الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرض السادس: الترتيب
قوله: لاسيما أن الغسل هو الأصل في حق المحدث وإنما حط عنه تخفيفًا. انتهى.
هذا التعليل قد أسقطه من "الروضة" وحاصله أن الحدث الأصغر يعم جميع البدن والمرجح اختصاصه بأعضاء الوضوء ففي "التحقيق" أنه أصح الوجهين، وفي آخر صفة الوضوء من "شرح المهذب": إنه أرجحهما، قال: وفائدة الخلاف فيما إذا اغتسل.
قوله: في "الروضة": من اجتمع عليه حدثان أكبر وأصغر فيه أوجه.
الصحيح يكفيه غسل البدن بنية الغسل وحده ولا ترتيب عليه.
والثاني: تجب نية الحدثين إن اقتصر على الغسل.
والثالث: يجب وضوء مرتب وغسل البدن.
والرابع: يجب وضوء مرتب وغسل باقي البدن. انتهى.
وهذا التعبير الذي وقع في حكاية: الرابع فاسد فإنه يجب غسل هذه الأعضاء عن الجنابة، ولا يكفى غسلها عن الوضوء ولو كان الواجب هو الوضوء لكان يكفي غسلها بنية.
والرافعي عبر بقوله: يشترط أن تكون أعضاء الوضوء مغسولة على الترتيب لأن الترتيب، من خواص الوضوء والتداخل إنما يأتي فيما يشترك فيه الشيئان، والتعبير المذكور صحيح فإنه لم يوجب وضوءًا مرتبًا بل غسلًا على ترتيب الوضوء.
قوله: فيها أيضًا: أما إذا غسل المحدث جميع بدنه فإن مكث زمنًا يأتي فيه الترتيب أجزأه على الصحيح، وإن لم يمكث أو غسل أسافله قبل أعاليه لم يجزئه على الأصح. [قلت] (1): الأصح عند المحققين الإجزاء انتهى.
(1) سقط من جـ.
واعلم أن الرافعي قد ذكر في الصورة الأولى طريقة قاطعة أنه يجزئه ولم يذكرها في "الروضة".
قوله في المسألة: هذا كله إذا نوى رفع الحدث، فإن نوى الجنابة: فوجهان أحدهما: لا يجزئه لأنه نوى طهارة غير مرتبة، وأصحهما الجواز، والنية لا تتعلق بخصوص الترتيب نفيًا وإثباتًا. انتهى.
وما ذكره من الصحة قد تابعه في "الروضة" على إطلاقه وهو مشكل بل ينبغي عدم الصحة عند التعمد، كما إذا نوى رفع حدث ليس عليه بل أولى.
وقد رأيت في "شرح فروع ابن الحداد" للقاضي الحسين وفي "التهذيب" للبغوي تصوير المسألة بذلك فتعين ما ذكرته.
قوله: والوضوء الذي جوز صاحبه أن يكون حدثه أكبر كما إذا خرج منه بلل واحتمل أن يكون منيًا وأن يكون مذيًا ففيما يلزمه ثلاثة أوجه.
أصحها أنه يتخير بين أن يغتسل أخذًا بأنه مني وبين أن يتوضأ ويغسل الثوب أخذًا بأنه مذي؛ لأنه إذا أتى بموجب أحدهما بقى الآخر مشكوكًا فيه انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن النووي قد تابعه في "الروضة" وفي أكثر كتبه على تصحيح التخيير ثم خالف في "شرح التنبيه" المسمى "بالتحفة" وفي "رؤوس المسائل" فقال: أظهرهما أنه يجب عليه العمل بموجبهما لكن الفتوى على التخيير، فإن الأكثرين كما قاله في "شرح المهذب" ذهبوا إليه.
الثاني: ذكر الشيخ عز الدين في "القواعد الكبرى" أن الورع لا يحصل بالاغتسال وقد تقدم بسطه في الركن الأول.
وللمسألة نظائر:
منها: إذا شكت المرأة هل عليها عدة طلاق أو وفاة أو كان عليه زكاة ولم يدر أنها بقرة أو شاة أو دراهم فيلزمه الجميع، كما لو كان عليه صلاة ولم يعرف عينها فإنه يلزمه الخمس، كذا نقله الشيخ عز الدين في "القواعد" أيضًا عقب الموضع الذي تقدم نقله عنه الآن، ثم استشكله الشيخ بأن الصلوات تيقنا شغل ذمته بها وشككنا في السقط بخلاف هذا.
والإشكال الذي ذكره الشيخ صحيح ثم إنا نحتاج إلى الفرق بينه وبين مسألتنا، ولعل الفرق أن موجب الأكبر والأصغر من جنس واحد وهو الغسل فأمكن الاكتفاء بالأقل عند الاشتباه بخلاف مسألة الزكاة.
وهذا الفرق قد ذكروا مثله في اللقيط، فإن الشافعي قد نص على قولين فيما إذا قذفه قاذف ونازعه في الحرية ونص في منازعة الجاني على أن القول قول اللقيط ولهذا قال في "التنبيه" في الجنايات: فيحلف ويقتص منه، وقيل: فيه قولان كالقذف وفرق الرافعي وابن الرفعة وغيرهما بما قلناه.
ومن النظائر أيضًا: مسألة الإناء المعروفة وهي: إذا كان عنده إناء من ذهب وفضة زنته ألف، ستمائة من نوع وأربعمائة من نوع، ولم يدر أيهما الأكثر وعسر عليه التمييز بالنار والامتحان بالماء، فيجب عليه إخراج زكاة ستمائة ذهبًا وستمائة فضة، وكذلك لو تعذر عليه إحضار آلات السبك يجب عليه المجموع أيضًا؛ لأن الزكاة على الفور صرح به الرافعي نقلًا عن الإمام.
والفرق بين هذه وبين مسألة الشك في الخارج أنه في الزكاة تيقن شغل ذمته بذهب وفضة فوجب عليه أن يبرئها بيقين ولا تتيقن البراءة إلا بما قلناه بخلاف الشك في الخارج، فإن الواجب أحدهما خاصة.
قوله: ويجري هذا الخلاف يعني الأوجه الثلاثة المذكورة في المسألة المتقدمة فيما إذا أولج خنثى مشكل في دبر رجل منهما بتقدير ذكورة الخنثى
جنبان وإلا محدثان. انتهى كلامه.
تابعه في "الروضة" وفيه أمران.
أحدهما: أن الرجل المولج فيه محدث على كل حالٍ بالإخراج من دبره فينبغي أن يقال: إنه جنب ومحدث وإلا فمحدث.
فإن قيل: على تقدير ذكورة الخنثى فقد وجب على الرجل المولج فيه أكبر الأمرين فلا يجب أصغرهما.
قلنا: الأكبر يجب بالإيلاج والأصغر إنما يجب بالنزع.
والثاني: أن الأصح من تلك الأوجه هو التخيير بين الوضوء والغسل وحينئذ فيكون الأصح هو التخيير هنا أيضًا لكنه أعاد المسألة في أوائل الغسل وجزم بالوجه الثاني وهو وجوب الوضوء، واقتصر الرافعي في "الشرح الصغير" على المذكور في هذا الباب وهو القياس وجعلها قاعدة عامة فقال: ويجري هذا الخلاف في كل وضوء جوز صاحبه أن يكون حدثه أكبر ومثل بهذه المسألة.
قال رحمه الله: القول في سنن الوضوء
قوله: يسن الاستياك مطلقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"(1) ولا يكره إلا بعد الزوال للصائم خلافًا لأبي حنيفة ومالك وأحمد. انتهى.
(1) أخرجه البخاري تعليقًا (2/ 182) ووصله النسائي (5)، وأحمد (24249)، والدارمي (684)، وابن خزيمة (135) وابن حبان (1067)، والشافعي (41)، والطبراني في "الأوسط"(276)، وأبو يعلى (4598)، وابن أبي شيبة (1/ 156)، والبيهقي في "الشعب"(2118)، وفي "الكبرى"(134)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 94)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(1116) والحميدي (162) من طرق عن عائشة رضي الله عنها، وصححه الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى-.
