الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع في إزالة النجاسة
قوله: أما نجس العين فلا يطهر بحال إلا الخمر فتطهر بالتخلل، وجلد الميتة فيطهر بالدباغ، والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيض إذا نجسناهن فاستحالت حيوانًا. انتهى.
أهمل دم الظبية إذا استحال مسكًا، وإن كان قد ذكر المسك كما ذكر الجميع.
قوله: وأما غيره فالنجاسة تنقسم إلى حكمية وعينية فالحكمية وهي التي لا نجس مع يقين وجودها؛ كالبول إذا جف على المحل ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على موردها، ولا يجب فيها عدد لقوله صلى الله عليه وسلم:"حُتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء"(1). انتهى.
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم بمعناه ولفظه عن أسماء أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء" وفي رواية: "فلتقرصه ثم لتنضحه بماءٍ"(2).
والحت بالتاء المثناة هو الحك. والقرص بالصاد المهملة هو القطع، ومعناه اقطعية واقلعيه بظفرك.
وقد تلخص من كلام الرافعي أن الحكمية هي التي لا يشاهد لها عين ولا يدرك لها طعم ولا لون ولا رائحة.
(1) أخرجه البخاري (225)، ومسلم (291).
(2)
أخرجه مالك (134)، وأبو داود (361)، وأحمد (26977)، وابن حبان (1397)، والشافعي في "المسند"(9)، والطبراني في "الكبير"(24/ 109) حديث (286)، والبيهقي في "الكبرى"(36) من حديث أسماء رضي الله عنها.
قوله: وأما العينية فلا يكفي فيها إجراء الماء بل لابد من محاولة إزالة أوصافها الثلاثة أو ما وجد منها، فإن بقى طعم لم يطهر؛ لأنه سهل الإزالة وبظهر تصويره فيما إذا دميت لثته أو تنجس فوه بنجاسة أخرى. انتهى.
وتصوير الرافعي بهذا يشعر بأن اختيار المحل بالذوق لا يجوز ويدل عليه أن المجتهد في الأواني لا يجوز له ذلك كما نقله في "شرح المهذب" عن العمراني وأقره، وقد تقدم الكلام فيه هناك واضحًا فراجعه.
قوله: وإن بقى اللون وحده فإن كان سهل الإزالة فلا يطهر، وإن كان عسر الإزالة كدم الحيض يصيب الثوب وربما لا يزول بعد المبالغة والاستعانة بالحت والقرص فيطهر؛ لما روى عن خولة بنت يسار قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض فقال: "اغسليه" فقلت: أغسله فيبقي أثره، فقال:"يكفيك ولا [يضرك] (1) أثره"(2).
ثم قال بعد ذلك وقول الغزالي وإن بقى لون بعد الحت والقرص فمعفو عنه.
فيه مباحثتان: إحداهما: أن الاستعانة بالحت والقرص هل هي شرط أم لا؟ ظاهر كلامه يقتضي الاشتراط، وبه يشعر نقل بعضهم، لكن الذي نص عليه المعظم خلافه. انتهى كلامه.
وهذا الذي نقله عن الجمهور من أنهم قالوا: إن اللون إذا كان لا يزول
(1) في الأصل: يضر.
(2)
أخرجه أبو داود (365)، وأحمد (8926)، والطبراني في "الكبير"(24/ 241) حديث (615) وإسحاق بن راهويه في "مسنده"(2191) من حديث خولة بنت يسار رضي الله عنها.
قال الألباني: صحيح.
بمجرد الماء وأمكن إزالته بالحت والقرص لا يجب الاستعانة على إزالته بهما على خلاف ما يقتضيه كلام الغزالي، وقد تابعه عليه النووي في "الروضة" وخالفه في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" وهو كتاب محرر عمدة، ومن أواخر ما صنف فقال فيه في أثناء كلامه على المسألة: إن الأمر [كما](1) قال الغزالي، وذكر مثله في "التحقيق" أيضًا فإنه قال: ولا يضر بقاء لون أو ريح عسر زواله، ثم قال بعد ذلك: وإذا أمكن إزالته، بأشنان ونحوه وجب.
وكلامه في "شرح المهذب" مضطرب فإنه ذكر أولًا أن الاستعانة على إزالته واجبة، ونقله عن الأصحاب قاطبة، ثم نقل عن الرافعي بعد ذلك بقليل أنه لا يجب وأقره عليه وهو يقتضي انفراد الرافعي به، وكأنه أراد أن يردفه بما ينبه على غلطه فنسى.
فلنكشف القناع عن هذه المسألة ونبين وجه الصواب فيها طالبين من الله التوفيق.
فنقول: الأثر له حالان:
أحدهما: أن يتوقف زواله على الاستعانة بشيء من حت أو قرصٍ؛ فالموجود فيه لأئمة المذهب هو الوجوب، فقد صرح به القاضي الحسين في "التعليق" والمتولي في "التتمة" والإمام في "النهاية" وهو مقتضى كلام الغزالي المتقدم، ونقله عنه ابن الرفعة في "الكفاية" ولم يحك غيره ونقله في "شرح المهذب" عن الأصحاب كما تقدم، وأوضحه في "البيان" فقال: فإن غسله وبقى له أثر لم يزله الماء ولا يزول إلا بالقطع عفي عنه هذا كلامه.
وقال ابن الصلاح: الحت هو الحك بعود أو نحوه، والقرص تقطيعه
(1) سقط من أ.
بالظفر والصحيح وجوبه، هذا كلامه.
واستفدنا من كلامه حكاية وجه نحن ننازعه في ثبوته.
والظاهر أنه أخذه من كلام الرافعي هذا الذي قد تصدينا لدفعه.
