المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب المظالم 75 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ٢

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب العيدينأي صلاتهما وما يشرع فيهما

- ‌باب الوتر

- ‌باب الاستسقاء

- ‌باب الكسوف

- ‌باب التهجد

- ‌باب الاستخارة

- ‌باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

- ‌كتاب الجنائز

- ‌باب الأمر باتباع الجنائز

- ‌باب الكفن في ثوبين وغسل الميت المحرم

- ‌باب إحداد المرأة

- ‌باب زيارة القبور

- ‌باب البكاء عن الميت وإظهار الحزن عليه

- ‌باب حمل الرجل الجنازة دون النساء

- ‌باب فضل اتباع الجنائز

- ‌باب الصلاة على الشهيد

- ‌باب موت الطفل من أبوين غير مسلمين

- ‌باب ثناء الناس على الميت

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب وجوب الزكاة

- ‌باب إثم مانع الزكاة

- ‌باب الصدقة من كسب طيب

- ‌باب أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها وكذلك الخادم

- ‌باب الاستعفاف عن المسألة

- ‌باب من تصدق في الشرك ثم أسلم

- ‌باب مثل المتصدق والبخيل

- ‌باب زكاة الإبل

- ‌باب لا يسألون الناس إلحافا

- ‌باب أخذ الصدقة عند صرام النخل والصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌كتاب الحج

- ‌باب فضل الحج المبرور

- ‌باب التمتع والقران والإفراد

- ‌باب ما ذكر في الحجر الأسود

- ‌باب سقاية الحاج

- ‌كتاب العمرة وفضلها

- ‌باب جزاء الصيد

- ‌باب الحج عن الميت

- ‌فضائل المدينة

- ‌كتاب الصوم

- ‌باب فضل ليلة القدر

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الوكالة

- ‌باب ما جاء في الحرث والمزارعة

- ‌باب الشرب

- ‌باب إثم من منع ابن السبيل الماء

- ‌باب فضل سقي الماء

- ‌باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار

- ‌كتاب الاستقراض والحجر والتفليس

- ‌كتاب الخصومات

- ‌كتاب اللقطة

- ‌كتاب المظالم

الفصل: ‌ ‌كتاب المظالم 75 - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

‌كتاب المظالم

75 -

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا".

-[المعنى العام]-

عدالة ورحمة، وقضاء وإرضاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نجا أصحاب التبعات من السقوط في النار واجتازوا الصراط، أوقفتهم الملائكة على جسر بين الجنة والنار، ليقتص المظلوم من الظالم، وليقتطع من حسناته بقدر مظلمته أو يعفو عنه، لأن أحدا لا يدخل الجنة وعليه تبعة لأحد، فإذا صفوا ما كان بينهم وتخلصوا مما كان عليهم وعاد الرضا إلى كل نفس ونزع ما في صدورهم من غل، أذن لهم بدخول الجنة التي عرفهم الله مساكنهم فيها فيقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم فيقصد كل منهم منزله قصدا لا يحتاج إلى مرشد أو دليل، فهو أعرف به من أهل الجمعة إذا تفرقوا بعد الصلاة إلى مساكنهم في الدنيا.

ص: 321

-[المباحث العربية]-

(إذا خلص المؤمنون) بفتح اللام أي إذا سلموا أو نجوا من النار بعبورهم الصراط المضروب عليها.

(حبسوا بقنطرة) قال ابن التين: القنطرة كل شيء ينصب على عين أو واد، والجار والمجرور متعلق بحبسوا، والباء بمعنى في، أي منعتهم ملائكة في القنطرة من دخول الجنة.

(بين الجنة والنار) الظرف متعلق بمحذوف صفة القنطرة، أي قنطرة كائنة بين الجنة والنار.

(فيتقاصون) بتشديد الصاد من القصاص، يعني يتبع بعضهم بعضا فيما وقع بينهم من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا، وفي رواية "فيتقاضون" بالضاد.

(مظالم) جمع مظلمة بكسر اللام وفتحها، والكسر أكثر، وهي اسم لما أخذ بغير حق.

(حتى إذا نقوا) بضم النون وتشديد القاف من التنقية، وهي إفراد الجيد من الرديء، وفي رواية "حتى إذا نقصوا" أي أكملوا النقاص الذي ابتدءوا فيه، لأن الشروع علم من قوله "فيتقاصون".

