المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب البيوع لما فرغ من بيان العبادات المقصود منها التحصيل الأخروي - المنهل الحديث في شرح الحديث - جـ ٢

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب العيدينأي صلاتهما وما يشرع فيهما

- ‌باب الوتر

- ‌باب الاستسقاء

- ‌باب الكسوف

- ‌باب التهجد

- ‌باب الاستخارة

- ‌باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة

- ‌كتاب الجنائز

- ‌باب الأمر باتباع الجنائز

- ‌باب الكفن في ثوبين وغسل الميت المحرم

- ‌باب إحداد المرأة

- ‌باب زيارة القبور

- ‌باب البكاء عن الميت وإظهار الحزن عليه

- ‌باب حمل الرجل الجنازة دون النساء

- ‌باب فضل اتباع الجنائز

- ‌باب الصلاة على الشهيد

- ‌باب موت الطفل من أبوين غير مسلمين

- ‌باب ثناء الناس على الميت

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب وجوب الزكاة

- ‌باب إثم مانع الزكاة

- ‌باب الصدقة من كسب طيب

- ‌باب أجر المرأة إذا تصدقت من بيت زوجها وكذلك الخادم

- ‌باب الاستعفاف عن المسألة

- ‌باب من تصدق في الشرك ثم أسلم

- ‌باب مثل المتصدق والبخيل

- ‌باب زكاة الإبل

- ‌باب لا يسألون الناس إلحافا

- ‌باب أخذ الصدقة عند صرام النخل والصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌كتاب الحج

- ‌باب فضل الحج المبرور

- ‌باب التمتع والقران والإفراد

- ‌باب ما ذكر في الحجر الأسود

- ‌باب سقاية الحاج

- ‌كتاب العمرة وفضلها

- ‌باب جزاء الصيد

- ‌باب الحج عن الميت

- ‌فضائل المدينة

- ‌كتاب الصوم

- ‌باب فضل ليلة القدر

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الوكالة

- ‌باب ما جاء في الحرث والمزارعة

- ‌باب الشرب

- ‌باب إثم من منع ابن السبيل الماء

- ‌باب فضل سقي الماء

- ‌باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار

- ‌كتاب الاستقراض والحجر والتفليس

- ‌كتاب الخصومات

- ‌كتاب اللقطة

- ‌كتاب المظالم

الفصل: ‌ ‌كتاب البيوع لما فرغ من بيان العبادات المقصود منها التحصيل الأخروي

‌كتاب البيوع

لما فرغ من بيان العبادات المقصود منها التحصيل الأخروي شرع في بيان المعاملات المقصود منها التحصيل الدنيوي، والبيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، وهو لغة مطلق المبادلة، ويطلق أيضا على الشراء، يقال: باعه الشيء وباعه منه، وابتاع الشيء اشتراه، وشرى الشيء باعه، قال تعالى:{وشروه بثمن بخس} والبيع شرعا مبادلة بالمال على وجه مخصوص.

54 -

عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده".

-[المعنى العام]-

يرغب الرسول صلى الله عليه وسلم في السعي والعمل والأكل من طريق حلال، بل من طريق أحل، وهو طريق عمل اليد، طريق الكفاح من عمل مباح، كسرة من هذا الطريق بدون ملح أطيب وألذ من الضأن من غيره عند سليم الإحساس، ولكن هذه الدعوة الإسلامية السامية لم تلق عند المسلمين في عصرنا آذانا صاغية فضعف إنتاجهم في الدنيا وفشا فيهم الجهل والفقر والمرض، وكثر فيهم التسول مع صحة الجسم ووجاهة المنظر، تحت أسماء مختلفة قارئ للكف وضارب للرمل وشيخ متصوف وعابر سبيل، فوق النصب والنشل

ص: 245

والاحتيال وغير ذلك، مما هو سبة في جبين الإسلام والمسلمين، وتقدم غيرهم، وأنتجوا وعملوا بهذه الحكمة بل جعلوا في دستورهم "من لم يعمل لم يأكل". وبهذا ساد المشركون ورموا الإسلام بأنه دين التواكل والضعف والذل والتأخر، والإسلام من هذا الوصف وممن كان السبب في وصمه به بريء، فهذا عبد الرحمن بن عوف يهاجر صفر اليدين وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: إنني أكثر الأنصار مالا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فإذا الإسلام في شخص عبد الرحمن يقول: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة، قال: سوق قينقاع. فغدا إليه عبد الرحمن بأقط وسمن، أي والله صحابي جليل لا يستحي أن يبيع الجبن والسمن في السوق، وإنما يستحي أن يكون عالة على الناس، ثم تابع الغدو فما لبث أن بدا عليه النعيم. وغيره وغيره من مثل الإسلام الرائعة التي تعبر تعبيرا صادقا عن الإسلام، وأنه اليوم مظلوم، ومظلوم من أهله قبل أعدائه فاللهم وجه المسلمين إلى الطريق المستقيم.

-[المباحث العربية]-

(ما أكل أحد طعاما قط) أي من بني آدم كما جاء في بعض الروايات و"قط" بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة ظرف زمان لاستغراق ما مضى ويختص بالنفي وهو مبني على الضم، واشتقاقه من قططت الشيء بمعنى قطعته.

