الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا ينكر الصانع، وإن عنوا به أنه يجهله من وجه فهو غير مسلم، ثم الذي يقضي بصحة النية منه اتفاقهم على التخفيف، لأنه لو لم تصح النية لم يصح التخفيف، وأيضا القياس يقتضي الإثابة، لأن الإسلام إذا جب السيئات صحح الحسنات. والله أعلم.
باب مثل المتصدق والبخيل
32 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع".
-[المعنى العام]-
كثير من الجاهلين يمنع الصدقة خشية نفاد المال أو نقصه، وكثير من
عبدة المال يحصي كل يوم ما جمع، ويندفع نحو الزيادة كالمسعور، أو العطشان الذي يزيده شرب المالح عطشا.
الحقيقة التي يغفلون عنها أن الله هو واهب المال، وأنه يرزق عبده من حيث لا يحتسب، وأنه قادر على أن يخسف بالمال وبصاحبه الأرض، وأنه الآمر بالصدقة، وأنه الذي يثيب على الإعطاء بغير حساب.
هذه الحقيقة يغفل عنها البخلاء، ويؤمن بها الأسخياء {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} ولئلا يكون للغني عذر يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المثل المحسوس لعل الذي لا يدرك المعقول يفهم عن طريق المحسوس. إن السخي الجواد المنفق على نفسه وعياله والأقربين والفقراء وفي سبيل الله يوسع الله عليه في الدنيا ويستره في الدارين، ويحميه من مصارع السوء في الدنيا، ومن النار في الآخرة كالذي يلبس درعا من حديد يوسعه على نفسه حتى يغطي أطراف أصابع يديه ورجليه ويزيد حتى يجر على الأرض وبهذا يكون في سعة، ويكون في مأمن من أعدائه ويكون مستور العورة في الدنيا، أما البخيل الشحيح الذي لا يؤدي حق الله في ماله فيضيق عليه الله في الدنيا ولو ضيقا نفسيا، ويفضحه بين الخلق في الدنيا والآخرة ويعرض نفسه لنكبات الزمان في الدنيا، وللنار في الآخرة. كالذي يلتصق درعه في أعلى صدره ولا يستر جسده، فيكشف أمام أعدائه ويتعرض للأخطار.
-[المباحث العربية]-
(مثل البخيل والمنفق) المفروض أن يقول: مثل البخيل والسخي، إذ مقابل البخل السخاء، ولكنه وضع المنفق موضع السخي إشعارا بأن مجرد الإنفاق فيما أمر به الشارع وندب إليه يزيل البخل، ويقابله، وليس شرطا لإزالة البخل العطاء الزائد.
(كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد) الجبة بضم الجيم ثوب معروف على هيئة مخصوصة، واسع وطويل عادة، لكن الأوصاف الآتية -كونها من حديد، وأنها في الأصل تستر الجزء الأعلى من الصدر فقط -أخرجتها عن الهيئة المعروفة، مما حدا بالبعض أن يريد من الجبة الدرع، وحدا بالبعض أن يرويه "جنتان" بالنون بدل الباء تصحيفا، والجنة بضم الجيم في الأصل الحصن، وسميت بها الدرع لأنها تجن صاحبها، أي تحصنه، لكن الحديث يقصد الجبة بهيئتها لأنها بعد أن يتم لبسها ويتم إسدالها تسبغ وتوفر، وقبل ذلك حين اللبس تكون متجمعة على الصدر، فمن غل يديه إلى عنقه لزقت على صدره، ومن بسط يديه بها غطت جسمه كله، وتقييدها بكونها من حديد إشارة إلى صلابة المشبه، وهو الطبيعة البشرية الحريصة، ولإفادة حمايتها لصاحبها المنفق ومضايقتها لصاحبها البخيل والثنية في مقابلة التثنية تفيد التوزيع، أي على كل منهما جبة.
(من ثديهما إلى تراقيهما) بضم الثاء وكسر الدال وتشديد الياء المكسورة جمع ثدي بفتح الثاء وسكون الدال، و"تراقيهما" جمع ترقوة، ولكل إنسان ترقوتان، وهما العظمان المحيطان بالعنق من جهة الصدر، بينهما ثغرة النحر.
(إلا سبغت) أي امتدت وغطت.
(أو وفرت)"أو" شك من الراوي في أي اللفظين صدر، والفاء المفتوحة مخففة، من الوفور، وهو زيادة الامتداد.