(وهذبوا) بالبناء للمجهول، أي خلصوا من الآثام بالمقاصة.

(أذن لهم) مبني للمجهول، والجار والمجرور هو نائب الفاعل، أي أذن الله لهم، أو أذنت الملائكة لهم بأمر الله.

(فو الذي نفس محمد بيده) الواو واو القسم، والموصول صفة لموصوف محذوف، أي والله الذي

إلخ. والنفس تطلق على معان، والمراد بها هنا الروح، أو الذات مع الروح، واليد عند السلف من المتشابه الذي يفوضون فيما عني به، فيؤمنون بأن له يدا لا كالأيدي، لا يكيفون ولا يشبهون ولا يؤولون.

ص: 322

(لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمسكنه كان في الدنيا) أصل التركيب لأحدهم أدل -أي أعلم -بمسكنه في الجنة من مسكنه الذي كان في الدنيا، فاللام داخلة على جواب القسم للتأكيد. و"أحد" مبتدأ وأدل خبر، "وبمسكنه" متعلق بأدل "وفي الجنة" متعلق بمحذوف صفة لمسكنه، أي بمسكنه الكائن في الجنة، وكان صلة لموصول محذوف هو صفة لمسكن الثانية، والباء فيه بمعنى من والتقدير من مسكنه الذي كان في الدنيا.

-[فقه الحديث]-

قال ابن بطال: المقاصة في هذا الحديث هي لقوم دون قوم، هم قوم لا تستغرق مظالمهم حسناتهم، لأنها لو استغرقت جميع حسناتهم لكانوا ممن وجب لهم العذاب، ولما جاز أن يقال فيهم:"خلصوا من النار" فهي لقوم لهم حقوق وعليهم تبعات يسيرة، إذ المقاصة مفاعلة لا تكون إلا من اثنين فكأن لكل واحد منهما على أخيه مظلمة، وعليه له مظلمة، ولا يرجع أحد منهم إلى النار. وهناك أقوام من المؤمنين لا يحبسون. بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة، وهناك أقوام من المؤمنين يلتقطهم عنق من النار. أما هذه القنطرة فيحتمل أن تكون طرفا من الصراط من جهة الجنة، كالجزء الواقع على اليابس من القنطرة المقامة على النيل، وقيل: هي قنطرة مستقلة غير متصلة بالصراط، وهو الظاهر وغايته مخالفة المشهور من أن في القيامة جسرا واحدا هو الصراط لا جسرين، وفي حقيقة المقاصة خلاف، قيل: إنها بالحسنات فمن كانت مظلمته أكثر من مظلمة أخيه أخذ من حسناته، فيدخلون الجنة ويقتطعون فيها المنازل على قدر ما بقي لكل واحد منهم من الحسنات، وقيل: إنها بالقصاص باللطمة ونحوها، فيقال للمظلوم: إن شئت أن تنتصف، وإن شئت أن تعفو، قيل معنى "يتقاصون" يتتاركون لأنه ليس موضع مقاصة ولا محاسبة، لكن يلقي الله عز وجل في قلوبهم العفو لبعضهم عن بعض، ليدخلوا الجنة وليس في قلب أحد غل من أحد، والظاهر أن هذه المقاصة من المظالم المتعلقة بالأبدان والأموال معا.

ص: 323

وإنما يكون الواحد من المؤمنين أعلم بمسكنه في الجنة أكثر من علمه بمسكنه في الدنيا، لأن مسكنه من الجنة سيعرض عليه في القبر بالغداة والعشي.

وجاء في حديث عبد الله بن سلام "إن الملائكة تدلهم على طريق الجنة" وهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة أو على الجميع، والمراد أن الملائكة تقول لهم ذلك قبل دخول الجنة، فمن دخل كانت معرفته بمنزله فيها كمعرفته بمنزله في الدنيا، والأولى أن تكون دلالة الملائكة بعد دخول الجنة مبالغة في التكريم.

-[ويستفاد من الحديث: ]-

1 -

حض المؤمن على التخلص من المظالم والتبعات في الدنيا لينجو من مثل هذا الموقف.

2 -

أن المؤمنين في الآخرة على درجات متعددة.

3 -

أن الجنة لا يدخلها إلا طاهر نقي من الأكدار والتبعات.