(خيرا من أن يأكل)"خيرا" صفة لمصدر محذوف، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بمن، والمعنى: ما أكل أحد طعاما أكلا خيرا من أكله من عمل يده، ويجوز أن تكون "خيرا" صفة لطعاما، وعليه يلزم أن يكون المصدر المنسبك "من أن يأكل" مرادا به اسم المفعول، والمعنى: ما أكل أحد طعاما خيرا من طعام "مأكول" من عمل يده.

ص: 246

-[فقه الحديث]-

وجه الخيرية في قوله صلى الله عليه وسلم "خيرا من أن يأكل من عمل يده" ما في عمل اليد من إيصال النفع إلى الكاسب وإلى غيره، والسلامة من البطالة المؤدية إلى الفضول، وكسر النفس به، والتعفف عما في أيدي الناس. والبعد عن ذل السؤال. وقد روى ابن المنذر "ما أكل رجل طعاما قط أحل من عمل يديه" وروى النسائي "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه" ويؤخذ من مجموع الروايات أن الخيرية من ناحية الحل والطيب واللذة- وعدم شعور البعض بالفرق في الطعم بين لقمة الكسب ولقمة السحت إنما هو من ضعف الإدراك وقلة الذوق وانعدام الإحساس، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا لمرهفي الشعور بنبي الله داود عليه السلام، واختاره من بين الأنبياء مع أن آدم كان حراثا، ونوحا كان نجارا، وإدريس كان خياطا، وموسى كان راعيا إلخ، اختاره لأن اقتصاره في أكله على ما يعمل بيده لم يكن لاحتياجه لأنه كان خليفة الله في أرضه. ومع ذلك اختار الأكل من الطريق الأفضل وهو عمل يده، وفي عمل داود عظمة أخرى، وهي أنه كان يعمل الدروع من الحديد ويبيعها ويأكل من ثمنها، وقيل: إنه كان يعمل القفاف أو كان يعمل زرادا "حدادا" أو ضافر خوص مما يحتقره الناس في زماننا ويستكثرون على أنفسهم أن يأكلوا منه، ويفضلون الأكل من السحت وبسيف الحياء، ومن هذا الوادي قوله صلى الله عليه وسلم "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه".

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن الاكتساب لا ينافي التوكل.

2 -

أن ذكر الشيء بدليله أوقع في نفس السامع.

3 -

تقديم ما يباشره المرء بنفسه على ما يباشره بغيره.

4 -

فضل الأكل من عمل اليد حتى مع الغنى.

ص: 247

55 -

عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم قالوا أعملت من الخير شيئا؟ قال: كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن الموسر قال: قال فتجاوزوا عنه".

-[المعنى العام]-

يروى أن الله تعالى يأتي بعبد من عباده يوم القيامة، آتاه الله مالا، يقول له: ماذا فعلت في دار الدنيا في الخير؟ {ولا يكتمون الله حديثا} فيقول: ما عملت من الخير إلا أني كنت ذا مال وكنت أبايع الناس فكنت آمر غلماني وأقول: خذوا ما تيسر واتركوا ما تعسر، وتجاوزوا لعل الله يتجاوز عنا، فيقول الله عز وجل: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي.

وصدق الله العظيم: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم.}

-[المباحث العربية]-

(تلقت الملائكة روح رجل) أي استقبلتها، و"ال" في "الملائكة" للعهد، والمراد بهم ملائكة قبض الروح.

(ممن كان قبلكم) أي من بني إسرائيل.

ص: 248

(قالوا: أعملت) الهمزة للاستفهام، وفي رواية بدونها، وهي مقدرة فيها، وقد قيل: إن هذا السؤال في القبر، ففي الكلام حذف والتقدير: فقبض فأدخل القبر فقالوا. ويحتمل أن يكون بعد البعث، والتقدير فبعث فأرسل الله له ملائكة يسألونه فقالوا.

(فتياني) بكسر الفاء جمع فتى وهو الخادم، حرا كان أو مملوكا.

(أن ينظروا) بضم الياء من الإنظار وهو الإمهال.

(ويتجاوزوا) التجاوز وهو التسامح والاقتضاء الاستيفاء.

(الموسر) اختلفوا في حده فقيل من عنده مئونته ومئونة من تلزمه نفقته وقيل: من يملك نصاب الزكاة، وقيل: من لا تحل له الزكاة، وقال الشافعي: قد يكون الشخص بالدرهم غنيا بكسبه. وقد يكون فقيرا بالألف مع ضعفه من نفسه وكثرة عياله. والمعتمد هنا في الإنظار أن الموسر والمعسر يرجعان إلى العرف.

-[فقه الحديث]-

يرغب الحديث في إنظار المعسر والتجاوز عن الموسر، وقد اختلفوا في إنظار المعسر وإبرائه أيهما أفضل؟ والراجح أن إبراءه أفضل من إنظاره، لأنه يحصل به مقصود الإنظار وزيادة ويكون ذلك مما استثنى من قاعدة كون الفرض أفضل من السنة، لأن الإنظار واجب، والإبراء مستحب، وقيل إن الإنظار أفضل، لشدة ما يقاسيه من ألم الصبر مع تشوف القلب، وهذا ليس موجودا في الإبراء الذي فيه راحة اليأس. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" فوزع الأجر على الأيام، وجعل لكل يوم يمر عوضا جديدا.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

أن العبد يحاسب عند موته بعض الحساب.

