الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
مناقب عمر- رضي الله عنه
-
(من الصحاح)
[4581]
حديث أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون ..) الحديث. المحدث في كلامهم هو: الرجل الصادق الظن، وهو في الحقيقة من ألقى في روعه شيء من قبل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدث به.
وفي قوله: (وإن يك في أمتي أحد فهو عمر) لم يرد هذا القول مورد التردد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذا كانوا موجودين في غيرهم من الأمم فبالحرى أن يكونوا في هذه الأمة أكثر عددا وأعلى رتبة، وإنما ورد مورد التأكيد والقطع، ولا يخفى على ذي الفهم محمله بقول الرجل: إن يك لي صديق فإنه فلان، يريد بذلك اختصاصه بالكمال في صداقته، لا نفي الأصدقاء.
[4582]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه: (إيه يا ابن الخطاب):
إيه: اسم سمي به لفعل؛ لأنه معناه الأمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهاء، فإن وصلت نونت. قلت: إيه حديثنا، وقد ذكرناه في حديث عمرو بن الشريد لما استزداه من شعر
أمية بن أبي الصلت وإذا أسكته وكففته قلت: إيها عنها، ومن حقه في هذا الحديث أن يكون إيها أي: كف يا بن الخطاب عن هذا الحديث. ورواه البخاري في كتابه مجرورا منونا، الصواب فيه إيها. وروى مسلم هذا الحديث في جامعه وليس لهذه الكلمة في روايته ذكر.
قلت: وفي قوله (ما لقيك الشيطان سالكا فجا ..) الحديث تنبيه على صلابته في الدين واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، حتى كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كالسيف الصارم والحسام القاطع، إن أمضاه مضى، وإن كفه كف، فلم يكن له على الشيطان سلطان إلا من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هو كالوازع بين يدي الملك، فهذا كان الشيطان ينحرف عن الفج الذي سلكه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة إلى العالمين، مأمور بالعفو عن المذنبين، معنيا بالصفح عن الجاهلين- لم يكن ليواجههم فيها لا يحمده من فعل [324] مكروه أو سوء أدب بالفظاظة والغلظة والزجر [البليغ، إذا لا يتصور الصفح والعفو مع تلك الخلال] فلهذا تسامح هو فيها، واستحسن استشعارهن الهيبة من عمر- رضي الله عنه.
[4586]
ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ..) الحديث. القليب البئر التي لم تطو، وضدها الطوى، وهي المطوية بالحجارة والآجر، وأنا أرى القليب دون الطوى، والله أعلم.
ليعلم أن همم أهل الدين موقوفة على المعاني المطلوبة دون القوالب المعمولة، وتأويل هذه الرؤيا راجع إلى السياسات الدينية التي تحتمل الاستخلاف، وتتم به دون الأنباء النبوية، لا تقبل الاشتراك، ولهذا لم تختلف صيغة الرؤيا في حال النبي صلى الله عليه وسلم وفي حال الشيخين. وفيما ذكره عن حال كل واحد من الشيخين إشارة إلى قصر مدة الأول منهما، والاضطراب الذي يوجد في زمانه من قبل أهل الردة، وإلى امتداد زمان خلافة الثاني، واتساع رقعة الإسلام وكثرة الفتوح، وعلى هذا النحو أوله جمع من أهل العلم، وقد بقيت عليهم بقية وهي إهمالهم بيان قوله (والله يغفر له ضعفه).
والعباد وإن لم يخل منهم أحد في حقوق الله عن تقصير ما، فإن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في معرض ما ذكر عنه مشعر بشيء من التقصير، ولم يكن منه- بحمد الله- تقصير فيما تولاه، كيف وقد قام بالأمر- على فترة من لناس، وارتداد أقوام من العرب واتباعهم ذا الخمار ومسيلمة وطليحة، وامتناع آخرين عن أداء الصدقة إلى الإمام- أحسن قيام، ودبره أتم تدبير، وبه كفى الله المؤمنين شرهم، وكف به بأسهم واستأصل شأفتهم، حتى ضرب الدين بجرانه، واستقر الحق في نصابه.
والوجه في ذلك أن نقول: إنه لما ذكر ضعف نزعه الذي يؤول إلى ما حدث في زمانه على ما ذكرنا دعا له بالمغفرة في كل ضعف بتداركه في أمره ذلك، أو أخبر بأن الله قد غفر له ضعفه؛ ليتحقق عند السامعين أن الضعف الذي وجد في نزعه لما يقتضيه تغير الزمان وقلة الأعوان غير راجع إليه بنقيصة، فهو فيما يتوهم منه الضعف؛ [لأن لا ضعف له]، فكيف فيما يقوى عليه؟ ويحتمل أنه أحوج في بعض السياسات إلى ملاينة ما لم يكن يأمن غائلة الإمضاء فيه، فأخبر بأنه معان موفق مسدد في ذلك؛ لما ينتابه من التأييد الإلهي، ومما ينبئك عن نظام هذا التأويل أن أبا بكر- رضي الله عنه لما أتى بالأشعث بن قيس مكبلا وكان قد ارتد، فقال لأبي بكر- رضي الله عنه (استبقني لحربك زوجني أختك)، فأطلقه زوجه أم فروة بنت أبي قحافة- رضي الله عنها وروى الطبراني بإسناده في أول كتاب المعجم أن أبا بكر- رضي الله عنه قال: ثلاث قد فعلتها ووددت أني لم أفعل: وددت أني كنت أمرت بقتل الأشعث يوم أتيت به ..) الحديث. عد ذلك على نفسه [325] مما غيره خير منه، ولم يفعل ذلك إلا توقيا من غائلة قومه، واستمالة لقلوبهم.
وفيه: (ثم استحالت غربا) أي: انقلبت عن حلها التي كانت عليها، والغرب: الدلو العظيمة، و (غربا) مميزا اسحالت الدلو.
وفيه: (فلم أر عبقريا) العبقر: موضع تزعم العرب أن الجنة تسكنه، فنسبوا إليه كل ما يعجبوا منه قوى وحذق وجودة صنيعة، وقد مر تفسيره بأكثر من هذا.
وفيه: (حتى ضرب الناس بعطن) يريد: حتى رووا وأرووا إبلهم، فأبركوها وضربوا لها عطنا، والعطن: مبرك الإبل حول الماء. وفي الرواية الأخرى: (يفرى فريه) يقال: فلان يفرى الفري: إذا كان يأتي بالعجب في عمله. وقد مر بيانه.
(ومن الحسان)
[4588]
قول علي- رضي الله عنه: (ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر) أي: لم نكن نبعد أنه ينطق بها بما يستحق أن تسكت إليه النفوس، وتطمئن به القلوب، وأنه أمر غيبي ألقى على لسانه. ويحتمل أنه أراد بالسكينة الملك الذي يلهمه ذلك القول.
[4592]
ومنه حديث بريدة- رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء .. الحديث) قد ذكرنا في هذا الباب في حديث سعد ما يبين وجه هذا الحديث وأمثاله. ثم إنا نقول: إنما النبي صلى الله عليه وسلم إنما مكنها من ضرب الدف بين يديه؛ لأنها نذرت، فدل نذرها على أنها عدت انصرافه على حال السلامة نعمة من نعم الله عليه، فانقلب الأمر فيه من صيغة اللهو إلى صيغة