وحكى الروياني في "البحر"[وجهين](1) في وجوب الاستعانة بالأشنان ونحوه، ولا يلزم منه عدم وجوب الحت والقرص.
الثاني: ألا يتوقف زوال الأثر عليه فيستحب فعله للخروج من خلاف داود، فإنه أوجبه لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"حتيه" الحديث وقد صرح باستحبابه في هذه الحالة الماوردي في "الحاوي" وغيره، ونقله أيضًا ابن الرفعة.
فإذا علمت هذا ظهر لك أن المسألة في الحقيقة لا خلاف فيها، وأن الكلام المختلف محمول على حالين.
فالمعظم الذين نقل الرافعي عنهم الاستحباب مرادهم فيما إذا لم يتوقف الزوال عليه.
وإيجاب الغزالي له وكذلك الأصحاب أيضًا كما نقله عنهم في "شرح المهذب" وغيره إنما هو فيما إذا لم توقف عليه كما تقدم من عبارة الغزالي وبه يندفع هذا التعارض العجيب.
ويدل عليه أنه لو كان في المسألة خلاف محقق فلا جائز أن يكون محله عند عدم التوقف؛ لأن الواجب شرعًا إنما هو الإزالة وقد حصلت، وأيضًا فإنه لا يعرف ذلك إلا عن الظاهرية ولا يعرف خلاف فيه عندنا إلا ما أوهمه النقل السابق، ولا جائز أن يكون عند التوقف؛ لأن الأثر إذا كان يزول بالحت والقرص فلا عسر فيه قطعًا، فكيف يكون [مستحبًا](2) عند الجمهور
(1) سقط من أ.
(2)
في جـ: مستحيلًا.
مع اتفاقهم على أن الذي يعفي عنه إنما هو العسر؟ وقد جزم به أيضًا الرافعي قبيل هذا الكلام كما تقدم نقله عنه.
وليت شعري كيف استقام له عدم الوجوب مع السهولة، وكيف استقام له أيضًا الجمع بين الكلامين، ومن تأمل ما ذكرناه علم صحته ولم يختلج في صدره خلافه. فلله الحمد.
وحديث خولة رواه أحمد وأبو داود ولكن في إسناده ابن لهيعة، وقد ضعفوه لسوء حفظه، ووثقه بعضهم (1).
وخولة بخاء معجمة مفتوحة ويسار بياء مثناة من تحت مفتوحة بعدها سين مهملة.
قوله: في الروضة: وإن بقيت الرائحة فقولان: وقيل: وجهان أظهرهما: يطهر. انتهى كلامه.
لكن إذا قلنا: لا يطهر فإنه يعفي عنه كدم البراغيث، كذا نقله الرافعي عن "التتمة" وأقره ولم يحك خلافه، وحذفه النووي فلم يذكره في "الروضة" وهو غريب.
نعم: ذكر جماعة غير الرافعي أنه على هذا القول لا يعفي عنه.
قوله: ثم أطلق الأكثرون القول بطهارة ذي اللون العسر، ويجوز أن يقال: إنه نجس معفو عنه. انتهى.
وما ذكره بحثًا واقتضى كلامه عدم الوقوف على نقله قد صرح به في "البحر" في باب ما يفسد الماء وهو [بعد](2) التيمم، فقال: فإن تعذر
(1) تقدم أن هذا الحديث صحيح.
أما تعليله برواية ابن لهيعة له، فقد رواه عنه جماعة منهم عبد الله بن وهب وحديثه عنه صحيح كما هو مذهب كثير من أهل العلم.
(2)
سقط من أ.
إزالة اللون فهل نحكم بطهارة الثوب أم بالعفو مع النجاسة؟ وجهان هذه عبارته.
قوله: وروي في اللون أيضًا وجه أنه لا يطهر المحل ما دام باقيًا ذكره في "التتمة" ونسبه إمام الحرمين إلى صاحب "التلخيص" فلو أعلمت على قول الغزالي فمعفو إشارة إلى هذا الوجه لم يكن به بأس. انتهى.
ذكر في "الروضة" نحوه أيضًا وفيه أمران.
أحدهما: أن الخلاف في اللون قولان حكاهما المزني في "جامعه الكبير"، كذا ذكره المرعشي في كتابه المسمى "ترتيب الأقسام".
الثاني: أن ما توهمه الرافعي من كون المراد من هذا الوجه هو عدم العفو حتى أنه قال: ينبغي لأجله إعلام العفو الواقع في كلام الغزالي بالواو ليس كذلك ولا ثبوت له في "التتمة" ولا في "النهاية".
أما "التتمة": فقد صرح -أعني المتولي- في آخر الكلام بأنه نجس معفو عنه، وكأن الرافعي نظر إلى أوله دون آخره.
وأما "النهاية" فالذي فيها عدم الطهارة ولا يلزم منه عدم العفو.
نعم: ذهب غير هذين إلى أنه لا يعفي عنه، ويتلخص من كلام الروياني وغيره من الأصحاب في العفو عنهما مقالات: ثالثها: يعفي عن اللون دون الريح.
رابعها: عكسه.
خامسها: يعفي عن لون الدم دون لون غيره.
سادسها: يعفي عن الريح في الأرض دون غيرها.
سابعها: في الأواني خاصة.
قوله: وإن بقى اللون والرائحة معًا فلا يطهر المحل لقوة دلالتهما على بقاء العين، وفيه وجه ضعيف. انتهى كلامه.
وهذا التعليل الذي ذكره قد حذفه من "الروضة" وهو يدل على أن صورة المسألة فيما إذا بقيا في محل واحد فإن بقيا متفرقين لم يضر، والمسألة قريبة مما إذا كان على ثوبه أو بدنه دماء متفرقة كل منها قليل، ولو اجتمعت لكثرت، وفيها احتمالان للإمام وميله إلى العفو، وكلام التتمة يقتضي الجزم بخلافه.
