الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
باب الحوض
(من الصحاح)
] 4186 [قوله صلى الله عليه وسلم: في حديث أنس رضي الله عنه (مسك أذفر) أذفر: أي ذكي الرائحة، والذفر بالتحريك: كل رائحة ذكية من طيب أو نتن.
] 4188 [ومنه حديث] أبي هريرة [رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن حوضي أبعد من أيلة من عدن). يريد بعد ما بين القطرين، والأيلة -بالياء المجزومة- بلدة على الساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن، وعدن آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند.
[4190]
ومنه حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك)
يهموا على بناء المجهول أي: يحزنون لما أمتحنوا به من الحبس، من قولهم أهمني الأمر:: ذا أقلقك وأحزنك.
وفيه: (لست هناكم) يريد لست بالمكان الذي ترونني فيه، يعني من الشفاعة.
وقد أشار بقوله (هناكم) إلى التبعيد من ذلك المكان فإن هنا اذن ألحق به كاف الخطاب فإنه للتبعيد عن المكان المشار أليه.
وكذلك هنالك والام زائدة والكاف للخطاب.
وفيه: (ويذكر خطيئته التي أصاب: أكله من الشجرة) أصاب، أي أصابها.
وأكله، بدل من خطيئته.
وفيه: (ويذكر ثلاث كذبات) إحدى الكذبات قوله (اني سقيم)، والأخرى (بل فعله كبيركم)، والثالثة قوله لسارة:(هي أختي).
قلت: والخليل عليه السلام أتى في سائرها بالمعاريض، وقد كانت في ذات الله، وإنما خاف منها لتستره بالمعاريض مع استغنائه عنها بتأييد الله اياه.
وكل من كان وقته مع الله أصفىى وحاله أعلى ومنزلته أقرب كان حكمه في المعاملة أدق، وأمره في المؤاخذة أعوص.
وفيه: (فاستأذن عليه في داره).
قلت: إنما أضاف الدار إلى الله إضافة تشريف وتكريم، وهو أحد الوجهين في قوله سبحانه:{والله يدعو إلى دار السلام} ، وقوله سبحانه:{لهم دار السلام عند ربهم} ، وهو قول جمع من أهل العلم أن السلام ها هنا اسم من أسماء الله.
وأما قوله: (فاستأذن عليه) فإنه أراد به الاستئذان لدخول تلك الدار المكرمة بالإضافة إلى الله، والوقوف فيها موقف المسائلة والاستعطاف، وخاصية ذلك المكان بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى الله، وذلك مثل مراجعة جبريل في تبليغ الرسالة وطلب الحاجة إلى مقامه الذي أقامه الله فيه، والحكمة في نقله النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفه ذلك] 189/أ [إلى دار السلام لعرض الحاجة هي أن موقف العرض والحساب موقف سياسة، ولما كان من حق الشفيع أن يقوم مقام كرامة فتقع الشفاعة موقعها؛ أرشد صلى الله عليه وسلم إلى النقلة عن موقف الخوف في القيامة إلى موقف الشفاعة والكرامة، وذلك أيضا مثل الذي يتحرى الدعاء في مواقف الخدمة؛ ليكون أحق بالإجابة.
وفيه: (فيحد لي حدا) يريد أنه يبين لي في كل طور من أطوار الشفاعة حدا أقف عنده فلا اتعداه، مثل أن يقول شفعتك فيمن أخل بالجمعات، ثم يقول شفعتك فيمن أخل بالجمعات ثم يقول شفعتك فيمن أخل بالصلوات.
ومنه فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنى، وعلى هذا ليريه علو الشفاعة في عظم الذنب.
] 4191 [ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: (فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
المثقال ما يوزن به، وهو من الثقل، وذلك اسم لكل سنج، ومعنى قوله:(مثقال ذرة)، أي: وزنها والمثقال إذا أطلق فإنما يراد منه السنج المعبر به عن الدينار.
وقد اختلف أقاويل العلماء في تأويله على حسب اختلافهم في أصل الإيمان.
