرب، ويستفاد من ألبانها كذلك. أما "المعز" فيربى في المناطق المتموجة، أي ذات التلال، وفي الأرضين الجبلية بصورة خاصة. ويستفاد منها مادة للحوم وللحليب وللجلود، ويستعمل شعرها للخيام السود المصنوعة من شَعْرها في تلك الأزمنة1. ولكن هذه الأنواع من الماشية، لا تستطيع العيش في البادية؛ لذلك كانت من نصيب أهل المدن وحدهم. أما أهل الوبر الضاربون في البادية فإن ماشيتهم الوحيدة الإبل.

وعرفت جزيرة العرب الأسد، الذي قلّ وجوده فيها في الإسلام، ويظهر من كثرة أسمائه في اللغة ومن ورود اسمه في الشعر الجاهلي، أنه كان كثيرًا فيها، وقد اشتهرت أماكن خاصة منها بكثرة أُسُودها حتى قيل لها "مآسد" والواحدة "مأسدة". ومن هذه الأماكن "عثّر"، وإليها نسبت "أسود عثر"، و "عتود" وهي قرية نسبت إليها الأسود كذلك2. وقد عرف الأسد بشدة بطشه وبقوته وبسيادته على سائر مملكة الحيوان في القوة، ولهذا لقبوا الشجاع الذي لا يقهر أسدًا.

أما بقية الحيوانات المعروفة باسم الحيوانات الوحشية، أي التي لم تألف الإنسان، فمنها النمر3 والفهد والثعلب والذئب والقط الوحشي والضبع والبقر

1 hastings، p،، 906.

2 المخصص "8/ 59 فما بعدها"، صفة "54"، moritz، s، 40،، f،، noldeke، in zdmg، 49، 713،f.

3 صفة "202".

ص: 203

الوحشي1، أو الرئم والحمار الوحشي، وقد كان الجاهليون يصطادونه ويأكلونه عند الحاجة، حتى حرمه الإسلام، والنعامة2 والغزال والضَبّ، وله ذنب معقد، ويأكله الأعراب. والورل والوزغ، واليربوع، والقنفد. ولا تزال مواضع من اليمن والحجاز وحضرموت تحتضن قردة تتيه وحدها على الجبال والمرتفعات، فخورة بأنها من نسل تلك القرود التي عاشت قبل الإسلام بأمد طويل.

وعرف العقاب والبازي والنسر والصقر واليوم من بين الكواسر التي تنقض على الطيور الضعيفة والهوام فتعيش عليها، والغراب بأنواعه معروف في جزيرة العرب وله قصص في الأساطير العربية، ولهذا الطائر قصص في الآداب الأعجمية كذلك، لها علاقة كما هي عند العرب بالتفاؤل والتشاؤم بصورة خاصة وكان من الحيوانات التي تركت أثرًا في أساطير الشعوب القديمة وما برح الناس يتطيّرون من نعيبه.

والهدهد المذكور في القرآن الكريم، من الطيور الجميلة المحبوبة، وهناك أنواع عديدة من الحمام والعصافير والقطط والعنادل، وغيرها من الطيور الجميلة ولبعضها أصوات جميلة أخاذة ساحرة، كما أن لبعضها ألوانًا زاهية.

والجراد، وإن كان طعامًا شهيًّا لكثير من البدو، بلاء على أهل الحضر؛ يأكل زرعهم ويأتي على ما غرسوه فتحل بهم المجاعة، ويزيد في قساوة الطبيعة علىالإنسان. ولذلك عُدّ نقمة توجهها الآلهة على البشر، وتعبيرًا عن الغضب الإلهي على الخارجين على طاعة الآلهة، ولما كان يحدثه من أضرار بالزرع والأثمار والأشجار3.

والعقارب ذات أحجام وألوان، وهي تلدغ من تصيبه فتؤذيه وتؤلمه إيلامًا شديدًا، وهي مثال الحقد واللؤم عند العرب، فيضرب المثل بطبيعتها، على عكس الأفاعي والحيّات، مع أنها مؤذية كذلك، وقد تميت من تلدغه.

والسبب في ذلك أنها أكبر حجمًا من العقرب، وفي استطاعة الإنسان رؤيتها وتجنبها، ثم إنها لا تقدم على الإنسان ولا تلدغه إلا إذا شعرت أنها في وضع

1 moritz، s. 42 Wellhausen، lleder der Hudhailiten، no. 175، 176.

2 Euting، 1. 230، moritz. S. 42.

3 الخروج، الإصحاح العاشر، الآية 4 وما بعدها، مزامير، المزمور 78، الآية 46، 105، الآية 34، قاموس الكتاب المقدس "1/ 322".

ص: 204

حرج مخيف بالنسبة إليها. ولهذا ورد في الأمثال: "نحو العقرب لا تقرب، نحو الحية افرش ونم"، وزعم أن العقرب عمياء مع أنها ترى مثل سائر الحيوانات؛ ولكن صغر حجمها ولونها الذي يقرب من لون التراب، وكثرة وجودها في البيوت، هي عوامل تجعل الإنسان لا يميزها بسهولة، ولا يشعر بها إلا وقدمه عندها أو فوقها، فتلدغه عندئذ دفاعًا عن نفسها، كما يفعل أي حيوان آخر باستعمال ما عنده من وسائل الدفاع عن النفس.

وقد تركت الأفاعي والحيّات أثرًا كبيرًا في القصص العربي ولما كان بعضها كبير الحجم، ويقفز على من يهاجمه بسرعة خاطفة، أفزع الناس في البوادي والأودية، وترك في مخيلاتهم آثارا باقية لا تنسى. جعلهم يربطون بين الحيّات والأفاعي والعفاريت، وبين الجن "الجان"، بأن جعلت فصائل منها.