2 -

إباحة الأكل من كسب عبده لقوله "كنت آمر فتياني".

ص: 249

3 -

أن إنظار المعسر أو الوضع عنه سائغ، ومن دواعي المغفرة.

4 -

يشير الحديث إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، خصوصا إذا أيده شرعنا.

5 -

أن الرب جل جلاله يغفر الذنوب باليسير من الحسنات إذا كانت خالصة لوجهه.

6 -

أن الأجر يحصل لمن يأمر بالخير وإن لم يتول ذلك بنفسه. قال في الفتح: وهذا كله بعد تقرير أن شرع من قبلنا إذا جاء في شرعنا في سياق المدح كان حسنا عندنا.

56 -

عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال -حتى يتفرقا- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".

-[المعنى العام]-

تشريعان ساميان يرمي إليهما الرسول الكريم:

1 -

الإمهال في المعاملة حتي يتبين الطرفان المحاسن والمساوئ لما يتعاملان عليه فلا يؤخذ أحدهما على غرة ولا يقع في خديعة "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا".

ص: 250

2 -

والنصيحة فيما يبذلان والصدق فيه، ليبارك الله لهما في المبيع والثمن بالزيادة والنماء فإن لم يصدقا وكتما العيوب ذهبت بركة البيع، فإنه لا يحل لامرئ يبيع سلعة يعلم أن بها داء إلا أخبر به، و"المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه شيئا وبه عيب إلا بينه له" و"من باع بيعا لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه".

-[المباحث العربية]-

(البيعان) بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة تثنية بيع، وأراد بهما البائع والمشتري، وإطلاقه على المشتري بطريق التغليب، أو هو من باب إطلاق المشترك وإرادة معنييه معا، إذ البيع جاء لمعنيين كما قدمنا وجاء في رواية "المتبايعان".

(بالخيار) الباء للملابسة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر "البيعان" والتقدير: البيعان متلبسان بالخيار.

(ما لم يتفرقا)"ما" مصدرية ظرفية. وهي حرف، والتقدير: مدة عدم تفرقهما. وجاء في رواية "ما لم يفترقا" والافتراق والتفرق بمعنى، وقيل الافتراق بالكلام والتفرق بالأبدان.

(فإن صدقا وبينا) مفعول "صدقا" و"بينا" محذوف والتقدير فإن صدقا في وصف ما يبذلان وبينا عيوبه.

(محقت) من المحق وهو النقصان وقيل: أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه أثر، ومنه قوله تعالى {يمحق الله الربا} أي يستأصله ويذهب ببركته.

(بركة بيعهما) المصدر مراد به اسم المفعول وقيل باق على مصدريته.

-[فقه الحديث]-

تعرض الحديث إلى نقطتين فقهيتين:

ص: 251

الأولى: خيار المتبايعين، والثانية نصيحة كل منهما للآخر. أما النقطة الأولى فقد اختلف الفقهاء في تأويل "ما لم يتفرقا" فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن المراد التفرق بالأقوال فإذا قال البائع: بعت وقال المشتري: قبلت، أو اشتريت، فقد تفرقا، ولا يبقى لهما بعد ذلك خيار، ويتم البيع، ولا يقدر المشتري على رد المبيع "لا بخيار الرؤية أو خيار العيب، أو خيار الشرط، وقالوا: إن إثبات خيار المجلس لأحدهما يستلزم إبطال حق الآخر، فينتفي بقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" وقالوا: إن الحديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" محمول على خيار القبول، بمعنى أنه إذا أوجب أحدهما فقط ولم يقبل الآخر فلكل منهما الخيار ما داما في المجلس، وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن المراد بالتفرق في الحديث التفرق بالأبدان فلا يتم البيع حتى يوجد التفرق بالأبدان، فلو أقاما في مجلس العقد مدة أو تماشيا مراحل فهما على خيارهما وإن زادت المدة على ثلاثة أيام، فإن اختلفا في التفرق فالقول قول منكره بيمينه -وإن طال الزمن -لموافقته الأصل.

وأما النقطة الثانية: فقد شرحت نتيجة الصدق والنصيحة، وعاقبة الكذب والخديعة، فإن صدق كل منهما في الإخبار عما يتعلق به من محاسن المبيع والثمن، وبين كل منهما لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب في السلعة والثمن بورك لهما في بيعهما فكثر نفع المبيع والثمن، وإن كتم البائع عيب السلعة، وكتم المشتري عيب الثمن، وكذب البائع في الإخبار عن سلعته وكذب المشتري في وصف ثمنه ذهبت بركة بيعهما من الزيادة والنماء الذي كان يحصل على تقدير الخلو من الكذب والكتمان، وليس المراد أن البركة كانت موجودة ثم محقت، بل المراد عدم إنشائها لوجود الكذب والكتمان، وهل تحصل البركة لأحدهما إذا وجد منه الصدق والبيان دون الآخر؟ ظاهر الحديث يقتضي ذلك، ولكن يحتمل أن يعود شؤم أحدهما على الآخر، فيقوم شؤم التدليس والكذب الذي وقع في ذلك العقد بمحق بركته، وإن كان الصادق مأجورا والكاذب مأزورا.

ص: 252

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

ثبوت الخيار للمتبايعين حتى يتفرقا.

2 -

أن نصيحة المسلم واجبة.

3 -

أن غش المؤمن وخديعته حرام.