قوله: وهل يطهر الثوب قبل العصر؟ على وجهين بنوهما على أن الغسالة طاهرة أو نجسة؟ فإن قلنا: إنها طاهرة فلا حاجة إلى العصر وهو الأصح وإلا فيجب، وعلى هذا فهل يكتفي بالجفاف؟ فيه وجهان:
أصحهما: نعم لأنه أبلغ، ونضوب الماء في الأرض كالعصر في الثوب انتهى ملخصًا.
تابعه في "الروضة""وشرح المهذب" على إطلاق محل الخلاف في العصر ومحله فيما إذا صب الماء عليه في إجانة ونحوها وبقيا معًا.
فأما لو صبه عليه وهو في يده فجرى عليه فلا حاجة إلى العصر كذا صرح به البندنيجي في "تعليقه"، وذكره أيضا الروياني في "البحر" والخوارزمي في "الكافي" وغيرهم.
ويقال: نضب الماء بفتح الضاد المعجمة ينضب بالضم نضوبًا إذا غار في الأرض قاله الجوهري.
قوله: وهذا كله إذا ورد الماء على المحل، فإن عكس والماء قليل لم يطهر. وقال ابن سريج: يطهر ومحله فيما إذا قصد بالغمس إزالة النجاسة،
فأما لو ألقته الريح فإنه ينجس الماء بلا خلاف.
قال الأئمة: ومن هذا نشأ ظن من نقل عن ابن سريج: أنه يشترط النية في إزالة النجاسة. انتهى كلامه.
ودعواه أنه لا خلاف في نجاسة الماء غريب فقد نقل في الباب السابق عن الروياني: أن القليل كالكثير لا ينجس إلا بالتغير على وفق ما قاله مالك، واختاره أيضًا الغزالي في "الإحياء" وسنعود في أول صفة الوضوء إلى كلام يتعلق بما نحن فيه.
قوله: أيضًا وإذا صار بالأرض بول فيجب أن يصب عليها من الماء ما يغلب عليه ويغمره هذا ظاهر المذهب، وروى وجه أنه يجب سبعة أضعاف البول، ووجه بأنه يجب لبول الواحد ذنوب ولبول الاثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدًا.
ثم قال: وسائر النجاسات المائعة كالبول فتطهر الأرض عنها بالمكاثرة من غير تقدير على ظاهرة المذهب. انتهى.
فيه أمران:
أحدهما: أن التقدير في هذه المسألة بالوجهين السابقين وفيه بعد لاسيما الثاني فتأمله.
الأمر الثاني: أن النووي في "الروضة" قد عبر عن ظاهر المذهب المذكور ثانيًا: بأئمة المذهب وهو سهو على اصطلاحه فإن الرافعي لم يذكر فيها شيئًا من الطرق.
قوله: وفي القديم قول: إن الأرض النجسة تطهر بزوال أثر النجاسة بالشمس والريح ومرور الزمان فخرج [أبو زيد](1) والخضري وآخرون منه
(1) فى جـ: أبو ثور.
قولان أن النار تطهر. انتهى.
تابعه النووي في "الروضة" على حكاية هذا القول عن القديم ورأيت في "التقريب" للإمام القاسم ابن القفال الكبير الشاشي أن الشافعي نص في "الإملاء" على أن الأرض تطهر بالشمس ثم رأيت مثله في كتاب التيمم من "شرح التلخيص" للقفال المروزي.
وفي "السلسلة" للشيخ أبي محمد "والمهذب" للشيخ أبي إسحاق وغيرهم: وحينئذ فيكون التطهير بها وبالنار قولًا واحدًا جديدًا لا قديمًا؛ لأن "الإملاء" من الكتب الجديدة كما قاله الرافعي في مواضع كثيرة، منها: صلاة الجماعة.
وأن الجديد إذا أطلقوه في مقابلته أرادوا به "الأم".
قوله من "زوائده": ولو سقيت سكين ماء نجسًا ثم غسلها طهر ظاهرها، وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل أم لا يطهر حتى يسقها مرة ثانية بماء طهور؟ وجهان:
قطع القاضي الحسين [والمتولى](1) بأنه يجب سقيها.
واختار الشاشي الاكتفاء بالغسل وهو المنصوص.
قال الشافعي في "الأم" في باب صلاة الخوف: لو أحمى حديدة ثم صب عليها سمًا نجسًا أو غمسها فيه فشربته ثم غسلت بالماء طهرت؛ لأن الطهارات كلها إنما جعلت على ما يظهر ليس على الأجواف. هذا نصه.
قال المتولي: وإذا شرطنا السقي جاز أن يقطع به الأشياء الرطبة قبل السقي كما يقطع اليابسة. انتهى كلامه.
ذكر مثله في "شرح المهذب" وهذا الذي نقله عن النص قد صرح بتصحيحه في "التحقيق" وغيره، ولفظه في "التحقيق": ولو سقي
(1) سقط من جـ.
سكينًا ماء نجسًا أو طُبخ به لحم طهرا بالغسل، وقيل: يشترط لطهارة باطنها سقيها ماءً طهورًا وطبخه به. هذه عبارته.
وما ذكر هنا من طهارة باطنها بمجرد غسل الظاهر لا يجتمع مع ما ذكروه في الآخر فإنهم قالوا: إذا عجن اللبن بمائع نجس ثم طبخه وفرعنا على الجديد، وهو أن النار لا تطهر فإن كان رخوًا طهر ظاهره وباطنه بالغسل، وإن صلبًا متحجرًا طهر ظاهره، ولا يطهر الباطن إلا بأن يدق حتى يصير ترابًا ثم يفاض الماء عليه.