وتعيش في الرمال وفي الغابات وبين الصخور، فصائل من الحيّات مختلفة الأحجام، بعضها صغير، يقفز قفز بعض السمك فوق سطح البحر، أو الهوام وبعض الحشرات فوق سطح الأرض. فلا يشعر المارّ إلا وأمامه حية قافزة تفزعه وترعبه. وقد طار صيتها وانتشر خبرها خارج حدود جزيرة العرب؛ فوصفت بلاد العرب بكثرة الحيات الطائرة، حتى زعم أن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان متعددة، وكوّن وجودها قصصًا في مخيلة الأشوريين واليونان والرومان، نرى أثره فيما ذكره "هيرودتس" و "سترابو" عن تلك الحيات1.

وقد فزع جيش "أسرحدون" في أثناء اختراقه البادية من كثرة الثعابين والحيات التي كانت تثور عليه وتقفز أمامهم كما يقول نص "أسرحدون".

وذكر أن من بينها ثعابين ذات رأسين، وأن من بينها ما له جناح فيطير. ولما مرّ الجيش بأرض "بوزو""بازو""bozu""bazu"، وجد الأرض مغطاة بالثعابين والعقارب، وهي في كثرتها مثل الذباب والبعوض2. والظاهر أن البوادي كانت منازل طيبة للثعابين. وقد تذمر الإسرائيليون من "الثعابين الطائرة" وفزعوا منها عندما كانوا يقطعون البوادي والفيافي في طريقهم إلى

1 Herodotus، IH، 107، 113، Strabo، XVI، 4، 19، 25.

2 Rogers، Cuneiform parallels to the Old Testament، P.، 359، Luckenbill، II، 209، 229، Montgomery، Arabia and the Bible، PP. 8.

ص: 205

فلسطين1. وقد أفزعت السياح المحدثين والمستشرقين، ومنهم "لورنس" الذي هاله ما رأى من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزل بها وفي جملتها "وادي السرحان2".

والسمك هو من أهم مواد العيش لسكان سواحل الجزيرة، يعيشون عليه ويبيعونه لحمًا جافًّا ويصدرونه إلى الأماكن البعيدة ويحملون الطري منه إلى الأماكن التي لا تبعد كثيرًا عن الساحل. ويجفف ويدق ليكون طعامًا عند الحاجة إليه، كما يكون طعامًا لحيواناتهم كذلك. ولا يزال سكان السواحل يصيدون السمك بالطرق التي تعوّد أهل الجاهلية استعمالها في السمك. ويأتي سمك "السردين" أي السمك الصغير في مواسم الشتاء إلى السواحل بكثرة، فيصاد بسهولة وتغذى به الحيوانات. وطالما تنبعث الروائح الكريهة ويتراكم الذباب بدرجة منفرة من تكدس الأسماك المعرضة للشمس لتجفيفها، فتكون من شر الأماكن لمن لم يتعود دخولها.

ومن أنواع السمك الكبير الذي يوجد في البحر الأحمر وفي البحر العربي والخليج، نوع يقال له "القرش"، يحتاج صيده إلى مهارة وبراعة، ويحمل لبيع لحمه مقطعًا في الأسواق.

وقد اشتهر اليمن والطائف في الحجاز ومواضع أهل الحضر الأخرى بدباغة الجلود ومعالجتها لتحويلها إلى مادة نافعة لصنع الأحذية أو الدلاء أو القُرَب وما شابه ذلك. وقد تصدَّر الجلود مدبوغة أو غير مدبوغة، إلى العراق أو إلى بلاد الشام لبيعها هناك.

وليست لدينا في الزمن الحاضر دراسات علمية دقيقة عن أنواع الحيوانات التي عاشت في جزيرة العرب في العصور السحيقة لما قبل الإسلام. فما عثر عليه من بقايا عظام قديم، أو أصداف ومحار، هو قليل لا يكفي لإعطاء أحكام علمية عن حيوانات جزيرة العرب في العصور البرنزية والحديدية والحجرية، أو ما قبل هذه العصور التأريخية. فليس لنا إلا الانتظار، حتى تأتي الفرص الملائمة التي يقوم فيها العلماء المتخصصون بالتجوال في مختلف بحثًا عن آثار عظام

1 العدد 21 الآية 24 ما بعدها، أشعياء، 30، الآية 6.

2 Colonel Lawrence، Revolt in the Desert، P.، 93، G. Jacob، Studien in Arab. Dichtern، Heft، 1، S.f 93، Heft، 4، S.، 10، Montgomery P. 9.

ص: 206

وهياكل، تكشف القناع عن ذلك العالم الحي، الذي عاش في هذه البقاع قبل آلاف السنين.

وإذا كان الجمل، هو رمز جزيرة العرب، لالتصاقه بها؛ فإن النخيل هي رمز آخر لها، وكناية عن أهم حاصل ومنتوج زراعي تصدره تلك البلاد، ولهذا صارت رمزًا لها. وصار "التمر"، عند كثير من المسلمين من أهم ما يتناولونه في شهر رمضان للإفطار به؛ لأنه رمز الإسلام ورمز المدينة التي عاش وتوفي فيها الرسول.

وكما أفاد الجمل أهله الفوائد المذكورة المعلومة، من ناحية حمله ولحمه وجلده ووبره، كذلك أفادت النخلة سكان جزيرة العرب فوائد عديدة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إدامًا للعرب، وطبًّا يستطبُّون بها لمعالجة عدد من الأمراض. ومادة استخرجوا منا دبسًا وخمرًا وشرابًا، وأفادهم كل جزء من أجزائها، حتى أنهم لم يتركوا شيئًا من النخلة يذهب عبثًا. فهي إذن رمز الخير والبركة بكل جدارة وحق لأهل جزيرة العرب، لا يدانيها في ذلك أي نوع من أنواع النباتات النامية في هذه البلاد.

