الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: طبيعة العقلية العربية
لكل أمة عقلية خاصة بها، تظهر في تعامل أفرادها بعضهم مع بعض وفي تعامل تلك الأمة مع الأمم الأخرى، كما أن لكل أمة نفسية تميزها عن نفسيات الأمم الأخرى، وشخصية تمثل تلك الأمة، وملامح تكون غالبة على أكثر أفرادها، تجعلها سمة لتلك الأمة تميزها عن سمات الأمم الأخرى1.
والعرب مثل غيرهم من الناس لهم ملامح امتازوا بها عن غيرهم، وعقلية خاصة بهم. ولهم شمائل عُرفوا واشتهروا بين أمم العالم، ونحن هنا نحاول التعرف على عقلية العربي وعلى ملامحه قبل الإسلام، أي قبل اندماجه واختلاطه اختلاطًا شديدًا بالأمم الأخرى، وهو ما وقع وحدث في الإسلام.
وقد بحث بعض العلماء والكتّاب المحدثين في العقلية العربية، فتكلموا عليها بصورة عامة، بدوية وحضرية، جاهلية وإسلامية. فجاء تعميمهم هذا مغلوطًا وجاءت أحكامهم في الغالب خاطئة. وقد كان عليهم التمييز بين العرب الجاهليين والعرب الإسلاميين، وبين الأعراب والعرب، والتفريق بين سكان البواطن أي بواطن البوادي وسكان الأرياف وسكان أسياف بلاد الحضارة. ثم كان عليهم البحث عن العوامل والأسباب التي جبلت العرب من النوعين: أهل الوبر وأهل الحضر، تلك الجبلة، من عوامل إقليمية وعوامل طبيعية أثرت فيهم، فطبعتهم بطابع خاص، ميّزهم عن غيرهم من الناس.
1 فجر الإسلام، أحمد أمين 1928 "1/ 35"
بل إن الحديث عن العقلية العربية، حديث قديم؛ ففي التوراة شيء عن صفاتهم وأوصافهم، كوّن من علاقات الإسرائيلين بهم، ومن تعاملهم واختلاطهم بالعرب النازلين في فلسطين وطور سيناء أو في البوادي المتصلة بفلسطين. ومن أوصافهم فيها: أنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضًا، مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضًا "يده على الكل، ويد الكل عليه"1. يُغِيرُون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها أسرى، يبيعونهم في أسواق النِّخاسَة، أو يسترقّونهم فيتخذونهم خدمًا ورقيقًا يقومون بما يُؤْمَرون به من أعمال، إلى غير ذلك من نعوت وصفات.
والعرب في التوراة، هم الأعراب، أي سكان البوادي، لذلك فإن النعوت الواردة فيها عنهم، هي نعوت لعرب البادية، أي للأعراب، ولم تكن صِلاتهم حسنة بالعبرانيين.
وفي كتب اليونان والرومان والأناجيل، نعوت أيضا نُعِت بها العرب وأوصاف وُصِفوا بها، ولكننا إذا درسنا وقرأنا المواضع التي وردت فيها، نرى أنها مثل التوراة، قصدت بها الأعراب، وقد كانوا يغيرون على حدود إمبراطوريتيّ الرومان واليونان، ويسلبون القوافل، ويأخذون الإتاوات من التجار والمسافرين وأصحاب القوافل للسماح لهم بالمرور.
وقد وصف "ديودورس الصقلي" العرب بأنهم يعشقون الحرية، فيلتحفون السماء. وقد اختاروا الإقامة في أرضين لا أنهار فيها ولا عيون ماء، فلا يستطيع العدو المغامر الذي يريد الإيقاع بهم أن يجد له فيها مأوى. إنهم لا يزرعون حبًّا، ولا يغرسون شجرًا، ولا يشربون خمرًا، ولا يبنون بيوتًا. ومن يخالف العرف يقتل. وهم يعتقدون بالإرادة الحرة، وبالحرية2. وهو يشارك في ذلك رأي "هيرودوتس" الذي أشاد بحب العرب للحرية، وحفاظهم عليها ومقاومتهم لأية قوة تحاول استرقاقهم واستذلالهم3؛ فالحرية عند العرب هي من أهم الصفات التي يتصف بها العرب في نظر الكَتَبَة اليونان واللاتين.
وفي كتب الأدب وصف مناظرة، قيل إنها وقعت بين "النعمان بن المنذر"
1 التكوين، الإصحاح السادس عشر، الآية 12.
2 Diodorus، 19، 94، 95، Die Araber in der Alten Welt، I، s. 31.
3 Herodotus، vol، I، p. 254.
ملك الحيرة وبين "كسرى" ملك الفرس في شأن العرب: صفاتهم وأخلاقهم وعقولهم، ثم وصف مناظرة أخرى جرت بين "كسرى" هذا وبين وفد أرسله "النعمان" لمناظرته ومحاجّته فيما جرى الحديث عليه سابقًا بين الملكين1. وفي هذه الكتب أيضا رأى "الشعوبيين" في العرب، وحججهم في تصغير شأن العرب وازدرائهم لهم، ورد الكتّاب عليهم2. وهي حجج لا تزال تقرن بالعرب في بعض الكتب.
ومجمل ما نسب إلى "كسرى" من مآخذ زُعم أنه أخذها على العرب، هو أنه نظر فوجد أن لكل أمة من الأمم ميزة وصفة؛ فوجد للروم حظا في اجتماع الألفة وعظم السلطان وكثرة المدائن ووثيق البنيان، وأن لهم دينًا يبين حلالهم وحرامهم ويرد سفيههم ويقيم جاهلهم، ورأى للهند، نحوًا من ذلك في حكمتها وطبّها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها ودقيق حسابها وكثرة عددها. ووجد للصين كثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها، وأن للترك والخزر، على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم. ولم يرَ للعرب دينًا ولا حزمًا ولا قوةً. همتهم ضعيفة بدليل سكنهم في بوادي قفراء، ورضائهم بالعيش البسيط، والقوت الشحيح، يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضًا من الحاجة. أفضل طعامهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. "وإن قَرَى أحدهم ضيفًا عدّها مكرمة. وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم"3. ثم إنهم مع قلتهم وفاقتهم وبؤس حالهم، يفتخرون بأنفسهم، ويتطاولون على غيرهم وينزلون أنفسهم فوق مراتب الناس4. "حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكًا أجمعين"، وأبوا الانقياد لرجل واحد منهم يسُوسُهم ويجمعهم.
1 بلوغ الأرب "1/ 147 ما بعدها".
2 البيان والتبيين "3/ 15 فما بعدها"، العقد الفريد "2/ 86"، فجر الإسلام "1/ 35" بلوغ الأرب "1/ 158 فما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 147" وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 148".
إذا عاهدوا فغير وافين1. سلاحهم كلامهم، به يتفنَّنون، وبكلامهم يتلاعبون. ليس لهم ميل إلى صنعة أو علم ولا فن، لا صبر لهم، إذا حاربوا ووجدوا قوة أمامهم، حاولوا جهدهم التغلب عليها، أما إذا وجدوها قوة منظمة هربوا مشتتين متبعثرين شراذم، يخضعون لحكم الغريب ويهابونه ويأخذون برأية فيهم، ما دام قويًّا، ويقبلون بمن ينصبه عليهم، ولا يقبلون بحكم واحد منهم، إذا أراد أن يفرض سلطانه عليهم2.
وقد ذُكر أن أحد ملوك الهند كتب كتابًا إلى "عمر بن عبد العزيز"، جاء فيه "لم تزل الأمم كلها من الأعاجم في كلّ شق من الأرض لها ملوك تجمعها ومدائن تضمّها وأحكام تدين بها وفلسفة تنتجها وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمّانة القبّان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون والاصطرلاب الذي يعدل به النجوم ويدرك به الأبعاد ودوران الأفلاك وعلم الكسوف وغير ذلك من الآثار المتقنة، ولم يكن للعرب ملك يجمع سوادها ويضم قواصيها، ويقمع ظلمها وينهي سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في فلسفة إلا كان من الشعر. وقد شاركتها فيه العجم، وذلك أن للروم أشعارًا عجيبة قائمة الوزن والعروض فما الذي تفتخر به العرب على العجم فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضًا ويغير بعضها على بعض. فرجالها موثقون في حَلَق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي، وقد وطئن كما توطأ الطريق المهيع3". إلى آخر ذلك من كلام.
وقد تعرض "السيد محمود شكري الألوسي" في كتابه "بلوغ الأرب"، لهذا الموضوع، فجاء بما اقتبسته منه، ثم جاء برأي "ابن قتيبة" على الشعوبية، في كتابه:"كتاب تفضيل العرب"، ثم أنهاه ببيان رأيه في هذه الآراء وفي رد "ابن قتيبة" عليها4.
1 بلوغ الأرب "1/ 156".
2 راجع أصل المناظرة وحجج الشعوبين في تفضيل الأعاجم على العرب، ورد العرب عليهم، بلوغ الأرب "1/ 147 وما بعدها".
3 بلوغ الأرب "1/ 165 وما بعدها".
4 بلوغ الأرب "1/ 147 فما بعدها".
ولابن خلدون رأي معروف في العرب، خلاصته "أن العربي متوحش نهّاب سلّاب إذا أخضع مملكة أسرع إليه الخراب، يصعب انقياده لرئيس، لا يجيد صناعة ولا يحسن علمًا ولا عنده استعداد للإجادة فيهما، سليم الطباع، مستعد للخير شجاع"1. وتجد آراءه هذه مدوّنة في مقدمته الشهيرة لكتابه العام في التأريخ.
