الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التمتع والقران والإفراد
39 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برا الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول الله أي الحل قال حل كله".
-[المعنى العام]-
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه عام حجة الوداع ملبيا بالحج، فقدموا مكة صبيحة اليوم الرابع من ذي الحجة، وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أعظم الذنوب، بل كانوا يضمون المحرم لأشهره بعد أن يستحلوه ويسمونه صفرا، وكانوا يقولون: لا تحل العمرة إلا إذا شفيت جروح الإبل التي حملت الحجيج، وإلا إذا انمحى أثر سيرها على الرمال، وذلك لا يكون إلا بعد انقضاء صفر. فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحارب هذه العقيدة الفاسدة بالقول والعمل فأمر أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة، وأن يأتوا بأفعالها، ثم يتحللوا، ثم يهلوا بالحج، وكبر على الصحابة هذا الفعل، لما رسخ في أذهانهم من تحريم العمرة في أشهر الحج، فطيب الرسول قلوبهم، وتلطف بهم، وقال "افعلوا ما أمرتم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم" ففعلوا، ثم سألوا عما يحل لهم بعد عمرتهم، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بأنه يحل لهم كل ما كان محرما عليهم حتى غشيان النساء.
-[المباحث العربية]-
(يرون) أي يعتقدون، والضمير لأهل الجاهلية.
(أن العمرة) في الكلام مضاف محذوف، والتقدير أن فعل العمرة.
(من أفجر الفجور) هو من باب أكذب الكذب، والقصد منه المبالغة في المعنى، حيث جعل الفجور كأنه يفجر، والمعنى أن ذلك من أعظم الذنوب والفجور الانبعاث في المعاصي.
(ويجعلون المحرم صفرا) أي يسمون المحرم صفر، وصفر في جميع الأصول من الصحيحين بدون ألف، على المشهور من لغة ربيعة، التي تكتب المنصوب بغير ألف، كصورة المرفوع. ومع هذا لا بد من قراءته منصوبا منونا، لأنه مصروف بلا خلاف. قاله النووي والقاضي عياض.
(ويقولون) جملتا "يجعلون" و"يقولون" معطوفتان على "يرون".
(إذا برأ الدبر) برأ بالهمزة وبدونها، ومعناه صح وشفي، والدبر بفتح الدال المشددة، والباء المفتوحة الجرح، وال فيه للعهد، أي إذا شفي جرح ظهور الإبل الحادث من عناء الحمل في الحج.
(وعفا الأثر) أل في الأثر للعهد، والمعنى ذهب وانمحى أثر سير الإبل من الطريق بعد رجوعهم من الحج بسبب الأمطار أو طول الأيام مع الهواء ويحتمل أن يكون المراد من الأثر أثر هذه الجروح، وفي رواية "وعفا الوبر" ومعناه وكثر وبر الإبل الذي نحلته الرحال في الحج، وهذه الألفاظ الأربعة الدبر. والأثر. صفر. اعتمر -تقرأ بتسكين الراء لإرادة السجع.
(حلت العمرة لمن اعتمر) أي صار الإحرام بالعمرة لمن أراد أن يحرم بها جائزا، ففي لفظ "اعتمر" مجاز مرسل.
(صبيحة رابعة) أي صبيحة ليلة رابعة من ذي الحجة.
(مهلين بالحج) نصب على الحالية، والمعنى محرمين ملبين به. وفي رواية "وهم يلبون بالحج".
(أن يجعلوها) الضمير المنصوب للحجة التي أهلوا بها.
(فتعاظم ذلك عندهم) أي كبر على الصحابة الاعتمار في أشهر الحج.
(أي الحل)"أي" اسم استفهام، منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل
محذوف، تقديره: نحل أي الحل؟ وفي رواية "أي الحل نحل" فأي مفعول مطلق مقدم للفعل المذكور.
-[فقه الحديث]-
روي عن ابن عباس قال: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون .... إلخ. فقد عينت لنا هذه الرواية الذين قالوا، وإنما جعلوا العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور لتعظيم أشهر الحج، فمنعوا أن يوقعوا فيها أي عمل يشبهه، وهذه المبالغة من مبتدعاتهم الباطلة التي لا أصل لها -وكانوا يفرون من توالي ثلاثة أشهر محرمة، القعدة والحجة والمحرم، فيضيق عليهم ما اعتادوه من إغارة بعضهم على بعض، فكانوا يسمون المحرم صفرا ويحلونه. ويؤخرون تحريم المحرم إما إلى صفر الحقيقي، وإما إلى شهر آخر غير معين، وهذا الذي ضللهم الله به في قوله تعالى:{إنما النسيء} -تأخير حرمه شهر إلى شهر آخر، أو الزيادة في الشهور والأيام- {زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما} الآية- ومرادهم من صفر في قولهم:"وانسلخ صفر" الشهر الذي سمي صفرا وحقيقته المحرم- ولما كانوا لا يستقرون ببلادهم في الغالب، ولا يبرأ وبر إبلهم إلا عند انسلاخه ألحقوه بأشهر الحج على طريق التبعية، وجعلوا أول أشهر الاعتمار الشهر الذي هو في الأصل صفر، وقد تسبب عن اعتقادهم الفاسد وقولهم الخطأ أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج وجعله عمرة في أشهره، لإبطال مدعاهم. ولذا جاء في بعض الروايات "فقدم" بإثبات فاء الترتيب وهو الوجه الصحيح كما يقول ابن حجر، ولا يلزم من كونهم مهلين بالحج ألا يكونوا قارنين، فلا وجه لمن يستدل بالحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا، أو على تفضيل الإفراد.