فيه أمران أحدهما: أن النووي رحمه الله قد وافق في "الروضة" وفي أكثر كتبه على الكراهة المذكورة في حق الصائم، ورجح في "شرح المهذب" خلافه فإنه حكى قولًا آخر أنه لا يكره ثم قال: وهو المختار.
وفي كتاب الصيام عن القاضي حسين أنه يكره في الفرض ولا يكره في النفل خوفًا من الرياء بتقدير الترك.
الأمر الثاني: أن تعبيره بالصائم يقتضي أن الكراهة تزول بغروب الشمس والمسألة فيها وجهان:
أحدهما: ما ذكرناه.
والثاني: أنها تبقى إلى الفطر. كذا حكاهما في "شرح المهذب" وقال: إن الأصح هو الأول، ونقل الثاني عن الشيخ أبي حامد، ثم ذكر أيضًا في كتاب الصيام من الشرح المذكور فرعًا يقتضي موافقة الشيخ أبي حامد، فإنه قال: ذكر صاحب "البيان" أنه يكره للصائم إذا أراد أن يشرب أن يتمضمض ويمجه وكأن هذا سببه بكراهة السواك للصائم بعد الزوال لكونه مزيلًا للخلوف هذا كلامه.
ونقل في "شرح التنبيه" المسمى "بالتحفة" كلام الشيخ أبي حامد ولم يذكر غيره.
فإن قيل: ينبغي رجحان هذا لأن الخلوف من أثر الصوم فلا يزال، وإن كان بعد الوقت فالجواب أن إطلاق الصائم عليه بعد الغروب إنما هو على سبيل المجاز؛ لأنَّه اسم فاعل قد انقضى فلا يدخل في قوله عليه السلام:"لخلوف فم الصائم"(1) فإن الخلوف إذ ذاك ليس من فم الصائم حقيقة.
(1) أخرجه البخاري (1795)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحديث الذي ذكره الرافعي صحيح رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والنسائي والبيهقي في سننهما بأسانيد صحيحة وذكره البخاري في "صحيحه" في كتاب الصيام تعليقًا فقال: وقالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" وتعليقات البخاري إذا كانت بصيغة جزم كالمذكور هنا صحيحة.
والمطهرة في الحديث بفتح الميم وكسرها كل إناء يتطهر به فشبه السواك به لأنه يطهر الفم. قاله في "شرح المهذب".
قوله: لنا أنه يزيل أثر العبادة وهو خلوف الفم وأنه مشهود له بالطيب قال عليه الصلاة والسلام: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"(1) وإذا كان كذلك فيكره إزالته كدم الشهيد انتهى كلامه.
فيه أمران.
أحدهما: أن مقتضاه أن دم الشهيد يكره إزالته وليس كذلك بل هو حرام، وبتقدير أن يكون المراد وهو الحرمة على خلاف ما تقتضيه العبارة فيقال له: كيف يصح قياس المكروه على الحرام؛ لأن هذا القياس إن لم يكن صحيحًا فلا كلام، فإن كان لزم استواء المقيس والمقيس عليه في الحكم.
الثاني: أن الرافعي قد أشار بطيب دم الشهيد إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "إنهم يأتون يوم القيامة وأوداجهم تشجب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك" وحينئذ فلك أن تقول: ما الحكمة في تحريم إزالة هذا مع أن رائحته مساوية لرائحة المسك وعدم تحريم إزالة الخلوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟ والخلوف بضم الخاء هو المتغير، والحديث الذي ذكره الرافعي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة وقد وقع خلاف بين الشيخ
(1) تقدم تقريبًا.
تقي الدين ابن الصلاح والشيخ عز الدين بن عبد السلام في أن رائحة المسك للخلوف هل هي في الآخرة فقط أم في الدنيا والآخرة؟ وصنف كل منهما في ذلك تصنيفًا، ولخص النووي في "شرح المهذب" كلامهما.
فالذي قاله الشيخ عز الدين إنهما في الآخرة لأنَّه قد ثبت في مسلم "لخلوف فم الصائم عند الله يوم القيامة"(1) وقال ابن الصلاح فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم "لخلوف فم الصائم حين يخلف"(2) بفتح الياء وضم اللام روى هذه الزيادة ابن حبان في صحيحه قال: ولما روى الإمام الحافظ أبو بكر السمعاني من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال" ثم قال: "وثانيها أنهم يمسون وخلوف أفواههم عند الله أطيب من ريح المسك"(3) قال: وهو حديث حسن. ولأن المراد بكونه عند الله أطيب من ريح المسك إنما هو الثناء عليه والرضا به وهو لا يختلف، هكذا فسره خلائق لا يحصون من الشافعية والمالكية والحنفية منهم الخطابي والبغوي وأبو عثمان الصابون وأبو بكر السمعاني وأبو حفص ابن الصغار الشافعيون، وأما رواية يوم القيامة فلأنها محل الجزاء كما قال تعالى:{إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] انتهى تلخيص ما قاله ابن الصلاح.
قوله: وإنما خص بعد الزوال لأن تغير الفم بسبب الصوم حينئذ يظهر. انتهى كلامه.
وهذا المعنى الذي ذكره يلزم منه التفرقة بين من تسحر ومن لم يتحر وبين من تناول بالليل شيئًا وبين غيره، ولهذا قال الطبري في "شرح التنبيه" أو تغير
(1) صحيح مسلم (1151).
(2)
عند ابن حبان (3424).
(3)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(3603) من حديث جابر، وضعفه الألباني -رحمه الله تعالى-.
فمه بعد الزوال بسبب آخر كنوم أو وصول شيء كريه الريح إلى فمه فاستاك لذلك لم يكره.
قوله: ويتأكد في مواضع عند الوضوء والصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم["لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (1) ومنها تغير النكهة وكان صلى الله عليه وسلم](2)، إذا استيقظ استاك وروى:"يشوص فاه بالسواك"(3)، ومنها قراءة القرآن واصفرار الأسنان وإن لم يحصل في الفم تغير. انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن النووي في "الروضة" قد زاد على هذه الأمور دخول المنزل والاستيقاظ من النوم للحديث الصحيح لكن الاستيقاظ قد ذكره الرافعي عند أسباب التغير كما نقلناه عنه واستدلاله بالحديث يشعر بأن النظر إلى المظنة لا إلى وقوع التغير حقيقة فاعلمه، وزاد في "الرونق" إرادة النوم.
الأمر الثاني: أن لفظ الصلاة لا يتناول سجدة التلاوة والشكر كما صرح به الرافعي في الأوقات المنهي عنها وفي غيره ومع ذلك فحكمهما حكم الصلاة في الشرائط والمستحبات، وحينئذ فيكون المتجه استحباب السواك لهما وكذلك للطواف أيضًا.
الأمر الثالث: أن مقتضى كلامه وقد صرح به في "شرح المهذب" أيضًا أنه لا فرق بين أن يصلي بالوضوء أو بالتيمم أو بلا طهارة بالكلية كفاقد الطهورين ولا بين أن يصلي الفرض أو النفل حتى لو أراد أن يصلي صلاة
(1) أخرجه البخاري (847)، ومسلم (252) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
سقط من جـ.
(3)
أخرجه البخاري (242)، ومسلم (255) من حديث حذيفة رضي الله عنه. يشوص: يمره على أسنانه ويدلكها به.
ذات تسليمات كالضحى والتراويح والتهجد استحب أن يستاك لكل ركعتين وإطلاقه أيضًا يقتضي أن صلاة الجنازة كغيرها وهو ظاهر.
والحديثان المذكوران رواهما الشيخان.
والفكهة ريح الفم، ويشوص بالشين المعجمة والصاد المهملة معناه يغسل وينظف قاله الجوهري.
قوله: والأحب أن يكون يابسًا لين بالماء دون ما لم يلين. انتهى.
ذكر في "الروضة" أيضا مثله وتقييده بالماء يشعر بأن هذا الاستحباب لا يحصل بالتليين بالريق وفيه نظر والمتجه حصوله وكذا غمه في ماء الورد ونحوه لاسيما عند عدم الماء ورأيت في شرح الكفاية للصيمري أنه يكره] (1) غمسه في وضوئه وأنه يستحب غسله للاستياك به ثانيًا.