وقد رمى بعض المستشرقين العرب بالمادية وبصفات أخرى، فقال "أوليري":"إن العربي الذي يعد مثلا أو نموذجًا ماديًا، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقوّمها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيرًا إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته وقائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقا حميما له من قبل، من أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعورا بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجبًا لمن أحسن. يقول لامانس "إن العربي نموذج الديمقراطية"، ولكنها ديمقراطية مبالغ فيها إلى حد بعيد، وإن ثورته على كل سلطة تحاول أن تحدد من حريته ولو كانت في مصلحته هي السر الذي يفسر لنا سلسلة الجرائم والخيانات التي شغلت أكبر جزء في تأريخ العرب، وجهل هذا السر هو الذي قاد الأوروبيين في أيامنا هذه إلى كثير من الأخطاء، وحملهم كثيرا من الضحايا كان يمكنهم الاستغناء عنها، وصعوبة قيادة العرب وعدم خضوعهم للسلطة هي التي تحول بينهم وبين سيرهم في سبيل الحضارة الغربية، ويبلغ حب العربي لحريته مبلغًا كبيرًا، حتى إذا حاولت أن تحدها أو تنقص من أطرافها هاج كأنه وحش في قفص، وثار ثورة جنونية لتحطيم أغلاله والعودة إلى حريته. ولكن العربي من ناحية أخرى مخلص، مطيع لتقاليد قبيلته، كريم يؤدي واجبات الضيافة والمحالفة في الحروب كما يؤدي واجبات الصداقة مخلصًا في أدائها بحسب ما رسمه العرف.. وعلى العموم، فالذي
1 هذا تلخيص المرحوم أحمد أمين لرأي ابن خلدون، تجده في كتابه: فجر الإسلام "1/ 41".
يظهر لي أن هذه الصفات والخصائص أقرب أن تعد صفات وخصائص لهذا الطور من النشوء الاجتماعي عامة من أن تعد صفات خاصة لشعب معين، حتى إذا قر العرب وعاشوا عيشة زراعية مثلا، تعدلت هذه العقلية"1. ويوافق المستشرق "براون أوليري" في رمي العرب بالمادية المفرطة2. ورماهم "أوليري" أيضًا بضعف الخيال وجمود العواطف3.
أما "دوزي" فقد رأى بين العرب اختلافًا في العقلية وفي النفسية، وأن القحطانيين يختلفون في النفسية عن نفسية العدنانيين4.
وقد تعرض "أحمد أمين" في الجزء الأول من "فجر الإسلام" للعقلية العربية، وأورد رأي الشعوبيين في العرب، ثم رأي "ابن خلدون" فيهم، وتكلم على وصف المستشرق "أوليري" لتلك العقلية، ثم ناقش تلك الآراء، وأبان رأيه فيها وذلك في الفصل الثالث من هذا الجزء، وتحدث في الفصل الرابع عن "الحياة العقلية للعرب في الجاهلية". وخصص الفصل الخامس بـ "مظاهر الحياة العقلية"، وتتجلى عنده في: اللغة والشعر والمثل والقصص.
أوجز "أحمد أمين" في بداية الفصل الثالث آراء المذكورين في العرب، وبعد أن انتهى من عرضها وتلخيصها ناقشها بقوله: "لسنا نعتقد تقديس العرب، ولا نعبأ بمثل هذا النوع من القول الذي يمجدهم ويصفهم بكل كمال، وينزههم عن كل نقص، لأن هذا النمط من القول ليس نمط البحث العلمي، إنما نعتقد أن العرب شعب ككل الشعوب، له ميزاته وفيه عيوبه، وهو خاضع لكل نقد علمي في عقليته ونفسيته وآدابه وتأريخه ككل أمة أخرى، فالقول الذي يمثله الرأي الخاص لا يستحق مناقشة ولا جدلًا، كذلك يخطّئ الشعوبية أصحاب القول الأول الذين كانوا يتطلبون من العرب فلسفة كفلسفة اليونان، وقانونًا كقانون الرومان، أو أن يمهروا في الصناعات كصناعة الديباج، أو في المخترعات كالاصطرلاب، فإنه إن كان يقارن هذه الأمم بالعرب في جاهليتها كانت مقارنة خطأ، لأن المقارنة إنما تصح بين أمم في طور واحد من الحضارة، لا بين أمة
1 اقتباسًا من فجر الإسلام "1/ 39 فما بعدها".
2 فجر الإسلام "1/ 41".
3 فجر الإسلام "1/ 43".
4 Dozy، Gesch. d. Mauren in Spanien، Vol.، I، S.، 73. Muh. Stud.، I، S. 89. Nallino. Raccolta، Vol.، 3، P.، 73.
متبدّية وأخرى متحضرة، ومثل هذه المقارنة كمقارنة بين عقل في طفولته وعقل في كهولته، وكل أمة من هذه الأمم كالفرس والروم مرت بدور بداوة لم يكن لها فيه فلسفة ولا مخترعات. أما إن كان يقارن العرب بعد حضارتها، فقد كان لها قانون وكان لها علم وإن كان قليلًا.."1 ثم استمر يناقش تلك الآراء إلى أن قال: فلنقتصر الآن على وصف العربي الجاهلي2، فوصفه بهذا الوصف:
"العربي عصبي المزاج، سريع الغضب، يهيج للشيء التافه، ثم لا يقف في هياجه عند حد، وهو أشد هياجًا إذا جرحت كرامته، أو انتهكت حرمة قبيلته. وإذا اهتاج، أسرع إلى السف، واحتكم إليه، حتى أفنتهم الحروب، وحتى صارت الحرب نظامهم المألوف وحياتهم اليومية المعتادة.
"والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء، وفي الحق أن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرًا ما يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يُفجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب، ولكن ليس ذكاؤه من النوع الخالق المبتكر، فهو يقلب المعنى الواحد على أشكال متعددة، فيبهرك تفننه في القول أكثر مما يبهرك ابتكاره للمعنى، وإن شئت فقل إن لسانه أمهر من عقله.
"خياله محدود وغير متنوع، فقلما يرسم له خياله عيشة خيرًا من عيشته، وحياة خيرًا من حياته يسعى وراءها، لذلك لم يعرف "المثل الأعلى"، لأنه وليد الخيال، ولم يضع له في لغته لفظة واحدة دالة عليه، ولم يشرْ إليه فيما نعرف من قوله، وقلما يسبح خياله الشعري في عالم جديد يستقي منه معنى جديدًا، ولكنه في دائرته الضيقة استطاع أن يذهب كل مذهب.
"أما ناحيتهم الخلقية، فميل إلى حرية قلّ أن يحدّها حدّ، ولكن الذي فهموه من الحرية هي الحرية الشخصية لا الاجتماعية، فهم لا يدينون بالطاعة لرئيس ولا حاكم، تأريخهم في الجاهلية -حتى وفي الإسلام- سلسلة حروب داخلية، وعهد عمر بن الخطاب كان عصرهم الذهبي، لأنه شغلهم عن حروبهم الداخلية بحروب خارجية، ولأنه، رضي الله عنه، مُنح فهمًا عميقًا ممتازًا لنفسية العرب.
1 فجر الإسلام "1/ 40 فما بعدها".
2 فجر الإسلام "1/ 34".
"والعربي يحب المساواة، ولكنها مساواة في حدود القبيلة، وهو مع حبه للمساواة كبير الاعتداد بقبيلته ثم بجنسه، يشعر في أعماق نفسه بأنه من دم ممتاز، لم يؤمن بعظمة الفرس والروم مع ما له ولهم من جدب وخصب وفقر وغنى وبداوة وحضارة، حتى إذا فتح بلادهم نظر إليهم نظرة السيد إلى المسود"1.
ثم خلص إلى أن العرب في جاهليتهم كان أكثرهم بدوًا، وإن طور البداوة طور اجتماعي طبيعي تمر به الأمم في أثناء سيرها إلى الحضارة، وأن لهذا الطور مظاهر عقلية طبيعية، تتجلى في ضعف التعليل، وعنى بذلك عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهما تاما، "يمرض أحدهم ويألم من مرضه، فيصفون له علاجًا، فيفهم نوعًا من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهمه فهم العقل الدقيق الذي يتفلسف، يفهم أن عادة القبيلة أن تتناول هذا الدواء عند هذا الداء، وهذا كل شيء في نظره، لهذا لا يرى عقله بأسا من أن يعتقد أن دم الرئيس يشفي من الكَلَب، أو أن سبب المرض روح شرير حلّ فيه فيداويه بما يطرد هذه الأرواح، أو أنه إذا خيف على الرجل الجنون نجسوه بتعليق الأقذار وعظام الموتى إلى كثير من أمثال ذلك، ولا يستنكر شيئا من ذلك ما دامت القبيلة تفعله، لأن منشأ الاستنكار دقة النظر والقدرة على بحث المرض وأسبابه وعوارضه، وما يزيل هذه العوارض، وهذه درجة لا يصل إليها العقل في طوره الأول"2.
ثم أورد أمثلة للاستدلال بها على ضعف التعليل، مثل قولهم بخراب سدّ مأرب بسب جرذان حُمْر، ومثل قصة قتل النعمان لسِنمّار بسبب آجُرّة وضعها سِنِمار في أساس قصر الخورنق، لو زالت سقط القصر.
ثم تحدث عن مظهر آخر من مظاهر العقلية العربية، لاحظه بعض المستشرقين ووافقهم هو عليه، هو: أن طبيعة العقل العربي لا تنظر إلى الأشياء نظرة عامة شاملة، وليس في استطاعتها ذلك. فالعربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليوناني، بل كان يطوف فيما حوله، فإذا رأى منظرًا خاصًا أعجبه تحرك له، وجاس صدره بالبيت أو الأبيات من الشعر أو الحكمة أو
1 فجر الإسلام "1/ 44 فما بعدها.
2 فجر الإسلام "1/ 46".
المثل. "فأما نظرة شاملة وتحليل دقيق لأسسه وعوارضه فذلك ما لا يتفق والعقل العربي. وفوق هذا هو إذا نظر إلى الشيء الواحد لا يستغرقه بفكره، بل يقف فيه على مواطن خاصة تستثير عجبه؛ فهو إذا وقف أمام شجرة، لا ينظر إليها ككل، إنما يستوقف نظره شيء خاص فيها، كاستواء ساقها أو جمال أغصانها، وإذا كان أمام بستان، لا يحيطه بنظره، ولا يلتقطه ذهنه كما تلتقطه "الفوتوغرافيا"، إنما يكون كالنحلة، يطير من زهرة إلى زهرة، فيرتشف من كل رشفة". إلى أن قال: "هذه الخاصة في العقل العربي هي السر الذي يكشف ما ترى في أدب العرب -حتى في العصور الإسلامية- من نقص وما ترى فيه من جمال".