76 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب

ص: 324

كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}

-[المعنى العام]-

بينما كان ابن عمر يمشي إذ عرض له رجل فقال له: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى بين العبد وربه يوم القيامة؟ فقال ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحديث نعم موقفان رهيبان يحدث عنهما ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الأول: فإن الله يقرب العبد المؤمن، ويحيطه بسياج من الحفظ، ويستره عن أهل الموقف ويسر إليه: أتذكر ذنب كذا الذي فعلته يوم كذا في مكان كذا؟ فيرتجف المؤمن، ويطرق خجلا، ويقول: نعم يا رب أذكر، فيقول الله تعالى: ألا تذكر ذنب كذا؟ فيزداد خوفه وينخلع قلبه وهو يقول: نعم يا رب أذكر، وهكذا يعدد الله لعبده المؤمن الذنوب، ويقر العبد بها في اضطراب، وتمضي عليه فترة رهيبة يعتقد فيها أنه سيعذب بذنوبه لا محالة، وأنه هالك بما اقترفت يداه، وإذا البشرى من الغفور الرحيم تناجيه: عبدي سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، أعطوه يا ملائكتي كتاب حسناته، وامضوا به إلى الجنة، وأما الموقف الثاني فموقف الكافر والمنافق، يؤخذ بناصيته ويخترق به الصفوف ويقاد إلى ربه كما يقاد الحيوان في ساحة الذبح، وأهل الموقف ينظرون إليه، حتى يصل إلى ساحة العدل والقضاء، ويقف بين يدي الله خاسئا وهو حسير.

فيسأله ربه ألم أنعم عليك؟ ألم أرسل إليك رسولا؟ ألم أوتك كذا وكذا، أما استحييت مني فبارزتني بالقبيح ألم تأكل خيري وتعبد غيري؟ ألم تفعل كذا يوم كذا فينظر عن يمينه فلا يجد إلا النار، فينظر عن شماله فلا يجد إلا النار وقد أحاطت به ملائكة غلاظ شداد، فيقول: يا رب لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيقول الله تعالى {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} فيختم على فيه، ويقال لأركانه، انطقي،

ص: 325

فتنطق بذنوبه وآثامه، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا، فعنكن كنت أناضل، وإذا الحكم من العادل الجبار يصدر إلى الملائكة {خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه} ويقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}

-[المباحث العربية]-

(يدني) مضارع أدنى من الإدناء، والمراد منه التقريب.

(فيضع عليه كنفه) الكنف بفتح الكاف والنون الجانب والستر والعون، ووضع الكنف عليه كناية عن حفظه وصونه عن الخزي.

(ويستره) أي يحجبه عن أهل الموقف بحيث لا يرونه، أو بحيث لا يسمعون ما يجري بينه وبينه.

(أتعرف ذنب كذا؟ ) الاستفهام للتقرير، و"كذا" كلمة واحدة مركبة من كاف التشبيه وذا الإشارة، كني بها عن معين غير عدد، وهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وتكرير الجملة للتعديد لا للتأكيد.

(أي رب) بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء و"رب" منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة.

(ورأى في نفسه أنه قد هلك)"رأى" بمعنى علم، وفاعلها يعود على المؤمن وجملة "أنه" سدت مسد مفعوليها، والجملة معطوفة على "قرره" داخلة في حيز الغاية، أي حتى إذا اعتقد أنه قد هلك، أي استحق الهلاك بسبب ما ارتكب من الذنوب.

(وأنا أغفرها لك) تقديم المسند إليه وإسناد الفعل إلى ضميره يفيد التقوية والاختصاص، والجملة معطوفة على التي قبلها.

(وأما الكافر والمنافق)"أما" حرف شرط نائبة عن مهما يكن، وال في الكافر والمنافق للجنس فتفيد العموم، ولهذا أشير لهما بلفظ الجمع "هؤلاء".

ص: 326

(فيقول الأشهاد) الفاء واقعة في جواب أما، والأشهاد جمع شاهد مثل ناصر وأنصار وصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع شهيد، بمعنى شاهد كشريف وأشراف، والمراد من الأشهاد الرسل أو الملائكة أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون على الناس.

(ألا لعنة الله على الظالمين)"ألا" حرف استفتاح، واللعن الطرد والإبعاد، والمراد بالظلم هنا الكفر والنفاق، فأل فيه للكمال في الصفة، وليس كل ظلم يدخل في معنى الآية ويستحق اللعنة، والجملة خبرية أو دعائية، وهي من كلام الأشهاد أو من كلام الله تعالى.