4 -

أن الصدق والنصيحة تزيد في النعم وتبارك في الانتفاع بها.

5 -

فضل الصدق والحث عليه وذم الكذب والحث على اجتنابه.

6 -

أن عمل الآخرة يحصل خير الدنيا والآخرة.

7 -

أن النماء الذي يجب أن يعول عليه إنما هو النماء المعنوي الذي هو سبب البركة، لا النماء الحسي الذي يحصل بسبب الكذب والخداع.

57 -

عن عون بن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: رأيت أبي اشترى عبدا حجاما فسألته فقال "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وثمن الدم ونهى عن الواشمة والموشومة وآكل الربا وموكله ولعن المصور".

-[المعنى العام]-

رأى أبو جحيفة رضي الله عنه عبدا يحترف الحجامة، وكان يعتقد أنها

ص: 253

حرام، فرغب في أن يتقرب إلى الله بمنع هذا المحرم، ولا سبيل له على هذا العبد إلا أن يشتريه، فاشتراه من سيده، ثم أمر بالآلات التي يحجم بها فكسرت، مبالغة في منعه من مزاولة هذه المهنة، وسأله ابنه عن سر تكسير هذه الآلات؟ فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، فلا يباع ولا يؤكل ثمنه، ونهى عن ثمن الدم، أي أجر الحجامة، فلا ينبغي أن تمتهن، ونهى عن الوشم، فلعن الواشمة والمستوشمة فلا ينبغي أن يغير أحد من خلق الله، ونهى عن الربا، أكله وإعطائه فهو حرب لله ورسوله، ولعن المصورين والمتشبهين بالخالق في تصوير ما خلق، إذ سيقال لهم يوم القيامة على سبيل التبكيت والتعجيز "أحيوا ما خلقتم" وفق الله الأمة الإسلامية إلى الطريق المستقيم.

-[المباحث العربية]-

(حجاما) أي صناعته الحجامة يتكسب منها لسيده.

(فسألته) ظاهرة أن السؤال وقع عن سبب مشتراه، وذلك لا يناسب جوابه بحديث النهي، والتحقيق أن هذا السياق وقع فيه اختصار، بينه البخاري في رواية أخرى في آخر البيوع ولفظها "اشترى حجاما، فأمر بمحاجمة فكسرت، فسألته على ذلك".

(وثمن الدم) أي أجرة الحجامة، وإطلاق الثمن عليها تجوز.

(الواشمة) فاعلة الوشم، والتعبير بالمؤنثة لبيان الواقع والكثير والواشم مثلها.

(الموشومة) التي وشم لها، ومثلها الموشم، والوشم أن يغرز الجلد بنحو إبرة، ثم يحشى بكحل أو نيلة فيتلون الجلد بالخضرة أو الزرقة والمقصود من النهي عن الواشمة والموشومة النهي عن فعلهما وهو الوشم.

(وآكل الربا) في الكلام مضاف محذوف والتقدير: ونهى عن فعل آكل الربا.

ص: 254

-[فقه الحديث]-

يمكن إجمال أحكام الحديث فيما يلي:

أولا: حكم محترف الحجامة، وحكم أجره، وحكم معطي هذا الأجر. أما الحجامة فهي مباحة في حد ذاتها، وإذا كانت مباحة كان محترفها لا شيء عليه. نعم هي من المهن الدنيئة، كالكناسة، وينبغي أن يترفع عنها المسلم الحر، أما أجره فقد كرهه الأكثرون، وحملوا النهي في الحديث على التنزيه، مستدلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام صاعا من تمر، ولو كان أجره حراما لم يعطه، وإنما كره لخبثه من جهة كونه عوضا مقابلا لمخامرة النجس وأجازه كثير من العلماء من غير كراهة، كأجر البناء والكناس وقالوا في الحديث: إن النهي عن ثمن الدم السائل الذي حرمه الله، فلا يباع وقال أبو حنيفة: أجرة الحجام لا تجوز، مستدلا بأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، وكسب الحجام فجمع بينهما، ومهر البغي حرام إجماعا، فكذلك كسب الحجام، وجعلوا النهي في حديثنا للتحريم وقال آخرون: يجوز للمحتجم إعطاء الحجام الأجرة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، ولا يجوز للحجام أخذها عن كسبه، أما شراء أبو جحيفة للعبد فقد كان ليكسر محاجمه، ويمنعه عن تلك الصناعة فهما منه أن النهي عن ذلك للتحريم، فأراد حسم المادة.

ثانيا: حكم بيع الكلب. وقد قال الشافعي وأحمد ومالك في رواية عنه: لا يجوز بيع الكلب، وإن ثمنه حرام ولو معلما، وذلك لنجاسته كالخنزير. وقال أبو حنيفة وبعض المالكية: يجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها، وتباح أثمانها، وأجابوا عن هذا الحديث الذي معنا بأنه كان حين كان حكم الكلاب أن تقتل، وكان لا يحل إمساكها، ثم أبيح الانتفاع بها للاصطياد ونحوه. ونهي عن قتلها فيباح بيع ما ساغ الانتفاع به.

ثالثا: حكم الواشم والموشوم: لا خلاف في حرمة الوشم، لأنه من فعل الجاهلية، وفيه تغيير لخلق الله تعالى، وقد ورد في فاعله اللعن.

ص: 255

روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة" وفي رواية البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات مبتغيات للحسن مغيرات خلق الله".

