الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
زيادة شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه عليها، وصدق الله العظيم {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.}
باب لا يسألون الناس إلحافا
34 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه".
-[المعنى العام]-
الإسلام دين العزة والكرامة، دين العمل ورفع الهامة، دين البناء للدنيا والآخرة، لا يحب الخنوع والدناءة، ويكره الكسل والتواكل، شعاره: إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم شجرة يمكنه أن يغرسها فليغرسها، مبدؤه:"ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده".
من هذا المنطلق حذر من أكل السحت، ومن سؤال عن كسل وخمول
وصف يد الآخذ بعد السؤال بأنها اليد السفلى الهابطة الذليلة، وحرص على السعي والعمل والأكل من عرق الجبين، لقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلانا يصوم النهار ويقوم الليل. قال: فمن ينفق عليه؟ قالوا: أخوه. قال: أخوه خير منه.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الصدقة، فقال له: ما عندك شيء؟ قال لا، غير بردة، قال: هاتها. فجاء بها، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يشتريها؟ فباعها بدراهم، ثم اشترى بالدراهم حبلا وفأسا، وقال للرجل: اذهب واحتطب. فذهب واحتطب وما هي إلا أيام حتى صار غنيا.
وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم لأن يأخذ أحدكم حبله وفأسه فيذهب إلى البادية، فيقطع شجرا، ويجمع حطبا، فيحمله على ظهره، وكتفه، فيذهب به إلى السوق فيبيعه فيأكل من ثمنه خير له من أن يتسول ويمد يده إلى الناس طالبا إحسانهم، إن أعطوه كان ذليلا دنيئا، وإن منعوه كان كسيف البال خاسئا حقيرا.
-[المباحث العربية]-
(والذي نفسي بيده) أي والله الذي بيده نفسي وروحي. وأقسم على الشيء المقطوع بصدقه والتسليم به لتقوية الخبر وتأكيده وتمكينه في نفس السامع.
(لأن يأخذ أحدكم حبله) أي وفأسه ليقطع الحطب ويضمه في الحبل و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ.
(فيحتطب على ظهره) أي فيجمع الحطب من مكان الاحتطاب، فيحمله على ظهره، فيبيعه، فيأكل، ويتصدق.
(خير له من يأتي رجلا فيسأله) قيل: إن السؤال لا خير فيه، فأفعل التفضيل على غير بابه، وقيل: قد يكون فيه خير إذا كان لحاجة مشروعة
ولضرورة، وقيل: إنه روعي فيه ما في السائل، فهو في نفسه خير، وإلا ما فعله باختياره، وإن كان شرا في الواقع ونفس الأمر، و"خير" خبر المبتدأ.
وإتيان الرجل غير مقصود، فقد يمر الرجل على السائل وإنما القصد خير من سؤال رجل، ولفظ "رجل" ليس قيدا فقد يسأل امرأة، والكلام بني على الكثير والغالب.
(أعطاه أو منعه) الجملة صفة لرجل، أي رجلا معطيا أو مانعا.
-[فقه الحديث]-
-[يؤخذ من الحديث: ]-
1 -
الحض على التعفف عن المسألة، والتنزه عنها، والتنفير منها وتحقيرها، والمسألة ودوافعها ثلاثة أنواع. النوع الأول مسألة الفقير المحتاج العاجز عن الكسب عجزا لا دخل له فيه، وهذه المسألة مباحة، والمطلوب منه عدم الإلحاح، والرفق في السؤال، وعدم الاستكثار، والأولى له العفة والصبر ما أمكن على الحاجة، فقد مدح الله هذا الصنف بقوله {وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون، للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم.}
والخلاف بين الفقهاء في حدود الفقير المحتاج الذي يباح له السؤال، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديده "ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه" وقد اتفقوا على أن من استطاع ضربا في الأرض، وكان قادرا على الاكتساب فهو غني، وهو واجد نوعا من الغنى، وقد قال تعالى في وصف الفقراء {لا يستطيعون ضربا في الأرض.}
فقال بعضهم: إن الفقير هو من لا يملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب، واستندوا إلى حديث ضعيف رواه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش. قيل: يا رسول الله. وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب".