وقد ذكره النووي هكذا قبيل ذلك بقليل ولا وجه إلا التسوية والقياس هو المذكور في الآجر.
ونقل البندنيجي في باب صلاة الخوف من "تعليقه" هذا النص المذكور في السكين ثم قال: وهذا خلاف أصوله لأنه يقول في الآخر كذا وكذا.
قوله: فيها أيضًا: فكالدهن لا يمكن تطهيره على الأصح. انتهى.
هذه المسألة ذكرها الرافعي رحمه الله في أوائل البيع مبسوطة، ومحل الخلاف كما قاله في "الكفاية" فيما إذا تنجس ببول أو خمر ونحوهما مما لا دهنية فيه، فإن تنجس بودك الميتة لم يطهر بلا خلاف.
قوله: أيضًا من زوائده: قال المتولي: ولو غُسل ثوب عن نجاسة فوقعت عليه نجاسة عقب عصره هل يجب غسل جميع الثوب أم يكفي غسل موضع النجاسة؟ وجهان، الصحيح: الثاني. انتهى كلامه.
وهذا التصحيح من كلام النووي؛ لأن للمتولي على خلاف المتبادر من كلامه فتفطن له، وقد ذكره في "شرح المهذب" على الصواب.
قوله: إلا في بول صبي لم يطعم ولم يشرب سوى اللبن فيكفي فيه الرش
لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يغسل من بول الصبية ويرش على بول الغلام"(1) انتهى.
تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمور:
أحدها: أن تعبيره بقوله: سوى اللبن لا يستقيم إطلاقه فقد ذكر النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" وفي النكت التي له على التنبيه" أن تحنيك الصبي بالتمر في أول ولادته لا يضر.
وذكر الشيخ تاج الدين في "الإقليد" نحوه، وكلامه في "شرح المهذب" يدل على ما هو أعم منه، فإنه عبر بقوله: لم يأكل غير اللبن للتغذي، وذكر نحوه في "شرح مسلم" وهذه العبارة تدل على أن السفوف والأشربة ونحوها مما يستعمل للإصلاح لا يضر، وعبر في "الكفاية" بقوله: لم يطعم ما يستقل به كخبز ونحوه، وكأنه أراد ما ذكره ابن يونس "شارح التنبيه" بقوله: لم يستقل بالطعام أي يكفيه الطعام عن اللبن، وقال ابن يونس "شارح التعجيز": المراد أن يكون غير اللبن غالبًا في غذائه.
وقال الموفق حمزة بن يوسف الحموني "في شرح التنبيه" معنى قوله: يطعم: أى يستقل بجعل الطعام في فيه والعمدة هنا على ما في "شرح المهذب".
الثاني: أن كلامه يقتضي أن الخنثى ملحق في ذلك بالأنثى وهو كذلك. فقد صرح به البغوي في "التهذيب" ونقله عنه في "الروضة"، وأقره وجزم به في "التحقيق" وجزم به أيضًا الخوارزمي في "الكافي".
(1) أخرجه أبو داود (376)، والنسائي (304)، وابن ماجه (526)، وابن خزيمة (283)، والحاكم (589)، والطبراني في "الكبير"(22/ 384) حديث (958)، والبيهقي في "الكبرى"(3959)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 62) من حديث أبي السمح.
صححه الحاكم والذهبي والحافظ ابن حجر والألباني -رحمهم الله تعالى-.
الثالث: أن إطلاق المصنف وغيره يقتضي أنه لا فرق في اللبن بين أن يكون من آدمي أو غيره وهو متجه.
الرابع: أنه يقتضي أنه لا فرق بين الرضاع في الحولين وبين ما بعده، والقواعد تأباه، ولهذا فإن الأعراب الذين لا يتناولون إلا اللبن يجب الغسل من بولهم بلا شك، وقد صرح بنقل ذلك عن الشافعي بعض من علق على "الوسيط" ممن هو في طبقة شيوخنا فقال: قال الشافعي: والرضاع بعد الحولين بمنزلة الطعام والشراب.
واعلم: أن الحديث السابق ذكره صحيح صححه ابن خزيمة والحاكم وقال البخاري والترمذي: إنه حسن ولكن لفظهم فيه مخالف للمذكور هنا، واللفظ المعروف فيه:"يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام".
قوله: وهل يلتحق بول الصبية ببول الصبي؟ فيه وجهان أصحهما: لا للخبر، والفرق من جهة المعنى أن بول الصبية أصفر ثخين وطبعها أحر فبولها بالمحل ألصق انتهى.
تابعه في "الروضة" على حكاية الخلاف وجهين مع أنه قولان، فأما التفرقة: فهي المعروف من نصه وأما الإلحاق: فنقله البيهقي في "سننه" ثم ابن الصلاح ثم النووي في "شرح المهذب" ولفظ الشافعي: ولو غسل بول الجارية كان [أحب إلى](1) إحتياطيًا، وإن رش عليه ما لم تأكل الطعام أجزأ إن شاء الله تعالى.
واعلم أن ابن ماجه في "سننه" قد نقل عن الشافعي فرقًا لطيفًا فقال، حدثنا أحمد بن موسى بن معقل، أبو اليمان المصري قال: سألت الشافعي
(1) سقط من أ.
عن ذلك فقال: إن الله لما خلق آدم خُلقت حواء من ضلعه القصير فصار بول الغلام من الماء والطين وبول الجارية من اللحم والدم هذا كلامه.
قوله: ولوغ الكلب ما ولغ فيه والولوغ المصدر انتهى.
اعلم أن الأول بالفتح، والثاني بالضم.
قوله: وقاعدة الفرع: أنه يغسل من ولوغ الكلب سبعًا إحداهن بالتراب لما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبعًا أولاهن أو أخراهن بالتراب"(1). انتهى.