وقد خلص من بحثه، إلى أن هذا النوع من النظر الذي نجده عند العربي، هو طور طبيعي تمر به الأمم جميعًا في أثناء سيرها إلى الكمال، نشأ من البيئات الطبيعية والاجتماعية التي عاش فيها العرب، وهو ليس إلا وراثة لنتائج هذه البيئات، "ولو كانت هنالك أية أمة أخرى في مثل بيآتهم، لكان لها مثل عقليتهم، وأكبر دليل على ذلك ما يقرره الباحثون من الشبه القوي في الأخلاق والعقليات بين الأمم التي تعيش في بيئات متشابهة أو متقاربة، وإذ كان العرب سكان صحاري، كان لهم شبه كبير بسكان الصحاري في البقاع الأخرى من حيث العقل والخلق"1.
أما العوامل التي عملت في تكوين العقلية العربية وفي تكييفها بالشكل الذي ذكره، فهي عاملان قويان. هما: البيئة الطبيعية، وعنى بها ما يحيط بالشعب طبيعيًّا من جبال وأنهار وصحراء وغير ذلك، والبيئة الاجتماعية، وأراد بها ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك. وليس أحد العاملين وحده هو المؤثر في العقلية.
وحصر أحمد أمين مظاهر الحياة العقلية في الجاهلية في الأمور التالية: اللغة والشعر والأمثال والقصص. وتكلم على كل مظهر من هذه المظاهر وجاء بأمثلة استدل بها ما ذهب إليه.
والحدود التي وضعها أحمد أمين للعقلية العربية الجاهلية، هي حدود عامة،
1 فجر الإسلام "46 وما بعدها".
جعلها تنطبق على عقلية أهل الوبر وعقلية أهل المدر، لم يفرق فيها بين عقلية من عقلية الجماعتين. وقد كوّنها ورسمها من دراسات لما ورد في المؤلفات الإسلامية من أمور لها صلة بالحياة العقلية ومن مطالعاته لما أورده "أوليري""وبراون" وأمثالهما عن العقلية العربية، ومن آرائه وملاحظاته لمشكلات العالم العربي ولوضع العرب في الزمن الحاضر. والحدود المذكورة هي صورة متقاربة مع الصورة التي يرسمها العلماء المشتغلون بالسامية عادة عن العقلية السامية، وهي مثلها أيضًا مستمدة من آراء وملاحظات وأوصاف عامة شاملة، ولم تستند إلى بحوث علمية ودراسات مختبرية، لذا فإنني لا أستطيع أن أقول أكثر مما قلته بالنسبة إلى تحديد العقلية السامية، من وجوب التريّث والاستمرار في البحث ومن ضرورة تجنب التعميم والاستعجال في إعطاء الأحكام.
وتقوم نظرية أحمد أمين في العقلية العربية على أساس أنها حاصل شيئين وخلاصة عامين، أثرا مجتمعيًا في العرب وكوّنا فيهما هذه العقلية التي حددها ورسم معالمها في النعوت المذكورة. والعاملان في رأيه هما: البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية. وعنى بالبيئة الطبيعية ما يحيط بالشعب طبيعيا من جبال وأنهار وصحراء ونحو ذلك، وبالبيئة الاجتماعية ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك، وهما معًا مجتمعين غير منفصلين، أثّرَا في تلك العقلية. ولهذا رفض أن تكون تلك العقلية حاصل البيئة الطبيعية وحدها، أو حاصل البيئة الاجتماعية وحدها. وخطأ من أنكر أثر البيئة الطبيعية في تكوين العقلية ومن هنا انتقد "هيكل""HEGEL"، لأنه أنكر ما للبيئة الطبيعية من أثر في تكوين العقلي اليوناني، وحجة "هيكل" أنه لو كان للبيئة الطبيعية أثر في تكوين العقليات، لبان ذلك في عقلية الأتراك الذين احتلوا أرض اليونان وعاشوا في بلادهم، ولكنهم لم يكتسبوا مع ذلك عقلهم ولم تكن لهم قابلياتهم ولا ثقافتهم. وردُّ "أحمد أمين" عليه هو أن "ذلك يكون صحيحا لو كانت البيئة الطبيعية هي المؤثر الوحيد، إذن لكان مثل العقل اليوناني يوجد حيث يوجد إقليمه، وينعدم حيث ينعدم، أما والعقل اليوناني نتيجة عاملين، فوجود جزء العلة لا يستلزم وجود المعلول"1.
1 فجر الإسلام "52 فما بعدها".
وأثر البيئة الطبيعية في العرب، أنها جعلت بلادهم بقعة صحراوية تصهرها الشمس، ويقلّ فيها الماء، ويجفّ الهواء، وهي أمور لم تسمح للنبات أن يكثر، ولا للمزروعات أن تنمو، إلا كلأً مبعثرًا هنا وهناك، وأنواعًا من الأشجار والنبات مفرقة استطاعت أن تتحمل الصيف القائظ، والجوّ الجاف، فهزلت حيواناتهم، ونحلت أجسامهم، وهي كذلك أضعفت فيها حركة المرور، فلم يستطع السير فيها إلا الجمل، فصعب على المدنيات المجاورة من فرس وروم أن تستعمر الجزيرة، وتفيض عليها من ثقافتها، اللهم إلا ما تسرب منها في مجارٍ ضيقة معوجّة عن طرق مختلفة".
وأثر آخر كان لهذه البيئة الطبيعية في العرب، هو أنها أثرت في النفوس فجعلتها تشعر أنها وحدها تجاه طبيعة قاسية، تقابلها وجهًا لوجه، لا حول لها ولا قوة، لا مزروعات واسعة، ولا أشجار باسقة، تطلع الشمس فلا ظلّ، ويطلع القمر والنجوم فلا حائل، تبعث الشمس أشعتها المحرقة القاسية فتصيب أعماق نخاعه، ويسطع القمر فيرسل أشعته الفضية الوادعة فتبهر لبّه، وتتألق النجوم في السماء فتملك عليه نفسه، وتعصف الرياح العاتية فتدمر كل ما أتت عليه. أما هذه الطبيعة القوية، والطبيعة الجميلة، والطبيعة القاسية، تهرع النفوس الحساسة إلى رحمن رحيم، وإلى بارئ مصور وإلى حفيظ مغيث -إلى الله-. ولعلّ هذا هو السر في أن الديانات الثلاث التي يدين بها أكثر العالم، وهي اليهودية والنصرانية والإسلام نبعت من صحراء سيناء وفلسطين وصحراء العرب1.
والبيئة الطبيعية أيضا، هي التي أثرت -على رأيه- في طبع العربي، فجعلته كثيبًا صارمًا يغلب عليه الوجد، موسيقاه ذات نغمة واحدة متكررة عابسة حزينة، ولغته غنية بالألفاظ إذا كانت تلك الألفاظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية، وشعره ذو حدود معينة مرسومة، وقوانينه تقاليد القبيلة وعُرف الناس، وهي التي جعلته كريما على فقره، يبذل نفسه في سبيل الدفاع عن حمى قبيلته. كل هذه وأمثالها من صفات ذكرها وشرحها هي في رأيه من خلق هذه البيئة الطبيعية التي جعلت لجزيرة العرب وضعًا خاصًا ومن أهلها جماعة امتازت عن بقية الناس بالمميزات المذكورة.
1 فجر الإسلام "54 فما بعدها".
وقد استمر "أحمد أمين"، في شرح أثر البيئة الطبيعية في عقلية العرب وفي مظاهر تلك العقلية التي حصرها كما ذكرت في اللغة والشعر والأمثال والقصص، حتى انتهى من الفصول التي خصصها في تلك العقلية. أما أثر البيئة الاجتماعية التي هي في نظره شريكة للبيئة الطبيعة في عملها وفعلها في العقلية الجاهلية وفي كل عقلية من العقليات؛ فلم يتحدث عنه ولم يشرْ إلى فعله، ولم يتكلم على أنواع تلك البيئة ومقوماتها التي ذكرها في أثناء تعريفه لها، وهي:"ما يحيط بالأمة من نظم اجتماعية كنظام حكومة ودين وأسرة ونحو ذلك"، ثم خلص من بحثه عن العقلية العربية وعن مظاهرها وكأنه نسي ما نسبه إلى العامل الثاني من فعل؛ بل الذي رأيته وفهمته من خلال ما كتبه أنه أرجع ما يجب إرجاعه إلى عامل البيئة الاجتماعية -على حد قوله- إلى فعل عامل البيئة الطبيعية وأثرها في عقلية العرب الجاهليين. وهكذا صارت البيئة الطبيعية هي العامل الأول الفعّال في تكوين تلك العقلية، وحرمنا بذلك من الوقوف على أمثلته لتأثير عامل البيئة الاجتماعية في تكوين عقلية الجاهليين.
وأعتقد أن "أحمد أمين" لو كان قد وقف على ما كُتب في الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية عن تأريخ اليمن القديم المستمد من المسند، ولو كان قد وقف على ترجمات كتابات المسند أو الكتابات الثمودية والصفوية واللحيانية؛ لما كان قد أهمل الإشارة إلى أصحاب تلك الكتابات، ولعدّل حتما في حدود تعريفه للعقلية العربية، ولأفرز صفحة أو أكثر إلى أثر طبيعة أرض اليمن وحضرموت في عقلية أهل اليمن وفي تكوين حضارتهم وثقافتهم، فإن فيما ذكره في فصوله عن العقلية العربية الجاهلية ما يجب رفعه وحذفه بالنسبة إلى أهل اليمن وأعالي الحجاز.
