الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن
باب: المبعث وبدء الوحي
(من الصحاح)
[4419]
قول عائشة- رضي الله عنها في حديث مبدأ الوحي: (إلا جاءت مثل فلق الصبح).
الفلق بالتحريك هو الصبح بعينه، قال ذو الرمة:
حتى إذا ما انجلى .... عن وجهه الفلق
وإنما أضافه إلى الصبح لاختلاف اللفظين، وحسنت هذه الإضافة لكون الفلق من الألفاظ المشتركة، يقال: للخلق الفلق، وللمطمئن من الأرض: الفلق، وإنما شبهتها بالفلق لإنارتها وإضاءتها وصحتها.
وفيه: (وكان يخلو بغار حراء).
حراء ممدود، ومنهم من يذهب فيه إلى التذكير فيصرفه، ومنهم من يذهب فيه إلى التأنيث فيمنعه الصرف.
وفيه: (فيتحنث فيه) فسرت التحنث بقولها: وهو التعبد الليالي ذوات العدد) ويحتمل أن يكون التفسير من قول الزهري أدرجه في الحديث وذلك من دأبه.
والتحنث من حيث اللغة العربية: إلقاء الحنث عن نفسه، وزعم بعضهم أنه لم يرد من باب التفعل في معنى إلقاء الشيء عن النفس إلا التحنث والتأثم والتحوب.
وفيه (قبل أن ينزع إلى أهله) نزع إلى أهله ينزع نزاعا، أي: اشتاق، وبعير نازع، وناقة نازع: إذا حنت إلى أوطانها.
وفيه: (حتى جاءه الحق) أي: الأمر الحق، وهو الوحي أو جاءه رسول الحق وهو جبريل.
وفيه: (فأخذني فغطني) الأصل في الغط المقل في الماء والتغويص فيه، ولما كان الغط مما يأخذ تنفس المغطوط استعمل مكان الخنق، وفي بعض الروايات (فخنقني)، وفي بعضها:(فأبني) وفي معناه، (فأتني)، بالتاء أخت الطاء، وكلا اللفظين بمعنى الخنق.
وفيه: (حتى بلغ مني الجهد) روي بفتح الجيم وضمها، وبرفع الدال [300] ونصبها والأجود ضم الجيم ورفع الدال، أي: بلغ مني الطاقة، [ولا أرى الذي يرويه بنصب الدال إلا قد وهم فيه]، أو جوزه من طريق الاحتمال، فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطته وجهد جهده بحيث لم يبق فيه مزيد، وهذا قول غير سديد، فإن البنية البشرية لا يستدعي استنفاد القوة الملكية، لاسيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القضية على أنه اشمأز من ذلك وتداخله الرعب.
وفيه: (ولقد خشيت على نفسي) أدهشته هيبة البديهة، وأخذته سورة تلك الحالة، فأوجس في نفسه خيفة من الخيال.
وفيه: (وتحمل الكل): أي تحمل الثقل عن ذوي الأثقال، والكل: الثقل من كل ما يتكلف قال الله تعالى: {وهو كل على مولاه} ومنه قيل للعيال: الكل، وقيل لليتيم: الكل؛ قال الشاعر:
ويأكل مال الكل قبل شبابه
…
إذا كان عظم الكل غير شديد
وفيه: (وتكسب المعدوم): زعم جمع من أهل العلم أن صواب هذا اللفظ: وتكسب المعدم؛ أي تعطي العائل وتمنحه؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال.
وتكسب: يجوز أن يكون من قولهم: كسبت زيدا مالا؛ ويجوز أن يكون من أكسبته مالا؛ قال الخطابي: وأفصحهما: كسبته، وذكر الهروي عن ابن الأعرابي: يكسب بضم الياء، وأنشد:
فأكسبني مالا وأكسبته حمدا
قلت: والمعدوم هي اللفظة الصحيحة بين أهل الرواية؛ وأجراها بعضهم على الاتساع، فرأى أنه أنزل العائل منزلة المعدوم مبالغة في العجز كقولك للبخيل أو الجبان: ليس بشيء، وعليه قول المتنبي:
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وعلى مثل هذا يحمل قول ابن أبي أوفى- رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقل اللغو) أي لا يغلو رأسا؛ قال الله تعالى: {فقليلا ما يؤمنون} أي: لا يؤمنون لا قليلا ولا كثيرا، وإنما ذكرت لفظ الكتب إرادة أنك لا تزال تسعى في طلب عاجز تنعشه كما يسعى غيرك في طلب مال ينعشه.
(وتعين على نوائب الحق) أي تعين الملهوف على ما أصابه من النوائب التي يحق على حماة الحقيقة المعاونة فيها.
وفيه: (فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى): قال بعضهم: الناموس: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر؛ قيل: وأصله من نامست الرجل: إذا ساررته.
وفيه: (يا ليتني فيها جذعا): قال بعضهم: ليتني فيها جذعا نصب على إضمار كنت؛ لأن ليت قد شغل بالمكنى فلم يبق له عمل فيما بعد، هذا كلام صحيح، وفي إضمار كنت كلام، والصواب أن ينصب على الحال، والتقدير: يا ليتني باق فيها جذعا، أي جلدا قويا شابا، بمثابة الجذع من الخيل؛ قال الراجز:
يا ليتني فيها جذع .... أخب فيها وأضع
ويقال: فلان في هذا الأمر جذع إذا كان أخذ فيه [301] حدثا. وأنث الضمير في قوله: (يا ليتني فيها) إرادة للنبوة أو للدعوة أو للأيام التي تظهر فيها.