رابعا: حكم آكل الربا وموكله، أي آخذه ومعطيه حرام بالإجماع، وقد ورد فيهما اللعن أيضا. واشتركا في الإثم، وإن كان الرابح أحدهما لأنهما في الفعل شريكان.

خامسا: حكم التصوير، وقد خاض في هذا الموضوع كثير من الكتاب وخلاصة القول أن ظاهر لفظ الحديث العموم فيشمل جميع أنواع الصور سواء كانت ذات ظل أو لا ظل لها، وسواء كان لذي روح أو لغيره، وعلى هذا العموم حكم بعضهم بالتحريم، وقيل: إن النهي واللعن ورد على نوع خاص، هو النوع المعلوم وقتهما، وهو الرسم باليد والنحت، والعلة واضحة، هي خشية تعظيم الصور في يوم من الأيام لدرجة العبادة، وكان القوم قريبا عهدهم بعبادة الأصنام، وعلى ضوء ما تقدم وعلى ضوء اهتمام الشارع بما يؤدي إلى المفاسد وبما يجلب المصالح يمكن الحكم على الصور التي تترتب عليها المصالح ولا يخشى منها الضرر، كالصورة لتحقيق الشخصية ولتعليم الطب وصون الأمن ولعب الأطفال وصور ما لا روح فيه، بشرط ألا يكون له احترام ديني عند شعب من الشعوب. يمكن الحكم على هذه الصور وأمثالها بالإباحة، أما الصور الخلقية المخلة بالآداب والمثيرة للشهوة البهيمية، والصور في المعابد، وصور العظماء لقصد تقديس أشخاصهم، ونحو ذلك مما يخشى منها المفاسد فهي حرام. أما التماثيل فينبغي الحكم عليها بالتحريم، لا خشية من تعظيمها فحسب فالكثير منها يبصق عليها الناظرون كلما نظروها، ولكن لما فيها من إضاعة المال فيما لا نفع فيه، وتخليد العظماء لا يكون بأمثال من اللعب ذات اليدين والرجلين، وإنما يخلدهم عملهم وأثرهم، ولنا في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.

ص: 256

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

جواز شراء العبد الحجام.

2 -

النهي عن بيع الكلب والنهي عن ثمنه.

3 -

النهي عن الوشم.

4 -

النهي عن ثمن الدم.

5 -

النهي عن الربا أخذه وإعطائه. 6 - النهي عن التصوير.

58 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ولا تناجشوا ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها".

-[المعنى العام]-

أصل عظيم من أصول الإسلام. وبعث لعوامل المحبة، واستئصال لأسباب الشقاق والشحناء، يتمثل في معاملات خمس، بينها الرسول صلى الله عليه وسلم

ص: 257

بقوله: لا يبيع حضري لبدوي، ولا يكون له سمسارا، ولا يزيد أحد في ثمن السلعة ما لم يرد الشراء، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب امرأة خطبها أخوه وقبلت خطبته، ولا تسأل امرأة طلاق امرأة أخرى لتحل محلها.

-[المباحث العربية]-

(أن يبيع حاضر لباد) الحاضر من كان من أهل الحضر، أي المدن والقرى والبادي من كان من أهل البادية أي المضارب والخيام، والمصدر مجرور بحرف محذوف، والمفعول محذوف، والتقدير نهى عن بيع حاضر متاعا لباد.

(ولا تناجشوا) معطوف على معنى الجملة السابقة إذ معنى: نهى أن يبيع حاضر لباد، قال: لا يبع حاضر لباد، أو جملة "ولا تناجشوا" مقول لقول محذوف معطوف على ما قبله، أي نهى أن يبيع حاضر لباد، وقال: لا تناجشوا وأصله: تتناجشوا فحذفت إحدى التاءين، وذكره بصيغة التفاعل لأن التاجر إذا فعل ذلك لصاحبه كان بصدد أن يفعل له مثله، وأصل النجش في اللغة: تنفير الصيد من مكانه ليصاد، وفي الشرع الزيادة في ثمن السلعة ممن لا يريد شراءها ليوقع غيره فيها، سمي بذلك لأن الناجش يثير الرغبة في السلعة ليوقع المشتري كما يثير الصائد الصيد في الشباك.

(ولا يبيع الرجل) بالرفع والجزم، أما الرفع فعلى أنه خبر بمعنى النهي وسياق النهي في صورة الخبر أبلغ في المنع، وأما الجزم فعلى النهي الصريح.

(ولا يخطب) بالرفع والجزم كسابقه، ومثلهما "ولا تسأل المرأة" والفاعل في "ولا يخطب" يعود على الرجل، والخطبة بكسر الخاء اسم من خطب يخطب، من باب نصر فهو خاطب، وأما الخطبة بضم الخاء فهي من القول والكلام.

(ولا تسأل المرأة طلاق أختها) مفعول "تسأل" الأول محذوف، والتقدير

ص: 258

ولا تسأل المرأة زوج أختها طلاقها.

(لتكفأ ما في إنائها) أي لتقلب ما في إناء أختها لنفسها، واللام في لتكفأ علة للمنهي عنه، لا للمنهي، أي لا يكن قلبها ما في إناء أختها في إناء نفسها سببا في سؤالها طلاق أختها، وكفء ما في الإناء كناية عن سلب ما للزوجة من المنفعة والعشرة وكل ما لها من الحقوق عند الزوج.