ونجد في كتاب "جزيرة العرب في القرن العشرين" لحافظ وهبة فصلا بعنوان "السكان"، وردت فيه ملاحظات كيّسة عن عقلية الحضر وعقلية البدو في المملكة العربية السعودية وفي بعض المناطق المجاورة لها في الزمان الحاضر. وهذه الملاحظات وإن كانت تتعلق بعرب هذا اليوم، إلا أنها مع ذلك ذات فائدة ومنفعة لفهم العقلية الجاهلية، فالزمان وإن تباعد بين عرب الجاهلية وعرب القرن العشرين؛ إلا أن الخصائص العقلية لأكثر أهل البادية المنعزلين عن عالمهم الخارجي لا تزال هي هي، لم تتغير في كثير من الأمور، بل خذ من نسميهم "الحضر"
أو العرب المستقرين في جزيرة العرب، فإن البعيدين منهم عن الأماكن التي لها اتصال بالعالم الخارجي وبالأجانب لا يزالون يحتفظون بكثير من خصائص عقلية حضر اليمن أو الحجاز عند ظهور الإسلام. ومن هنا تفيدنا ملاحظات "حافظ وهبة" هذه وملاحظات غيره من أذكياء العرب والسياح والخبراء الأجانب، فائدة كبيرة في التعرف على أسس تفكير العرب قبل الإسلام.
وفي حديث "حافظ وهبة" عن طباع الحضر أشار إلى اختلاف طباعهم باختلاف أماكنهم، فقال: "والحضر تختلف طباعهم باختلاف المناطق التي يعيشون فيها، وظروف الحياة التي تحيط بهم فأهل حايل أقرب مظهرًا إلى البداوة. وأهل مكة والمدينة واليمن العالية أبعد مظهرًا عن البداوة من البلاد الأخرى العربية، وأهل القصيم ألين عريكة من أهل العارض، لأنهم كثيرو الاختلاط والتعامل مع البلاد الأخرى كالشام وفلسطين ومصر، ولذا فترى موظفي ديوان الملك المكلفين بالمقابلات والتشريفات من أهل القصيم أو حايل.
وأهل الرياض أرقى بكثير من أهل الدواسر الذين لم يفارقوا بلادهم، ولم يعرفوا شيئا عن أحوال العالم الخارجي1.
وأشار إلى تنافس الحضر وإلى تفاخرهم وتفضيل أنفسهم بعضهم على بعض في الشمائل والعادات وحتى في اللهجات.
ومن طبع الحضري، كما يقول "حافظ وهبة""الخلق التجاري"، وهم يتباينون في ذلك أيضًا بتباين أماكنهم، "فأهل القصيم والزلفى وشقرا، أنشط من أهل نجد في التجارة. فقوافلهم تقصد سائر الجهات العربية، وتجّارهم كثيرًا ما يسافرون إلى الهند ومصر في سبل التجارة، والتجار النجديون المعروفون في الهند ومصر والعراق من أهل هذه البلاد". "أما أهل الكويت، فنشاطهم في التجارة البحرية.. ويغلب على حضر الجزيرة -وعلى الأخص أهل خليج فارس- التعاون التجاري سواء بين الأهالي بعضهم مع بعض أو بين الأمراء والأهالي"2.
أما طباع البداوة، وهي طباع تختلف عن طباع أهل المدن فقد وصفها بقوله:
1 حافظ وهبة "ص7".
2 المصدر نفسه "ص8 فما بعدها".
"أما البدو، فهم القبائل الرُّحّل المنتقلون من جهة إلى أخرى طلبًا للمرعى أو للماء، والطبيعة هي التي تجبر البدو على المحافظة على هذه الحياة، وحياة البدوي حياة شاقة مضنية، ولكنه وهو متمتع بأكبر قسط من الحرية يفضلها على أي حياة مدنية أخرى. هذه الحياة الخشنة هي التي جعلت القبائل يتقاتلون في سبيل المرعى والماء، وهي التي جعلت سوء الظن يغلب على طباعهم، فالبدوي ينظر إلى غيره نظرة العدو الذي يحاول أخذ ما بيده أو حرمانه من المرعى.
إن البدو في الصحراء لا يهمه إلى المطر والمرعى؛ فأزمته الحقيقية انحباس المطر وقلّة المرعى ولا يبالي بما يصيب العالم في الخارج ما دامت أرضه مخضرة، وبعيره سمينا وغنمه قد اكتنزت لحمًا وقد طبقت شحمًا.
أما إذا نما السكان وضاقت بهم الأرض أو لم تجد أراضيهم بالمرعى، فليس هناك سبيل إلا الزحف والقتال، أو الهجرة إن كان هناك سبيل إليها، وكذلك القبيلة التي غلبت على أمرها وحُرمت من مراعيها وأراضيها ليس أمامها سبيل آخر سوى الهجرة.
لقد كان البدو قبل ثلاثين سنة في غارات وحروب مستمرة، كل قبيلة تنتهز الفرص للإغارة على جارتها لنهب مالها، وتعدد الإمارات وتشاحن الأمراء وتخاصمهم مما يشجع البدوي.
ولهذا كان للقبيلة قيمتها في بلاد العرب، فالإنسان يقوى بأبنائه وأبناء عمومته الأقربين والأبعدين، وإذا كانت العصبية ضعيفة أمكن تقوية القبيلة بالتحالف مع سواها حتى يقوى الفريقان ويأمنا شر غيرهما من القبائل القوية.
وقد جرى العرف أن القبائل تعتبر الأرض التي اعتادت رعيها، والمياه التي اعتادت أن تردها ملكًا لها، لا تسمح لغيرها من القبائل الأخرى بالدنوّ منها إلا بإذنها ورضاها، وكثيرًا ما تأنس إحدى القبائل من نفسها القوة فتهجم بلا سابق إنذار على قبيلة أخرى، وتنتزع منها مراعيها ومياهها.
إن قبائل العرب ليسوا كلهم سواء في الشر والتعدي على السابلة والقوافل، فبعضها قد اشتهر أمره بالكرم والسماحة والترفع عن الدنايا، كما اشتهر بعضها بالتعدي وسفك الدماء بلا سبب سوى الطمع فيما في أيدي الناس.
ليس للبدوي قيمة حربية تذكر، ولذا كان اعتماد الأمراء على الحضر، فهم الذين يصمدون للقتال ويصبرون على بلائه وبلوائه. وكثيرًا ما كان للبدو
شرًّا على الأمير المصاحبين له، فإن ذلك الأمير إذا ما بدت الهزيمة كانوا هم البادئين بالنهب والسلب ويحتجون بأنهم هم أولى من الأعداء المحاربين"1.
"والبدوي إذا لم يجد سلطة تَرْدَعُه أو تضرب على يده يرى من حقه نهب الغادي والرائح، فالحق عنده هو القوة يَخْضَع لها، ويُخْضِع غيره بها. على أن لهؤلاء قواعد للبادية معتبرة عندهم كقوانين يجب احترامها، فالقوافل التي تمرّ بأرض قبيلة وليس معها مَنْ يحميها من أفراد هذه القبيلة معرّضة للنهب، ولذا فقد اعتادت القوافل قديما أن يصحبها عدد غير قليل من القبائل التي ستمر بأرضها ويسمون هذا رفيقًا.
والبدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما أن الحضري يحقر البدوي، فإذا وصف البدوي الحضري، فإنه في الغالب يقول حُضيري تصغيرًا لشأنه.
ومن عادة البدوي الاستفهام عن كل شيء، وانتقاد ما يراه مخالفًًا لذوقه أو لعادته بكل صراحة، فإذا مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك وسألك من أين أنت قادم؟ وعمن وراءك من المشايخ والحكام؟ وعن المياه التي مررت بها؟ وعن أخبار الأمطار والمراعي؟ وعن أسعار الأغذية والقهوة؟ وعمن في البلد من القبائل؟ وعن العلاقات السياسية بين الحكام بعضهم وبعض.
ومع أن البدو قد اعتادوا النهب والسلب، فإنهم كثيرًا ما يعفون عن أهل العلم خوفًا من غضب الله عليهم، وبعض البدو لا يحلف كاذبًا مهما كانت النتيجة. والبدوي ينكر إذا وجد مجالًا للإنكار، ويلفت بمهارة من الإجابة عما يسأل، ولكن إذا وجه له اليمين وكان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبًا، ولا يحلف كاذبًا".
"وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحرّيًا للعدل، ويقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص أو السروال، كل هذا إرضاءً لضمائرهم ودفعًا للظلم، إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لأنها بيوتهم التي يعيشون فيها، ومع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل، أما الإبل والغنم فإنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقوّمونها بثمن إذا لم يكن هنالك سبيل للقسمة".
"والبدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون
1 وهبة "ص11 فما بعدها".
البيوت وهندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها، بل لاستعمالها وقودًا إما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تماما، فعندها أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة أن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك توًّا من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يفهمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب.
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيرًا ما كانت هذه المعرفة سببًا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافظ على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم، لا يزوِّجون بناتهم إلا لقرباهم. أما هم فيتزوّجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين"1.
"وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو أنه من سلالة العبيد، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم، فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى".
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لايعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.
1 وهبة "ص13 فما بعدها".
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمِهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظرة احتقار وعدم تقدير.
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أُسيء إليه، ولم يتمكن من ردّ الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربّص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم منه. فذاكرة البدوي ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.
فنرى من هذه الملاحظات أن كثيرًا من الطباع التي تطبّع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرّمها، لأنها من خِلَال الجاهلية، ومع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ ما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعُرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حدّ لها، وفوضى لا يَرْدَعُها رادع، وأن الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. إنهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعًا صارمًا شديدًا، وكل من يخرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومُه منه، ويضطر أن يعيش "طريدًا" أو "صعلوكًا" مع بقية "صعاليك".
العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دُعَابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل ودُعَابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفا. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقلّ في مجتمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، رُوعِي فيه الاحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دُعابة أو ميلًا إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائنا من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة" أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة"، هي من العبارات التي تعبّر عن الانتقاص والهمز واللمز.
والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قُدّر له، معتزّ بما كُتب له وإن كانت
حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديدًا وتطويرًا، إلا إذا أُكره على التجديد والتغيير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة، وإلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة، فيتقبل الأمر الواقع مستسلمًا، ومع ذلك يبقى متعلقًا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوبًا جديدًا، وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع وتعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية، فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديدًا، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنّة الآباء والأجداد، ومنطقة في ذلك:{حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} 1، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 2.
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بسنة التقدم والنشوء والارتقاء. فالبدوي يعيش أبدا كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من أثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لا يستبدلها بيتًا آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلمًا مسلمًا نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.