وقال بعضهم: إن الفقير هو من لا يملك قوت يومه، واستندوا إلى حديث رواه أبو داود وصححه ابن حبان عن سهل بن الحنظلية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار. فقالوا: يا رسول الله. وما يغنيه؟ قال قدر ما يغذيه ويعشيه".
وقال أبو حنيفة: إن الغني من ملك نصابا.
وقال الشافعي: قد يكون الرجل غنيا بالدرهم مع الكسب، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه وكثرة عياله.
النوع الثاني: مسألة الفقير المحتاج القادر على الكسب، وهي المقصودة من الحديث، والأصح عند الشافعية أن سؤال من هذا حاله حرام. وينظر فيمن يعطيه. هل يكون معينا ومساعدا على الحرام؟ أميل إلى هذا إذا تأكد من حاله. وإنما قبح الشارع السؤال، سواء أعطى المسئول السائل أم منعه لما يدخل على السائل من ذل السؤال، وعظم المنة إذا أعطي، ومن ذل السؤال والخيبة والحرمان إذا لم يعط، ولما يدخل على المسئول من الضيق في ماله إذا أعطى، ومن الحرج إذا لم يعط.
النوع الثالث: من يسأل ليجمع الكثير من غير احتياج إليه، وهذا النوع حرام باتفاق، وورد فيه وعيد شديد، ففي البخاري "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة" أي قطعة لحم، وفي مسلم "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا" وعند الترمذي "ومن سأل الناس ليثري ماله كان خموشا في وجهه يوم القيامة، فمن شاء فليقل، ومن شاء
فليكثر" وعند الطبري "لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه -أي يبلى -فلا يكون له عند الله وجه".
ملحوظة: يمكن أن يدخل في هذا النوع كثير من حاشية السلطان الذين يستكثرون عن طريقه من مال المسلمين دون عمل أو جهد يقابل ما حصلوا عليه وللمسألة تتمة تأتي في الحديث الآتي.
2 -
كما يؤخذ من الحديث الحض على التكسب والسعي على الرزق من أي طريق مشروع، وإنما خص الاحتطاب بالذكر لتيسره وسهولته على عامة الناس في بيئة المخاطبين بالحديث، وله أشباه في البساطة وعدم الحاجة إلى رأس مال في كل بيئة، فذكره كمثل فقط، فلا يستدل بالحديث على شرف مهنة الاحتطاب، كما فهم البعض، إذ غاية ما في الحديث تفضيل الاحتطاب على السؤال، وليس فيه تفضيل الاحتطاب على بقية وسائل المكاسب.
وقد تكلم الفقهاء في تفضيل بعض الحرف على بعض، فقال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصناعة، قال: ومذهب الشافعي أن التجارة أطيب، ثم قال: والأشبه عندي أن الزراعة أطيب، لأنها أقرب إلى التوكل. انتهى. ويمكن أن يضاف لما قال: أنها أنفع للآدمي وغيره، ولأنه لا بد في العادة أن يأكل من الزرع إنسان وحيوان وطير بغير عوض، فيحصل الزارع على أجر وإن لم يشعر.
والذي نميل إليه أن الحرف لا تفاضل بينها لذاتها، وإنما تفضل الواحدة الأخرى بمقدار ما يحصل عليه صاحبها من أجر، حتى الذي يقوم بتدريس التفسير والحديث قد لا يفضل غيره إذا داخله عجب أو رياء أو نحو ذلك.
3 -
حرص الإسلام على القوة المادية، وبناء الدنيا، بقدر حرصه على الطاعات والعمل للآخرة.
35 -
عن عمر رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر إليه مني فقال: "خذه إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك".