وقد أجمعوا على أن أول أشهر الحج شوال، وهي ثلاثة بكمالها عند مالك وأحمد، وشهران وعشر ذي الحجة بدخول يوم النحر عند أبي حنيفة،
ولا يدخل يوم النحر عند الشافعي على المشهور، والإهلال بالعمرة في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في نفس السنة هو المسمى بالتمتع، والذي قال الله فيه {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} وفي تفضيله على أخويه أو تفضيل أحدهما عليه خلاف بين الفقهاء، وأما فسخ الحج إلى العمرة فقد نقل القاضي عياض عن جمهور الأئمة أنه كان خاصا بالصحابة في تلك السنة لإبطال اعتقاد الجاهلية، وليرد الرسول بذلك ردا عمليا على الذين يمنعون العمرة في أشهر الحج، وإنما كبر ذلك على الصحابة لمخالفته ما علق بأذهانهم ما ابتدعه لهم أسلافهم، من اعتقاد أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وقوله "أي الحل" مرتب على محذوف تقديره فتعاظم ذلك عندهم ثم اقتنعوا فجعلوا حجهم عمرة، فأتوا بأفعالها فأرادوا التحلل منها فقالوا: أي الحل؟ وهذا القول يشعر بأنهم كانوا يعلمون أن للحج تحللين، تحللا أصغر، وتحللا أكبر، وإنما سألوا عن أي التحللين مع أنهم معتمرون والعمرة ليس لها إلا تحلل واحد إما لأنهم كانوا محرمين بالحج أو لا فظنوه منسحبا، وإما لأنهم ظنوا أن العمرة كالحج لها تحللان.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
جواز الاعتمار في أشهر الحج.
2 -
جواز التمتع.
3 -
محاربة الاعتقادات الفاسدة بالقول والعمل.
4 -
منع التلاعب بالشهور وبأسمائها، لأنه عد من أعمالهم الخاطئة.
40 -
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم: "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة" فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: "افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا".
-[المعنى العام]-
يتحدث جابر عن حجة الوداع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساق معه الهدي،
وأهل الصحابة بالحج مفردا، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يتحللوا من إحرامهم بالحج بعمل عمرة، فيطوفوا بالبيت، ويسعوا بين الصفا والمروة، ويقصروا، فإذا جاء اليوم الثامن من ذي الحجة أحرموا بالحج من مكة، ولما تعجب الصحابة من هذا الأمر قال لهم صلى الله عليه وسلم لولا أني سقت الهدي لفعلت الذي أمرتكم به، أما وقد ساق الهدي فلا يتحلل حتى يذبح الهدي في محله، فطابت نفوسهم ورسخت عقيدتهم، وفعلوا ما أمروا به.
-[المباحث العربية]-
(أنه حج) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر نائب فاعل فعل محذوف تقديره، روي عن جابر حجه مع النبي صلى الله عليه وسلم.
(البدن) بضم الباء، وسكون الدال وضمها، جمع بدنه، وهي الناقة.
(وقد أهلوا بالحج مفردا)"مفردا" بفتح الراء حال من "الحج" والجملة حال أيضا.
(وبين الصفا والمروة) الظرف متعلق بمحذوف تقديره، وبالسعي بين الصفا والمروة.
(أقيموا حلالا) نصب على الحال، بمعنى محلين.
(إذا كان يوم التروية)"كان" تامة، ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء، ويتزودون منه ليوم عرفة وما بعده.
(فأهلوا بالحج) بكسر الهاء، أي فأحرموا بالحج من مكة.
(واجعلوا التي قدمتم بها متعة) أي اجعلوا الحجة المفردة التي أهللتم بها عمرة، وقد أطلق على العمرة متعة مجازا مرسلا، لأن المتعة هي الإتيان بالعمرة ثم بالحج، والمراد هنا العمرة فقط.
(كيف نجعلها) كيف اسم استفهام في محل نصب على الحال والاستفهام للتعجب.
(ما أمرتكم)"ما" موصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما أمرتكم به.
(لا يحل مني حرام) بكسر حاء "يحل" والمعنى: لا يحل شيء مني حرم علي، ورواية مسلم "لا يحل مني حراما" بالنصب على المفعولية، لكن بضم ياء "يحل" وكسر حائها، وفاعلها محذوف، تقديره: لا يحل طول المكث مني شيئا حراما.
-[فقه الحديث]-
موضوع حديث جابر هذا هو موضوع الحديث السابق، غير أنه نص فيه على أن الإهلال كان بالحج مفردا، وهذا النص يتعارض مع رواية عروة عن عائشة "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج" وقد ضعف بعض المحدثين رواية عائشة، واعتمدوا رواية جابر، وجمع بعضهم بأن رواية جابر "أهلوا" ليس فيها نص على إجماعهم على الإفراد، فيحتمل أن كلامه عن البعض الذي كان حوله، قال النووي: والصواب الذي نعتقده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا، لأنه لم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في تلك السنة بعد الحج، ولا شك أن القران أفضل من الإفراد الذي لا يعتمر في سنته، وإنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتقصير دون الحلق لأنهم كانوا سيهلون بعد قليل بالحج، فأخر الحلق ليتوفر الشعر، لأن بين دخولهم وبين يوم التروية أربعة أيام فقط.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
سؤال المتعلم وتعجبه إذا لقي أمرا غريبا عليه.
2 -
ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من تطييب قلوب أصحابه وتلطفه وحلمه عليهم.
3 -
فيه دليل للقائل بأن من اعتمر فساق هديا لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.