وكيف يغيّر حاله، وليس في البادية ما يساعده على تغيير الحال، ليس فيها ماء كافٍ ولا شجر نامٍ ولا أمطار وخضرة، فهو يعيش على كرم الطبيعة ورحمتها. أما إذا تكاثر عدده، وزاد عدد خيام القبيلة، اضطرت إلى التنقّل إلى مكان آخر، أحسن وأنسب من المكان القديم. وهكذا صار دائمًا في تنقّل من مكان إلى مكان.
وتحمس الأعراب وأشباه الحضر في دفاعهم عن العُرف، ليس عن بلادة وغباء وشعور بضعف في الكفايات، كلا فللبدوي ذكاء وقّاد وفطنة وكفاية وموهبة، وهو إذ يقاوم التغير والتبدل والتجدد، لا يقاومه عن غباء وبلادة
1 المائدة، الآية:104.
2 الزخرف، الآية 23.
وعن شعور بضعف تجاه تقبل الحياة الجديدة، وإنما يقاومه لأنه يشعر عن غريزة فيه أن حياته أفضل وأن البداوة حرية وانطلاق وعدم تقيد، وأن التطور إن لم يأتِ منه، فهو شرّ وبلاء، وأن كيانه مرتبط بتقاليد، وأن وجوده من وجود آبائه وأجداده، فهو إن انحرف عن عُرفه عرّض نفسه وأهله وقبيلته وكل وجود قومه للهلاك، فهو لذلك يرفض كل تجديد وتغير وإن بدا لنا أو له أنه لمصلحته، لغريزة طبيعية فيه وفي كل إنسان، هي غريزة المحافظة على البقاء، فخوفه من تعرض تقاليده وكيانه للخطر، هو الذي جعله محافظًا شديد التمسك بالعرف والعادة. أما إذا شعر هو أو أشعر من طريق غير مباشر بفائدة التطور والتغيير وبما سيأتيه من نفع وربح، ولا سيما إذا لم يكن في التغيير ما يعارض عرفه ولا يناقض تقاليده، فإنه يتقبله ويأخذه، ويظهر مقدرة ومهارة فيه، حتى في الأمور الفنية الحديثة الغريبة عنه. ويروي خبراء شركات البترول كثيرًا من القصص عن مقدار براعة البدو وحذقهم في إدارة الآلات والأعمال التي وُكّلت إليهم. وهناك شهادات أخرى مماثلة وردت من جهات فنية أخرى. ولو تهيأ لهؤلاء البدو مرشدون وخبراء عقلاء كيّسون لهم علم بنفسياتهم، ولو عرفت الحكومات العربية عقلياتهم ومشكلاتهم، لكان في الإمكان تحويلهم إلى ثروة نافعة لا تقدّر بثمن، ولتجنّبت بذلك المشكلات التي تواجهها منهم1.
حتى الطب، هو في البادية طب بدوي متوارث لا يتغير ولا يتبديل، يقوم على المداواة بتجارب "العارفة" في الطب. ولا يطمئن الأعرابي إلى طب أهل الحضر، مهما فتكت به الأمراض وأنزلت به من آلام، ذلك لأن طب أهل الحضر هو طب غريب عليه بعيد عنه؛ فهو لذلك لا يطمئن إليه. اللهم إلا إذا أقبل عليه رؤساؤه وساداته، أو أقنع بمنطقه وبطريقة إدراكه هو للأمور أن في الدواء الذي يداوي به شفاءً لمرضه، وعندئذ يقبل عليه ثم يزيد إقباله عليه، حتى يكون مألوفًا عنده، بل يقوم في مثل هذه الحالات باختزان ما يمكن اختزانه من الدواء للمستقبل من غير أن يفكر في كيفية خزنه، أو في المدة المقدرة لعمر ذلك الدواء، وتلفه بعد انقضائها.
ووُصف الأعراب في القرآن الكريم بالغلظة والجفاوة وبعدم الإدراك وبالنفاق
1 جان جاك بيرلي: جزيرة العرب "102".
وبالتظاهر في اللسان بما يخالف ما في الجنان: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
فالأعراب "البدوي" إنسان لا يُعتمد عليه، مسلم ومع ذلك يتربّص بالمسلمين الدوائر، فإذا خُذل المسلمون في معركة، أو شعر بضعف موقفهم خذلهم وانقلب عليهم، أو اشترط شروطًا ثقيلة عليهم؛ بحيث يجد فيها مخرجًا له ليخلص نفسه من الوضع الحرج الذي أصاب المسلمين. فلا يكلّف نفسه، ولا يخشى من مصير سيء ينتظره إن غلب المسلمون. {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3، والأعرابي لم يُسْلِم في الغالب عن عقيدة وعن فهم، إنما أسلم لأن رئيسه قد أسلم فسيّد القبيلة إذا آمن وأسلم، أسلمت قبيلته معه. وقد دخلت قبائل برُمّتها في النصرانية لدخول سيّدها فيها. وقد وردت في سورة الحجرات هذه الآيات في وصف بعض الأعراب:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4.
وقد استثنى القرآن الكريم بعض الأعراب مما وصمهم به من الكفر والنفاق والتربّص وانتهاز الفرص فنزل الوحي فيهم: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
1 سورة الحجرات الآية: 14.
2 سورة التوبة، الآية 101.
3 سورة التوبة، الآية 97 وما بعدها.
4 سورة الحجرات الآية 14 وما بعدها.
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
وقد وُصف الأعراب بالغلظة والخشونة، فقيل: أعرابي قُحّ، وأعرابي جِلْفٌ، وما شاكل ذلك. وفي الحديث "من بَدَا جَفَا"، أي من نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب2.
وذكر أن الرسول وصفه "سراقة" وهو من أعراب "بني مدلج" بقوله: "وإن كان أعرابيًّا بوّالًا على عقبيه"3. وأنه نعت "عُيَيْنَة بن حصن" قائد "غطفان" يوم الأحزاب ب"الأحمق المطاع"4. "وكان دخل على النبي، صلى الله عليه وسلم، بغير إذن، فلما قال له أين الإذن؟ قال ما استأذنت على مضربي قبلك. وقال: ما هذه الحُمَيراء معك يا محمد؟ فقال: هي عائشة بنت أبي بكر. فقال: طلقها وأنزل لك عن أم البنين. في أمور كثيرة تذكر من جفائه. أسلم ثم ارتدّ وآمن بطليحة حين تنبأ وأخذ أسيرًا فأُتي به أبو بكر، رضي الله عنه، أسيرًا فمنّ عليه ولم يزل مظهرًا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات".
وذُكر أن "الأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك وهشّ، والعربي إذا قيل له يا أعرابي غَضِب"5. وذلك لازدراء العرب الأعراب، ولارتفاعهم عنهم في العقل وفي الثقافة والمنزلة الاجتماعية.
وهذه الصفات التي لا تلائم الحضارة ولا توائم سنّ التقدم في هذه الحياة، هي التي حملت الإسلام على اعتبار "التبدّي" أي "التعرب" بعد الهجرة ردّة على بعض الأقوال وعلى النهي عن الرجوع إلى البادية والعيش بها عيشة أعرابية. فلما خرج "أبو ذر" إلى الربذة قال له عثمان بن عفان:"تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابيًّا". فكان "يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الأعرابية"6. ولما وصل
1 سورة التوبة الآية 99.
2 الفاخر "ص65"، بلوغ الأرب "3/ 425".
3 الروض الأنف "2/ 6".
4 الروض الأنف "2/ 188".
5 تاج العروس "3/ 334"، "الكويت".
6 الطبري "4/ 284".
"عبد الله بن مسعود" الربذة، ورأى ابنة أبي ذر وهي حائرة وكان والدها قد فارق الحياة لتوّه، سألها:"ما دعاه إلى الإعراب"1. وفي الحديث: "ثلاث من الكبائر منها التعرب بعد الهجرة". وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا. وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدّونه كالمرتد2. وذلك بسبب جفاء الأعراب والجهالة، ومن هنا كرهت شهادة البدوي على الحضري فورد في الحديث "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية". لأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها ولما في البدوي من جفاء وجهالة بأحكام الشرع3.
وقد عُرِف العربي الحضري بـ "القراري"، أي الذي لا ينتجع ويكون من أهل الأمصار، وقيل إن كل صانع عند العرب قراري4. وهذه النظرة هي نظرة أهل البداوة بالنسبة لأهل الحاضر، فالصانع عندهم إنسان مزدري لاشتغاله بصنعة من هذه الصنائع التي يأنف منها العربي الحرّ.
والحق أن النعوت المذكورة لا تلازم جميع الأعراب ولا تنطبق عليهم كلهم. فهم يختلفون مثل أهل الحضر، باختلاف مواضعهم، من قرب عن حضارة ومن بعد عنها، ومن وجود ماء وخصب، أو جدب أو فقر، وما شاكل ذلك. كما أن بعض النعوت المذكورة تنطبق على بعض أهل المَدَر أيضا. ولهذا نجد القرآن الكريم يطلقها عليهم، ولكن لا على سبيل التعميم بل على سبيل التخصيص، فهي نتائج ظروف خاصة وأحوال معينة، لا بد وأن تؤثر في أصحابها فتكسبهم تلك الصفات والمؤثرات. كما أن العرب، أي الحضر، لم يكونوا كلهم في التحضير على درجة واحدة سواء، فبينهم اختلاف وتباين، وبهذا التباين تباينت خصائصهم النفسية بعضهم عن بعض.
والبدوي الذي تمكن "ابن مسعود" أو غيره من الحكام من ضبطه بعض الضبط ومن الحد من غاراته على الحضر أو على البدو الآخرين، هو البدوي نفسه الذي عاش قبل الميلاد وفي عهد إسماعيل، والذي قالت في حقه التوراة:
1 الطبري "4/ 308".
2 تاج العروس "3/ 354"، "الكويت".
3 اللسان "14/ 67".
4 اللسان "5/ 90".