قوله: نعم لو كان جزءًا منه كأصبعه الخشنة ففيه ثلاثة أوجه أظهرها لا يجزئ لأنه لا يسمى استياكًا، ثم قال: والثاني يجزئ والثالث: إن فقد غيرها أجزأ وإلا فلا. انتهى كلامه.
فيه أمور:
أحدها: أن التقييد يجزئه والتمثيل بأصبعه يؤخذ منه أن صورة المسألة في الأصبع المتصلة، فإن انفصلت وقلنا بطهارتها اتجه الإجزاء وإن كان دفنها واجبًا على الفور.
وإن قلنا بنجاستها ففي الإجزاء نظر يجري في كل آلة النجسة فلا يبعد القول بالإجزاء ووجوب غسل الفم لأجل النجاسة وإن عصى باستعمالها.
(1) سقط من ب.
الثاني: أن التقييد بذلك للاحتراز أيضًا عن أصبع غيره فإنها تجزئ قطعًا كما قاله النووي في "شرح المهذب" و"دقائق المنهاج".
والثالث: أن النووي في "الروضة" قد اختصر كلام الرافعي اختصارًا فاسدًا، فإنه حذف التقييد المذكور فقال: ولا يحصل بأصبع خشنة في أصح الأوجه وذكر مثله في "التحقيق""والفتاوى" أيضًا. فاعلم ذلك.
الرابع: أنه قد وافق في هذه الكتب على تصحيح عدم الإجزاء وخالف في "شرح المهذب" فقال المختار إجزاؤه مطلقًا، قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في "اللباب" والبغوي واختاره في "البحر" انتهى.
ورأيته مقطوعًا به أيضا في "الرونق" لأبي حامد.
واعلم أن لهذه المسألة نظائر.
منها: إذا استنجى باليد وفيه وجوه أصحها: أنه لا يجوز ولا يجزئ، وثانيها: نعم، وثالثها: يجوز في يد نفسه دون غيره، ورابعها: عكسه.
ومنها: ستر العورة باليد فإن كان بيد غيره جاز قطعًا وكذا بيد نفسه على الصحيح، ومنها: السجود على اليد وهو جائز على يد غيره قطعًا ويمتنع على يده قطعا.
ومنها: ستر الرأس باليد في الإحرام وهو جائز مطلقًا.
قوله: وفي "النهاية""والوسيط": يستحب السواك طولًا وعرضًا فإن اقتصر على إحدى الجهتين فالعرض أولى؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "استاكوا عرضًا"(1) وقال آخرون يستاك عرضًا لا طولًا. ورووا في الخبر "استاكوا عرضًا لا طولًا".
(1) أخرجه البيهقي في "الكبرى"(174) من حديث عطاء بن أبي رباح مرسلًا.
فعلى الأول لا يتعين العرض في إقامة هذه السنة وإنما هو أولى.
وعلى الثاني هو متعين. انتهى.
قلت: إن النووي في "الروضة" قد اختصر هذا الكلام كله بقوله: ويستحب أن يستاك عرضًا هذا لفظه من غير زيادة عليه فحذف أمرين:
أحدهما: المقالة الأولى وهي مقالة الإمام والغزالي.
والثاني: أن الاستياك بالعرض هل هو متعين لإقامة السنة أم لا؟ وهي مسألة مهمة.
والحديث الأول رواه أبو داود في مراسيله ولفظه: "إذا استكتم فاستاكوا عرضًا".
قوله: ولو نسى التسمية في الابتداء أتى بها في الأثناء ثم قال: فإن تركها عمدًا فهل يشرع التدارك؟ فيه احتمال. انتهى.
ذكر الرافعي في الضحايا ما يقتضي أنه يأتي بها سواء تركها عمدًا أو نسيانًا، وصرح به في "شرح المهذب" و"زيادات الروضة" فقال: قد صرح أصحابنا بالتدارك في حالة التعمد أيضًا، قال: وممن صرح به المحاملي في "المجموع" والجرجان في "التحرير" انتهى.
لكن كلام "المحرر" يدل على أنه لا يأتي بها فإن قيد الإتيان بها بالترك نسيانًا فقال: فإنه نسى في الابتداء سمى إذا تذكر في الأثناء وذكر نحوه في "الحاوي الصغير" ولفظ الشافعي في "الأم" يوافقه فإنه قال: فإن سهى عنها سمى متى ذكر إن ذكر قبل أن يكمل الوضوء هذه عبارته، وذكره كذلك أيضًا جماعات منهم الماوردي والبغوي وصاحب "البيان".
قوله: من زوائده قال أصحابنا: وتستحب التسمية في ابتداء كل أمر ذي
بال من العبادات وغيرها. انتهى.
وهذه الزيادة قد ذكرها الرافعي قبل هذا بألفاظ قلائل وعبر بلفظ، البال كما عبر به النووي مراعاة للحديث فحذفه من "الروضة" ذهولًا ثم استدركه.
قوله: ومن سننه غسل اليدين إلى الكوعين قبل غسل الوجه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في وضوئه. انتهى.
والحكم الذي ذكره صحيح والحديث ثابت في الصحيحين لكن تعبيره بقوله قبل غسل الوجه تعبير عجيب تبعه عليه في "الروضة"، والظاهر أنه إنما إذا أراد التعبير بقوله قبل المضمضة فإنه لم يتعرض لبيان وقته في غير هذا الموضع والمنقول فيه وهو الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة ما ذكرناه فلنذكره مع وقت باقي السنن المتقدمة على غسل الوجه فإن الرافعي لم يستوف ذلك وهو أمر مهم.
فنقول: قال الشافعي في "المختصر" وإذا قام الرجل إلى الصلاة من نومٍ أو كان غير متوضئ فأحب أن يسمى الله ثم يفرغ من إنائه على يديه ويغسلهما ثلاثًا ثم يتمضمض إلى آخره، هذا لفظ الشافعي وعليه جرى أئمة المذهب عند شرحهم له المتقدمون منهم والمتأخرون وعبارة الشيخ أبي حامد في "التعليق" فأما الهيئة فالتسمية أولا ثم غسل الكفين ثم المضمضة وذكر جماعة مع ذلك وقت السواك فقالوا: يبتدئ به قبل هذه الأشياء ومن هؤلاء القفال الكبير الشاشي في كتاب "محاسن الشريعة" والماوردي في "الإقناع" والغزالي في ["الوسيط"](1) فإنهم قالوا: السواك ثم التسمية ثم غسل الكفين ثم المضمضة، وذكر في "البيان" نحوه، وقد صرح الرافعي بحكم
(1) في جـ: البسيط.
المضمضة مع الاستنشاق، وصحح أن الترتيب بينهما مستحق كما سيأتى، وأما غسل اليد فلم يصرح بحكمه في الشرح بل عبارته موهمه فإنه قال: ومن سننه غسل اليد قبل غسل الوجه هذا لفظه وتبعه عليه في "الروضة" وذكر في "المحرر" ما يدل على تقديمه على المضمضة.
ولكن أهمله في "المنهاج" فقال: ومنها غسل اليدين إلى الكوعين في أول الوضوء هذه عبارة "المحرر".
وقد سبق من النص وكلام الأصحاب قريبًا ويأتيك أيضًا من الأحاديث الصحيحة ما يوافقه، وهل ذلك على سبيل الاستحقاق أو الاستحباب؟ فيه وجهان أصحهما في "الروضة": أنه على سبيل الاشتراط كذا حكاه في "شرح المهذب" وحاوله في "الروضة" فانعكس عليه كما ستعرفه.
وأما التسمية: فليس في كلام الرافعي والنووي تصريح بتقديمها على غسل اليدين ولا مقارنتها، وقد سبق من نص الشافعي المذكور وغيره أنها متقدمة ولكن المتجة أن ذلك ليس على سبيل الاشتراط بل لو قيل باستحباب المقارنة لم يبعد وهو ما اقتصر عليه في "الكفاية" ناقلا له عن بعضهم استنتاجا من كلام "التنبيه" وكأنه أراد به الشيخ تاج الدين فإنه جزم به في "الإقليد".