وكائن له هذه الفوائد والمنفعة، ينمو ويثمر بسهولة ويسر، لا بد أن يثمن ويقدر، ويميز على غيره. ولهذا صارت النخلة سيدة الشجر، لا عند العرب وحدهم بل عند قدماء الساميين أيضًا، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم1. وزخرفت معابدهم بصورها واستعمل سعفها الأخضر في استقبال الأعياد والأبطال والملوك وكبار الضيوف؛ لأنه علامة على اليُمن والبركة والسعادة والفرح. ولا يزال السعف زينة تزين بها الشوارع في المناسبات العامة المهمة حتى اليوم. وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة وفي جملتها نقود العبرانيين الذين يحترمون النخلة احترامًا لا يقل عن احترام العرب لها، ولهذا ورد ذكرها في مواضع عديدة من التوراة والتلمود2.

والنخيل، هي مثل الجمال ثروة ورأس مال يَدِرّ على صاحبه ربحًا وافرًا. ومن كان له نخل وافر كان غنيًّا ثريًّا. وقد ربح يهود الحجاز أرباحًا طائلة من

1 hastings، p، 675.

2 اللاويون، 23، 40، نحميا، 8، 15، المكابيون الأول، 13، 51، hastings، p،، 675.

ص: 207

اشتغالهم بزراعة النخيل هناك؛ فالتمر هو مادة ضرورية للأعراب يعيش عليها ويأتدم بها، وإذ هو لم يكن يفْلَح ولا يزرع، كان يشتريه مقايضة في الغالب من تجار التمور، فيكسب أصحاب النخيل أرباحًا طائلة من بيعهم التمور. ولا يوجد مكان في جزيرة العرب فيه ماء، إلا والنخلة هي سيدة المزروعات فيه، بل تكاد تكون النبات المتفرد بالزرع في أكثر تلك الأمكنة. لا يزاحمها نبات آخر من النبات.

والنخلة هي من أقدم الأشجار التي احتضنها الساميون، ولعل الفوائد التي حصل الساميون عليها من هذه الشجرة، هي التي حملتهم على تقديسها وعدّها من الأشجار المقدسة، فنجد النخلة مقدسة عند قدماء الساميين وعدّوا ثمرها وهو التمر من الثمار المقدسة التي تنفع الناس1.

أما الكروم، فقد غرست في مناطق من الجزيرة اشتهرت، وعرفت بها مثل الطائف واليمن. وأما الأشجار المثمرة الأخرى مثل الرمان والتفاح والمشمش وأمثالها، فقد غرست في مناطق عرفت بالخصب، وبتوافر الماء فيها، ويميل أهلها إلى الزراعة والاستقرار، مثل مدينة "الطائف" مصيف أهل مكة منذ الجاهلية، واليمن. وقد ذكر أن الكروم دخلت إلى بعض المناطق حديثًا، فورد أنها دخلت إلى "مسقط" مثلًا في القرن السادس عشر للميلاد، على أيدي البرتغاليين2، ودخلت إلى الحجاز في القرن الرابع بعد الميلاد غريبة من بلاد الشام. ويرى بعض الباحثين أن النبط واليهود كانوا الوسطاء في نقل الأشجار المثمرة إلى الحجاز3.

أما أشجار ضخمة تمد الناس بالخشب على نحو ما نجده في الهند أو في إفريقية، فلجفاف الجزيرة لا نجد فيها مثل تلك الأشجار. لذلك استورد العرب خشب سفنهم ومعابدهم وبيوتهم من الخارج في الغالب، من إفريقية ومن الهند، خلا الأمكنة القريبة من الجبال والمرتفعات التي يصيبها المطر، وتصطدم بها الرطوبة، فقد نبتت فيها أشجار كونت غابات وأيكات، أفادت مَنْ في جوارها؛ إذ

1 hastings، p،، 675

2 جان جاك بيربي، جزيرة العرب "205"، وفي هذه الترجمة العربية المطبوعة سنة 1960 ببيروت، أغلاط كثيرة في ضبط الأعلام.

3 حتى "22".

ص: 208

أمدتهم بما احتاجوا إليه من خشب لاستعماله في مختلف الأغراض. وقد كانت منطقة "حسمى" وأعالي الحجاز ذات غابات، وقد تعبّد أهلها لإله اسمه "ذو غابة"، إله الغابات، كما كست الأحراج الطبيعية والغابات جبال اليمن وجبال حضرموت وعمان.

وما زال أهل العروض ولا سيما سكان الخط، يستوردون أخشاب سفنهم من الهند، لعدم وجود الخشب الصالح لبناء السفن عندهم أو في أماكن قريبة منهم. وهم في ذلك على سنة أجدادهم الذين عاشوا قبل الإسلام بل قبل الميلاد، يذهبون بسفنهم الشِّرَاعية إلى سواحل الهند وسيلان تحمل إليها التمور وحاصلات جزيرة العرب والعراق وتعود بهم محملة بحاصلات الهند ومنها الخشب الثمين للاستفادة منه في بناء السفن ولاستعماله في المعابد الضخمة المهمة وفي قصور الملوك.

والسدر من الأشجار المعروفة في جزيرة العرب، وترتفع شجرته أمتارًا عن سطح الأرض، وتكوّن ظلًّا يقي من يجلس تحته لهيب الشمس ووهجها المحرق. وتكون له ساق قوية متينة. وهو لا يحتاج إلى سقي دائم، لأن جذوره تمتد عميقة في باطن الأرض، فتمتص الرطوبة، ويعطي ثمرًا هو "النبق"، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم.