-[فقه الحديث]-

ظاهر الحديث أن هذا السؤال إنما هو عن الذنوب التي لم يطلع عليها العباد في الدنيا لقوله "سترتها عليك في الدنيا" ويمكن أن يكون عاما في كل الذنوب حتى التي اطلع عليها الخلق على أن يكون الستر كناية عن عدم المؤاخذة، نعم عموم قوله "وأنا أغفرها لك اليوم" مخصوص بحديث المقاصة السابق، فالغفران للذنوب التي لن يدخلها تقاص، وفائدة التقرير في هذا الموقف إبراز فضل الله ورحمته بالمؤمنين، حيث ستر في الدنيا وعفا في الآخرة. ويتبين من الحديث أن قوله تعالى {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} أن السؤال عن النعيم الحلال إنما هو سؤال تقرير وتوقيف على نعم الله التي أنعم بها. لا سؤال حساب وانتقام. لأن السؤال عن الذنوب كان للتقرير بدليل قوله "وأنا أغفرها لك اليوم" وإذا كان كذلك فسؤال العباد عن النعيم الحلال أولى أن يكون للتقرير.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

فضل الله على عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة.

2 -

عدل الله في حكمه على الكافرين.

3 -

فيه حجة لأهل السنة في قولهم بأن أهل الذنوب من المؤمنين لا

ص: 327

يكفرون بالمعاصي كما زعمت الخوارج.

4 -

وفيه حجة على المعتزلة في مغفرة الذنوب إلا الكبائر.

77 -

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تأخذ فوق يديه".

-[المعنى العام]-

اقتتل غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجر: يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟

ص: 328

أدعوى الجاهلية؟

قالوا: لا يا رسول الله. إن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر، فقال: لا بأس "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" وكانت القبيلة في الجاهلية تنتصر لابنها فتهاجم معه، ولو كان ظالما، ولا تمنعه عن ظلمه كما قال شاعرهم.

إذا أنا لم أنصر أخي وهو ظالم على القوم لم أنصر أخي حين يظلم

وفهم أحد السامعين خطأ، وظن أن نصرة الظالم مساعدته وإعانته على زيادة الظلم والاعتداء على المظلوم، كما كانت الجاهلية تفعل، فقال: يا رسول الله واضح لنا أن ننصر المظلوم، فكيف ننصر الظالم؟ فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن المعتدي ظالم لنفسه قبل أن يظلم المعتدي عليه، فنصرته إنما تكون بنصره نفسه من جوارحه، ومنعه من الاعتداء، فقال "إن كان ظالما فينهه، فإن له نصرة، ويكفه عن الظلم فذاك نصره إياه".

-[المباحث العربية]-

(انصر أخاك) قال ابن بطال: النصر عند العرب بمعنى الإعانة فهو من باب تسمية الشيء باسم ما يئول إليه، وهو من عجيب الفصاحة ووجيز البلاغة، والمراد بالأخ الأخ في الإسلام، وكل شيئين بينهما اتفاق يطلق عليهما اسم الأخوة.

(ظالما أو مظلوما) منصوب على الحال من المفعول.

(قالوا: يا رسول الله) القائل أحد السامعين كما جاء في رواية أخرى "فقال رجل: يا رسول الله" وفي رواية "فقالوا يا رسول الله" لكنها تحمل على أن المتكلم واحد وغيره وافقه، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الرد "تأخذ" بالإفراد ولو كان المتكلمون جمعا لقال تأخذون.

(هذا ننصره مظلوما) الإشارة إلى ما في ذهن المتكلم من الرجل الذي ينصرونه، ومظلوما حال من الضمير المنصوب في "ننصره" وكذلك "ظالما".

(تأخذ فوق يديه) قيل: إن كلمة "فوق" مقحمة، وقيل إنها ذكرت إشارة

ص: 329

إلى الأخذ بالاستعلاء والقوة، وليس المراد اللفظ من التطويق بالذراعين فوق اليدين، وإنما المراد منعه من الظلم بالفعل إن لم يمتنع بالقول، فهو كناية عن المنع بأي طريق كان.