وأما: السواك فقد تقدم عن "الوسيط""والبيان" وغيرهما أنه متقدم على الجميع، وكلام الرافعي والنووي يشير إليه، وقال الإمام: الظاهر أنه بعد غسل الكفين وقبل المضمضة كذا ذكره في "مختصر النهاية" في باب السواك ولم يتعرض له في "النهاية" وتابعه عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" وعبر بالظاهر كما عبر ولا شك أنه أخذه منه.
ويدفعه ما رواه مسلم في "صحيحه"(1) عن ابن عباس أنه بات عند نبي الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم من آخر الليل فنظر إلى السماء من آخر الليل ثم تلا هذه الآية في آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} (2) حتى بلغ {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ثم رجع إلى البيت فتسوك وتوضأ، ثم قام فصلى ثم اضطجع ثم قام فخرج فنظر إلى السماء فتلا هذه الآية ثم رجع فتسوك فتوضأ ثم قام فصلى.
قوله: ثم من يدخل يديه في الإناء ولم يتقين طهارتهما يكره له ذلك قبل الغسل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده (3).انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن تعبيره بقوله: ولم يتيقن طهارتها يدخل فيه أربعة أقسام وهي تيقن النجاسة وظنها وتوهمها واستواء الأمرين. ودخولها صحيح إلا القسم الأول؛ لأن إدخال اليد عند تيقن النجاسة مفسد للماء وحينئذ فيكون استعماله محرمًا لا مكروهًا، فإن المراد كراهة الإدخال عند إرادة الاستعمال بلا شك، فإن لم يرد استعماله فيكون شبيهًا بالبول في الماء القليل وسيأتي حكمه في باب الاستنجاء.
الأمر الثاني: وقد سبق في الطهارة: أن الماء إذا طهر إحدى اليدين فإنه لا يجوز نقله إلى تطهر الأخرى على المعروف، وإذا استحضرت ما قالوه وجدته هنا شيئًا يقع فيه كل مغترف ولا يمر بالبال فتأمله، ولا أظن أحدًا هنا
(1) حديث (256).
(2)
سورة آل عمران (190).
(3)
أخرجه البخاري (160)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يوجد: ما تقتضيه تلك المقالة، وحينئذ فيكون مخالفًا له والصواب ما دل عليه كلامهم هنا.
الأمر الثالث: هذه الغسلات هي الثلاث الندوبة في أول كل وضوء، ولكن طلب تقدمها على الغمس عند الشك، كذا صرح به جماعات منهم البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وفي كلام الرافعي أيضًا إشعار به.
الأمر الرابع: إنما قال في الإناء ليحترز عن البركة ونحوها والراد إناء فيه دون قلتين بلا شك وقد نبه عليه في "الدقائق".
نعم الماء وإن كثر فحكمه حكم الماء القليل.
الأمر الخامس: أن استدلال الرافعي بالحديث المذكور يشعر بأن الكراهة لا تزول إلا بالغسل ثلاث مرات، والأمر كذلك، فقد نص عليه الشافعي في البويطي فقال: فين لم يغسلها إلا مرة أو مرتين أو لم يغسلها أصلًا حين أدخلهما في وضوئه فقد أساء. هذا لفظه بحروفه ومن البويطي نقلته.
وجزم به في "الروضة" فقال: نص عليه البويطي وصرح به الأصحاب للحديث الصحيح.
واعلم أن التقييد بالثلاث رواه مسلم، وأما البخاري فروى الحديث بدون هذه الزيادة.
قوله: فإن تيقن طهارة يديه فهل يكره له الغمس قبل الغسل؟ فيه وجهان: أظهرهما لا بل يتخير بين تقديم الغمس وتأخيره. انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن هذا الكلام يشكل على ما سبق عن البويطي والأصحاب، فإنه إذا غسل مرةً أو مرتين فقد تيقن طهارة يده، وقد قالوا: إذا تيقن طهارة اليد لا يكره الغمس على الصحيح بالجمع بين عدم الكراهة عند
المتيقن وبين بقاء الكراهة إلى التثليث كيف يصح وليس عنه جواب شاف.
الأمر الثاني: بل يتخير بين تقديم الغمس وتأخيره أشار به إلى مسألة حسنة، وهو أنه كما لا يكره الغمس قبل الغسل عند تيقن الطهارة على الصحيح لا يستحب له أيضًا في هذه الحالة تقديم الغسل على الغمس ويباح له ما يشاء؛ لأنه أضرب عن المكروه [وجعله مخيرًا فامتنع أن يكون التخيير في أصل الجواز لأن المكروه](1) أيضا جائز فتعين ما قلناه من إرادة الإباحة، وقد صرح النووي في "تصحيح التنبيه" بهذه المسألة وحكى فيها وجهين وصحح عدم الاستحباب كما قلناه.
وأسقط النووي هذه المسألة من كلام الرافعي لظنه أن الكلام المذكور لا فائدة له ولم يذكرها أيضًا من زوائده، وذكر قريبًا من ذلك في "شرح المهذب" وأما في "التحقيق" فذكر خلافًا واحدًا ولم يبين هل هو خلاف في الكراهة أو الاستحباب فتلخص أنه لم يصرح بهذه المسألة إلا في "تصريح التنبيه".
الأمر الثالث: أن النووي قد ذكره في "تصريح التنبيه" أنه إذا تيقن الطهارة لا يكره الغمس بلا خلاف، فإنه عبر بالصواب وقد اصطلح في خطبة الكتاب على أنه يعبر بالصواب حيث لا خلاف ودعوى عدم الخلاف غريب فإنه مشهور لاسيما أنه عبر عنه في "الروضة" بالأصح وقد اصطلح فيها على أن الأصح من الخلاف القوي.
وفي "الحاوي" أن الصحيح من المذهب الذي عليه الجمهور استحباب تقديم الغسل عند تيقن الطهارة، وذكر في النهاية نحوه أيضًا.
قوله: والمضمضة والاستنشاق مستحبان ثم أصل الاستحباب يتأدى بإيصال الماء إلي الفم والأنف، سواء كان بغرفة واحدة أم أكثر، انتهى كلامه.
(1) سقط من أ.
تابعه في الروضة على تفسير المضمضة والاستنشاق بما ذكره وهو يقتضي أمرين:
أحدهما: أن إدارة الماء في فيه ليست بشرط وهو أصح الوجهين في "زوائد الروضة" لكن نص الشافعي على أنها تشترط كذا حكاه في "البيان" عن الشيخ أبي حامد.
الثاني: أن مج الماء لا يشترط حتى يحصل ذلك مع ابتلاعه، وبه صرح القاضي أبو الطيب والمتولي وجزم به النووي في "شرح المهذب" وفي كلام جماعة ما يشعر باشتراطه وجذب الماء بالنفس إلى الفم ثم تثره كالإدارة والمج في المضمضة، [وذكر العلماء من فوائد غسل الكفين والمضمضة](1) والاستنشاق أولًا معرفة أن الأوصاف الثلاث التي للماء وهي اللون والطعم والرائحة هل تغيرت أم لا؟ .
قوله: وأصح القولين وبه قطع بعضهم: أن الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل من الجمع لما روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق (2). ورواه عثمان وعلي رضي الله عنهما كذلك ولأنه أقرب إلى النظافة، فعلى هذا يأخذ غرفة يتمضمض منها ثلاثًا وأخرى يستنشق منها ثلاثًا لأن عليًا رواه كذلك، وقيل: يفعلهما بست غرفات انتهى ملخصًا.
ومصرف بصاد مهملة مفتوحة ثم راء مشدودة مكسورة بعدها فاء وحديثه رواه أبو داود ولم يضعفه (3)، فيكون حجة عنده وأما رواية ذلك
(1) سقط من جـ.
(2)
أخرجه أبو داود (139)، والطبراني في "الكبير"(19/ 181) حديث (410)، والبيهقي في "الكبرى"(235) من حديث طلحة عن أبيه عن جده ضعفه يحيى القطان، وابن حبان، وأحمد، وابن مهدي، وأحمد، وابن حجر، والألباني.
