الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الاستقراض والحجر والتفليس
الاستقراض طلب القرض، والقرض يطلق اسما بمعنى الشيء المقروض ومصدرا بمعنى الإقراض الذي هو تمليك الشيء على أن يرد بدله، والحجر لغة المنع، وشرعا: منع التصرف في المال، والتفليس من فلسه الحاكم تفليسا يعني حكم بأنه يصير إلى حالة يقال فيها عنه ليس معه فلس، وهو قطعة مضروبة من النحاس كان يتعامل بها تشبه المليم في زماننا، وقيل: المفلس من تزيد ديونه عن مورده، سمي مفلسا لأنه صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير، وشرعا حجر الحاكم على المفلس ليقضي ما عليه من دين الآدمي، وجمع المؤلف بين هذه الثلاثة لتلازمها في بعض الأحوال ولقلة الأحاديث الواردة فيها.
70 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله".
-[المعنى العام]-
يبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أخذ من أموال الناس شيئا بأي وجه من وجوه المعاملات وهو ينوي الأداء يسر الله له ما يؤدي من فضله لحسن نيته فإن مات قبل الأداء أرضى الله غريمه، ومن أخذ من أموال الناس شيئا يعتزم إتلافه على صاحبه وعدم رده أتلفه الله من يده وأضاعه منه، فلا ينتفع به،
لسوء نيته، ويبقى عليه الدين يعاقب به يوم القيامة، وقد ورد "من تداين بدين وفي نفسه وفاؤه ثم مات تجاوز الله عنه، وأرضى غريمه بما شاء، ومن تداين بدين وليس في نفسه وفاؤه ثم مات اقتضى الله لغريمه منه يوم القيامة" وفي رواية "فيؤخذ من حسناته فتجعل في حسنات الآخر فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فتجعل عليه".
-[المباحث العربية]-
(يريد أداءها) أي يريد ردها إلى صاحبها، والجملة في محل النصب على الحال.
(أدى الله عنه) مفعول "أدى" محذوف تقديره، أداها الله عنه، كما جاء مصرحا به في بعض الروايات.
-[فقه الحديث]-
الأداء والإتلاف قد يكونان في الدنيا وقد يكونان في الآخرة، فالأداء في الدنيا يكون بأن يفتح الله عليه باب الرزق والسعة حتى يؤدي، وفي الآخرة يكون بأن يتكفل الله عنه ويرضي غريمه بما شاء. وأما الإتلاف في الدنيا فقد يكون في المال أو في النفس، وفي الآخرة يكون بالعذاب الأليم.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أن الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكن من جنس الذنب، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل مكان أداء الإنسان أداء الله عنه، ومكان إتلافه إتلاف الله له.
2 -
الحض على ترك أكل أموال الناس سواء كانت بطريق القرض أو بأي وجه من وجوه المعاملات. والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة.
3 -
الترغيب في تحسين النية لأن الأعمال بالنيات.
4 -
الترغيب في الدين لمن ينوي الوفاء. روى الحاكم وابن ماجه عن عبد الله بن جعفر أنه كان يستدين فسئل، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله مع المدين حتى يقضي دينه" كذا قيل، وفيه نظر. والله أعلم.
71 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} [سورة الأحزاب: الآية 6] فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه".
-[المعنى العام]-
يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تحمل الميت في ديونه وفي ورثته إن كانوا ضياعا اقتداء به صلى الله عليه وسلم، نعم ولي الأمر أولى من عامة المسلمين، فإن لم يقم بهذا الواجب حسن بالمسلمين أن يتسابقوا إلى هذه الولاية. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة، أحرص عليهم، وأؤدي عنهم عند عجزهم بعد موتهم. واستدل على الولاية بقوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ثم قال: فمن ترك من المسلمين مالا فلورثته من بعده، ومن ترك كلا أو دينا فأنا كفيل بالأداء فليأتني ورثته الضياع.
-[المباحث العربية]-
(ما من مؤمن إلا وأنا أولى به)"ما" نافية و"من" زائدة لتأكيد النفي
"مؤمن" مبتدأ والخبر محذوف والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال أي إلا في حال ولايتي له، وفي رواية "إلا أنا أولى به" بدون الواو، فإلا ملغاة وجملة "أنا أولى به" هي الخبر.