-[فقه الحديث]-

قال العلماء: نصر المظلوم فرض واجب على المؤمنين على الكفاية، فإن قام به أحد سقط عن الباقين، ويتعين فرض ذلك على السلطان، ثم على من له قوة على نصرته إذا لم يكن له من ينصره غيره من سلطان وشبهه. والمقصود من نصره كف المعتدي، والحيلولة بينه وبين إلحاق الأذى بالمظلوم، والشهادة له عند الحاكم، لا مهاجمة المعتدي ومقاتلته، لئلا ينتصر له آخرون وتتسع الدائرة فموقف الناصر كموقف صاحب المال من الصائل، عليه أن يدفع بالأخف، فإن لم يرتدع إلا بالأشد دفع به، فإن دفع بالأشد مع إمكانه الردع بالأخف أثم، وكيفية نصر الأخ الظالم كما وضحها الرسول صلى الله عليه وسلم تكون بمنعه من الظلم إذ في ذلك نصر له على شيطانه الذي يغويه، وعلى نفسه الشريرة التي تدفعه إلى السوء وتطغيه، ثم هو إذا ترك على ظلمه أداه ذلك إلى أن يقتص منه، فمنعك له من وجوب القصاص نصرة له، فإذا حلت دون الظلم وكان الظالم والمظلوم مسلمين فقد نصرت المظلوم والظالم معا بالمعنى السابق، وإذا كان الظالم مسلما والمظلوم غير مسلم فقد نصرت أخاك الظالم بمنعه من ظلمه لنفسه، وإذا كان المظلوم مسلما والظالم غير مسلم فقد نصرت أخاك بدفع الأذى عنه، وإذا كان الظالم والمظلوم غير مسلمين فلا يجب عليك النصرة.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

الحث على التضامن والتعاون في دفع المظالم حفظا لسلامة المجتمع.

2 -

إلقاء المسئولية والتبعة على كل مسلم يستطيع منع الضرر عن غيره إذا لم يفعل.

ص: 330

3 -

قال ابن المنير: فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان.

78 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".

-[المعنى العام]-

يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أداء الحقوق في الدنيا قبل أن يعجز الظالم عن أدائها من نوعها، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فمن ظلم أحدا في عرضه، أو ماله فليطلب البراءة من المظلوم في الدنيا، قبل أن يكون القصاص بالحسنات والسيئات، قبل أن يؤخذ من حسناته للغرماء، فإذا فنيت حسناته قبل أن تنقضي مظالمه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.

-[المباحث العربية]-

(من كانت له مظلمة) اللام فيه بمعنى على، أي من كانت عليه مظلمة

ص: 331

لأخيه، أو بمعنى عند، ويؤيده رواية "من كانت عنده مظلمة لأخيه" والمظلمة قال ابن مالك: بفتح اللام وكسرها والكسر أشهر.

(من عرضه) بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سلفه أو فيمن يلزمه أمره.

(أو شيء) من الأشياء وهو من عطف العام على الخاص، فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوها، وفي رواية الترمذي "من عرض أو مال".

(فليتحلله منه) الضمير المنصوب للأمر الذي حصل به الظلم: والمجرور للأخ، ويصح العكس، والمراد بالتحلل من أخيه أن يجعل نفسه في حل مما فرط منه، بأن يطلب براءة ذمته منه، وقيل: معناه يستوهبه ويقطع دعواه عنه، وليس المراد منه أن يجعل الحرام حلالا، لأن ما حرم الله لا يمكن تحليله، فقد جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: اجعلني في حل فقد اغتبتك. فقال: إني لا أحل ما حرمه الله، ولكن ما كان من قبلنا فأنت في حل منه.

(اليوم) نصب على الظرفية، والمراد به أيام الدنيا لمقابلته بقوله "قبل ألا يكون دينار

إلخ".

(قبل ألا يكون دينار ولا درهم)"يكون" من كان التامة، أي قبل ألا يوجد، أو قبل ألا يغني دينار ولا درهم، ويعني يوم القيامة.

(إن كان له عمل صالح) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، كأن سائلا سأل من أين يؤخذ هذا البدل يوم لا دينار ولا درهم؟ فقيل: إن كان له عمل صالح إلخ.

(أخذ منه) أي من ثوابه ففي الكلام مضاف محذوف.

(فحمل عليه) أي حمل المأخوذ من سيئات المظلوم على الظالم.