وأشجار مثل السّدر ذات ارتفاع وظلّ، وهي أشجار ذات نفع كبير لأهل البلاد التي تغلب عليها طبيعة الجفاف، لا يمكن أن يقدر أهميتها وفائدتها إلا من ركب الصحراء في يوم حار، ثم جاء فجأة فجلس تحت ظل شجرة تقيه وتقي حيوانه من لهب الشمس، سيرى نفسه في جنة وسط جهنم. فلا عجب إذا ما عبد بعض العرب وبعض الساميين مثل هذه الأشجار، وتقرّبوا إليها بالنذور والقرابين، وتوسّلوا إليها، أو عدّوها من الأشجار المباركة، من أشجار طوبى، الأشجار التي وُعِد بها المتقون في الجنة.

وقد عبد قدماء العبرانيين بعض الأشجار المثمرة، وعدّوها إلاهة أنثى، لا إلهًا ذكرًا، وذلك لخاصية الحمل التي فيها، وقد تصوّروا أن للقمر أثرًا في حمل الأشجار، أي في إعطاء الثمرة1.

1 A Religious Encyclopaedia، or Dictionary of Biblical، Historical، Dactrinal، and Practical، Tneology، by Philip Schaff، Vol.، 2، P.، 916.

ص: 209

وقد ذكرت أسماء بعض الفواكه والأثمار والأشجار في القرآن الكريم، ويدل ذلك على وجودها في الحجاز، واستعمال الناس لها، ووقوفهم عليها، مثل التين والزيتون والأعناب والطلح والسّدر الرومان وعلى وجودها وزرعها في الحجاز، قبل الإسلام بأمد. ولم يكن الحجاز مثل اليمن وحضرموت في كثرة الأشجار والفواكه، وذلك لجفافه بالقياس إلى جو العربية الجنوبية الذين ساعد على نموّ الأشجار.

والأَثْلِ والأراك والغَضَى الذي يستخرج منه الفحم، والمعروف بجمره، و "السنط"، والسمح، و "الصعتر"، وأمثالها، هي من الأشجار التي لا تزال تنمو وتعيش في مواضع متعددة من الجزيرة، وبعضها في الأقسام الغربية والجنوبية؛ حيث تنمو وتنبت على المرتفعات، يستخرج منها الناس وقودًا، أو ثمرًا بريًّا يأكلونه، وقد يستفيدون من ورقه فيجفِّفُونه ويسحقونه فيبيعونه.

وأما الحبوب والخضر والبقول، فتحتاج كلها إلى سقي، لهذا انحصرت زراعتها في الأماكن التي تتوافر فيها المياه أو تتساقط عليها الأمطار في المواسم المناسبة. لذلك نجدها في الحجاز وفي اليمن وفي العربية الجنوبية وفي مواضع المياه من نجد والعروض. والحبوب هي الحنطة والشعير والذرة والأرز، وسأتحدث عنها وعن بقيتها في باب الزراعة عند الجاهليين. وبعض الخضر، مستورد من الخارج، أُدخل من العراق أو من بلاد الشام أو من إفريقية والهند، فالبطيخ مثلا المعروف بـ "الخربز" عند أهل المدينة مستورد كما يدل عليه اسمه الفارسي من العراق: استورد قبل الإسلام بأمد. ويمكن الاستدلال من أسماء الأثمار والخضر، ومن دراسة توزيعها وأماكن وجودها، على الأماكن التي جاءت منها، فدخلت جزيرة العرب قبل الإسلام.

أما "البخور" واللبان -بترول العالم في ذلك الزمان- والصموغ والمرّ والمنتوجات الزراعية الأخرى التي اشتهرت بها العربية الجنوبية، وكانت مصدر رخائها، ومصدر تنافس الدول الكبرى عليها في ذلك الزمان، فقد زالت أهميتها بالتدريج، وذهب أثر سحرها بتبدل الأيام. و "ظفار" والمناطق الأخرى، وإن كانت لا تزال ترى أشجار البخور تنبت على الفطرة حتى اليوم، قد زالت دولتها الآن فلا تأتي للسكان بالذهب والفضة؛ فقد تغير ذوق العالم، وتبدلت تجارته، وصار يفتش عن الذهب الأسود، منتوج الطبيعة في باطن الأرض.

ص: 210

وفي هذه المواضع من العربية الجنوبية وفي الأودية وحافات الهضاب والجبال التي كانت تنبت بها تلك الموارد الثمينة، والتي لا تزال تنبت على الطبيعة، تشاهد كهوف ومغَاوِر غريبة وآبار وكتابات جاهلية بالمسند، وآثار مقابر تتحدث كلها عن قوم كانوا قد استوطنوا هذه الأماكن قبل الإسلام بزمان طويل1. أما الآن فهي خرائب، ترجو من الأحياء توجيه نظرهم إليها لإحيائها ولاستنطاق آثارها وكنوزها لتحدثهم عن ماضيها القديم.

وقد حبت الطبيعة اليمن بمزية جعلتها تحتضن كل النباتات المذكورة، وتنبت أكثرها أنواع المزروعات، وذلك بأنعامها عليها بجبال وبمرتفعات وبمنخفضات حارة رطبة، هيأت لها ثلاثة جواء، تنتج محصولات ثلاثة أنواع من المناخ: منتوج المناخ المرتفع البارد، ومنتوج المناطق المعتدلة، ومنتوج المناطق الحارة.

وقد عرف أهل اليمن الأذكياء كيف يستغلون تربتهم، فعلموا مدارج على سفوح جبالهم وعلى المرتفعات، أصلحوا تربتها، وذلك لحصر مياه المطر عند نزوله، ضمانًا لدخوله التربة وإروائها، وزرعوا تلك المدارج أو السلالم العريضة بمختلف المزروعات وذلك قبل الإسلام بأمد طويل، فأمنوا بذلك خيرًا وافرًا لهم، جعل اليمن من أسعد بلاد جزيرة العرب، فهي العربية السعيدة والعربية الخضراء بكل جدارة، وهي موطن الحضارة وأرقى مكان نعرفه في الجزيرة في أيام ما قبل الإسلام.