(اقرءوا إن شئتم: النبي أولى) جواب الشرط محذوف، دل عليه ما قبله والتقدير إن شئتم فاقرؤوا، وجملة الشرط وجوابه معترضة بين اقرءوا ومفعوله، والآية مقصود لفظها مفعول اقرءوا.
(فأيما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته)"أي" اسم شرط مبتدأ زيدت عليها "ما" و"أي" مضاف و"مؤمن" مضاف إليه، وجملة "مات" صفة لمؤمن و"فليرثه" جواب الشرط، واقتصر على المال لأنه الغالب.
(من كانوا)"من" اسم موصول في محل رفع صفة لعصبة، وعبر بالموصول هنا لإفادة العموم والشمول لأنواع العصبة الثلاثة: العصبة بالنفس وبالغير ومع الغير، ويجوز إعراب "من" نكرة خبر كانوا مقدما، والمعنى أيا كانوا، أي أي أنواع العصبة كانوا.
(أو ضياعا) بفتح الضاد مصدر ضاع يضيع، أطلق على اسم الفاعل للمبالغة كالعدل والصوم، أي من ترك شيئا ضائعا كالأطفال، رواه بعضهم بكسر الضاد جمع ضائع كجائع وجياع.
(فليأتني) فاعل يأتي مفهوم من المقام أي من ترك دينا فليأتني دائنه ومن ترك ضائعا فليأتني الضائع.
(فأنا مولاه) الفاء للتعليل، ومولاه وليه.
-[فقه الحديث]-
فسر العلماء قوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} بأن طاعته أولى بهم من طاعة أنفسهم، بمعنى أنه إذا دعاهم النبي إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت الاستجابة إلى دعوته أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وأنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، ويترتب على ذلك
إيثار طاعته على شهوات أنفسهم وإن شق ذلك عليهم، وأن يحبوه أكثر من حبهم لأنفسهم وقيل: معناه: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من طاعة بعضهم لبعض، وقيل: معناه إنه أولى بهم في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم، وقد استنبط بعضهم من الآية أن له صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج النبي صلى الله عليه وسلم إليهما. وعلى صاحبهما البذل وأن يفدي بمهجته مهجة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن قصده عليه السلام ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه. والآية تشمل أنه أولى بأخذ غنمهم ودفع غرمهم، فمن ترك مالا ولا ورثة له فالأمر إليه، ومن ترك عيالا ولم يترك مالا فالأمر إليه، لكن الرسول لما ذكر الآية لم يذكر ماله من حظ، وإنما ذكر ما هو عليه، وذلك من كمال خلقه صلى الله عليه وسلم. وقد كان الرسول في صدر الإسلام لا يصلي على من مات وعليه دين، ليحرض الناس على قضاء ديونهم في حياتهم والتوصل إلى البراءة منه، وليحرض أهل الميت وأصحابه وضامنيه على السداد عنه، لئلا تفوته صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتح الله تعالى عليه الفتوح صار يصلي عليهم ويقضي دين من لم يخلف وفاء، فصار فعله الأخير ناسخا لفعله الأول.
وهل كانت الصلاة على الميت المدين قبل الفتوح محرمة على النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ وهل كان يجوز له أن يصلي مع وجود الضامن أو لا؟
وهل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم دين من لم يخلف كان واجبا عليه أم كان يفعله تكرما؟
في كل ذلك خلاف بين الفقهاء ومرجعه كتب الفروع.
-[ويؤخذ من الحديث: ]-
1 -
أن الدين لا يخل بالمدين.
2 -
أن من ترك مالا ولا دين عليه فماله لورثته.
3 -
ومن كان عليه دين أخذ من تركته.
4 -
ومن ترك دينا ولا مال له فلا يلزم الورثة السداد.