"يده على الكل ويد الكل عليه"1. وهو سيبقى كذلك ما دام بدويًّا ترتبط حياته بالصحراء، ينتهز الفرص كلما وجد وَهَنًا في الحكومات وقوة في نفسه على أخذ ما يجده عند الآخرين. وهو إن هدأ وسكن، فلأنه يجد نفسه ضعيفًا تجاه سلطة الحكومة، ليس في استطاعته مقاومتها لضعف سلاحه، فإذا شعر بقوته لم يخشَ عندئذ أحدًا.
وقد تأصلت الفردية في أنفس الأعراب وفي أنفس أشباه الحضر وفي أكثر الحضر، حتى صارت أنانية مفرطة، عاقت المجتمع العربي في الجاهلية وفي الإسلام عن التقدم وعن التوثق والاتحاد. وفي الأدبين الجاهلي والإسلامي أمثلة عديدة سارت بين الناس تمثل هذه النظرية الضيقة إلى الحياة. ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه قال:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة، وقمنا معه، فقال أعرابي في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا"2. فقدّم نفسه على الرسول، مع أنه مسلم يحمله دينه وأدبه أدب الإسلام على تقديم الرسول عليه، ثم إنه لم يخصص أحدًا بالرحمة غير الرسول وغير نفسه مدفوعا بهذه الأنانية القبيحة. وكثيرًا ما تسمع الناس يتمثلون بقول أبي فراس: إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر".
يتمثل به الحضر تعبيرًا عن فلسفة ووجهة نظر قديمة إلى هذه الحياة، مبعثها الوضع السّيّئ العام القلق الذي عمَّ المجتمع ومازال يعمه، والذي جعل الفرد يشعر بعدم وجود مَنْ يحميه ويساعده، فتحول غضبه إلى عقيدة مؤذية مضرة ويا للأسف.
والبداوة عالم خاص قائم بذاته، تكوّنت طباعها وخصائصها من الظروف التي نشأت فيها، لها مقاييسها وموازينها الخاصة، وهي مقاييس وموازين تختلف عن مقايس الحضر وموازينهم، الحضر البعيدين عن البادية وعن أحوال البداوة ولذلك اختلفت أفهام الجماعتين وتباعدت عقلياتهما، ومن هنا يظهر خطأ مَنْ يحكم على البداوة بمقاييس أهل الحضارة ويفسر ما يقع من الأعراب تفسيره لما يقع من أهل المدر من أعمال، ومن هنا أيضا نجد أن البداوة لا تستطيع فهم منطق الحضر
1 التكوين، الإصحاح 16، الآية 12.
2 سنن أبي داود "1/ 89".
ولا تستسيغ أسلوب حياتهم، ولا تأمنهم، لأن عالمها يختلف عن عالم الحضر، ولأنها تجد من قيود الريف والمدن ما يصعب عليها تحمله، ولأنها ترى في الحضر جماعة حيل وشرّ ومكر فلا تأمنهم، ولا تستطيع أن تطمئن إليهم، مهما أظهر الحضر نحوها من عطف وإحسان. وقد كابدت البداوة كثيرًا كما كابدت الحضارة كثيرًا أيضًا من جراء سوء الفهم هذا الناجم من اختلاف العقليتين.
ويظهر البدوي في عين الحضري الحديث، وكأنه إنسان مزدوج الشخصية جامع للنقيضين، له وجهان. فهو محارب يحارب معك وفي صفوفك، أما إذا شعر أن الهزيمة ستحل بك، فإنه أول من ينقلب عليك، فيمعن عندئذ في سلبك ما معك ونهبه، لا فرق عنده أن يكون الذي يحارب معه وفي صفوفه عربيًّا أو أعجميًّا، شريفًا من أسرة عريقة أم قائدًا محترفًا. وهو كريم جوّاد يقدم لضيفه آخر شيء عنده ليأكله ويحبيه بكل وسائل الإكرام، ولكنه لا يمتنع من سلب غريب يجده في طريقه، ومن أخذ ما عنده. هو رجل متدين لا يحلف كاذبًا مهما رأى النتيجة، ولكن تديّنه تدين بدويّ سطحي إلى غير ذلك من متناقضات.
أما الأعرابي، فيسخر من اتهام الحضري له بهذه التهم، ويعجب من سذاجة منطقه وحكمه، فمنطقه في نظره منطق رجل ساذج مريض معلول، وحكمه حكم إنسان ضعيف ذليل. وإلا فكيف يسمح عقل إنسان سليم لإنسان مثلًا أن يترك أموال صاحبه أو أصحابه تقع في أيدي غيره أو أعدائه، يأخذونها لينعموا بها وليفتخروا بحصولهم عليها، ثم لا يمدّ هو يده إليها يأخذ منها ما يحتاج إليه ويريد؟ ألا يدل هذا العمل على السُّخْفِ والضعف وفساد الرأي؟ إن المحارب في نظر الأعرابي أولى من غِيرة بأموال زميله المحارب، وهو أحق بها من أي إنسان آخر للحصول عليها إن داهمه خطر، وشعر أن تلك الأموال ستقع في أيدي عدوّه، فهو زميله وصديقه، وهو فوق ذلك به حاجة إليها؛ فمن حقه الطبيعي إذن أن يأخذها ولو عَنْوَة ويولي بها ليحرم عدوّه الحصول عليها والحصول على أي مكسب كان من هذه الحرب. ثم إنه إن لم يباشر أخذ ما يجده أمامه في الوقت الملائم، فإن غيره سيأخذه حتمًا، وقد يكون غيره هو خصمه وعدوّه: ولما كانت النفس مقدمة على غيرها، كان من العقل والحكمة أن يأخذ حقه بنفسه، وإلا ضاع حقه عليه وأفلت منه. ومن هنا اختلف منطقه عن منطق الحضري وباين حكمه على الأمور حكم الحضري.
وحكم الأعراب على الأمور، حكم صادر عن عقلية خاصة بهم، كونتها عندهم الأحوال التي يعيشون فيها والمحيط الذي يتحكم فيهم من جفاف وحرارة وضوء ساطع واختلاف في درجات الضغط الجويّ وانحباس الأمطار وفقر محالف لأغلب الأرضين ومن فقر وتقتير وبساطة في المأكل وأمثال ذلك من مؤثرات كوّنت عندهم عقلية خاصة وثقافة خاصة، فهمت الأمور بمنطقها لا بمنطق الآخرين.
ومن هنا اختلفت أيضا عقليات الأعراب وتباينت بعض التباين باختلاف الأحوال التي تحيط بالأمنكة التي ينزلون بها وبقرب تلك الأمكنة وبعدها من الحضر ومن الحضارة. وبمقدار تأثرها بالمؤثرات الخارجية وبالثقافات الواردة من الخارج، كالذي نلحظه من وجود شيء من التباين بين عقليات القبائل المتنصرة وأعمالها وعقليات القبائل الوثنية وأعمالها، بالرغم من أن نصراينة تلك القبائل لم تكن نصرانية عميقة صميمة، ولم تكن صافية خالصة، وذلك لأن هذه القبائل المتنصّرة على سطحية تنصّرها، كانت مواطنها ملاصقة للحضر وللحضارة وذات اتصال بالحضر وبالأعاجم وبالثقافات الأجنبية وبالبيئات الثقافية الغريبة، وعاش بينها رجال دين غرفوا من ثقافات غريبة وبشّروا بين العرب المنتصرة بآراء غريبة عنهم، كما تأثر رؤساء تلك القبائل بمؤثرات الحضر الذين احتكوا بهم وبرجال السياسة والدين الذين كانوا على اتصال بهم، وقد تزوّج بعضهم من نساء نصرانيات، أثرْنَ في بيئة ذلك الزوج.
وقد نص الأقدمون على اختلاف طباع القبائل، فعرف بعضها باللين والسهولة، وعرف بعضها بالشدة والخشونة والغلظة، وعرف آخرون بالشجاعة والصبر على المكاره والميل إلى الغزو والحروب، وعرف غيرهم بالميل إلى الاستقرار وبقابليتها على الاستيطان واستغلال الأرض والالتئام مع الجيران. ولوجود هذه الصفات في القبائل كان الحكام في الجاهلية وفي الإسلام إذا أرادوا أمرًا وكّلوه إلى القبيلة التي تتناسب صفتها التي اشتهرت بها مع العلم الذي يراد القيام به، وصار اعتماد الحكام على هذه الفراسة في الغالب. وما زال هذا التباين في كنايات القبائل معروفًا حتى اليوم؛ فقد اشتهرت قبائل نجد، بأمور لم تشتهر بها القبائل الأخرى، أو أنها فاقت بها سائر قبائل نجد، فاشتهرت بعضها بالقتال، واشتهرت بعضها بالصرامة والصبر، وما إلى ذلك، ويراعي حكام جزيرة العرب اليوم هذه الصفات في ضبط الأمور في حكوماتهم وفي حفظ التوازن في حكم البوادي
والأعراب وفي السياسة العامة للحكومة. وفي تقارير السياسيين الوطنيين والأجانب وفي كتب السياح والبعثات الأجنبية على اختلاف أنواعها كلام على تباين طباع الأعراب في جزيرة العرب وطباع الحضر في هذا اليوم.
فنرى إذن أن للأعراب رأيًا في الحضر يشبه رأي الحضر فيهم، أي رأي فيه ازدراء وحطّ من شأن الحضر ومن مجتمعهم الذي يعيشون فيه، ومن قيمهم في هذه الحياة، وهو رأي تكوّن عندهم من بيئاتهم التي يعيشون فيها ومن ثقافتهم الخاصة بهم، التي تفسر الأمور بمقاييسها وأوزانها، وهي مقاييس وأوزان بعيدة عن مقاييس الحضر والحضارة. ولا أقصد بالحضر هنا حضر الأعاجم وحدهم، بل أُدخل فيهم حتى الحضر العرب، كالذي يتبين من استهجان الأعراب لشأن أهل المدر في كل مكان من أمكنة جزيرة العرب ومن ازدرائهم لأحلامهم ومثلهم في الحياة. فالبداوة ثقافة خاصة بهذا العالم، عالم البداوة، والحضارة ثقافة أخرى خاصة بالحضر، وبين الثقافتين بَوْن وخلاف.