وأرى التأويل المستقيم فيه أن نقول: أراد هاهنا بالجزر الذي ذكره: حصة المؤمن من الرغبة أو الرهبة الباعث له على العمل لوجه الله. ألا ترى أنه ذكر في آخر تارات المناقصة: (ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله)، ولا يجوز أن يكون هذا القائل غير موحد، فعلمنا أن ما قدر قبل ذلك بمثقال شعيرة، ثم بمثقال حبة أو خردل غير الإيمان الذي يعبر به عن التصديق والإقرار، بل هو ما يوجد في القلوب من ثمرة الإيمان.
ومن الدليل أيضاً على ذلك أن هذا الحديث رواه البخاري عن أنس على ما في كتاب المصابيح ورواه أيضاً عن أنس- رضي الله عنه وفي روايته: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة).
وقد رواه أبو سعيد الخدري، وفي روايته:(مثقال ذرة إيمان). أخرجه البخاري في كتابه.
وفي كتاب مسلم من رواية أبي سعيد: (فيقول ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه) ثم ذكر (نصف دينار من خير) ثم ذكر (مثقال ذرة من خير) فلما وجدنا الحديثين قد روى عن كل واحد من الصحابيين على اختلاف اللفظين: الخير والإيمان حملنا الأمر فيهما على أن الصحابيين رويا ذلك بالمعنى [189/ب] أو روى عنهما بالمعنى، فوضع الإيمان موضع الخير؛ لأنه من فوائد الإيمان ولوازمه. فإن قيل: فلم لم تقدروه على العكس؟
قلنا: لما ذكرنا من متن الحديث أنه ذكر في آخر تلك التارات أنه يقول: (ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله) فعلمنا أن الأمر المقدر بالشعيرة والبرة والذرة والحبة والخردلة غير الشيء الذي هو حقيقة الإيمان، حتى لا يكون الرجل مؤمناً إلى بوجدان ذلك منه، وهو التصديق والإقرار.
ثم إن حقيقة الإيمان التي لا يكون المكلف في حكم المؤمنين إلا بوجدان ذلك منه لا يصح أن تدخله التجزئة والتبعيض، والله أعلم.
وفيه: (فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك).
هذا اللفظ محتمل لمعنيين:
أحدهما: أن ذلك ليس إليك، كقوله تعالى:{ليس لك من الأمر شيء} .
والآخر: لسنا نفعل ذلك لأجلك، بل لأنا أحقاء بأن نفعله كرماً وتفضلاً. ثم إنه بين بهذا الحديث أن الأمر في إخراج من لم يعمل خيراً قط من النار خارج عن حد الشفاعة، بل هو منسوب إلى محض الكرم موكل إليه، وذلك ليكون القسم الذي تجرد عن الشفاعة فيجاوز الله عنه بفضله ورحمته مبدوءاً به أعلى وأكثر وأوفى وأجدر من القسم الذي يناله شفاعة الشافعين.
وفي معناه الحديث الصحيح الذي رواه أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه.
[4194]
ومنه حديث حذيفة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيرسل الأمانة والرحم فيقومان بجنبتي الصراط). يريد بجنبتي الصراط ناحيتيه اليمنى واليسرى يقال: جنبيه بالتحريك وجنابيه وجنبتيه، والمعنى
أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يمثلان هنالك الأمين والخائن، والواصل والقاطع، فيحاجان عن المحق، ويشهدان على المبطل.
[4196]
عن النبي صلى الله عليه وسلم (فيقول الله شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين).
فإن قيل: فكيف التوفيق بين قوله: (ليس لك ذلك)، وبين حديث أبي هريرة الذي يتلو هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله)؟.
قلنا: لو حمل الحديث على أنا لسنا نفعل ذلك لأجلك فإن الشفاعة باقية على حالها، ولو حمل على أن ذلك ليس إليك فالوجه فيه أن نقول: الشفاعة توجد على طرق شتى ومقامات مختلفة، فمنها الشفاعة في المحشر، حيث يطول بهم القيام، وهو مخصوصة به شاملة لعموم أهل الإيمان من سائر أهل الملل. ومنها: الشفاعة عند ورود الحوض.