(حتى تخفي بنانه) أي تستر أطراف يديه، وفي رواية "حتى تغشى أنامله".
(وتعفو أثره)"تعفو" منصوب عطفا على "تخفى" المنصوب بحتى، والمراد من الأثر أثر المشي، أي تصبح من الطول بحيث تغطي القدم وتزيد، فتزحف على الأرض، فتغطي وتمحو آثار المشي على التراب أو الرمل. و"عفا" تأتي لازمة فيقال عفا الأثر، أي تغطى بالتراب وعفوت الأثر، أي غطيته. وهي هنا من المتعدي.
(لزقت كل حلقة) من حلقات الدرع، وفي رواية لمسلم "انقبضت" وفي رواية "غاصت كل حلقة مكانها" وفي رواية "قلصت" أي تضامت واجتمعت والمفاد في الكل واحد.
(فهو يوسعها) أي يحاول توسيعها.
إجراء التشبيه، يعرف مثل هذا عند علماء البلاغة بتشبيه التمثيل وهو تشبيه هيئة بهيئة. والحاصل هنا تشبيه هيئتين بهيئتين. الأولى تشبيه هيئة المنفق الذي يعالج حرص النفس البشرية إلى السخاء، ويبذل من ماله إلى المستحقين ووجوه الخير، كلما بذل انشرح صدره للبذل، فداوم أو زاد، حتى يصبح السخاء طبيعة وحتى يغطي السخاء سلوكه، بهيئة من يلبس ثوبا من حلقات حديدية، يتجمع عند اللبس على أعلى صدره، فيحرك يديه وجوارحه، ويوسعه ويفرده ويمده ويبسطه ويشد أطرافه، حتى يغطي الثوب جميع جسده من أنامل يديه إلى حافة قدميه، بل يزيد حتى يزحف على الأرض، بهذا يأمن المنفق من عذاب الله، وبهذا يستر معاصيه، وبهذا يتقي النار، كما يتقي من يغطيه درعه أذى عدوه.
الهيئة الثانية: تشبيه هيئة البخيل الذي غلبه الشح فلم يستطع علاج نفسه الحريصة، بل كلما هم أو فكر في الصدقة غلبه الشح وضاق صدره وزاد خوفه وحرصه، بهيئة من يبدأ لبس ثوب من حلقات حديدية، يتجمع الثوب حول رقبته وعلى أعلى صدره، كلما هم بتوسعته أو مده أو بسطه لا يقوى على ذلك، بل تزداد الحلقات انكماشا، وضغطا على صدره، والتصاقا بجسده، بهذا يتعرض البخيل لعذاب الله، وينكشف أمام معاصيه، ويودي بنفسه إلى النار، كما ينكشف من لا يستره درعه، ويمكن منه عدوه.
قال المهلب: المراد أن الله يستر المنفق في الدنيا والآخرة، بخلاف البخيل فإنه يفضحه في الدارين. أهـ. وهو قريب مما قدمنا. وقيل: هو تمثيل لنماء المال بالصدقة، ولعدم نمائه بالبخل.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث: ]-
1 -
الترغيب في السخاء والإنفاق، والإنفاق الممدوح الذي يقصده الحديث ويبعد وصف البخل هو الإنفاق على صاحب المال وعلى العيال والضيفان أداء للواجبات والتطوعات قاله النووي، وقال القرطبي هو ما يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يدخل في الجانب الآخر إلا أن يغلب عليه البخل المذموم بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه.
2 -
الترهيب من البخل والشح، وآيته عدم الاستجابة للواجبات، والمداومة على ترك المندوبات.
3 -
التيسير على المنفق، والتعسير على البخيل، مصداقا لحديث البخاري "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا".
وحديث البخاري أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسماء "لا توكي فيوكي الله عليك" أي لا تشدي الرباط على المال وتبخلي به عن حقه فيضيق الله عليك أبواب الرزق، ومصداقا لقوله تعالى {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى، وما يغني عنه ماله إذا تردى).}
4 -
أن الصدقة تحمي صاحبها من السوء، وتطفئ غضب الرب، وتكفر الخطيئة، وتقي من النار، وفي الصحيح "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
5 -
ضرب الأمثال، لإبراز المعقول في صورة المحسوس، ولزيادة الإيضاح، وليتمكن في النفس فضل تمكن.