(3)
قلت: قال مسدد: فحدثت به يحيى -يعني القطان- فأنكر، قال: أبو داود سمعت أحمد يقول: إن ابن عيينة كان ينكره ويقول: أيش هذا طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده. =
عن عثمان وعلي فرواها ابن السكن في كتابه المسمى "بالسنن الصحاح المأثورة"، وأما الرواية الأخيرة عن على فأنكرها ابن الصلاح.
قوله: وإن قلنا بالجمع ففي كيفيته وجهان أصحهما أنه يأخذ غرفة يتمضمض بها ويستنشق ثم ثانية كذلك ثم ثالثة كذلك، روى ذلك عن عبد الله بن زيد.
ثم قال: والثاني أنه يأخذ غرفةً واحدة يتمضمض منها ثلاثا ويستننشق ثلاثًا وعلى هذا وجهان.
أحدهما يخلط فيتمضمض ويستنشق مرة بما معه ثم يفعل ذلك ثانيًا وثالثًا.
والثاني يقدم المضمضة على الاستنشاق. انتهى ملخصًا.
فيه أمران:
أحدهما: أن المرجح من هذين الوجهين الأخيرين هو الخلط كذا رجحه الرافعي في "الشرح الصغير" فقال أحسنهما أنه يخلط وصحح النووي في "الروضة" الوجه الثاني منهما وهو تقديم المضمضة ولم ينبه على أنه من زياداته بل أدخله في كلام الرافعي فتفطن له.
الأمر الثاني: أن تفريع هذين الوجهين أعني الأخيرين على قول الجمع ذكره أيضًا في "الشرح الصغير" وهو تفريع فاسد فإن الأخير منهما وهو تقديم المضمضة من تفاريع قول الفصل [(1) وهو إنما يفرع على قول الجمع وقد تبعه النووي في "الروضة" على ذلك وزاد فصححه كما تقدم، وما
= ومثل هذا من أبي داود يُعد تضعيفا للحديث المذكور.
وقال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات": اتفق العلماء على ضعفه.
(1)
بداية سقط كبير من ب.
نقله الرافعي عن عبد الله بن زيد من كونه يفصل بثلاث غرفات. رواه عنه البخاري في "صحيحه"(1)، وأما أصل الجمع فرواه عنه الشيخان.
قوله: فالمبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثاث ويمر الأصبع عليها وتصعيد ماء الاستنشاق بنفسه إلى الخيشوم مع إدخاله الإصبع وإزالة ما هناك من أذى. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن النووي في "الروضة" قد أسقط اللثاث.
الثاني: أنه قيد الأصبع المذكور [ثانيًا باليسرى](2).
قوله: لكن لو كان صائمًا لا يبالغ فيهما كيلا يصل الماء إلى الدماغ والبطن، وقد روى عن لقيط بن صبرة قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء فقال: "أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"(3) انتهى.
لم يبين الرافعي ولا النووي في "الروضة" هنا حكم المبالغة والحالة هذه هل هي حرام أو مكروهة؟ والصحيح كراهتها كذا جزما به في كتاب الصيام في الكلام على ما إذا بقى بين أسنانه طعام وجزم به هنا النووي في "شرح المهذب" وحكى ابن الرفعة فيه وجهين من غير ترجيح.
أحدهما: أنهما مكروهة، وعزاه إلى البندنيجي وابن الصباغ.
(1) حديث (184).
(2)
سقط من أ.
(3)
أخرجه أبو داود (142)، والترمذي (785)، والنسائي (114)، وابن ماجه (448)، وإبن حبان (1087)، والحاكم (525) من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الألباني: صحيح.
والثاني: أنها محرمة وعزاه إلى كتاب الصيام من تعليقة القاضي أبي الطيب.
ولقائل أن يقول: ما الفرق على الصحيح هنا بينه وبين القبلة إذا خشى الإنزال؟ فإن الأصح تحريمها مع أن العلة في كل منهما هو خوف الفساد.
ولقيط بلام مفتوحة مكسورة قاف مكسورة ثم ياء بنقطتين من تحت وصبره بصاد مهملة مفتوحة بعدها باء موحدة وصبرة جده فإنه لقيط بن عامر بن صبرة العقيلي يكنى أبا رزين، وحديثه هذا رواه الترمذي في كتاب الصيام وقال: إنه حسن صحيح، ورواه أيضًا أبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة.
قوله: قلنا: ورد في رواية الرُّبيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه مرتين (1). انتهى.
الرُّبيع بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء المكسورة، ومعوذ بضم الميم وفتح العين وتشديد الواو وبالذال المعجمة، وهو معوذ ابن عفراء وحديثها هذا رواه البيهقي وضعفه، فإنه من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف عند أكثر أهل الحديث.
قوله: وما لا يجب إيصال الماء إلى باطنه ومنابته من شعر الوجه يستحب تخليله، وعن المزني أن التخليل واجب ورواه ابن كج عن بعض الأصحاب فإن أراد المزني فتفرداته لا تعد من المذهب إذا لم يخرجها على أصل الشافعي. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن مراد قائل هذا كما قال في "الروضة": إنما هو وجوب
(1) أخرجه أبو داود (126) والترمذي (33) وابن ماجه (438)، وأحمد (27063)، والطبراني في "الكبير"(24/ 267) حديث (675).
قال الترمذي: حسن.
وقال الألباني: حسن.
إيصال الماء إلى المنبت.
الأمر الثاني: أن الرافعي قد ذكر في حق المزني في كتاب الخلع ما يخالف هذا فقال في الباب الثاني عنه نقلًا عن الإمام من غير مخالفة له ما نصه: وأرى كل اختيار للمزنى تخريجًا فإنه لا يخالف أصول [أصول الشافعي لا كأبي يوسف ومحمد فإنهما يخالفان أصول](1) صاحبهما انتهى.
وقد أسقط النووي هذين الموضعين فلم يذكرها في "الروضة" وقد رأيت في "النهاية" وكأنه في نواقض الوضوء عكس، ما نقله الرافعي في الخلع عنه فقال إن خرج يعني المزني فتخريجه أولى من تخريج غيره، وإلا فالرجل صاحب مذهب مستقل وقد تقدم التنبيه على ذلك في ترجمة المزني.
قوله: في أصل الروضة ولو لم يرد نزع ما على رأسه من عمامة أو غيرها مسح ما تحت الرأس ويسن تتميم المسح على العمامة. انتهى كلامه.
والمراد بقوله: ولو لم يرد ذكره الشيخ في "المهذب" فتابعه النووي في شرحه له ثم عبر به في "الروضة" ومقتضاه أنه لا فرق في ذلك بين أن يعسر عليه تنحية ما على رأسه أم لا، والذي جزم به الرافعي أن محله عند العسر فقال: ولو عسر عليه تنحية ما على رأسه من عمامة وغيره إلى آخره هذه عبارته.
وذكر نحوه في "المحرر""والشرح الصغير""والمنهاج" وكذلك في "الكفاية" فقال: لو كان به أذىً منعه من الاستيعاب إلى آخره.
قوله: أيضًا في "الروضة": ولا يكفي الاقتصار على العمامة قطعًا انتهى كلامه.
وما ادعاه من عدم الخلاف ليس كذلك، فقد رأيت في "البحر" عن محمد بن نصر المروزي من كبار أصحابنا أنه يكفي سواء أوضع العمامة علي طهر أم لا ولم يتعرض الرافعي لعدم الخلاف.
(1) سقط من أ.
قوله: في الكلام على مسح الأذنين والأحب في إقامة هذه السنة أن يدخل مسبحته في صماخيه ويديرهما على المعاطف ويمر إبهاميه على ظهورهما ثم يلصق كفيه وهما مبلولتان بالأذنين استطهارًا. انتهى كلامه.
وما ذكره من الكيفية المحبوبة قد أسقطها جميعها من "الروضة".
واعلم أن الرافعي قد ذكر قبل ذلك بقليل أنه يستحب مسح الصماخين بماء جديد، ثم ذكر هذه الكيفية فكأنه أراد أنها جامعة لجميع ما سبق وإلا لزم مسح الصماخين ست مرات.
قوله: ومن المستحبات مسح الرقبة روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مسح الرقبة أمان من الغُلّ"(1) وهل هو سنة أم أدب؟ فيه وجهان، والسنة والأدب مشتركان في أصل الاستحباب. لكن السنة تأكد شأنها والأدب دون ذلك انتهى.