وليست هذه الطباع وراثة تنتقل من الآباء إلى الأبناء أبدًا في الدم، فلا تتبدل ولا تتغير، بل هي حاصل أحوال وبيئة، إذا تغيرت الأحوال والبيئة وقع تغير يتوقف على مقدار فعل البيئة الجديدة في الإنسان وعلى الزمان الذي يقضيه فيه وعلى مقدار استعداد ذلك الإنسان لتقبل البيئة الجديدة والثقافة الجديدة التي دخل فيها، ولهذا يكون فعل التغير في الجيل القديم أقل من الجيل الجديد. وعلى ذلك يخطئ من يصف العرب بصفات يلصقها بهم يجعلها عامة فيهم أبدية. ودليلنا على ذلك أن من عاش من الأعاجم بين العرب وفي بيئة عربية، تطبع بطباع العرب وصار مثلهم، حتى إذا انقرض الجيل القديم ونبع الجيل الجديد تحوّل إلى جيل عربي في كل شيء، لا نستثني من ذلك حتى الانتساب إلى العرب إلى عدنان وقحطان وحتى التعصب والعصبيات. ولا الإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته، وجعلهم جنودًا يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته، لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك إلى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به.
والأعرابي واقعي، تتأثر أحكامه بالواقع الذي يراه، وبمقياس المادية التي تتمثل عنده، يؤمن بالروح، ولكنه يحوّلها إلى ما يشبه المادة الملموسة. يؤمن بإلَه أو بآلهة، كما كان في الجاهلية ولكنه حوّل تلك الآلهة إلى أوثان وأصنام،
يلمسها ويحسّها بيديه، فيتقرب إليها ويتوسل بها، وخاف من الأوراح مثل الجن والأرواح الخبيثة التي صوّرها عقله، أكثر من خوفه من آلهته، فإن نزل مكانًا قفرًا، أو محلًا موحشًا، أو دخل مكانًا مظلمًا أو كهفًا، تعوذ من الأرواح، واحتال عليها بمختلف الحيل التي ابتكرها عقله، ليتغلب عليها وليتخلص منها. فهو يخافها أكثر من خوفه من الآلهة؛ لأنه جعلها تعيش معه في كل مكان، فهي تحيط به. أما الآلهة، فإنها بعيدة عنه، ثم إنها لا تؤذي، ومن طبع الإنسان التخوّف من المؤذين.
وهو لا يحفل بما بعد الموت، لأن هذا العالم الثاني عالم غير محسوس بالقياس إليه. ولهذا لم يتصوّره كتصور غيره من الأمم الأخرى، بل هو لم يُتعب نفسه بالتفكير فيه، ولهذا كانت مراسيم دفن الميت بسيطة جدًا، لا تَكلّف فيها ولا تعقيد، على نحو ما نجده عند الحضري أو العجم، متى دفن في قبره وهيل التراب عليه، انتهى كل شيء. ولهذا كان عجبهم شديدا إذ سمعوا بالبعث وبالقيامة والحشر والنشر. {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} 1.
وكان قائلهم يقول:
حياة، ثم موت، ثم نشر:
…
حديثُ خُرافة، يا أمّ عمرو! 2
وقال شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك، يرثي قتلى قريش يوم بدر:
يحدثنا الرسول بأن سنحيا
…
وكيف حياة أصداءٍ وهامِ3
وقد ورد البيت المذكور في صورة أخرى في كتاب "الصبح المنير في شعر أبي بصير"، في باب شعر "أعشى نهشل"، ورد في هذا الشكل:
وكائن بالقليب قليب بدرٍ
…
من الفتيان والعرب الكرام
أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا
…
وكيف حياة أصداءٍ وهامِ؟
أيعجز أن يردّ الموت عني
…
وينشرني إذا بليت عظامي
ألا من مبلغ الرحمن عني
…
بأني تارك شهر الصيام
فقل لله يمنعني شرابي
…
وقل لله يمنعني طعامي
1 سورة الواقعة، الآية 47، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [سورة قّ الآية:3] .
2 بلوغ الأرب "2/ 198".
3 الصبح المنير "ص308""طبعة أوربة 1927".
والحضر الذين نظروا إلى الأعراب، نظرة استصغار وازدراء، لما بينهم وبين الأعراب من تفاوت في الثقافة وفي العقلية، هم أنفسهم وفي والواقع أشباه حضر، وأخص من هؤلاء الحضر حضر الحجاز، فخصائص التعرب غالبة عليهم، غلبة تزيد على خصائص الحياة الحضرية. فقد قامت قراهم مثلًا وأعظمها مكة ويثرب على الفكرة الأعرابية القائمة على أساس النسب، فكلّ من مكة ويثرب شعاب، كل شعب لفخذ أو عائلة أو ما أشبه ذلك من أسماء تدخل في أسماء أجزاء القبيلة، تتعصب وتتحزّب وتتقاتل فيما بينها وتتحالف، كما يتقاتل أو يتحالف الأعراب. ثم إنهم كانوا يأنفون من الاشتغال بالحرف، تماما كما يفعل البدو، ويعافون الزراعة في الغالب، لا أستثني منها زراعة النخيل، لأن الزراعة في نظرهم من أعمال النبط والرقيق، والروح الفردية سائدة بينهم، موجودة عندهم، إلا في أوقات الشدة والضيق، والفردية الجامحة من طبائع البادية ومن خصائصها، إلى أمور أخرى عديدة تعدّ من صميم الحياة الأعرابية. وسبب ذلك أن هذه المستوطنات التي سموها قرى كانت وسطًا بين البداوة والحضارة، وكانت كالجزر الصغيرة وسط المحيطات الواسعة، محيطات من الأعراب، تستمد غذاءها الروحي والمادي من البداوة أكثر مما تستمده من الحضارة. أضف إلى ذلك عامل الطبيعة الذي يعلب دورًا خطيرا في تكوين المجتمعات وفي تكييفها بالشكل الملائم. ولذلك لم تتكوّن في يثرب أو في مكة أو في غيرها حياة مشابهة لحياة الحضر العجم في الأماكن الأخرى مثل مدن وقرى العراق وبلاد الشام ومصر، بل وحتى حضر مدن اليمن وهم من العرب بالطبع.
ومن هنا نجد حضر اليمن، بل وأعراب اليمن أيضا يختلفون عن حضر وأعراب الحجاز ونجد والعربية الشرقية، في كثير من الخصائص والصفات. مع أنهم كلهم عرب ومن أصل واحد. فحضر اليمن، حضر لا يأنفون من العمل ولا يستصغرون شأن الحرف. ولا يأنفون من الزراعة. بينهم الحائك والنساج والمشتغل بالأرض، والصانع والحداد والنجار وعامل البناء، وقالع الحجر ومربي الماعز والغنم والبقر، وزارع الخضر والبقول، ودابغ الجلود، مع أنها حرف يراها العربي في بقية مواضع جزيرة العرب من حرف العبيد والطبقات الدنيا من الناس.
وأعراب اليمن، الذين ميزهم حضر اليمن عن أنفسهم في الجاهلية بإطلاق
لفظة "أعرب" عليهم؛ لأنهم لم يكونوا في مستواهم وفي درجتهم في الحضارة.
هم مع ذلك وبوجه عام أرقى مستوى وأكثر إدراكًا من أعراب الحجاز ونجد. لقد وطنوا أنفسهم في أطراف الحواضر وعند مواضع الماء والخصب، وزرعوا ورَعَوا ماشية وأنعامًا، واستقروا في بيوت من مدر أو حجارة. وهي حياة لا يألفها البدوي القح. ولا يراها من مقوّمات البداوة. ثم إنهم لم يكونوا رحلًا على شاكلة أعراب الحجاز أو نجد أو بادية الشام. وإذا كنا نرى بعض قبائل اليمن، وهي ترحل من مواضعها، فرحيلها هذا هو عن سبب قاهر، مثل حروب أو كوارث طبيعية تجعل من الصعب علها البقاء في منازلها؛ فلا يكون أمامها للمحافظة على حياتها غير الرحيل إلى مكان آخر. إنهم بالقياس إلى عرب الحجاز أو نجد رعاة أو شبه أعراب1.
ومرجع هذه الفروق هو في التباين في الطبيعة. فطبيعة أرض اليمن مثلا طبيعة لطيفة خفيفة، الحرارة فيها معتدلة بوجه عام، والفروق في درجات الحرارة بين الصيف والشتاء، أو بين الليل والنهار ليست كبيرة متناقضة متعاكسة. والضغوط الجوية فيها معتدلة غير قلقة متغيرة بكثرة في اليوم أو في الشهر أو في السنة، والأمطار متوفرة بوجه عام، تزور اليمن في مواسم معينة، وجبال اليمن العالية جبال تقف شامخة عنيدة وفي وضع مناسب أمام الأبخرة المتصاعدة من البحار، حتى تضطرها إلى الهبوط غيثًا على اليمن يغيث الناس. ثم إن اليمن هضاب وأودية وتهائم، ومسايل طبيعية تقود السيول إلى أحواض حفرتها الطبيعة، وعلّمت هذه الطبيعة الإنسان على رفع حافّاتها لتحبس الماء في الأحواض، وعلى عمل فتحات فيها لخروج الماء منها وقت الحاجة. وهي غنية بالمعادن وبالحجر الصالح للبناء وبالأشجار التي غرزتها الطبيعة بيدها، وأرض على هذا النحو وعلى هذه الشاكلة لا بد وأن تؤثر على أجسام وعلى عقول أصحابها، فجعلتهم من ثَمّ من أنشط شعوب جزيرة العرب في ميدان العمل والحيلة في كسب العيش وفي إقامة المجتمعات وإنشاء حضارة، وفوّقتهم بذلك بوجه عام على سائر عرب جزيرة العرب، وصيّرتهم قوما لا يرون الاشتغال بالحِرَف عيبًا، ولا امتهان المهن العملية نقصًا. ولو كانت أرضهم على شاكلة أرض الحجاز أو نجد، ولو
1 Naval، p،، 402.
كانت طبيعتها ذات طبيعة صحراوية قاسية، لما صار أهل اليمن بالشكل الذي ذكرته. ولهذا السبب، اختلفت طبائع من يسميهم أهل الأخبار بالقحطانيين الساكنين خارج اليمن في نجد أو في بادية الشام عن طبائع أهل اليمن، فصاروا أعرابًا أقحاحًا يأنفون من الاشتغال بالحرف، ولا يعيشون إلا على تربية الإبل، إلى غير ذلك من سمات وُسِم بها البدو مع أنهم يمانيون كما يذكر أهل الأخبار. ولو كانت طبيعة أرض البادية على نحو آخر، على نحو يؤمن العيش والراحة لمن يقيم بها، لما وجدنا ما وصفناه من أوصاف عند الأعراب، فإن الطبيعة تصقلهم إذ ذاك صقلًا آخر، قد تجعلهم مستقرين مقيمين على الأقل، ودليل ذلك اثر الأمطار والربيع فيهم، عندما تغيثهم السماء، سنين متوالية؛ إذ يبقون في أماكنهم، ويقيمون فيها، ولا يخطر ببالهم عندئذ خاطر الارتحال والتنقّل من هذه الأرض.