ومنها: الشفاعة عند اختلاف السبيلين، والشفاعة عند الجواز على الصراط، والشفاعة بعد دخول المشفوع له النار، والشفاعة عند الإخراج منها، والشفاعة بعده لطلب المزيد من رحمة الله وفضله. والنوع الذي يمنع منه في هذا الحديث الشفاعة في إخراج من لم يعمل خيراً قط. وبقية الأنواع مبقاة على حالها، فلا تنافي إذا بين الحديثين، ويشكل [190/أ] من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم:(أسعد الناس بشفاعتي) إذ لم نجد للشفاعة مساغاً في غير أهل الكلمة، فلم يجز لنا أن نقول: سعد بها غيرهم، وكانوا هم أسعد الناس بها، والوجه فيه أن نقول: نزل السعيد منهم منزلة الأسعد، كما تقول لغني بين أقوام محاويج هو أغنى القوم، وإن لم يكن فيهم غني غيره.
وإن أراد شفاعتي لا يسعد بها إلا الذي قال: لا إله غلا الله صدقاً من قلبه: أو نقول: أراد بمن قال: لا إله إلا الله من لم توجد له سابقة، ولم تخلص له فضيلة، فيستحق بذلك الرحمة والشفاعة غير هذه الكلمة التي أتي بها مخلصاً من قلبه فصار هو أسعد بشفاعته من الذين سعدوا بها من ذوي الفضيلة والوسيلة؛ وذلك لأن الذي يستحق دخول الجنة بحسن الطاعة لا ضرورة به أن يشفع له في إنالة الفضل إياه، ورفع
الدرجة له ضرورة من يستحق دخول النار فيشفع له في العتق منها فيؤمر بخلاصه ويؤذن [له] في دخول الجنة بسعة فضل الله ورحمته.
[4196]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد- رضي الله عنه: (أتاهم رب العالمين) إتيان الله في الكتاب مفسر بإتيان أمره وإتيان بأسه، ولفظ التنزيل محتمل لكلا القولين.
فأما هذا الحديث فإنه يأول على إتيان أمره، وهو قوله، فماذا ينتظرون.
ومن السلف من يتنزه عن تأويله خشية الخطأ مع تمسكه بالعروة الوثقى، وهو تنزيه الله عن الاتصاف بما يتحدث به النفوس من أوصاف الخلق. وعلى هذا القول في لفظ حديث أبي هريرة- رضي الله عنه:(هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه).
ويجوز أن يعبر الإتيان والمجيء عن التجليات الإلهية والتعريفات الربانية، ولا سبيل إلى القول في هذا الحديث وأمثاله إلا من أحد الطريقين: إما التأويل على النسق الذي بينا، وإما السكون على الوجه الذي ذكرناه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد (هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيكشف عن ساق). [190/ب] وسياق هذا الحديث في بعض طرقه الصحاح: (هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها) وهو الأحوط وقد بينا فيما مر من الكتاب معنى قوله: (فيكشف عن ساق) وتنكيرها في هذا الحديث على ما هو في التنزيل من أكد أسباب التأويل.
وفي رواية أبي هريرة وأبي سعيد في الجامعين الصحيحين زيادات على ما في المصابيح لم نر التعرض لها؛ لأنها لم تدخل في جملة أحاديث هذا الكتاب، ثم لأنها من المشكلات المبهمة والمعضلات العويصة، والأولى بأولي الخشية الذين باشر الحق أسرارهم أن لا يتكلفوا التأويل في الألفاظ النابية عما يتوخي من المعاني فيذروه في سنبلة.
وفيه: (فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكوس في نار جهنم).
جعل المارة على الصراط على طبقات ثلاث، على ما رتبهم عليه في الحشر، وهم الذين نجاهم من النار فلن تمسهم على تباين مقاماتهم في العبودية وتفاوت درجاتهم في الجنة، ثم الذين استوجبوا العقوبة من عصاة أهل الإيمان على اختلاف نياتهم، ومقادير ذنوبهم، ثم الذين لا ملجأ لهم المقضيون عليهم بالخلود.
وقوله: (ومخدوش مرسل)، يريد به الذي يخدش بالكلوب، فيرسل إلى النار من عصاة أهل الإيمان.
وأما قوله: (فمكدوش)، الأكثرون يروونه بالسين المهملة، وفسر بأنه مدفوع فيها.