الصحيح عند الرافعي: أنه سنة كذا صححه في "الشرح الصغير".
واعلم أن النووي قد خالف في أصل الاستحباب فقال من زوائده: ذهب كثيرون من أصحابنا إلى أنها لا تمسح؛ لأنه لم يثبت فيها شيء، ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الأصحاب وهذا هو الصواب انتهى.
واعلم أن مقتضى كلام الحموي أن فيه قولين وأن الجديد منهما عدم استحبابه، فإنه قال: هذا مع أن مسح الرقبة ليس سنة على الجديد. هذه عبارته في كتاب المسمى "بإزالة التمويه في مشكل التنبيه".
(1) قال الحافظ: هذا الحديث أورده أبو محمد الجويني وقال: لم يرتض أئمة الحديث إسناده فحصل التردد في أن هذا الفعل هو سنة أو أدب.
وتعقبه الإمام بما حاصله: إنه لم يجر للأصحاب تردد في حكم مع تضعيف الحديث الذي يدل عليه وقال القاضي أبو الطيب: لم ترد فيه سنة ثابته.
وقال القاضي حسين: لم ترد فيه سنة.
وقال الفوراني: لم يرد فيه خبر.
وأورده الغزالي في "الوسيط" وتعقبه ابن الصلاح فقال: هذا الحديث غير معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو من قول بعض السلف.
وقال النووي في "شرح المهذب": هذا حديث موضوع ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد فى موضع =
والغُل بضم الغين، والحديث المذكور موضوع كما قاله في "شرح المهذب".
قوله في "الروضة": الثالثة عشرة: تخليل أصابع الرجلين بخنصر يده اليسرى من أسفل الرجل مبتدئًا. بخنصر الرجل اليمنى وخاتمًا. بخنصر اليسرى وقيل: يخلل ما بين كل أصبعين من أصابع يده ويبقى الإبهامان انتهى.
ما ذكره من استحباب التخليل. بخنصر اليد اليسرى قد خالفه في "شرح المهذب" فإنه حكى فيه ثلاثة أوجه.
أحدها: هذا.
والثاني: عن القاضي أبي الطيب أنه بخنصر يده اليمنى.
والثالث: قاله الإمام إنهما سواء ثم قال: وما قاله [الإمام هو الراجح المختار وذكر في "التحقيق" أيضًا أنه المختار.
قوله: ] (1) معظم الأئمة ذكروا التخليل في أصابع الرجلين وسكتوا عنه في اليدين لكن قال ابن كج: إنه يستحب فيهما وفي جامع أبي عيسى الترمذي
= آخر: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو سنة بل بدعة ولم يذكره الشافعي ولا جمهور الأصحاب وإنما قاله ابن القاص وطائفة يسيرة وتعقيه ابن الرفعة بأن البغوي من أئمة الحديث وقد قال باستحبابه ولا مأخذ لاستحبابه إلا خبر أو أثر؛ لأن هذا لا مجال للقياس فيه. انتهى كلامه. ولعل مستند البغوي في استحباب مسح القفا ما رواه أحمد وأبو داود من حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق.
وإسناده ضعيف وكلام بعض السلف الذي ذكره ابن الصلاح يحتمل أن يريد به ما رواه أبو عبيد في كتاب الطهور عن عبد الرحمن بن مهدي عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن موسى بن طلحة قال: من مسح قفاه مع رأسه وقي الغل يوم القيامة.
قلت: فيحتمل أن يقال: هذا وإن كان موقوفا فله حكم الرفع؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأى فهو على هذا مرسل. انتهى كلام الحافظ.
(1)
سقط من جـ.
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك" انتهى كلامه.
كذا نقل في "الروضة" مثله ومقتضى كلام "المنهاج" استحباب التخليل فيهما وصرح به في "الدقائق".
والحديث المذكور رواه الترمذي وقال: إنه حسن [وقال في "علله": سألت عنه البخاري فقال: إنه حسن](1) ونقل في "الروضة" تحسينه عن الترمذي ولم ينبه على أنه من زوائده، بل أدخله في كلام الرافعي قوله: وإن كانت الأصابع ملتحمة لم يجب فتقها ولا يستحب انتهى كلامه.
وهو يوهم جواز الفتق وليس كذلك وقد استدركه عليه في "الروضة".
قوله: قال في القديم: الموالاة [واجبة لأنه عليه الصلاة والسلام توضأ على سبيل الموالاة](2)، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به؛ ولأنه عبادة ينقضها الحدث فتعتبر فيها الموالاة كالصلاة وفي الجديد إنها سنة لما روي أن رجلًا توضأ وترك لمعةً في عقبة فلما كان بعد ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل ذلك الموضع (3) ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن قدر المدة وعن ابن عمر أنه كان يتوضأ في سوق المدينة فدعى إلى جنازة وقد بقى من وضوئه فرض الرجلين [فذهب معها إلى المصلى ثم مسح على خُفَّيه ولأن أفعال الوضوء](4) يجوز أن يتخللها الزمان اليسير، وكذلك الزمان الكبير بخلاف الصلاة. انتهى.
واعلم أن القياس الأول ينتقض بالطواف والقياس الأخير ينتقض بالأذان والحديث الأول بعض حديث طويل أخرج أصله ابن ماجه وغيره وضعفه البيهقي، والحديث الثاني المعروف منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإعادة الوضوء كذا رواه الإمام أحمد وقال: إسناده جيد وأبو داود والبيهقي وزاد: وأد الصلاة.
(1) سقط من أ.
(2)
سقط من أ.
(3)
سقط من أ.
(4)
سقط من جـ.
وأما الأمر بإعادة المتروك خاصة فنقله في "شرح المهذب" موقوفًا على ابن عمر والقصة عن ابن عمر قال البيهقي: إنها صحيحة ونقلها في "البيان" عن ابن عمر] (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: والتفريق الكثير أن يمضي من الزمان ما يجف المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص وقيل: يؤخذ الكثير والقليل من العادة، وقيل: إذا مضى قدر ما يمكن إتمام الطهارة فقد كثر التفريق. انتهى.
اعلم أن الرافعي قد قال في الباب السادس في السجدات: وأما ضبط طول الفصل فيحتاج إليه هنا، وفيما إذا تيقن أنه ترك ركنًا وذكره بعد السلام وفي قدره قولان:
أظهرهما: يرجع إلى العرف.
والثاني: ما يزيد علي ركعةٍ ولنا وجه أن الطويل قدر الصلاة التي هو فيها انتهى.
وقال في الحج: إن التفريق الكثير لا يضر الطواف في أصح القولين ثم قال: قال الإمام: والكثير هو ما يغلب على الظن تركه الطواف هذا كلامه من غير زيادة عليه.
والقياس أن يأتي في كل باب ما أمكن إتيانه مما قيل في غيره.
قوله: الرابعة عشرة: أن يحافظ على الدعوات الواردة في الوضوء فيقول في غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حسابًا يسيرًا، وعند غسل اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وروي اللهم: احفظ رأسي وما حوى وبطني وما وعى، وعند مسح الأذنين اللهم اجعلني من القوم الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل الرجلين: اللهم ثبت قدمي على
(1) أخرجه أبو داود (175) وأحمد (15534) والبيهقى في "الكبرى"(396).
قال الشيخ الألبانى: صحيح.
صراطك يوم تزل الأقدام. ورد بها الأثر عن السلف الصالحين. انتهى.
اعترض عليه في "الروضة" فقال: قلت: هذا الدعاء لا أصل له ولم يذكره الشافعي والجمهور والله أعلم.
وما ادعاه من كونه لا أصل له ذكره أيضًا في "شرح المهذب""والمنهاج" وغيرهما وليس كذلك، فقد روى من طرق.