اعلم أن تجويز التعفير في غير الأولى والأخرى مردود استدلالًا ونقلًا.
أما الأول؛ فلأن الروايات الواردة في هذا الباب أربعة.
إحداها: أولاهن رواها مسلم.
والثانية: إحداهن بالحاء المهملة رواها الدارقطني [من رواية علي](2) ولم يضعفها، وذكر المصنف في "المسائل المنثورة" أنها رواية ثابتة.
والثالثة: رواها أبو داود (3)"فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب" وهذه الرواية هي معنى ما رواه مسلم "وعفروه" الثامنة بالتراب، قال الأصحاب: وإنما سميت ثامنة باعتبار استعمال التراب معها.
(1) أخرجه مسلم (279)، وأبو داود (71)، والنسائي (338)، وأحمد (9507)، وابن حبان (1297) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تنبيه: وقع في "التحقيق" لابن الجوزي (1/ 255).
قوله: انفرد به البخاري.
قال ابن الملقن: وهو سبق قلم قطعًا، فلعله أراد أن يكتب: انفرد به مسلم، فسبق العلم إلى البخارى، فليصلح. "البدر المنير"(1/ 547).
(2)
سقط من جـ.
(3)
حديث (73).
والرابعة: رواها الدارقطنى (1) أيضًا بإسناد صحيح كما قاله في "شرح المهذب": "أخراهن أو أولاهن" أعني بصيغة أو، وهذه الرواية هي التي اقتصر الرافعي عليها، وحينئذ فقول:"إحداهن" إن لم يثبت، وهو مقتضى كلامه في "شرح المهذب" وكلام غيره أيضًا فواضح وإن تثبت فهي مطلقة، وقد قيدت بالأولى في رواية وبالأخرى في أخرى فلا يجوز التعفير فيما عداهما لاتفاق القيدين على نفيه ولكن يتخير بينهما لأنهما؛ لما تعارضا ولم يكن أحدهما أولى من الآخر تساقطا وبقى التخيير فيما حصل فيه التعارض لا في غيره، ويدل عليه التصريح بالتخيير بينهما في رواية صحيحة كما سبق.
وأما الأمر الثاني: وهو النقل فلأن الشافعي قد نص على تعين الأولى أو الأخرى على وفق ما ذكرناه فقال في "البويطي" ما نصه قال: يعني الشافعي: وإذا ولغ الكلب في الإناء غسل سبعًا أولاهن أو أخراهن بالتراب ولا يطهره غير ذلك، وكذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. هذا لفظه بحروفه ومن "البويطي" نقلت.
وذكر في "الأم" قريبًا منه أيضًا، وقد اطلع على هذا النص جماعة من الأصحاب فجزموا في كتبهم بمقتضاه منهم الزبيري في "الكافي" والمرعشي في كتابه المسمى "بترتيب الأقسام"، وابن جابر كما نقله الدارمي في "الاستذكار" عنه، فثبت أن هذا هو مذهب الشافعي وأنه هو الصواب من جهة الدليل أيضًا فتعين الأخذ به واطراح ما عداه، فلله الحمد والمنة على التوفيق لذلك.
قوله: في "الروضة": وفيما سوى الولوغ وجه شاذ أنه يكفي غسله مرة كسائر النجاسات. انتهى كلامه.
وهو يقتضي أن صاحب هذا الوجه يقول: إنه إذا تطاير شيء من
(1) السنن (1/ 65).
اللعاب لا مع الولوغ يكفي فيه مرة وليس كذلك، فإن الرافعي نقل عن صاحبه الوجه أنه دائر مع اللعاب لا مع الولوغ [فقال: وفيه وجه أن غير اللعاب كسائر النجاسات قياسًا.
وعند مالك لا يغسل من غير الولوغ؛ لأن الكلب طاهر عنده والغسل من الولوغ تعبد هذا لفظه.
واعلم أن النووي في "شرح المهذب" قد رجح هذا الوجه الذي صرح في "الروضة" بشذوذه فقال: وهذ الوجه متجه وقوى من جهة الدليل لأن الأمر بالغسل سبعًا من الولوغ إنما كان لتنفيرهم عن مؤاكلة الكلاب هذه عبارته وحينئذ فيحمل الشذوذ على أنه من جهة النقل.
قوله: الثانية هل يلحق الخنزير بالكلب في هذا التغليظ؟ فيه قولان.
الجديد وبه قطع بعضهم أنه يلتحق به لأنه نجس العين فكان كالكلب، بل أولى بالتغليظ؛ لأنه لا يجوز اقتناؤه بحال.
والقديم أنه كسائر النجاسات؛ لأن التغليظ في الكلب إنما ورد فطمًا لهم عما يعتادونه من مخالطتها. انتهى.
تابعه عليه في "الروضة" وفيه أمران:
أحدهما: أن ما صححه من طريقه القولين قد خالفه في "شرح المهذب" فقال: فيه طريقان.
أحدهما: فيه قولان وهي طريقة ابن القاص.
ثم قال: والطريق الثاني: يجب سبع قطعًا وبه قال الجمهور وتأولوا نصه في القديم هذه عبارته، فثبت بذلك حينئذ أن الراجح خلاف ما في "الرافعي""والروضة".
الأمر الثاني: أن النووي قد رجح في الشرح المذكور أنه يكفي مرة واحدة فقال: واعلم أن الراجح من حيث الدليل أنه يكفي غسلة واحدة بلا
تراب، وبه قال أكثر العلماء الذين قالوا بنجاسة الخنزير، وهذا هو المختار، لأن الأصل عدم الوجوب حتى يرد الشرع لاسيما في هذه المسألة المبينة على التعبد. هذا لفظه.