ص: 332

-[فقه الحديث]-

قام الإجماع على أن الظالم إذا بين مظلمته لأخيه واستبرأه منها فأبرأه فهو نافذ، واختلفوا فيمن بينهما ملابسة أو معاملة، ثم حلل بعضهما بعضا من كل ما جرى بينهما فقال قوم: إن في ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبين مقداره، وقال آخرون: إنما تصح البراءة إذا بين له وعرف ما له عنده أو قارب ذلك بما لا مشاحة في ذكره، وقال قوم: إن بيان مظلمة العرض غير لازم خصوصا إذا كان يترتب على البيان مفسدة، ولهذا قال الخطابي: إذا اغتاب رجلا فإن كان بلغ القول صاحبه فلا بد أن يستحله، وإن لم يبلغه استغفر الله ولا يخبره أما مظلمة المال فالبيان لازم لتصح البراءة. وقال بعض أهل العلم: إنما يصح التحلل في المنافع التي هي أعراض، كأن يكون قد غصب دارا فسكنها، أو دابة فركبها، أو ثوبا فلبسه، أو في الأعيان التي تلفت، فإن كانت الدار قائمة، أو الدابة موجودة، أو الثوب باقيا، أو الدراهم في يده حاصلة لم يصح التحلل منها إلا أن يستوهبه أعيانها، وقد فهم البعض من قوله صلى الله عليه وسلم أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، تعارضا بين الحديث وبين قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وهو فهم قاصر، إذ معنى الآية: لا تحمل نفس لم تذنب وزر نفس أذنبت، وهذا الظالم حين تطرح عليه سيئات المظلوم إنما يحمل وزر نفسه وسيئة جرمه، فحقيقة العقوبة مسببة عن ظلمه، وهو لم يعاقب بجناية غيره، أما كونها رفعت من سيئات المظلوم، فلأن هذا الرفع في مقابلة الحسنة التي كان يستحقها مقابل وقوع الظلم عليه.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

طلب المبادرة إلى أن يتصافح الناس ويصفو ما بينهم قبل أن يقفوا للحساب.

2 -

أن في الآخرة مقاصة بعدل الله أو فضله.

3 -

أن مقاصة الآخرة بالحسنات والسيئات.

ص: 333

79 -

عن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها".

-[المعنى العام]-

بينما الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة زوجته أم سلمة إذ سمع صوت متخاصمين قريبين من باب حجرته، فبادر بالخروج إليهم، وسمع مقالتهما، وكل منهما يدعي أن الحق له، فنصحهما الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع الصدق، وابتغاء الصواب، وعدم الاعتماد على فصاحة القول وقوة البيان، في الوصول إلى أموال الناس بالباطل، فقد يصدق الرسول الخصم الكاذب، ويقضي له بما ليس من حقه، فالرسول بشر لا يعلم الغيب في كل الأحوال، وإنما يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، فمن اقتطع بفصاحته قطعة من مال أخيه، فقد اقتطع لنفسه قطعة من النار، وإن كان شيئا يسيرا وإن كان قضيبا من أراك، فليفعل الظالم

ص: 334

ما يحلو له وليعمل ما شاء: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}

-[المباحث العربية]-

(أنه سمع خصومة بباب حجرته) اسم "أن" ضمير للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد من الخصومة صوت التخاصم والتشاحن: والباء الجارة للإلصاق المجازي والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لخصومة، أي سمع صوت خصومة قريبة من باب حجرته التي هي مسكن زوجته أم سلمة، وذكر ابن حجر أن الخصومة كانت في مواريث وأشياء قد درست.

(خرج إليهم) أي إلى الخصوم المفهومين من الخصومة ولم تعرف أسماؤهم.

(فقال: إنما أنا بشر) هذا حصر إضافي، أي أنا مقصور على البشرية لا أتعداها إلى علم بواطن الأمور في جميع الأوقات، وجاء به ردا على من زعم أن من كان رسولا يعلم الغيب فيطلع على بواطن الأمور في كل حال، ولا يخفى عليه المظلوم، فأشار إلى أن الوضع البشري يقتضي ألا يدرك من الأمور إلا ظاهرها، فإذا ترك على ما جبل عليه، ولم يؤيد بالوحي السماوي طرأ عليه ما يطرأ على سائر البشر.