-[فقه الحديث]-

نهى الحديث عن خمسة أشياء:

1 -

بيع الحاضر للبادي.

2 -

التناجش.

3 -

البيع على البيع.

4 -

الخطبة على الخطبة.

5 -

سؤال المرأة طلاق أختها.

1 -

أما بيع الحاضر للبادي فصورته أن يجيء البلد غريب بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت في الحال، فيأتيه حضري فيقول له: ضعها عندي لأبيعها لك على التدريج بأغلى من هذا السعر، والمبيع مما تعم حاجة أهل البلد إليه. وهل يختص هذا بالبادي؟ أو يلحق به من شاركه في عدم معرفة السعر الحاضر؟ ويلحق به كل إضرار بأهل البلد ينشأ عن الإشارة بتأجيل البيع؟ بالأول قال مالك وبالثاني قال الشافعي وأحمد. والجمهور على أن النهي للتحريم بشرط العلم بالنهي. وأن يكون المتاع المجلوب مما يحتاج إليه، وأن يعرض الحضري ذلك على البدوي، فلو عرضه البدوي على الحضري كان من قبيل النصيحة: والبيع صحيح مع التحريم عند الشافعي والجمهور، لأن النهي راجح إلى أمر خارج عن نفس العقد، وعند أهل الظاهر: البيع باطل، وقيل إن المراد من النهي ألا يكون الحضري سمسارا للبدوي، أي لا يتولى له البيع والشراء بأجرة، وهذا المعنى أعم من سابقه لشموله الشراء.

ص: 259

2 -

وأما التناجش فهو حرام فإن كان بمواطأة البائع وهو الكثير كأن يأخذ معه من أصحابه من يزيد في الثمن ليخدع المشتري الحقيقي سواء كانت الزيادة ليساوي الثمن القيمة، أو ليزيد عليها، فهما مشتركان في الإثم لما في ذلك من الخديعة، وإن كان بغير علم البائع كأن كان يعلم رغبة رجل وحاجته لسلعة خاصة غير موجود سواها، فيذهب لمعاكسته وإيقاعه فيها بثمن أعلى من قيمتها ولا يريد الشراء، فالإثم على ذلك الناجش، وإن كان الناجش البائع وحده، كأن يخبر بأنه اشترى هذه السلعة بأكثر مما اشتراها به ليوقع المشتري فالإثم عليه. وحكم البيع صحيح مع الإثم عند الشافعية والحنفية، ولا خيار، وعند المالكية صحيح مع الخيار وعند الحنابلة باطل إذا كان بمواطأة البائع.

3 -

وأما بيع الرجل على بيع أخيه فصورته أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط: افسخ لأبيعك خيرا منها بمثل ثمنها أو مثلها بأنقص، ومثل ذلك الشراء على الشراء، كأن يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأكثر. وقد أجمع العلماء على أن البيع على البيع والشراء على الشراء حرام. وفي صحة البيع خلاف، واستثنى بعضهم من الحرمة ما إذا كان البائع أو المشتري مغبونا وهو مردود. أما السوم على السوم وهو أن يتفق صاحب السلعة والراغب فيها على البيع، وقبل أن يعقداه يقول آخر لصاحبها: أنا أشتريها بأكثر، أو يقول للراغب: أنا أبيعك خيرا منها بأرخص، فإنه حرام كالبيع على البيع والشراء على الشراء، بخلاف المزايدة والمناقصة فلا شيء فيها، لأنها تحدث قبل الاتفاق والاستقرار.

4 -

وأما خطبة الرجل على خطبة أخيه، فصورتها أن يخطب رجل امرأة، ويحصل التراضي والاتفاق، فيأتي رجل آخر -وهو يعلم- فيخطب هذه المرأة، فإن لم يحصل التراضي، بأن رفض، أو لم يصرح بالتراضي، كوقت المشورة فالأصح أن لا تحريم، قال بعض المالكية: لا يحرم حتى يرضوا بالزواج ويسمى المهر.

5 -

وأما سؤال المرأة طلاق أختها فصورته أن تسأل امرأة زوج امرأة

ص: 260

أخرى أن يطلق زوجته ويتزوج بها، وقيل صورته أن يخطب الرجل المرأة، وله امرأة فتشترط المخطوبة طلاق الأولى، لتنفرد به وذكر الأخ في البيع والخطبة، والأخت في سؤال الطلاق ليس للتقييد، بل للتلطف والعطف، والنهي يعم البيع على بيع الكافر، والخطبة على خطبته، وسؤاله طلاق الكتابية، فالمراد من الأخوة، الأخوة في الإنسانية، والمعنى في هذه المنهيات أنها توغر الصدور، وتورث الشحناء، ولهذا لو أذن له في ذلك صاحب الحق ارتفع الإثم على الأصح.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

النهي عن كل ما فيه تضييق على الناس.

2 -

النهي عن هذه المذكورات الخمس وما في حكمها مما يحدث الشقاق والتباغض.

ص: 261

59 -

عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم".

-[المعنى العام]-

يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الربا والتباسه بالبيع: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا إذا كان متساويين" أي مع الحلول والتقابض المعبر عنهما في حديث آخر "الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء" أي "خذ وهات" أما إذا اختلف جنس الربويين مع اتحاد العلة كالفضة بالذهب فبيعوا كيف شئتم مع التفاضل بشرط أن يكون يدا بيد، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (والورق بفتح الواو وكسر الراء الفضة).