وذكر مثله في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" ولم يتعرض لذلك في باقي كتبه.
قوله: الثالثة هل يقوم الصابون والأشنان مقام التراب؟
فيه ثلاثة أقوال:
أظهرها: لا، لظاهر الخبر؛ ولأنها طهارة متعلقة بالتراب فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم.
والثاني: نعم.
والثالث: إن وجد التراب لم يعدل إلى غيره، وإلا عدل للضرورة، وقيل: يجوز فيما يفسده التراب كالثياب دون الأواني. انتهى كلامه ملخصًا.
فيه أمور:
أحدها: أن الأصحاب قد أدخلوا الرمل في اسم التراب وصححوا بجواز التيمم به إذا لو كان ناعمًا له غبار كما ستعرفه، وأوضحه النووي في فتاويه فقال: لو سحق الرمل وتيمم به جاز وإذا تقرر هذا تعين أن يكون مجزئًا في الولوغ أيضًا؛ لأن مشروعية التراب إما للاستطهار أو الجمع بين توني الطهور أو للتعبد بإطلاق الاسم وكل منهما موجود في الرمل فيلزم القول بجوازه فاعلمه فليس في كلامهم هنا ما ينفيه.
الأمر الثاني: أن النووي في "أصل الروضة" وفي أكثر كتبه قد وافق الرافعي على عدم الإجزاء في الصابون والأشنان، وخالف في التصنيف المسمى "برؤوس المسائل". فقال فيه: الأصح الإجزاء، والعمل على ما قاله في غيره.
والقائل بالإجزاء لا يخصه بالصابون والأشنان بل يعديه إلى كل مزيل صرح به الرافعي في المسألة التي ذكرها بعد هذه المسألة، ونقله في "الروضة" إلى هنا.
هو وقد صرح القاضي حسين بأن الدقيق يجري على هذا القول، وصرح غيره بإجزاء. النخالة أيضًا. كذا رأيته في "المفتاح" لابن القاص و"التهذيب" لأبي علي الزجاجي وهو المعروف "بزيادة المفتاح" و"البحر" للروياني. و"البلغة" للجرجاني "والعدة" لأبي الحسين الطبري، ولك أن تتوقف في جواز استعمال الدقيق ونحوه.
الأمر الثالث: أن الرافعي في "الشرح الصغير" قد حكى هذه الثلاثة الأوجه على عكس ما جزم به هاهنا.
قوله: ومنهم من بناه على الخلاف فيما إذا غمس الإناء الذي ولغ فيه الكلب في ماءٍ كثير هل يطهر أم لا يعتد بذلك إلا غسلة واحدة؟ انتهى والأصح حسبانه مرة فقد قال الرافعي في "الشرح الصغير": إنه الأظهر وصححه النووي في "شرح المهذب" و"التحقيق"، واختصر في "الروضة" [هذا الموضع بقوله: -ولا يكفي غمس الإناء والثوب في الماء الكثير. في الأصح هذا] (1) لفظه من غير زيادة ويتوجه عليه ثلاث اعتراضات.
أحدها: أنه لم ينبه على أن التصحيح المذكور من زوائده.
والثاني: أن الرافعي قد نص على أنا إذا قلنا: لا يطهر حسبت مرة وذلك لا يؤخذ من كلام "الروضة".
والثالث: أن الخلاف المذكور قولان لا وجهان فإنه في "شرح المهذب"
(1) سقط من جـ.
قد حكى في المسألة خمسة أقوال.
الأول والثاني: ما ذكره الرافعي.
والثالث: يحسب ستًا وتجب سابعة بتراب.
والرابع: إن كان الكلب أصاب نفس الإناء حسبت غسلة وإن أصاب الماء الذي في الإناء [فتنجس الإناء](1) تبعًا له حسبت سبعًا. لأنه تنجس تبعًا فطهر تبعًا.
والخامس: إن كان الإناء ضيق الرأس حسبت مرة، وإن كان واسعًا طهر، ثم قال: والأظهر حسبانه مرة.
وفي "الكفاية" وجه سادس أنه إن مكث الإناء مقدار -غسله سبع مرات طهر وإلا فلا، ويأتي مما سيأتي وجه سابع أنه يحسب سبعًا ويبقى التعفير فقط حتى إذا أصاب الأرض لم يحتج إلى شيء إذا مزجه بمائع كفي.
قوله: السادس لا يكفي ذر التراب على المحل؛ بل لابد من مائع يمزجه به. انتهى.
- لم يبين رحمه الله كيفية المزج ولا مقدار التراب الممزوج.
فأما كيفية المزج: فإنه مخير بين أن يجعل التراب في الماء أو الماء في التراب، أو يأخذ الماء الكدر من موضع ثم -يغسل به، كذا قاله في "شرح المهذب"، ولو وضع التراب على المحل وأورد عليه الماء لم يكف كذا رأيته في "التبصرة" للشيخ أبي محمد وهو مقتضى، كلام غيره، وجزم ابن الرفعة في "الكفاية" بالجواز، ولا شك أن العكس كذلك أيضا إلا أن الذي ذكره مردود.
(1) سقط من أ، ب.
وأما الثاني وهو مقدار التراب فالمعروف أنه: ما يكدر الماء ويصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل، وقيل: ما يطلق عليه الاسم؛ حكاه في "شرح المهذب".
- قوله: ثم ذلك المائع إن كان ماء حصل الغرض وإن كان غيره، كالخل وماء الورد وغسله ستًا بالماء فوجهان.
أحدهما: يكفي لأن المقصود من تلك الغسله هو التراب.
وأصحهما: لا. انتهى كلامه.