(وإنه يأتيني الخصم) اسم "إن" ضمير الحال والشأن، و"الخصم" بسكون الصاد في الأصل مصدر سمي به المخاصم والمنازع، ويطلق على الواحد والجمع، وقد يثنى ويجمع فيقال: خصمان وخصوم، أما الخصم بفتح الخاء وكسر الصاد فهو المولع بالخصومة الماهر فيها، ومنه قوله تعالى:{بل هم قوم خصمون}

(فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض) قال في مغني اللبيب: ويقترن خبر لعل بأن المصدرية كثيرا حملا على عسى. أهـ و"أبلغ" أفعل تفضيل من بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، هذا ما قاله الزجاج، وقال غيره البلاغة، إيصال المعنى إلى القلب في أحسن

ص: 335

صورة من اللفظ، وفي رواية "لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" أي ألسن وأفصح وأبين كلاما وأقدر على الحجة، وهو أفعل تفضيل من "لحن" يقال: لحن كفرح إذا فطن لحجته وانتبه والألحن الأشد فهما والأحسن قراءة، ويقال: لحن كفتح إذا أخطأ في الإعراب وخالف وجه الصواب.

(فأحسب) بفتح السين وكسرها لغتان، وهو منصوب عطفا على "يكون" أو مرفوع عطفا على جملة "لعل" أي يأتيني الخصم فأتوقع بلاغته فأحسب أنه صدق، وفي الكلام حذف تقديره وهو في الباطن كاذب.

(فأقضي له بذلك) أي فأحكم له بسبب ذلك الذي سمعته منه.

(فمن قضيت له بحق مسلم) لفظ "مسلم" خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له فيشمل الذمي والمعاهد، وإنما خص المسلم بالذكر اهتماما بحاله، أو لأن الخطاب في قوله "فلعل بعضكم" للمؤمنين.

(فإنما هي قطعة من النار) أي القضية، والمراد المقضي به قطعة من النار، وهو من قبيل تسمية الشيء باسم ما يئول إليه، أو تسمية السبب باسم المسبب.

(فليأخذها أو ليتركها) الفاء فصيحة، أفصحت عن شرط مقدر، أي إذا كان الحكم له، وهو كاذب فليأخذها أو ليتركها. والأمر هنا في جملته للتهديد والوعيد كقوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فالمقصود: إذا ثبت أن المحكوم به قطعة من النار فليفعل المحكوم له ما شاء. وقيل: إن الأمر الأول للتهديد والثاني للإيجاب، و"أو" للإضراب لا للتخيير، أي بل ليدعها. وقد قال سيبويه: إن "أو" تأتي للإضراب بشرطين.

1 -

سبق نفي أو نهي.

2 -

وإعادة العامل.

والشرطان موجودان هنا لأنا إذا حملنا "فليأخذها" على التهديد كان

ص: 336

معناها فلا يأخذها بل يدعها.

-[فقه الحديث]-

-[في هذا الحديث: ]-

1 -

عظم إثم من خاصم في أمر باطل، وهو يعلم أنه باطل ويكفي أن يكون ما يحصل عليه من هذه المخاصمة كقطعة من النار تحرق آخذها.

2 -

وفيه دلالة على الحكم بالظاهر.

3 -

وفيه نهي للقوي على البيان البليغ في تأدية حجته أن يستغل استعداده ومواهبه في الوصول إلى غير حق، وأكل ما حرم الله وهو معنى قوله تعالى:{وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}

4 -

وفيه دلالة على حكمه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه شيء فيخصص قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى}

5 -

وفيه دليل على أنه ليس كل مجتهد مصيبا وإثم الخطأ مرفوع عنه إذا بذل وسعه.

6 -

وفيه العمل بالظن لقوله "فأحسب أنه صدق فأقضي له".

7 -

وفيه أن قضاء القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما.

8 -

وفيه أن من احتال لأمر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به فإنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الإثم بصدور الحكم في جانبه.

9 -

وفيه موعظة الإمام إلى الخصوم ليتحروا الحق.

10 -

وفيه حجة لمن قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه حيث جعل القضاء مرتبا على ما سمع من ألفاظ الخصوم.

ص: 337

80 -

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: "كلوا" وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة.