-[المباحث العربية]-

(إلا سواء بسواء) الاستثناء مفرغ، و"سواء" منصوب على الحالية على التأويل بمتساويين.

(كيف شئتم) كيف حال، والمعنى على أي حال شئتم.

-[فقه الحديث]-

يشتمل الحديث على حكمين:

1 -

بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة، ومثلهما كل ربوي بمثله وشرط صحة بيعه التساوي والحلول والتقابض قبل التفرق، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وذهب مالك إلى وجوب التقابض عند الإيجاب بالكلام، فلو انتقل من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما، أي لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف، سواء كانا في المجلس أو تفرقا، وإذا اشتمل

ص: 262

العقد على ربوي من الجانبين ومعه غيره فلا بد من التماثل بين الربويين، ولو كان ذلك الغير المصاحب للمقترن معه في العقد من غير نوعه، كمد عجوة ودرهم، بمد عجوة ودرهم، وعليه فلا يصح بيع مائتي دينار جيدة أو رديئة أو وسط بمائة دينار جيدة ومائة رديئة، ولا بيع مائة رديئة بمائة وسط، والمراد من الذهب والفضة جميع أنواعهما المضروب وغير المضروب.

2 -

بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، ومثلهما كل ربويين اتحدا في العلة واختلف جنسهما، وشرط صحة هذا البيع الحلول والتقابض، فالمراد من قوله:"كيف شئتم" كيف شئتم من ناحية التفاضل، أي لا يشترط التساوي المشروط مع الربويين اللذين من نوع واحد، أما إذا اختلفت العلة كذهب وحنطة، أو كان أحد العوضين أو كلاهما غير ربوي كذهب وثوب، أو عبد وثوب حل التفاضل والتأجيل والتفرق قبل القبض.

-[ويؤخذ من الحديث: ]-

1 -

جواز بيع الربويات بعضها ببعض إذا تساويا مع القبض والحلول.

2 -

يجوز بيع الربويات مع التفاضل إذا اختلف الجنس مع القبض والحلول.

60 -

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ولا تبيعوا الثمر بالتمر" قال: وأخبرني زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر ولم يرخص في غيره.

ص: 263

-[المعنى العام]-

تشريع هام يحفظ حقوق المتبايعين، ويمنع الغرر والمخاصمة:"لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه" وينتفع به، ولا تبيعوا الثمر على الشجر، لأنه لا يمكن كيله، ولا وزنه، ولما كان العرب يعيشون على التمر والرطب، ولما اشتدت حالة القوم إلى المعاوضة بين الرطب واليابس رخص الشارع في بيع الرطب على النخيل خرصا بالتمر على الأرض كيلا

-[المباحث العربية]-

(الثمر) اسم جنس جمعي واحده ثمرة، وليس المراد به الجمع لأن النهي للجنس ولو ثمرة واحدة.

(حتى يبدو صلاحه) حتى للغاية، فالتحريم المستفاد من النهي مغيا ببدو الصلاح و"يبدو" منصوب بأن مضمرة بعد حتى، وهو مشتق من البدو وهو الظهور، ومعنى ظهور صلاح الثمر بلوغه صفة يطلبه الناس فيها غالبا للانتفاع به كظهور حمرته أو صفرته، ويختلف باختلاف الثمر.

(ولا تبيعوا الثمر بالتمر) الأول بالمثلثة والثاني بالمثناة، والباء للعوض فالتحريم يعم ما لو جعل التمر ثمنا، وهو الغالب في استعمال الباء، أو مثمنا.

(رخص بعد ذلك) أي شرع حكما ذا سهولة. والمشار إليه هو النهي عن بيع الثمر بالتمر.

(في بيع العرية) مفرد العرايا، كقضية وقضايا، والعرية لغة: النخلة التي يستثنيها مالكها، ويخرجها من البيع للأكل، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم البستان من البيع، وبيع العرايا شرعا هو الرطب أو العنب على الشجرة خرصا بتمر أو زبيب على الأرض كيلا بشروط المماثلة بتقدير الجفاف.

-[فقه الحديث]-

سبب النهي عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ما ورد في البخاري "أنهم

ص: 264

كانوا يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر العفن والدمان (الفساد والتعفن) وأصابه قشام (عيب يمنع التمر من أن يرطب) عاهات يحتجون بها، فقال صلى الله عليه وسلم لما كثرت عنده الخصومة:"لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه" فضلا عما فيه من عدم الانتفاع بالثمر، ومذاهب العلماء في ذلك البيع أنه إذا اشترط القطع صح البيع بالإجماع، وإن باع بشرط التبقية فالبيع باطل بالإجماع، لأنه ربما تتلف الثمرة قبل إدراكها، فيكون البائع قد أكل مال أخيه بالباطل، أما إذا شرط القطع فقد انتفى هذا الضرر، وعلة النهي أولا عن بيع الثمر بالتمر (وهو المسمى بيع المزابنة) أن الثمر وهو الرطب على النخل أو العنب على الشجر لا يمكن كيله ولا وزنه، فتقديره بأي كيل أو وزن لا يخلو من الغرر، وعلة الترخيص فيه ثانيا (وهو المسمى بيع العرايا) شدة الحاجة إليه، وفي قول الراوي: بالرطب أو التمر قال بعض العلماء: إن "أو" للتخيير وعليه فيجوز بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض أو التمر الجاف، والجمهور على منع بيع الرطب على النخل بالرطب على الأرض، وحملوا "أو" في هذه الرواية على أنها للشك من الراوي، وقالوا: إن أكثر الروايات يدل على أنه صلى الله عليه وسلم إنما قال: العرية بالتمر، وقاس العلماء العنب والبر على الرطب، بجامع أن الكل زكوي يمكن خرصه ويدخر يابسه وهو مشهور مذهب الشافعية، وألحق المالكية بالرطب كل ما يدخر يابسه، بخلاف ما لا يتحقق فيه هذا الجامع، كالمشمش والبرتقال، لأنها متفرقة مستورة بالأوراق، فلا يتأتى فيها الخرص، وهو المقصود بقوله:"ولم يرخص في غيره".