ذكر مثله النووي في "شرح المهذب""والروضة" وهو يشعر بأن هذا الخلاف إنما هو فيما إذا اقتصر على ست غسلات بالماء حتى إذا غسله بالماء سبعًا فإنه يكفي التراب الممزوج بالمائع جزمًا -وقد صرح به بعضهم لكن صرح النووي في "شرح الوسيط" المسمى "بالتنقيح" بأن الخلاف في المسألتين، وأن الصحيح فيهما عدم الإجزاء. غير أنه جعل الخلاف في المسألة الثانية مرتبًا على الخلاف في الأولى، فاعلم ذلك واجتنب الإيهام الحاصل في هذين الكتابين.
والظاهر أن الرافعي كان يريد ذكره هكذا فتركه نسيانًا، أو قاله ولكن سقط من المسودة، وإلا فكيف يترك الكلام على ما احترز عنه وهو في محل النظر، ويدل عليه كلام "الشرح الصغير""والمحرر""والتحقيق""والمنهاج" يقتضي ما في "الشرح الوسيط" أيضًا، فإن فيها تصحيح عدم الإجزاء من غير تقيد بشيء.
نعم: لو مزج التراب أولًا بالمائع ثم استعمله مع الماء جاز قطعًا كما نبه عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" قال: ولا يتجه فيه خلاف إلا
وجه بعيد في أن التراب تزول طهوريته تزول بالخل ونحوه.
قوله من "زوائده": ولو كانت نجاسة الكلب عينية كدمه فلم يزل إلا بست غسلات مثلًا، فهل يحسب ذلك ستًا أم واحدة أم لا يحسب شيئًا؟
فيه ثلاثة أوجه، أصحها: واحدة. انتهى.
كذا ذكره أيضًا في "التحقيق""وتعليقه على الوسيط" وهذا التصحيح لم ينقله في المبسوطات عن أحد بل إنما قاله تفقها على ما بينه فيها فقال في "شرح المهذب" بعد حكاية الأوجه: ولم أر من صرح بأصحها، ولعل أصحها أنه يحسب مرة كما قال الأصحاب: يستحب غسل النجاسة من غير الكلب ثلاث مرات، فإن لم تزل عينها إلا بغسلات استحب بعد زوال العين غسله ثانية وثالثة، فجعلوا ما زالت به العين غسلة واحدة هذه عبارته.
قلت: وقد ذكر القاضي الحسين هذه المسألة -في تعليقه قبيل باب سنن الوضوء بأسطر وصحح حسبانها من السبع واستدل- بدليلين متعينين فقال: والثاني وهو الصحيح: أنه يحسب، كما لو ولغ الكلب في الإناء، فالغسلة الأولى لإزالة العين؛ لأنه حصل هناك عين من النجاسة، وإن كنا لا نراه لم يحسب ذلك من السبع، فكذلك هاهنا، ثم قاسه أيضًا على العدد المأمور به في الاستنجاء، وقد صححه أيضًا الرافعي في "الشرح الصغير" فلتكن الفتوى عليه.
قوله: وكذلك لما تعجبوا من إصغاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء للهرة قال: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم" انتهى كلامه.
والإصغاء هو الإمالة، تقول: صغى بفتح الأول والثاني، يصغو ويصغي بكسر الغين صغوًا بضم الصاد والغين وتشديد الواو، وصغى بكسر الغين أيضًا، يصغي صغًا على وزن يهوي هوى، وصغيًا بضم الصاد وكسر الغين وتشديد الياء إذا مال، وأصغيت إلى فلان إذا ملت بسمعك إليه، وأصغيت الإناء أملته قاله الجوهري.
واعلم أن هذا الحديث قد رواه مالك في "الموطأ" والشافعي وأبو داود والترمذي.
عن كبشة بالباء الموحدة الساكنة والشين المعجمة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة قالت: دخل أبي قتادة فسكبت له وضوءًا فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات"(1) قال الترمذي: حسن صحيح.
وحاصله أن الإصغاء صدر من أبي قتادة لا من النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الرافعي، وقد اختلفوا في رواية الحديث، فرواه بعضه كما ذكرناه.
ورواية مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة ورواية ابن ماجه بعض ولد أبي قتادة وفيها والطوافات بالواو، ورواه الدارمي بأو ورواية الربيع عن الشافعي
(1) أخرجه مالك (42)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68)، وابن ماجه (367)، وأحمد (22581)، والدارمي (736)، وابن خزيمة (104)، وابن حبان (1299)، والحاكم (567) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
قال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه.
وقال الألباني: صحيح.
في موضع وكانت تحت أبي قتادة أو ابن أبي قتادة وقال فيه: أو الطوافات، فأتى بأو في الموضعين، قال البيهقي: الشك من الربيع، وقد رواه عنه في موضع آخر مجزومًا بأنه ابنه واختلفوا في معنى أو الأخيرة، فقيل: للشك وقيل: إشارة إلى النوعين الذكور والإناث كما في رواية الواو وجمعها بالواو والنون مع أنها لا تعقل لتنزيلها منزلة من يعقل.
والطوافون كما قاله أهل اللغة هم: الخدم والمماليك، وقيل: هم الذين يخدمون برفق وعناية، فشبهها بمن يطوف على أهل البيت للخدمة في كثرة البلوى بها ومشقة الاحتراز، كما سقط الاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة في القرآن عن الخدم لأجل ذلك.
قوله: فلو أكلت فأرة وغابت واحتمل ولوغها في ماءٍ كثير أو ماءٍ جارٍ ثم ولغت في ماء قليل فلا ينجس على أظهر الوجهين.
استشكل الرافعي في "الشرح الصغير" هذه المسألة فقال: وليعلم أن الهرة تشرب الماء بلسانها وتأخذ منه الشيء القليل ولا تلغ في الماء بحيث يطهر فمها عن أكل الفأرة، فلا يفيد احتمال مطلق الولوغ احتمال عود فمها إلى الطهارة هذا كلامه وهو إشكال صحيح.