ومن النبات ما هو دخيل استورد من الخارج، من العراق أو من بلاد الشام، وقد احتفظ قسم منه باسمه الأعجمي القديم. ويظهر أن بعضه قد دخل بعد الميلاد. وقد يكون من المفيد دراسة نبات جزيرة العرب قبل الإسلام، لمعرفة الدخيل منه وكيفية وصوله إلى الجزيرة، كما يستحسن دراسة الكتابات الجاهلية لاستخراج ما ورد فيها من أسماء النبات.

وأما البوادي فإن ظروف الخصب والنماء فيها محدودة، تركزت في مواضع المياه وفي الأماكن الرطبة التي تكون المياه الجوفية فيها على حافة القشرة، وفي أعقاب الأمطار، حيث تخضر الأرض وتلبس حلة خضراء سندسية جميلة، لكن لبسها لا يدوم طويلًا، فسرعان ما تمزقها الرياح الجافة والأهوية الحارة، فتقضي

1 Sanger، The Arabian Peninsula، p.، 126.

ص: 211

عليها وتظهر حقيقة ما تحتها من تربة جافة عبوس، لا مكان للنبات فيها ولا مجال لزرع فيها في مثل هذه الظروف.

والواحات ومواضع الآبار والمياه في البوادي، هي رحمة للإنسان حقًّا، ومنظر تقرّ به العين. فالواحة في البادية، لؤلؤة وكنز وجنة وسط جحيم، لا يدرك جمالها ولا يعرف قدرها إلا من اضطر ركوب البوادي وتعرض لرياح السموم ووهج الشمس وعواصف الرمال تستقبل الأوجه بذات الأرض الناعمة، تهاجم العيون والأنوف والأفواه، وتضطر حتى الجمل إلى البطء في سيره وإلى التوقف، ثم تأتي على ما لدى الإنسان من ماء حرص على حمل أكبر كمية يستطيع حملها للوصول إلى مكانه المقصود لضمان حياته في هذه البادية وحياة حيوانه الذي هو فيها جزء من حياته أيضًا. ولولا الآبار والواحات في هذه البوادي، لما كان من الممكن طرقها وسلوكها، وإلا كان الدمار والهلاك.

وفي هذه المواضع التي حبتها الطبيعة بـ "إكسير الحياة" يستعيد المسافر نشاطه ويتجدد أمله، ويسترد قواه، يعطيه ماؤها قوة تعيد إليه كبرياءه وعظمته وجبروته، ثم تنسيه كل ما تعرض له من مصاعب ومشقات، وما أبداه من عجز وضعف تجاه القوى الخفية القادرة المهيمنة على الصحراء. وعندئذ يتذكر حكمة:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 1. ويشعر ببحر الماء والخضراء، يسحر هذه الأشجار والشجيرات والأعشاب النامية في هذه التربة بفضل "إكسير الحياة". ومهما كان الإنسان في هذا المكان من السذاجة والبلادة والجهل، فلا بد أن يستولي عليه شعور من حيث لا يشعر بعظمة سحر هذا المكان.

أما الغرباء الذين يعجبون من تقاتل العرب فيما بينهم على موضع صغير فيه بئر أو بركة ماء أو عشب، فإنهم سيدركون سر هذا التقاتل في حياة أهل البادية لو كلفوا أنفسهم يومًا اجتياز تلك البوادي الواسعة العابسة. عندئذ فقط، يدركون أن ذلك القتال الذي وسم أهل البادية بسمة حب الغزو والغارات لم يكن سببه فردية وأنانية، وإنما غريزة إنسانية تنبت في كل إنسان متى عاش في هذه الظروف القاسية العابسة الفقيرة. إنها غريزة المحافظة على الحياة.

ولا غرابة بعدُ إذا ما تغنى العربي بمواضع المياه والبادية بعد نزول الغيث

1 الأنبياء، الآية 30.

ص: 212

عليها، وإذا ما أظهر الحنين إليها، وتوجع في شعره وفي غنائه على الليالي المقمرة يقضيها في باديته يناجي سماءه الصافية ونور قمره الساطع يغازله ويوحي إليه، ويرسل إليه النسمات العليلة، وإلى جانبه حبيبته. يذكر حسّه هذا في شعره وفي غنائه وفي موسيقاه، حتى ليبدو للغريب، وكأن ما يقوله العربي ويحسّ به نغمة واحد ساذجة مكررة تعاد تعاد من غير معنى ولا سبب. ولكن حسّه هذا حس الصحراء، وليس في الصحراء غير نغم واحد، تترنم به الطبيعة، فإما هدوء شامل، وإما نسمة واحدة عليلة مستمرة، وإما عواصف رملية، إذا هدأت عاد إلى الصحراء هدوءُها المعهود.

ومناخ جزيرة العرب -على العموم- حار شديد الحرارة، جاف، إلا على السواحل، ولا سيما في التهائم، فإن الرطوبة تكون عالية فيها، ولهذا يتضايق الناس من أثر الحر فيهم، مع أن الحرارة ذاتها فيها لا تكون عالية كثيرًا، وإنما مبعث هذا التضايق هو من الرطوبة المصحوبة بالحرارة، ولهذا صار بعض مواضع التهائم من شر الأمكنة على وجه هذه الأرض.

ولهذا الجو الرطب الحار أثر في حالة الناس، في صحتهم وفي نشاطهم. فانتشرت الأمراض في الأماكن التي تكثر فيها السباخ والمستنقعات، وفتكت بالناس، وتكدس فيها الذباب وتجمعت الحشرات لملاءمة مثل هذه الأجواء لمعيشة هذه المخلوقات.