منها: عن أنس أنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه إناء من ماء فقال لي: "يا أنس ادن مني أعلمك مقادير الوضوء" فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أن غسل يديه قال: "بسم الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله" فلما استنجى قال: "اللهم حصن فرجي ويسر لي أمري" فلما أن تمضمض واستنشق قال: "اللهم لقني حجتي ولا تحرمني رائحة الجنة" فلما أن غسل وجهه قال: "اللهم بيض وجهي يوم تبيض الوجوه" فلما أن غسل ذراعيه قال: "اللهم أعطني كتابي بيمينى" فلما أن مسح بيده على رأسه قال: "اللهم غشنا برحمتك وجنبنا عذابك" فلما أن غسل قدميه قال: "اللهم ثبت قدمي يوم تزول فيه الأقدام" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي بعثني بالحق نبيًا ما من عبد قالها عند وضوئه لم يقطر من خلال أصابعه قطرة إلا خلق الله منها ملكًا يسبح الله تعالى بسبعين لسانًا يكون ثواب ذلك التسبيح له إلى يوم القيامة" رواه ابن حبان في "تاريخه"(1) في ترجمة عباد بن صهيب (2).
وقال أبو داود فيه: إنه صدوق قدري، وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب، وفي هذا الحديث ذكر أصل الدعاء وإن كان مخالفًا في الكيفية لبعض ما في "المحرر"، وهمزة أعطني للقطع لا للوصل وقدمي بتشديد الياء على التثنية.
(1) المجروحين (2/ 165).
(2)
أورده ابن حبان في ترجمة عباد بن صهيب ثم قال: كان قدريًا داعيًا إلى القدر، ومع ذلك يروى المناكير عن المشاهير التي إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع ثم ذكر هذا الأثر ليؤكد ما ذهب إليه.
وعباد هذا قال فيه البخاري والنسائي: متروك لكن نسأل الله تعالى السلامة من التعصب.
قوله في "الروضة": الخامسة عشرة: ترك الاستعانة وهل تكره؟ فيه وجهان انتهى.
فيه أمور:
أحدها: أن الرافعي قد صحح في الشرحين الكبير والصغير عدم الكراهة وعبر فيهما بالأظهر ولم ينقله عنه في "الروضة" بل حذف التصحيح المذكور ثم ذكره من "زياداته" وهو في غاية الغرابة.
الثاني: أن مقتضى هذا الكلام اختصاص ذلك بما إذا طلب المتوضئ الإعانة حتى لو أعانه غيره وهو ساكت لا يكون خلاف الأولي فإن الشيء للطلب ولهذا لو حلف لا يستخدمه فخدمه ساكتًا لا يحنث وهذا مخالف لما يقتضيه كلام الرافعي فإن عبارته الخامسة ألا يستعين في وضوئه بغيره. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا لا أستعين على وضوئي بأحد"(1) قاله لعمر رضي الله عنه وقد بادر ليصب الماء على يديه، ولأنه نوع من التنعم والتكبر وذلك لا يليق بحال المتعبد، والأجر على قدر النصب، وهل تكره الاستعانة؟ وجهان:
أظهرهما: لا. لأنه عليه الصلاة والسلام قد استعان بأسامة والربيع بنت معوذ، وكذلك بالمغيرة لأجل جبة ضيقة الكمين انتهى. فاستدلاله بالحديث والمعني يدلان على أنه لم يرد بالاستعانة حقيقتها وإنما أراد الاستقلال بالأفعال.
الثاني: أن الاستعانة بأسامة والمغيرة ثابتة في الصحيحين (2) لكن دعواه أن الاستعانة بالمغيرة لأجل ضيق الجبة تبع فيه الإمام والغزالي، وقد أنكر ابن الصلاح عليهما ذلك وقال: إن الثابت في الصحيحين أنه كان لابسها لكن لم يستعن لأجلها، فإنه استعان في غسل وجهه به فلما انتهى إلى غسل يديه ضاقت كماه، فلم يستطع أن يخرج يديه منهما فأخرجهما من أسفل
(1) قال النووي في "المجموع": هذا حديث باطل لا أصل له.
(2)
البخاري (356)، ومسلم (274) من حديث المغيرة.
الجبة وغسلهما. هذا كلامه.
وأما الاستعانة بالربيع فرواه الشافعي وأبو داود والترمذي (1). قال ابن الصلاح: وهو حسن.
والرُّبيع بضم الراء على التصغير، وأما حديث عمر فرواه البزار بإسناد ضعيف.
الثالث: أن الخلاف كما قاله في "الروضة" محله فيما إذا استعان بمن يصب عليه، فإن استعان في غسل الأعضاء كره قطعًا وإن استعان في إحضار الماء فلا بأس ولا يقال: إنه خلاف الأولى ثم قال: وحيث كان له عذر فلا بأس وتعبيره آخرًا بقوله فلا بأس ليس بجيد، فقد ذكر قبل ذلك من زوائده أن من لا يقدر على الوضوء إلا بالاستعانة كالأقطع فإنه يجب عليه أن يستعين ولو بأجرة المثل فإن لم يجد صلى وأعاد.
قال في "الكفاية": ولابد أن تكون الأجرة فاضلة عن قضاء ديونه وعن كفايته وكفاية من تلزمه كفايته ليومه وليلته.
قوله: الثانية هل يستحب ترك التنشيف؟ فيه وجهان:
أظهرهما: نعم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينشف أعضاءه وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا فيغتسل ثم يخرج إلى الصلاة ورأسه يقطر ماء (2).
والثاني: لا يستحب ذلك، وعلى هذا فقيل: لا يستحب التنشيف أيضًا، وقد روى عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم التنشيف وتركه وكل حسن ولا ترجيح ومنهم من قال: يستحب التنشيف لما فيه من الاحتراز عن التصاق الغبار وإذا
(1) تقدم والبخارى (179)، ومسلم (1280) من حديث أسامة.
(2)
أخرجه أحمد (24473) بسند صحيح.
قلنا باستحباب الترك ففي كراهته ثلاثة أوجه:
أظهرها: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل فأتى ملحفة ورسية فالتحف بها حتي رؤى أثر الورس في عكنه (1).
والثاني: نعم لأنه إزالة أثر العبادة فأشبه إزالة الخلوف عن فم الصائم.
والثالث: حكى عن القاضي الحسين أنه إن كان في الصيف كره وإن كان في الشتاء لم يكره لعذر البرد. انتهى كلامه.
فيه أمور:
الأمر الأول: فيما صدر به كلامه هل هو صوابه النشف على وزن الضرب أو التنشيف على وزن التكريم.
[والجواب](2) أن المعروف في كتب اللغة إنما هو الأول وأن فعله مخفف مكسور على وزن علم. قال الجوهري: نشف الثوب العرق بالكسر، ونشف الحوض الماء تنشفه تنشيفًا شربه وينشفه كذلك، وأرض نشفة بينة النشف بالتحريك إذا كانت تنشف الماء، وقال في "ديوان الأدب" في باب فعل يفعل بكسر العين في الماضي وفتحها من المضارع من كتاب السالم: نشف الثوب العرق أى شربه، وضبطه الهروي في الغربين بنحوه وقال المطرزي في المغرب: نشف الماء أخذه من أرض بخرقة أو غيرها من باب ضرب ومنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها إذا توضأ (3)، وبهذا صح قوله
(1) أخرجه أبو داود (5185)، وابن ماجه (466) و (3604)، وأحمد (23895)، والطبراني في "الكبير"(18/ 349) حديث (899)، وأبو يعلى (1435)، وابن أبي شيبة (5/ 161)، والبيهقي في "الكبرى"(843)، وابن سعد في "الطبقات"(1/ 451)، والنسائي في "الكبرى"(10156) وفي "عمل اليوم والليلة"(324) من حديث قيس بن سعد بسند ضعيف.
(2)
في أ: اعلم.
(3)
أخرجه الترمذي (53)، والحاكم (550)، وابن عدي في "الكامل"(3/ 251) =
في غسل الميت ثم ينشفه بثوب أى ينشف ماءه حتى يجف، وينشف الثوب العرق يشربه من باب ليس هذا كلامه، وضبطه ابن الأَثير في "النهاية" بالتجفيف أيضًا لكنه لم يبين هل هو بالكسر أو الفتح، وقال القاضي عياض في "المشارق": نشف الماء ونشفته أنا بكسر الشين سواء هذا لفظه.