يقال: تكدس السن: إذا دفع من روائه فقط، والتكدس في سير الدواب: أن يركب بعضهم بعضاً وكدس به صرفه، وكدسهم جمعهم في موضع.
قلت: ومنهم من يرويه بالشين المعجمة وهو السوق الشديد، وكدشه: خدشه وجرحه وطرده.
وفي بعض طرقه: (مكردش في نار جهنم)، أراد به الموثق الملقى فيها.
وفيه: (فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل).
الحبة بكسر الحاء وتشديد الباء اسم للجامع للبزور التي تنتشر إذا هاجت ثم تنبت في الربيع. وقد قيل غير ذلك.
وحميل السيل: ما حمله من طين أو غثاء، فإذا اتفق فيه الحبة واستقرت على شط مجرى السيل فإنها تنبت في يوم وليلة، وهي أسرع نابتة نباتاً. وإنما أخبر بسرعة نباتهم قاله أبو سعيد الضرير.
[4198]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (فمنهم من يوبق بعلمه، ومنهم من يخردل).
وبق: إذا تثبط فهلك يبق وبقاً وموبقاً، وأوبقه، كذا قال الله تعالى:{أو يوبقهن بما كسبوا} .
وقال ابن عرفة: أوبقه إذا حبسه، ومنه قوله تعالى:{وجعلنا بينهم موبقاً} قال: أي محبساً.
قال: ومنه الحديث: (ومنهم الموبق بذنوبه).
قلت: والأشبه بنمط هذا الحديث تفسير ابن عرفه أنه يحبس؛ لأنه عبر بعده عن الهالك بالمخردل [191/أ] والمخردل: قيل: هو المرمي المصروع. وقيل: المقطع: يقال: لحم خراديل إذا كان قطعاً، والمعنى أنه يقطعه كلاليب الصراط حتى يهوى إلى النار.
والخردولة: قطعة من اللحم. وذكر أبو عبيد الهروي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى خردلت اللحم وخرذلته بالدال والذال. قطعته ومزقته.
وفيه: (قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها). المعنى: آذاني ريحها كأنه قال سمني ريحها. وكل مسموم قشيب ومقشب. ومنه: نسر قشيب: إذا خلط له في لحم يأكله سم، فإذا أكله قتله فيؤخذ ريشه.
قال الهذلي:
به ندع الكمى على يديه .... يخر تخاله نسرا قشيبا
والذكاء- بفتح الذال: شدة وهج النار، من: ذكت النار وأذكيتها أنا وذكيتها: إذا أتممت اشتعالها.
والذكاء: بلوغ كل شيء منتهاه.
[4199]
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه حكاية عن الله- عز وجل: (يا بن آدم ما يصريك مني).
يقال: صرى الله عنه شره، أي: دفع، وصريته منعته.
قال ذو الرمة:
وودعن مشتاقا أصبن فؤاده .... هواهن إن لم يصره الله قاتله
وصريت ما بينهم صرياً، أي: فصلت. يقال: اختصمنا إلى الحاكم قصرى ما بيننا، أي: قطع ما بيننا وفصل.
وقد فسر قوله: (ما يصريك) بقطع المسألة، أي ما يقطع مسألتك مني، وحسن أن يقال: ما يفصل بينى وبينك، أي: ما الذي يرضيك حتى تترك مناشدتك والمعنى، إن أجبتك إلى مسألتك كرة بعد أخرى، وأخذت ميثاقك أن لا تعود أن لا تسأل غيره، وأنت لا تفي بذلك، فما الذي يفصل بيني وبينك في هذه القضية، ويكون على وجه المجاز والاتساع، والمبتغى منه التوقيف على فضل الله ورحمته وكرمه وبره بعباده، حتى إنه يخاطبهم مخاطبة المستعطف الباعث سائله على [الاستزادة].
وفي كتاب المصابيح: (ما يصريني عنك)، وهو غلط، والصواب:(ما يصريك مني) كذا رواه المتقنون من أهل الرواية.
وفيه: (أتستهزئ مني وأنت رب العالمين). يريد: أتحلني محل المستهزأ به.