فإن قيل: كيف حكمنا بطهارة الماء مع أن الأصل نجاسه الفم؟
قلنا: لأن الأصل طهارة الماء أيضًا فلما تعارض رجح الثاني، باحتمال الولوغ في الماء الكثير أو الماء الجاري كما قلناه فتمسكنا بالأصل في الموضوعين وقد تقدم ذكر ذلك في الكلام على الماء الراكد فراجعه.
قوله: في "الروضة" غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة فنجسة وإلا فإن كانت قلتين فطاهرة بلا خلاف.
قلت: ومطهرة على المذهب، والله أعلم.
فيه أمران:
أحدهما: أن ما ادعاه من عدم الخلاف ليس على إطلاقه، فقد حكى الخوارزمي في "الكافي" وجهان أن غسالة ولوغ الكلب لا تطهر بذلك.
والثاني: أن هذا الخلاف الذي ذكره في كونها مطهره أم لا محله فيما إذا كان قليلًا فجمعه كما ذكره في "شرح المهذب" وزاد فصحح طريقة القطع، والقياس طريقه الوجهين وبها جزم في "الشرح الصغير".
فأما إذا كان كثيرًا عند الغسل فطهور بلا خلاف فكان صوابه أن يقول: فإن بلغ القلتين.
قوله: ولو لم تتغير [أى](1) ولم يزد وزنها وكان قليلًا ففيه ثلاثة أقوال:
الجديد: أنه إن لم يطهر المحل فالغسالة نجسة وإلا فطاهرة غير مطهرة؛ لأن البلل الباقي على المحل بعضها، والماء الواحد القليل لا يتبعض في الطهارة والنجاسة. انتهى.
هذا التعليل قد أسقطه من "الروضة" مع أنه يؤخذ منه مسألة حسنة مهمة، وهي أن الماء إذا انفصل متغيرًا، والنجاسة غير باقية على المحل فإن المحل لا يطهر، والذي اقتضاه كلامه قد صححه القاضي حسين في "شرح التلخيص" وكذلك صاحب "التتمة" فقال: والثاني وهو الصحيح أن المحل نجس يجب غسله.
وإنما قلنا ذلك لأن الماء انفصل عن المحل وقد بقى جزء منه في المحل والمنفصل ينجس وكان الباقي على المحل نجسًا أيضًا.
وعلى هذا إذا وقع البول على الثوب فصب الماء عليه بالوزن فانفصل الماء زائدًا في الوزن فنعلم أن الزيادة بول فالماء نجس؛ لأن زيادة الوزن
(1) زيادة من أ.
بسبب النجاسة فنعجله كالتغير وفي المحل وجهان على ما ذكرنا، هذا كلام "التتمة" ونقله عنه في "شرح المهذب" وأقره.
وأجاب أيضًا بنجاسته ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" وقال: إن مقابله ضعيف لا يتصور القول به.
وحمل كلام الغزالي الموهم للطهارة على تغير يحدث في الغسالة بعد انفصالها عن الحل، فإن الساقط في الماء ربما كان ذا أجزاء مجتمعة لا تغير الماء إلا بعد تحللها فيتأخر تأثر الماء به.
وهذا الذي نبه عليه ابن الصلاح في آخر كلامه مسألة حسنة أيضًا.
واختار في "الإقليد" طهارة المحل عند انفصال الغسالة متغيرة، وحاول تضعيف ما قاله ابن الصلاح فلم يذكر طائلًا والصواب النجاسة.
قوله: فإن زاد وزنها بعد الانفصال عما كانت فهي كالمتغيرة في أصح الوجهين. انتهى.
تابعه في "الروضة" على اعتبار المقدار الذي كان عليه الماء قبل الغسل في الزيادة والنقصان وليس بجيد، بل لابد من مراعاة المقدار الذي يتشربه المغسول حتى إذا انفصلت عن الثوب بقدر ما كانت أو أقل بمقدار تشرب الثوب أكثر منه كانت نجسة أيضًا.
وكلام الرافعي في هذه المسألة يؤخذ منه طريقان:
أصحهما: القطع بالنجاسة.
والثاني: على الخلاف فيما إذا لم يتغير، وقد صرح بهما في "الروضة" وهو اختصار حسن.
قوله: الثالث الخلاف المذكور محله في المستعمل في واجب الإزالة، أما المستعمل في مندوبها ففيه وجهان:
أظهرها: أنه ظاهر الطهور.
والثاني: أنه كالمستعمل في واجبها فيعود فيه القول الأول والثالث دون الثاني انتهى كلامه.
والمندوب المشار إليه هو الكرة الثانية والثالثة، فأما إذا غسل نجاسة يستحب غسلها ولا يجب كدم البراغيث ونحو ذلك، فإن غسالته كغيرها بلا شك وليس نظير ما لو توضأ بنية قراءة القرآن ونحوها مما يستحب فيه الوضوء؛ حيث قلنا: إن غسالته لا تكون مستعملة على الصحيح بل مطهره لأن الحدث هناك لم يرتفع، والنجاسة هنا قد زالت فاعلم ذلك، ولهذا مثل في "أصل الروضة" بالكرة الثانية والثالثة فقط.
نعم: يتجه إلحاق النجاسة المشكوك [فيها](1) إذا لم يتحققها بعد ذلك [بوضوء](2) الاحتياط.
واعلم أن قول الرافعي: إنه يأتي في مسألتنا القول الأول والثالث صحيح لأن الأول يقول بأنه غير طهور بخلاف الثالث، فاعلمه واحذر ما توهمه فيه من توهم.
(1) سقط من أ.
(2)
في أ: هو.