فالكل متفقون على التجفيف وإن اختلفوا بالنسبة إلى الكسر أو الفتح فإن قيل: المخفف المتعري يجوز تشديده للمبالغة فهل يصح ذلك هنا؟ قلنا: لا؛ وذلك لأنه يلزم منه أن يكون المستحب تركه إنما هو المبالغة في التنشيف لا تركه أصلا وليس كذلك.
الأمر الثاني: أن الملحفة بكسر الميم مأخوذة من الالتحاف، وأما الورسية فقد وقع في رواية البيهقي بواو مفتوحة ثم راء ساكنة ثم سين مكسورة ثم ياء مشدودة والذي جزم به الجوهري وغيره من أهل اللغة بخلافه فقالوا ملحفة ورسية بكسر الراء وبعدها ياء ساكنة ثم سين مفتوحة ثم هاء -أي مصبوغة بالورس- وهو نبت أصفر يصبغ به يخرج من شجر باليمن والعكن بفتح الكاف جمع عكنة بسكونها هو الانطواء في البطن ويعكن الشئ إذا ركن بعضه على بعض.
الأمر الثالث: أن ما ذكره من الخلاف محله إذا لم يكن له حاجة إلى التنشيف بحرٍ أو بردٍ أو التصاق نجاسة، فإن كان فلا كراهة قطعًا، قال في "شرح المهذب": ولا يقال أيضًا: إنه خلاف المستحب.
الأمر الرابع: أن جميع ما ذكره الرافعي من الأَحاديث الدالة على
= من حديث عائشة رضي الله عنها.
قال الترمذي: حديث عائشة ليس بالقائم، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. وقال الألباني: ضعيف.
التنشيف وعلى عدمه ضعيفة، قال الترمذي: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء.
نعم صح حديث ميمونة وفيه إشعار باستحباب تركه، وكذلك خروجه ورأسه تقطر.
الأمر الخامس: أن النووي في "الروضة" وفي غيرها قد وافق الرافعي على استحباب ترك التنشيف ثم خالف في "شرح مسلم" فقال: الذي نختاره ونعمل به أنه مباح تركه وفعله سواء، فإن المنع والاستحباب يحتاجان إلى دليل.
قوله: الثالث ألا ينفض يديه فهو مكروه، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم فإنها مرواح الشيطان"(1) انتهى.
استدرك في "الروضة" فقال: في النقض أوجه:
الأَرجح أنه مباح تركه وفعله سواء.
والثاني مكروه.
والثالث: تركه أولى انتهى.
وهذا الذي رجحه من استواء الأمرين قال في "شرح المهذب" أنه الصحيح لكنه خالف ذلك في غيرها فصحح في "التحقيق" أنه خلاف الأولى وجزم به في "المنهاج" والفتوى على ما في "المنهاج" فقد نقله ابن كج في "التجريد" عن نص الشافعي قال: قال الشافعي: وأحب إذا توضأ ألا ينفض يديه انتهى وادعى النووي في "التنقيح" أنه لا نص فيها للشافعي وأما الحديث فقال في "شرح المهذب" إنه ضعيف لا يعرف.
(1) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(573) من حديث أبي هريرة وقال الألباني: موضوع.
فأما دعواه الضعف فمسلم، وأما عدم المعرفة فلا، فقد رواه ابن حبان في "تاريخه" وابن أبي حاتم في "علله" وضعفاه.
قوله: ويندب أن يبدأ في اليد والرجل بأطراف الأصابع ويختم بالمرفق والكعب إن كان يصب الماء عليها بنفسه وإن صب عليه غيره [بدأ بالمرفق والكعب. انتهى كلامه.
وما ذكره فيما إذا صب عليه غيره] (1).
قد تابعه عليه في "الروضة" ثم نقل ذلك في "شرح المهذب" في الكلام على غسل اليدين عن الماوردي وشيخه أبي القاسم الصيمري وأقرهما ثم نقله عنهما أيضًا في الشرح المذكور في الكلام على غسل الرجلين ثم قال: فالأكثرون على استحباب الابتداء بالأصابع وهو المختار، ونص عليه الشافعي في "الأم" فقال: وينصب قدميه ثم يصب عليهما الماء بيمينه أو يصب غيره انتهى كلامه.
وذكر نحوه أيضًا في "شرح التنبيه" المسمى بـ "التحفة" وقال: إنه الصواب وقد سوى بين المسألتين في "التحقيق" في الكلام على السنن، وقال: إنه يبدأ بأصابع يديه ورجليه ولم يفصل بين أن يصب عليه غيره أم لا، وقد ظهر أن الفتوى علي غير ما في "الشرح" و"الروضة".
قوله: وأن يقول بعد الوضوء مستقبلًا القبلة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ذكره من استحباب الاستقبال في هذا الدعاء قد أسقطه من "الروضة" وإسقاطه عجيب.
(1) سقط من أ.
الأمر الثاني: أن النووي قد زاد في "الروضة" لفظة "أشهد" مع قوله: وأن محمدًا فقال: وأشهد أن محمدًا وزادها أيضًا الرافعي في "المحرر".
والدعاء المذكور روى أوله مسلم في "صحيحه"(1) ولفظه: عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" وفي رواية للترمذي بعد قوله: "ورسوله": "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين"(2)، وأما باقي الدعاء فرواه الحاكم في "المستدرك" من رواية أبي سعيد الخدري ولفظه:"من توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب برق ثم طبع بطابعٍ فلم يكسر إلى يوم القيامة"(3)، وهذا حديث صحيح الإسناد.
وقوله في الحديث: "برق" هو بفتح الراء والباء فيه بمعنى في أي رق كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} وقد ورد التصريح بها أعني بفي في رواية.
والطابع بفتح الباء وكسرها هو الخاتم ومعنى لم يكسر أنه لا يتطرق إليه إبطال.
قوله: في "أصل الروضة": فرع التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء لا يضر بلا خلاف، وكذا الكثير على الجديد المشهور، ولو فرق بعذر كنفاذ الماء
(1) حديث (234) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(2)
حديث (55) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه الحاكم (2072)، والبيهقي في "الشعب"(2754)، والنسائي في "الكبرى"(9909)، وصححه الألباني -رحمه الله تعالى-.
لم يضر على المذهب، وقيل فيه القولان ثم قال ما نصه: وحيث جاز التفريق لا يجب تجديد النية في الأصح. انتهى.
وهو في جريان خلاف التجديد في التفريق اليسير والكبير لقدر مع أنه لا يجب فيها نية التجديد بلا خلاف كما ذكره في "شرح المهذب" وكلام الرافعي مستقيم فإنه عبر بقوله وإن فرعنا على الجديد فاقتضى ذلك إرادة التفريق الكثير بغير عدم لأنه محل الجديد والقديم فأبدله النووي بقوله: وحيث جاز التفريق ذهولًا فوقع فيما وقع.
قوله من زياداته: ولو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف لم يحسب الكف على الأصح انتهى لفظه.
وهذا الذي ذكره غلط عجيب انعكس فيه المراد عليه؛ وذلك لأن الحكم في هذه المسألة أن غسل الكف محسوب؛ لأنه قد فعل في وقته إذ لا يشترط قبله شيء من الأفعال، وهل تحسب المضمضة والاستنشاق؟ على وجهين أصحهما: لا. والخلاف ينبني على أن النيتين هل يشترط فيها الترتيب كما يشترط في الأركان أم لا؟ والصحيح الاشتراط كذا ذكره في "شرح المهذب" وغيره وهو واضح، وقد تقدم الوعد في أوائل الباب بذكر هذا الموضع.
قوله أيضًا من "زياداته": ويرتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله وقال إمام الحرمين يتوقف على فراغ الأعضاء. انتهى.
ويظهر أن تكون فائدة الخلاف فيما إذا أحدث في أثنائه فأراد هو أو غيره أن يتوضأ بماء كان قد استعمل في الأعضاء السابقة على الحدث، فإن قلنا بالأول لم يجز وإن قلنا بمقالة الإمام جاز، أما لو استعمله بدون حدث فإنه لا يصح عند الإمام أيضًا بدليل أنه يوافق على مصير الماء مستعملًا في مسألة غمس اليد بعد غسل الوجه.