فإن قيل: كيف يصح هذا القول من العبد بعد كشف الغطاء، واستواء العالم والجاهل في معرفة ما يجوز على الله وما لا يجوز؟
قلنا: مثابة هذا العبد مثابة العالم العارف الذي يستولى عليه الفرح بما آتاه الله وكاشفه به، فيزل لسانه من شدة الفرح.
وأما قوله: (مم تضحك يا رسول الله، قال: من ضحك رب العالمين)، فإن السبيل فيه أن نقول: الضحكان وإن كانا متفقين في اللفظ فإنهما متباينان في المعنى، وذلك أن الضحك من الله سبحانه يأول على كمال الرضا عن العبد، وقد نبهنا عليه في [191/ب] غير هذا الموضع، وإنما قابل أحدهما بالآخر مع معرفة التباين بينهما؛ لأنه كان السبب لمسرته صلى الله عليه وسلم.
=====
[4207]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار جيء بالموت ..) الحديث. المراد منه أنه تمثل لهم ذلك على المثال الذي ذكره في غير هذه الرواية: (يؤتي بالموت بكبش أعين
…
) الحديث. وذلك ليشاهدوه بأعينهم فضلاً أن يدركوه بأبصارهم. والمعاني إذا ارتفعت عن مدارك الأفهام واستعلت عن معارج النفوس لكبر شأنها صيغت لها قوالب من عالم الحس حتى يتصور في القلوب ويستقر في النفوس. ثم إن المعاني في الدار الآخرة تتكشف للناظرين انكشاف الصور في هذه الدار الفانية.
هذا، وما أحببنا أن نؤثر الإقدام على سبيل لا معلم بها لأحد، فاكتفينا بالمرور عن الإلمام.
(ومن الحسان)
[4208]
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان رضي الله عنه: (ما بين عدن إلى عمان البلقاء).
وفي حديث أنس: (كما بين أيلة وصنعاء من اليمن).
وفي حديث ابن عمر: (كما بين جرباء وأذرح).
وفي حديث حارثة بن وهب: (كما بين صنعاء والمدينة).
وفي حديث عبد الله بن عمرو: (مسيرة شهر).
فإن قيل: إن بين هذه المقادير من التفاوت ما لا يخفى على ذوي المعرفة بها.
قلنا: إنما أخبر نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك على طريق التقريب لا على طريق التحديد، والذي [اقتضى ذلك تلك الأماكن] مع التفاوت الذي فيها هو اختلاف أحوال السامعين في الإحاطة بها علماً، فبين مقدار مسافة كل قطر من أقطار الحوض تارة بما يقطعها المسافر في الشهر، وتارة بالأماكن المختلفة المشهورة عند الناس لتقع المعرفة به عند كل أحد على حسب ما عنده من المعرفة ببعد ما بين الموضعين. ولو أورده مورد
التحديد لافتقر أن يأتي في بيانه بذكر موضع لا معلم به لأحد، فلم يكد يتحقق [188/ب] عند السامع مقداره.
فإن قيل: أو لم يكف في بيانه على وجه التحديد بما أتى به من ذكر مسيرة شهر؟
قلنا: وذلك أيضاً من باب التقريب؛ لاختلاف أحوال الناس في السير؛ فإن منهم من يقطع في الشهر من المسافة ما لا يقطع غيره في الشهرين، وأقصى ما يقدر فيه الغالب، وذلك أيضاً من باب التقريب.
وفيه: (نعم لكم سيماء). سيماء: أي علامة. وفي معناه سيميا.
وفيه: (يغث فيه). أي: يدفق دفقاً متتابعاً دائماً. والأصل فيه أن تتبع القول القول والشرب الشرب.
(ومن الحسان)
[4208]
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان- رضي الله عنه: (ولا يفتح لهم السدد) السدد: الأبواب.
ومنه حديث أم سلمة- رضي الله عنها أنها قالت لعائشة:رضي الله عنها: (إنك سدة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته). أي: باب، فمتى أصيب ذلك الباب بشيء انتهل الخلل منه إلى حريمه.
[4213]
ومنه حديث ابن مسعود- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم[قيل له]: ما المقام المحمود؟ قال: ذلك يوم ينزل الله
…
) الحديث.