-[المعنى العام]-

حادثة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلتها إحدى زوجاته، تبرز هذه الحادثة طبيعة المرأة وغيرتها التي قد تخرجها عن حد الاعتدال، كما تبرز حكمة الزوج وتقديره للموقف وتطييبه النفوس، هذه عائشة التي تدل بجمالها وشبابها، وتزهو على بقية زوجاته صلى الله عليه وسلم بأنها الوحيدة التي تزوجها بكرا، يعز عليها وهذه حالتها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في بيتها وفي يومها تعد لهم طعاما فتسبقها ضرتها إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم بإرسال طعام قد يكون أجود مما تصنع عائشة، فثارت ثورتها، وتقدمت إلى الخادم فخطفت القصعة من يده، ففلقتها بحجر كان في يدها، ثم ألقت بها على الأرض، ورأى الرسول

ص: 338

الكريم الدهشة على وجوه أصحابه، فأخذ في ضم أجزاء القصعة التي انكسرت، وأخذ يجمع الطعام الذي انتثر على الخوان -وكان حصيرا من خوص يفرش ليوضع عليه الطعام وقد استبدل به عند العرب هذه الأيام المشمع -وهو يقول "غارت أمكم عائشة غارت أمكم عائشة" ثم استبقى الخادم حتى أكل القوم، فأمر بإحضار قصعة عائشة السليمة، ودفعها للخادم، وهو يقول: قصعة بقصعة. وبهذا الحلم النبوي الكريم، وبهذه الحكمة الرشيدة طابت نفس صاحبة القصعة المكسورة، واعتذرت الكاسرة، وعاد الصفاء والهدوء والوئام. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته أمهات المؤمنين.

-[المباحث العربية]-

(مع خادم) يطلق على الذكر والأنثى، ولم يأت اسمه في أي من الروايات.

(بقصعة) هي واحدة القصاع، وهي إناء يشبع العشرة.

(فضربت بيدها) الضمير لبعض نسائه، وأنثه باعتبار المعنى.

(فضمها) أي ضم الرسول صلى الله عليه وسلم القصعة التي انكسرت.

(وحبس الرسول) أي أوقف الخادم الذي هو رسول إحدى أمهات المؤمنين.

-[فقه الحديث]-

ورد في بعض الروايات أن التي أرسلت هي زينب بنت جحش، وفي بعضها: أنها صفية، وفي بعضها، أنها أم سلمة وفي بعضها: أنها حفصة والكل متفق على أن الإرسال كان إلى بيت عائشة وللجمع بين هذه الروايات قيل: يحتمل أن الحادثة تكررت، فإن كان ذلك في واقعة واحدة رجعنا إلى الترجيح، ورواية زينب بنت جحش أرجح الروايات كما قال ابن حجر، وإنما أبهمت عائشة مع اتفاق الروايات عليها تفخيما لشأنها وسترا عليها ما لا

ص: 339

يليق بمقامها، وأما نوع الطعام فهو المتخذ من التمر واللبن والسمن. وقد يضاف إليه الدقيق أو الفتيت، ويؤخذ من مجموع الروايات أن عائشة تعمدت كسر القصعة غيرة من مرسلتها، فقد ورد عن عائشة قالت:"ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية. صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به فأخذتني رعدة فكسرت الإناء" وفي رواية "فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر "حجر" ففلقت القصعة".

وظاهر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاتب عائشة على صنعها هذا إما لأنها بادرت فاعتذرت كما جاء في بعض الروايات "فقلت يا رسول الله: ما كفارة ما صنعت"؟ قال: "إناء مثل إناء" وإما لأنه قد عذرها في حالة غيرتها كما جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يجمع الطعام ويقول لأصحابه، "غارت أمكم. غارت أمكم" يكرر هذه العبارة، وإما لأنه فهم أن التي أرسلت الطعام كانت تقصد إساءة عائشة والمظاهرة عليها بإرسالها الطعام إلى بيتها وفي يومها.

بقيت مسألة رد قصعة مكان قصعة، وبه احتج من يقضي في العروض بالأمثال، وهو المشهور عن مذهب أبي حنيفة والشافعي ورواية عن مالك، فيقولون: إن من استهلك عروضا فعليه مثل ما استهلك، ولا يقضي بالقيمة إلا عند عدم المثل، وأجاب من يقضي بالقيمة في العروض عن الحديث بجوابين.

أولهما: أن القصعتين كانتا للنبي صلى الله عليه وسلم في بيت زوجتيه، فنقل من ملكه إلى ملكه، لا على وجه الغرامة والحكم على الخصم، بل على سبيل تطييب قلب مرسلتها.

ثانيهما: أن أخذ القصعة السليمة من بيت الكاسرة كان عقوبة، والعقوبة بالأموال مشروعة، وفي الحديث حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وإنصافه وحلمه والله أعلم.

ص: 340

والله سبحانه وتعالى أعلم

ص: 341