ولهذا السبب المذكور، عاشت في هذه الأرضين ونمت النباتات التي تألف المناطق الحارّة الرطبة، والأعشاب التي تعيش على المستنقعات وفي الأرض الرطبة، من حشائش وقصب وأعشاب.

أما في الداخل، فإن الحرارة فيها تكون جافة، ولهذا فإنها لا تكون حديدة الطبع، على نحو حر السواحل. ويتلطف الجو في الليالي في النجاد، فيكون الليل رحمة للناس ينسيهم قسوة النهار وشدة حرارته، وفقر الحياة، لا سيما إذا كمل القمر، وصار قرصًا يسحر الناظرين. فإن سحره يكون عامًّا، يشمل الغني والفقير، ويبعث في النفوس الرقة والحنان، ويثير فيها عواطف الشجن المنبعثة من قسوة الحياة وشحّها وفقر الأرض، فتأخذ النفوس الرقيقة في مناجاته بقيثارة بسيطة ذات ثقوب، ينفخ فيها لتخرج منها أصواتًا تسمع القمر فعل سحره في نفس الإنسان المعذب في النهار المحروم من طيب الحياة التي ينعم بها

ص: 213

أهل الأرضين الآخرون، أو بآلات بسيطة أخرى صنعوها بأيديهم لتعبر أناملهم وأوتار آلاتهم الساذجة عن إحساسهم الحزين، ثم لا يكتفي أصحاب هذه النفوس الرقيقة في الغالب بإرسال نغمات الحس العميقة من آلة، بل يقرنون تلك النغمات الحزينة بنغمات بشرية تنطق بما في قلب الإنسان من حس وألم دفين يوحيه إليه ألم الحرمان، ودغدغة النسيم العليل، وسحر القمر وتلألؤ مصابيح السماء. فتخرج نغمات شجية حزينة، تعاد وتكرر، لتسبح السماء على هذا الجمال الساحر، ولتفسر للسامع نوع الحياة في هذه البقاع التي وهبتها الطبيعة عاطفة عميقة، وسحرًا فاتنًا في الليل، وحرمتها خيرات الدنيا في أثناء النهار، ولتخبره بهذه النغمات المعادة أن الحياة هنا بسيطة لا تعقيد فيها ولا التواء وأنها معدودة محدودة، وعودة وتكرار.

وقد يعجب الغريب من تغزل العرب ب" ريح الصبا"، ومن مدحهم لها إلى حد بلغ الإفراط، فليس في أشعار العالم، ولا في نثرهم، شعر أو نثر فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح. وقد لا يفهم الغريب أي تعليل يقدم إليه ولا يقبله، وخير جواب يقدم إليه هو حضوره بنفسه إلى جزيرة العرب للاستمتاع بلذة "الصبا" في ليلة مقمرة من ليالي الجزيرة، وسيعرف عندئذ سحر دلال "الصبا" وسحر تغزل العرب بها، على عكس "السموم"، التي تشوي الوجوه، وتعمي العيون، فتجعل الشعراء يلعنونها، والناس يتذاكرون ثقلها وشدتها عليهم وما ألحقته بهم من مهالك وأضرار.

والمطر هو غوث ورحمة لسكان جزيرة العرب، يبعث الحياة للأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحوّل وجهها العابس الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ويخرج أهل الحضر إلى البادية للتمتع برؤية البساط الأخضر المطرز بالأزهار، وللاستمتاع بالمنظر الساحر الذي كسا الربيع به وجوه البوادي، ولصيد الغزلان والحيوانات الأخرى التي جاءت هي أيضًا من مآويها لتشارك الطبيعة في فرحتها، ولتشبع نفسها بعد جوع وعطش. وتفرج الإبل، ويَدِرّ لبنها، ويكثر نسلها، وتتضاعف بذلك ثروة أصحابها، ويسير الجمل متبخترا فخورًا بنفسه معتزًّا، بطرًا لا يَقْضَم منها إلا ما يعتقد أنه طعام لذيذ له، يَقْضَم من موضع ثم يتركه بطرًا إلى موضع آخر، وقد كان قبل ذلك من جوعه يأكل كل ما يقع بصره ويراه. أفليس من حقّ العرب

ص: 214

إذن تسمّي المطر "غيثًا"؟ وأن تفزع وتتوجع من انحباسه، وأن تفزع إلى آلهتها تتوسل إليها لإرسال سحب المطر إليها، وتتقرب إليها بالدعاء وبصلوات "الاستسقاء"و "الاستمطار"، لترسل إليها غيثًا يغيثها ويفرج كربتها يدرأ عنها مصيبة تنزل بها إن انحبس المطر؟ لذلك كان انحباس "الغيث" عند العرب كارثة يتألم منها الناس، ويكابد من فداحتها الحيوان.

والجفاف هو الصفة الغالبة على جوّ جزيرة العرب؛ فالأمطار قليلة والرطوبة منخفضة في الداخل إلا التهائم والسواحل، فإنها ترتفع فيها كما ذكرنا. ولكنّ الطبيعة رأفت بحال بعض المناطق، فجعلت لها مواسم تنزل فيها الغيث، لإغاثة كل حي، وأهمها اليمن. أما عمان، فينزل فيها مقدار منه، ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم. وأما باقي الأقسام، فإن أكثرها حظوةً ونصيبًا من المطر، هي النفود الشمالي، وجبل شمر، فتنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع. وأما الصحاري الجنوبية فلا يصيبها من المطر إلا رذاذ، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرّذاذ1.