فإن قيل: كيف وجه المطابقة بين السؤال والجواب، فإنه سئل عن المقام المحمود وأخبر هو عن اليوم الذي يبلغ فيه ذلك المقام؟.
قلنا: قدم بيان الوقت الذي يوجد فيه والأجل الذي ضرب لكينونته مقترناً بذكر ما يشير إلى شدة ذلك اليوم؛ ليكون أعظم في النفوس موقعاً، ثم أتى بالجواب، في قوله: (ثم أقوم على يمين الله
…
) الحديث.
وقوله: (ذلك يوم) فإن كانت الرواية وردت فيه بالنصب على الظرف فالمعنى بين، ولا أحققها وبالرفع والتنوين هي التي نعرفها.
وفي الكلام حذف: والتقدير: ذلك اليوم الذي ابلغ فيه المقام المحمود يوم، أو نحو ذلك.
وقوله: (ينزل الله على كرسيه)، من المعضلات التي وجد الأولون في الهرب من تأويلها لشذوذ ألفاظها
عن مسلك التقرير، وعسر التئامها في منهج التأويل ومن انتهى به الأمر إلى ذلك فالسلامة في التسليم مع نفي التشبيه.
ومن ذهب فيه إلى معنى التجلي له بنعت العظمة والإقبال عليه بوصف الكبرياء في اليوم الموعود حتى يتضايق عن احتمال ما قد غشيه من ذلك، فلم يبعد عن الحق؛ لما في كشف الحجاب من معنى النزل عن معارج الجلال إلى معالم الجمال. وفي قوله: (وهو يسعه [192/أ] ما بين السماء والأرض]، تنبيه على أن الكرسي ليس بمنهبط من مستقره الذي هو عليه؛ لأنه إذا وسعه السموات والأرض لم تكن السموات والأرض لتسعه.
هذا وقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الكرسي فوق السموات، ولا جائز أن نقول: إن الكرسي ينزل إلى السموات للمانع الذي ذكرناه، بل نقول: إن الكرسي إذا طويت السموات انكشفت للناظرين، وذلك بروزه لفصل القضاء.
وإذا كان الكرسي ممتنعاً بوصفه الذي هو عليه عن النزول إلى العالم الذي هو تحته ودونه، وصار الكرسي محتوياً عليه ومحيطاً به، مع أنه من جملة الأجسام التي يجوز عليها التحول والانتقال، فما ظنك بمن لا يستولى عليه صفات الأجسام، ولا تجرى عليه أحكام الحدثان، تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
والمراد عن القيام على اليمين قيامه مقام الكرامة وقد ذكرناه فيما مر.
وفيه: (بريطتين). الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفقتين.
[4218]
ومنه قول عمر- رضي الله عنه في حديث أنس- رضي الله عنه: (إن شاء أن يدخل خلقه بكف واحدة فعل).
قلت: إنما ضرب المثل بالحثيات؛ لأن من شأن المعطي إذا استزيد أن يحثى بكفيه من غير حساب، وربما ناوله ملء كف، وإنما لم يجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بمثل كلام عمر- رضي الله عنهما لأنه وجد للتارات في ذلك مدخلاً فإن الله ينجي خلقه من عذابه بشفاعة الشافعين الفوج بعد الفوج، والقبيل بعد القبيل، ثم يخلص من قصر عنه شفاعة الشافعين بفضله ورحمته، وهو الذين سلم لهم الإيمان، ولم يعملوا خيراً قط، على ما مر في الحديث.
[4221]
ومنه حديث ابن مسعود- رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم
…
) الحديث.
الورود: أصله قصد الماء، ثم يستعمل في غيره، والمراد منه هاهنا الجواز على جسر جهنم، وقد بينه بما بعده، (وأولهم كلمح البرق) إلى تمام الحديث.
وإنما سماه وروداً؛ لأن المارة على الصراط يشاهدون النار ويحضرونها.
تقول: وردت ماء كذا، إذا حضرته وإن لم تشرع فيه، وعلى هذا الوجه يأول قوله- سبحانه-:{وإن منكم إلا واردها} لا معدل عنه لما شهد له الحديث بالصحة.