72 -
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
-[المعنى العام]-
من أكبر الكبائر عقوق الأمهات، فقد حملن كرها ووضعن كرها وربين كرها، ومن لم يشكرهن ويبرهن فليس أهلا للجميل، ومن أكبر الكبائر وأد البنات مخافة العار والحاجة، لأنه يدل على عدم الرضا بالله وبقضائه، وعدم الثقة في تكفله بمخلوقاته، وفيه قتل النفس التي حرم الله قتلها، ومن المحرمات منع الحقوق وطلب ما لا يستحق، وشغل المجلس بقيل كذا، وقال فلان كذا، من الغيبة والنميمة وما لا فائدة من ذكره، وإضاعة المال وإنفاقه في غير وجهه المشروع.
-[المباحث العربية]-
(عقوق الأمهات) أصل العقوق القطع كأن العاق لأمه يقطع حقوقها.
(وأد البنات) دفنها حية وكان من أفعالهم في الجاهلية.
(ومنع وهات)"منع" مفعول "حرم" ولم يصرف ملاحظة للإضافة فهو مضاف لمحذوف، والتقدير: حرم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، وحرم عليكم طلب ما ليس لكم أخذه، فكأنكم لا تكتفون بالانتصاف لأنفسكم، بل ولا تنصفون غيركم، وهذا من أقبح الخلال، وقيل تقديره: حرم عليكم منع الواجب من المال والأقوال والفعال، وتكليف الغير القيام بما لا يجب عليهم وقيل تقديره: حرم عليكم منع ما عندكم، فلا تتصدقون ولا تعطون، وحرم عليكم مد أيديكم للأخذ من الناس. وقال ابن التين: ضبط "ومنع" بغير ألف وصوابه "منعا" بالألف و"هات" بالكسر مبني على حذف الياء بناء على الصحيح من أنه فعل أمر، وعلى الكسر بناء على أنه اسم فعل بمعنى أعط.
(وكره لكم قيل وقال) فعلان، الأول مبني للمجهول، والتقدير: قيل كذا وقال فلان كذا، وهما مبنيان على أنهما فعلان، مع أنهما مفعول "كره" مقصودا حكايتهما، والمعنى: نهى عن فضول ما يتحدث به الجالسون من قولهم: قيل كذا وقال فلان كذا.
-[فقه الحديث]-
مناسبة الحديث للباب قوله "وإضاعة المال" وسيأتي بيانه، وقد تعرض الحديث إلى رعاية الأصول والفروع والمتعاملين والأموال فقال: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، وكذلك عقوق الآباء، وإنما خص الأمهات بالذكر لأن العقوق إليهن أسرع من الآباء لضعف النساء. وللتنبيه على أن بر الأم يقدم على بر الأب في التلطف والحنو ونحو ذلك. ولأن ذكر أحدهما يدل على الآخر، فهو من قبيل تخصيص الشيء بالذكر إظهارا لتعظيم موقعه، والنهي عن القيل والقال إنما يصح في قول ما لا ينبغي ولا يعلم حقيقته. أما
من حكى ما صح وما يعرف حقيقته، وأسنده إلى ثقة صادق فلا وجه للنهي عنه، ولا يذم، وقيل المراد به النهي عن الغيبة والنميمة فإن تبليغ الكلام من أقبح الخصال والإصغاء إليه أقبح وأفحش، أما كثرة السؤال ففي تأويله وجوه: أحدها: السؤال عن أمور الناس وكثرة البحث عنها. وثانيها: مسألة الناس من أموالهم. ثالثها: كثرة السؤال في العلم للامتحان وإظهار المراء. رابعها: السؤال عما لا يعني. خامسها: كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خشية أن يفرض ما ليس فرضا. قال تعالى:{لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وأما إضاعة المال فبصرفه في غير وجهه وحاصل ما قيل فيه. أن كثرة الإنفاق على ثلاثة أوجه: الأول: إنفاقه في الوجوه المذمومة شرعا ولا شك في منعه. كثيرا كان المال أو قليلا. والثاني: إنفاقه في وجوه الخير المحمودة شرعا. ولا شك في كونه مطلوبا بشرط ألا يفوت حقا آخر هو أهم منه.
والثالث: إنفاقه في المباحات بالأصالة كملاذ النفس، فإن كان على وجه يليق بالمنفق وبقدر ماله، فهذا ليس بإسراف، وإلا فهو إسراف على الصحيح ما لم يكن لدفع مفسدة ناجزة أو متوقعة فهذا ليس بإسراف.