وينهمر المطر أحيانًا من السماء وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكوّن سيولًا عارمة جارفة تكتسح كل ما تراه أمامها، وتسيل إلى الأودية فتحوّلها إلى أنهار سريعة الجريان. وقد لاقت "مكة" من السّيول مصاعب كثيرة، وكذلك المدينة والمواضع الأخرى2 وقد يهلك فيها خلق من الناس، وتسيل مياه السيول إلى مسافات حتى تصب في البحر، وقد تبتلعها الرمال فتغوص فيها وتجري في باطن الأرض مكوّنة مجاري جوفية، تقترب وتبتعد عن قشرة الأرض على حسب قربها أو بعدها منها، وعلى حسب قرارة المكان الذي تسيل عليه. وقد تبلغ البحر فتدفق عيونًا في قاعة، كالذي نشاهده في الخليج بين الساحل والبحرين.

وقد استفاد أهل اليمن بصورة خاصة وأهل حضرموت والحجاز من السّيول بأن بنوا سدودًا للسيطرة عليها، ولحبسها إلى حين الحاجة. وسدّ "مأرب" الشهير هو خير تلك السدود شهرةً وصيتًا، وقد غذى بإكسير الحياة مساحات واسعة من أرض سبأ. وقد وجد السياح آثار سدود قديمة في نواحي من الحجاز ونجد والعربية الجنوبية تعود إلى ما قبل الإسلام، بنيت في مواضع ممتازة تصلح

1 حافظ وهبة: جزيرة العرب "6".

2 البلاذري، فتوح البلدان "53 فما بعدها"، الأزرقي، تأريخ مكة.

ص: 215

جيّدًا لمنع مياه السّيول من الذهاب عبثًا، حتى إن المهندسين المحدثين رأَوْا إنشاء سدود جديدة في هذه الأَمْكنة للاستفادة من مياه السيول لإحياء أرضين موات في الزمان الحاضر، يمكن قلبها إلى مزارع وجنان خضر.

إن أرض اليمن التي صادقتها الطبيعة فأحسنت إليها ووهبتها هبات تحسدها المناطق الأخرى عليها، وهبتها أمطارًا موسميّة ووهبتها جوًّا حارًّا رطبًا في تهامة

منظر يمثل المدرجات المقامة على الجبال والتلال لزراعتها

من كتاب "Jemen، das Verbotene Land" لمؤلفه Guenther Pawelke (الصفحة 56)

اليمن وجوًّا معتدلا في المرتفعات، وجوًّا لطيفًا في الجبال، ووهبتها نباتات كثيرة تناسب تنوع هوائها وحيوانات عديدة كثيرة، ومعادن متنوعة، هي

ص: 216

أرض ذات حظ كذلك بعدد سكانها؛ فإنها حتى اليوم من أكثف مناطق جزيرة العرب وأكثرها سكانًا. وسكانها ثروة مهمة ومصنع غذى بلاد العرب والبلاد الإسلامية بموجات من القبائل، نشرت الإسلام والثقافة العربية في البلاد المفتوحة، كما أنه موّن العراق وبلاد الشام في الجاهلية بقبائل، استوطنت هناك؛ فكوّنت حكومات مثل حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة، ونسب المناذرة ونسبة الغساسنة يرجع إلى اليمن. ولا تزال اليمن تقذف بالألوف من أنبائها كل عام، تقذف بهم في شتى الأنحاء إلى سواحل إفريقية المقابلة، حتى بلغ بعضهم الولايات المتحدة وإنكلترة، فكوّنوا فيها جاليات يمانية. ويعيش اليوم زَهَاء مليون يماني خارج اليمن، هاجروا من بلادهم لظروف مختلفة لا مجال للبحث فيها في هذا المكان. وقد سبقهم أجدادهم قبل الإسلام، فطفروا حدود جزيرة العرب وذهبوا إلى مصر وإلى بعض جزر اليونان.

ويعَدّ سكان "الجبل الأخضر" سعداء حقًّا بالقياس إلى سكان جزيرة العرب الساكنين في العربية الشرقية أو في البوادي الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية، فإن الغيوم المثقلة بالأبخرة تصطدم بمرتفعات هذا الجبل فتضطر إلى تفريغ شحنتها عليه. ولهذا توافرت المياه فيها، فاستغلها السكان وزرعوا عليها. وصارت الأودية من مواطن الحضارة القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بزمان طويل، كما صارت سفوح الجبال والمرتفعات موارد رزق للزرّاع، يستهلكون من الحاصل ما يحتاجون إليه، ويصدرون الباقي لمن يحتاج إليه من أهل بقية جزيرة العرب. وما زال أهل البلاد يزرعون على سنة آبائهم وأجدادهم الأقدمين. وقد شاهد السياح آثار سدود في هذه المناطق شيّدها الأقدمون للتحكم في الأمطار التي تسقط بغزارة وتجري سيولًا.

وفي مثل هذه الأمكنة نجد كتابات دوّنها أصحابها شكرًا لآلهتهم على إنعامها عليهم بالغلّة الوافرة وبالحصاد الغزير، أو لإنعامها عليهم بأرض مخصبة ولمساعدتها إيّاهم على حفر بئر زودتهم بماء للسقي وللزرع، ووجود هذه الكتابات دليل ناطق على وجود الحضارة فيها في تلك الأيام.

أما مواطن الحضارة، فقد وزّعتها الطبيعة بيدها، وما برح هذا التوزيع معترفًا به. وزّعتها عليها توزيعها للنبات والمعادن والماء. ففي المحلات ذوات الحظ التي أحبها الماء، فظهر فيها واحاتٍ وعيونًا وأحساء أو رطوبات أو

ص: 217

نهيراتٍ أو مطرًا موسميًا، ظهر الاستقرار، وتولّدت الحضارة على قدر إسعاف الماء ومقدار استعداده لوضع نفسه في خدمة الأهلين وفي خدمة حيواناتهم وزراعتهم لا فرق بين أن يكون الماء في باطن الجزيرة أو في الأودية أو في السواحل، ولو أن لموقعة دخلًا في ازدياد ثروة أصحابه وفي تمكينهم من الاتصال بالخارج، فتنفتح عندئذ لهم أبواب العالم، كأن يكون الموضع على طريق، أو على مفترق طُرُق، أو على ساحل أو مرفأ بحري، أو على مقربة من بلد متحضر مثل العراق أو بلاد الشام. أما إذا كان واحة منعزلة ومحلّا نائيًا، فإن الحضارة لا يمكن أن تظهر بالطبع فيه ظهورها في الأماكن المذكورة.