ص: 265

61 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعط أجره.

-[المعنى العام]-

حديث قدسي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول: قال الله عز وجل: ثلاثة أنازعهم وأعاديهم فأقهرهم وأذلهم يوم القهر والجزاء. رجل يعطي العهد ويؤكده بذكر اسمي، ثم يغدر بصاحبه، ورجل يتحكم في تصرفات الأحرار التي شرعتها لهم فيحرمهم من حريتهم، ورجل يستخدم الناس ولا يدفع لهم أجورهم التي استحقوها، استغلالا لسلطانه ونفوذه، أو مماطلا في أداء الحقوق.

-[المباحث العربية]-

(ثلاثة) مبتدأ سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة التخصيص بالإضافة والتقدير: ثلاثة أصناف من المكلفين.

(أنا خصمهم) الخصم هو المنازع والمغالب، ويقع على المفرد وغيره والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، والمطابقة في التثنية والجمع لغة بعض العرب ومنها قوله تعالى:{هذان خصمان} والجملة خبر "ثلاثة".

(يوم القيامة) التقييد بهذا الظرف مع أنه خصم لهم في جميع الأوقات لأنه وقت الجزاء.

ص: 266

(رجل) بدل من ثلاثة، والتخصيص به لا مفهوم له، فالحكم يشمل النساء، إنما ذكره لأن الغالب في خطاب الشرع أن يكون للرجال.

(أعطى بي) مفعولا "أعطى" محذوفان اختصارا لظهورهما، والباء للملابسة، وفي الكلام مضاف محذوف، والجار والمجرور حال، والتقدير: أعطى أخاه العهد حال كونه متلبسا باسمي.

(ثم غدر) أي نقض العهد ولم يف به.

(باع حرا) الحر يستعمل في بني آدم على الحقيقة، وهو خلاف العبد.

(فأكل ثمنه) المراد بالأكل الأخذ، من إطلاق الخاص على العام، أو إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، أو إنه باق على حقيقته، وحمل غيره عليه على سبيل القياس بجامع الاستيلاء، ومثله قوله تعالى:{لا تأكلوا الربا} وقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وتخصيص الأكل بالذكر لأنه أعظم مقاصد الأخذ.

(فاستوفى منه) المفعول محذوف، أي فاستوفى منه العمل.

-[فقه الحديث]-

ذكر هذا الحديث هنا لما فيه من حث على الوفاء بالعقود، ومنع بيع الحر وإعطاء الأجير أجره، وهو ينذر بالعذاب الشديد لهؤلاء الثلاثة، لأن من كان القاهر الجبار خصمه فالويل له.

أما الأول فلأنه غدر بعباد الله، وهتك حرمة اسمه تعالى فكان غدره شنيعا وشرط ذلك أن يكون ذاكرا للعهد مختارا، وأما الثاني فليس المراد منه نفس البيع وأخذ الثمن، بل المراد الاستيلاء على الحر مطلقا، سواء باعه وأخذ ثمنه، أم لا ويشهد لذلك ما رواه أبو داود "ورجل اعتبد محررا" وهذه الرواية أعم مما هنا في الفعل، لأن الاعتباد يشمل البيع وغيره، وأخص منه في المفعول به، لأن المحرر هو من سبقت ملكيته، فالحر أعم منه فيحمل خصوص الفعل والمفعول في كل من الروايتين على العموم، واعتباد

ص: 267

المحرر، كما قال الخطابي: إما يعتقه مع كتمان ذلك أو جحوده، وإما باستخدامه كرها بعد عتقه، وشرطه: أن يكون عالما بحريته متعمدا استعباده. وإنما خاصم الله من استولى على الحر لأن المسلمين أكفاء في الحرية والذمة، وللمسلم على المسلم أن ينصره ولا يظلمه. وأن ينصحه ولا يغشه وليس في الظلم أعظم من الاستعباد ومنع التصرف فيما أباح الله له. وإلزام الحر الذلة والصغار، وفي هذا يقول ابن الجوزي: الحر عبد الله، فمن جنى عليه فخصمه سيده، وأما الثالث فهو داخل في بيع الحر، لأنه استخدمه بغير عوض وهذا عين الظلم، وذكر الثلاثة ليس للتخصيص، لأنه سبحانه وتعالى خصم لجميع الظالمين، وإنما هو لإرادة التشديد على هؤلاء الثلاثة والإنكار عليهم لبشاعة فعلهم.

ص: 268