-[المعنى العام]-
قد يعطي السلطان غنيا علم أنه يصرف ما يعطاه في سبيل الله، فيكون من السلطان إنفاقا في وجوهه المشروعة بواسطة، فتثاب الواسطة والسلطان معا، وكانت هذه وجهة نظر عمر بن الخطاب حينما فرض لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكل واحدة ألفين، وفرض لعائشة عشرة آلاف، فلما سئل عن ذلك أرسل من يتحسس ما تفعل عائشة في عطائها، فرآها وقد فتحت الكيس، وأخذت
تقبض منه وتقول لجاريتها. أعطي هذا فلانة. أعطي هذا بيت فلان. حتى نفد ما في الكيس، فقالت لها جاريتها: ما أبقيت لنا شيئا نشتري به لحما نفطر عليه ونحن صائمتان؟ قالت لها: لو أذكرتني لفعلت.
لقد استقى عمر بن الخطاب هذا المبدأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان حين يأتيه المال غير الزكاة يعطي منه بعض الأغنياء، فكان إن أعطى عمر بعض المال فقال عمر -تعففا -أعطه من هو أحوج مني إليه يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: لم أعطكه زكاة لفقرك، ولكن لتتموله وتتصدق منه. فقبله عمر وهو غير مستريح فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيل ما في صدر عمر، فقال: إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير متطلع إليه، ولم تسأله فخذه حلالا طيبا، وإذا أعطي سواك من هو أغنى منك ولم تعط أنت فلا تغضب، ولا تمكن عينيك إليه، ولا توجه نفسك نحوه ولا تقل في سرك: لماذا لم يعطني؟ ولا ليته أعطاني.
-[المباحث العربية]-
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول) هذا التعبير يفيد ظاهره التكرار وكأن عمر كان يرد ما يعطاه بعد أن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بالأخذ لكن هذا الظاهر غير مراد، فقد أوضحته رواية البخاري في الأحكام، ولفظها "حتى أعطاني مرة مالا فقلت: أعطه من هو أفقر مني فقال: خذه فتموله وتصدق به" فكان عمر يأخذ دون اعتراض، فلما اعترض وأجيب عاد يأخذ من غير اعتراض.
(إذا جاءك من هذا المال) أي المال الذي يقسمه الإمام.
(وأنت غير مشرف) الإشراف على الشيء التعرض له، والتطلع إليه، والحرص عليه. من قولهم أشرف على كذا إذا تطاول له، وقيل للمكان المرتفع: شرف. لذلك.
(وما لا فلا تتبعه نفسك) فعل الشرط محذوف للعلم به من الكلام السابق أي وما لم يأتك فلا تتطلع إليه.
-[فقه الحديث]-
قال الطحاوي: ليس معنى هذا الحديث في الصدقات، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام، وليست من جهة الفقر، ولكن من الحقوق. أهـ
ونعتقد أن عمر كان يعلم ذلك، لكن عبارته "أعطه من هو أفقر مني" هي التي جعلت الرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليه، وعمر لم يقصد الفقر الشرعي، وإنما قصد من هو أقل غنى عني.
يؤكد أن المال ليس من الصدقات رواية "خذه فتموله فتصدق به" وقد اختلف العلماء في حكم أخذ العطية من السلطان بعد إجماعهم على أن الأمر في "خذه" أمر ندب لا وجوب.
فقيل: يندب قبول عطية السلطان بشرط عدم إشراف النفس وعدم السؤال.
وقيل: يندب قبول عطية السلطان وغير السلطان بالشرطين المذكورين ورجحه الحافظ ابن حجر، وقيل يحرم قبول عطية السلطان.
قال الحافظ ابن حجر تعليقا على هذا الرأي: وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر. قال: وكراهة السلف أخذ عطية السلطان مطلقا جائرا أم غير جائر محمول على الورع. والتحقيق أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته، ومن علم كون ماله حراما تحرم عطيته، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع. اهـ
ورخص جماعة في قبول عطية السلطان ولو كان جائرا، وكان ماله من حرام. قال ابن المنذر. واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في اليهود {سماعون للكذب أكالون للسحت} وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة. أهـ.