ومن هنا نرى الحضارة والاستقرار والميل إلى الاستقرار في بلاد اليمن وحضرموت أظهر وأبرز من أي مكان آخر، نرى فيها حكومات بالمعنى المفهوم من الحكومة قبل الميلاد بأمد طويل، ونرى فيها مُدنًا فيها عامرة مسوّرة لها حصون وقِلاع وتنظيمات وتشكيلات حكومية، ونرى فيها مؤسسات دينية ترعى المسائل الروحية والروابط التي تربط بين البشر وخالقهم، ونرى أنظمة وقوانين مكتوبة وسُدُودًا وأبنية عالية مرتفعة وفنًّا ما زالت جذوره ومظاهره خالدة باقية في دم الناس. ثم نرى مثل ذلك أو قريبًا منه في أعالي الحجاز وفي الأرضين الداخلة في هذا اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية. أما الواحات والعيون والآبار؛ فقد صارت مستوطنات لتمويل المستقر والقادم بالماء والتمر وبشيء من الحبوب والخضر، وإذا كانت على طريق صارت مأوى للقوافل، ولهذا لم يكن من الممكن قيام حكومات كبيرة بها، لعدم توفر الشروط اللازمة لإنشاء الحكومات الكبيرة بها، واضطرت إلى توثيق علاقاتها بأهل البادية، وإلى الارتباط بهم بروابط العهود والمواثيق ودفع الإتاوة لمنعهم من التعرض لهم بسوء.

فالحياة في جزيرة العرب، هي هبة الماء، ولهذا انحصرت في هذه الأماكن المذكورة، وصار فرضًا على رجال القوافل وأصحاب التجارات المرور بها، وهو أي الماء، الذي رسم لأصحاب الجمال خطوط سيرهم إلى المواضع التي يريدون السير إليها، وحدد لهم معالم الطرق. وأقام لهم أماكن الراحة، وما زال الأعراب والتّجّار يسلكون تلك الطرق، للوصول إلى الأماكن النَّائية بالوسائل القديمة التي استعملها سكان الجزيرة قبل الإسلام، وبالمركب القديم، بطوله وبعرضه وهو الجمل. ولكن وسائط النقل الحديثة التي نافسته وأحالته مكرهًا على التقاعد.

ص: 218

واضطرته إلى الانسحاب من بعض الطرق، لا تزال تطارده وتنافسه في الطرق الأخرى، وعندئذ لا بد من حدوث مشكلات بالنسبة إلى تربية هذا الحيوان الصحراوي القديم الذي أخلص للبادية، وبقي على إخلاصه لها، ولكن الأمر ليس بيد البادية؛ وإنما هو بأيدي قاهر البوادي والأرضين والجواء، السيد الإنسان.

أما السواحل، فخلقت من سكانها رجال بحر، يحبّون ركوب البحر واستخراج ما فيه للتعيّش به ولبيعه وتصريفه في الأسواق، كما جعلتهم أصحاب ضيافة، يقدمون الماء وما عندهم من طعام إلى السفن القادمة إليهم، ويعرضون ما عندهم من سلع فائضة لبيعها لهم، ويشترون من أصحاب تلك السفن ما عندهم من بضاعة نافعة، فتحولت إلى أسواق للبيع والشراء، المتعاملون بها مزيج من القادمين إليها من أنحاء الجزيرة ومن الوافدين الأجانب القادمين إليها من الخارج، وقد اجتذبت هذه الأمكنة إليها الغرباء، فسكنوا بها، واختلطوا بسكانها، وتولّدت بها أجيال مختلطة ممتزجة الدماء، كلما كانت قريبة من ساحل مقابل، كان مظهر الاختلاط والامتزاج أظهر وأكثر، ولهذا احتضنت تهامة والسواحل العربية الجنوبية عددًا كبيرًا من الإفريقيين، هاجروا إليها من السواحل الإفريقية المقابلة واستقروا فيها بكثرة، واختلطوا بأصحاب البلاد الأصليين. أما سواحل عمان والخليج، فقد اجتذبت إليها الهنود والفرس، وقد عُثر في مواضع من سواحل عمان على بقايا عظام بشرية اتَّضَح أنها من بقايا الهنود "الدراوديين"، سكّان الهند القدماء. ولم ينسَ البحّارة وأصحاب السفن اليونان سواحل جزيرة العرب، فأقاموا مستعمرات يونانية في مواضع متعددة منها سيأتي الكلام عليها فيما بعد.

وقذفت الطبيعة بالأعراب في كل مكان من أمكنة الجزيرة، حتى زاد عددهم على الحضر، والصفة الغالبة عليهم، أنهم لا يرتبطون بالأرض ارتباط المُزَارع بأرضه، ولا يستقرون في مكان إلا إذا وجدوا فيه الكلأ والماء؛ فإذا جفّ الكلأ وقلّ الماء، ارتحلوا إلى مواضع جديدة. وهكذا حياتهم حياة تنقل وعدم استقرار، لا يحترفون الحرف على شاكلة أهل الحضر، ولذلك صارت حياتهم حياة قاسية، يتمثل مجتمعهم في القبيلة. فالقبيلة هي الحكومة والقومية في نظر البدوي.

وإن حياة على هذا الشكل والطراز، حياة لا تعرف الراحة والاستقرار، ولا تعترف إلا بمنطق القوة. حياة جلبت المشقة لأصحابها، والمشقة لمن يقيم على

ص: 219