ولأثر الطبيعة المذكور في طباع الناس، اختلفت طبائع أهل "الطائف" عن طبائع أهل مكة مع أنها أقرب إلى مكة من اليمن، وسبب ذلك أن الطائف أرض مرتفعة ذا جو معتدل، بها مياه وفيرة، وبها أشجار وهبتها الطبيعة لأرضها منذ القدم، أرضها خصبة فرحة، لا تسودها كآبة البادية ولا يخيم عليها عبوس البيداء، فصارت أخلاق أهلها من ثم أقرب إلى أخلاق أهل اليمن، وصاروا أذكياء، عقولهم متفتحة نيرة، استغلوا أيديهم، فزاولوا الحرف مثل الدباغة، واستغلوا الأرض، إذ زرعوها حبًّا وأشجارًا مثمرة، وربّوا الماشية، وصارت مدينتهم حتى اليوم مصيف أهل مكة. مع أنهم عرب ما في أصلهم العربي أدنى شك، وهم وعرب مكة أو يثرب أو نجد من طينة واحدة، لا شك في ذلك ولا شبهة.
فللطبيعة إذن من حرّ وبرد ومن اختلاف في الضغوط الجوية ومن أشعة شمس محرقة منهكة ومن إشعاع أرضي ومن أمطار وأهوية ورياح ومن طبيعة أرض وموقع، ومن هبة الطبيعة إلى السكان من طعام غني أو فقير، من حبوب وأثمار وخضر وحيوان، أثر بالغ في تكوّن الطباع وفي خلق التمايز بين الأجناس البشرية، تضاف إلى ذلك الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي تحيط بالناس ثم التكوّن الجسماني ومظهره. ومن هنا نجد العربي الأصيل الذي لا شك ولا شبهة في أصله العربي، إذا أقام وحده مدة في مجتمع غربي مثل إنجلترا
أو إسكاندينافية أو أميركا الشمالية؛ حيث الطبيعة مختلفة عن طبيعة بلاده وحيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متباينة عن الظروف المذكورة في بلاده، تغير وتبدل واضطر مختارًا أو كرهًا عن غريزة تطور كامنة فيه إلى التأقلم والانسجام مع القوم الذين صار يعيش بينهم. ويتوقف هذا التحوّل بالطبع على عمر الشخص وعلى قابلياته وعلى مدة إقامته في المكان. ولو أقام ذلك العربي طيلة حياته كلها في ذلك الوطن الجديد، وصار له نسل من زوجته العربية التي قدمت معه أيضًا، فإن النسل الجديد سيكتسب صفات الموطن الذي نشأ فيه، ويتخلق بأخلاقه، أما نسل نسله، فإنه سيتحول إلى شخص آخر غريب عن جده، غريب عنه حتى في لغته. ومن هنا نجد الجيل الثالث من أجيال المهاجرين العرب الذين هاجروا إلى أميركا، وتجنسوا بها، جيلا أميركيًّا في كل شيء، حتى في لغته وثقافته وشعوره وهواه، يشعر أن حنجرته لا تطاوعه على تعلم العربية وأن أوتارها لا تساعد على النطق بها. مع أنه من أصل عربي أبًا وأمًّا وقد برز من هذا الجيل الجديد اليوم قوم في ميادين العلم والتجارة والمال والصناعة والسياسة والعمل، ودخل نفر منهم مجلس النواب في واشنطن، وسيزيد هذا العدد ولا شك، لم يعقهم عن ذلك عائق الرسّ والعنصر والجنس وخصائص الدم ولو كان الدم عائقًا إلى الأبد، لما حدث في المذكورين ما نراه عمليًّا في هذا اليوم.
والعربي بعدُ، إن وصف في الجاهلية أم في الإسلام بالخمول والكسل، وبـ "الرومانطيقية"، أي بالخيال، وبعدم الصبر وبالأنانية والفردية وبما شاكل ذلك من صفات، فصفاته هذه ليست حاصل خصائص دم ونتيجة سمات عرق، وإنما هي ظروف وأحوال وأوضاع أجبرته على ذلك، ولو أطعم ذلك العربي طعامًا صحيًّا فيه المواد الغذائية الضرورية لنمو الجسم والعقل، ولو تغيّرت ظروفه، فهو كما ذكرت سيتغير حتمًا. وما كان الأوروبي ليتفوّق على الشرقي لو أن طبيعة إقليميه وأرضه كانت طبيعة جزيرة العرب، ولو سكن الألماني أو السويدي أو الإنكليزي بلاد العرب، وصار له نسل، فإن نسله لا ينشأ كما لو نشأ في وطن والده أو جدّه، لاختلاف الظروف والأجواء. وما كانت أوروبا خضراء هذه الخضرة ونشطة هذا النشاط بسبب دم أهلها وحده، بل لأن طبيعتها ساعدت الناس وعاونتهم، فأنبتت الرطوبة والأمطار الأشجار بنفسها وكوّنت لأهلها الغابات،
ودفع البرد الناس على العمل دفعًا، ولهذا نجد الناس عندنا في الشتاء يندفعون إلى العمل اندفاعًا بعامل البرد الذي يدفع الجسم إلى الحركة.
أضفْ إلى كل ذلك عوامل أخرى تؤثر في جسم الإنسان وفي تصرفاته واتجاهاته من تركيب جسم ومن ملامح، مثل لون شعر وتركيبه ولون بشرة أو لون عين وشكل جمجمة وأمور أخرى يدرسها ويبحث فيها علماء الأجناس البشرية، تؤثر أيضًا في خصائص الإنسان وفي أجناسه وفصائله، مما لا مجال للبحث عنها في هذا المكان.
والبحث في موضوع نفسيات الشعوب وأصول تفكيرها وميزات عقلها، بحث يجب أن يستند إلى أسس علمية حديثة، وإلى تجارب دقيقة عامة، لذلك لا يمكن التعميم ما دمنا لا نملك بحوثًا ودراسات علمية منسقة، قام بها علماء متخصصون في البوادي وفي الحواضر وفي كل مكان من جزيرة العرب، رُوعِي عند إجرائها الظروف الطبيعية المؤثرة في ذلك المكان، والظروف الثقافية السائدة عليه، ودرجة تأثر ذلك المكان بالمؤثرات الخارجية، أي بمؤثرات المناطق المجاورة له. فبين أهل جزيرة العرب بَوْن كبير في العقليات، وبين أهل البوادي في الجاهلية وفي هذا اليوم فروق في النفسيات وفي التعامل، حتى وُسمت القبائل بسمات، فوُسمت "معد" مثلا بالحيلة والكيد والذكاء وبالغلظة والخشونة، ووسمت "ثقيف" بسمات، ووسمت "كندة" بسمات. وقد رأينا ما ذكره "حافظ وهبة" عن أهل نجد من حضر وبدو.
بل إننا نرى أن الأعاجم المتعرّبين أي الذين ينزلوا بين العرب وينسلون بينهم ويتخذون العربية لسانًا له، سرعان ما يتعرّبون كل التعرّب، ويتحوّل أبناؤهم إلى جيل عربي خالص، حتى ليصعب عليك التفريق بينهم وبين العرب في الرسوم والعادات والتفكير، وذلك بتأثير المحيط الذي حلّوا به، والظروف الطبيعية المؤثرة بالمكان. وقد تعرّب آراميون في العراق وفي بلاد الشام، وصاروا عربًا في كل شيء حتى في الصفات التي ذكرنها، وقد وجدت البعثة الأمريكية التي جاءت إلى العراق للبحث عن السلالات البشرية إن في دماء القبائل العربية التي ترى نفسها أنها قبائل عربية خالصة نسبًا مختلفة من الدماء الغريبة، وإذا أدركنا هذه الملاحظة وقيمة أمثال هذه الدراسات في موضوع تكوّن العقلية وفي حدودها ورسم معالمها، علمنا أنه ليس من السهل في الواقع البحث عن عقلية عربية خالصة
تعبّر عن عقلية جميع العرب وفي كل مكان.
إن الذين بحثوا في العقلية العربية بصورة عامة، تصوّروا العرب وكأنهم جنس واحد انحدر من عرق واحد. وبهذا الاعتقاد وضعوا حدود تلك العقلية، أما إذا نظرنا إلى نتائج فحوص بعض علماء "الأنثروبولوجي" وعلماء الآثار وعلماء الحياة لبقايا الجماجم والعظام التي عثروا عليها من عهود ما قبل الإسلام، وإلى فحوصهم لملامح العرب الأحياء وأجسامهم، فإنهم على قلتها، تشير إلى وجود أعراق متعددة بين سكان جزيرة العرب، الأموات منهم والأحياء، الجاهليين والإسلاميين، وإلى وجود اختلاف في نفسياتهم وفي قابلياتهم العقلية، وقد تحدثتُ قبل قليل عن ملاحظات "حافظ وهبة" عن عقليات عرب المملكة العربية السعودية، وتحدثتُ عن رأي علماء الحياة والأجناس في تعدد الأعراق وتسرب دماء غريبة إلى جزيرة العرب يجعل من الصعب على الباحث الحذر أن يعتقد بإمكان وضع صورة دقيقة تمثل وجود عقلية واحدة لجميع أولئك الناس وفي كل العصور والعهود.