وفيه: (أنصرك نصرا مؤزرا)، أي: بالغا في القوة، مأخوذ من الأزر وهو القوة.
وفيه: (لم ينشب ورقة) أي لم يمكث ولم يبرح، وحقيقته أنه لم يتعلق بشيء، ولم يشتغل بغير ما هو فيه.
[4420]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر- رضي الله عنه: (فجئت منه رعبا) جئث الرجل: إذا أفزع، وكذلك جث وجئف. وقوله:(رعبا) أي ممتلئا رعبا، ويجوز أن يكون معناه: مرعوبا كل الرعب، ويحتمل أنه ميز الجأث: هو الإفزاع بالرعب لافتراق معنييهما؛ وهو أن الفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المجيف وهو قريب من الجزع. والرعب: الانقطاع من امتلاء الخوف، والرعب يتعدى ولا يتعدى؛ يقال: رعبته فرعب.
[4421]
ومنه حديث عائشة- رضي الله عنها (أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس
…
) الحديث. وفي غير هذه الرواية: (كأنه صلصلة على صفوان) وفي رواية أخرى: (كجر السلسلة على الصفوان).
الصلصلة: صوت الحديد إذا حرك، وصل الحديد وصلصل: إذا تداخل صوته، والصلصلة أشد من الصليل. وفي بعض الروايات:(مثل صرصرة الجرس) يقال: صر الجندب إذا صوت، وكذلك الباب، فإن كرر الصرير ورجع قيل: صرصر صرصرة، ومنه الحديث (أنه كان يخطب إلى جذع فاتخذ المنبر، فاصطرت السارية) وهو افتعلت من الصرير أي حنت وصوتت. قلت: وهذا حديث يغالط فيه أبناء الضلالة، ويتخذونه ذريعة إلى تضليل العامة وتشكيكهم، وهو حق أبلج، ونور يتوقد {من شجرة مباركة} ، {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار} لا يغلط فيه إلا من أعمى الله عيني قلبه.
وجملة القول في هذا الباب أن نقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم معنيا بالبلاغ، مهيمنا على الكتاب، مكاشفا بالعلوم الغيبية، مخصوصا بالمسامرات القلبية، وكان يتوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد؛ فإذا أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة، ليعرفوا مما شاهدوه ما لم يشاهدوه، فلما سأله الصحابي عن كيفية الوحي وكان ذلك من المسائل العويصة والعلوم الغريبة التي لا تميط نقاب التعزز عن وجهها لكل طالب ومتطلب، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت
المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيها على أنباءها ترد على القلب في لبسة الجلال، وأبهة الكبرياء، فيأخذ هيبة الخطاب عند ورودها بمجامع القلب ويلاقي من ثقل القول ما لا علم له بالقول، مع وجود ذلك، فإذا سري عنه وجد القول المنزل بينا ملقى في الروع، واقعا وقع المسموع، وهذا معنى قوله:(فيفصم عني وقد وعيت) ومعنى [302] يفصم: أي يقلع عني كرب الوحي؛ شبهه بالحمى إذا فصمت عن المحموم؛ يقال: أفصم المطر أي أقلع، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة؛ على ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، {إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} .
هذا وقد تبين لنا من حديث عائشة رضي الله عنها أن الوحي كان يأتيه على صيغتين:
أولاهما أشد من الأخرى؛ وذلك بأنه كان يرد فيها من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة، على ما ذكر في حديث أبي هريرة، وهو حديث حسن صحيح.
والأخرى يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته، وكانت هذه أيسر، والله أعلم.
وفيه: (وإن جبيته ليتفصد عرقا) أي: يسيل؛ يقال: انفصد الشيء وتفصد: إذا سال؛ كأنه شبه بالعرق المفصود، إذا سال عنه الدم.
[4422]
ومنه قول عبادة بن الصامت- رضي الله عنه في حديثه: (إذا أنزل عليه الوحي كرب لذلك): يحتمل أنه كان يهتم بأمر الوحي أشد الاهتمام ويهاب مما يطالب به من حقوق العبودة والقيام بشكر المنعم، ويخشى على عصاة الأمة أن ينالهم من الله خزي ونكال؛ فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس حتى يعلم ما يقضى إليه.
ويحتمل أن المراد منه كرب الوحي وشدته؛ فإن الأصل في الكرب الشدة، وإنما قال الصحابي:(كرب) لما وجد من شبه حاله بحال المكروب.
وقوله: (تربد وجهه) أي تغير، وأكثر ما يقال ذلك في التغير من الغضب، وتربد الرجل أي: تعبس. وفيه: (فلما أتلى عليه رفع رأسه) كذا هو في المصابيح، وأرى صوابه:(فلما تلي عليه)؛ من التلاوة؛ وإن كان (أتلي عليه) محققا فمعناه: أحيل، يقال: أتليته أي أحلته؛ أي: أحيل عليه البلاغ، وذلك أن الملك إذا قضى إليه ما أنزل به فقد أحال عليه البلاغ.
[4425]
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة- رضي الله عنها: (فلم أستفق إلا بقرن الثعالب).
أفاق واستفاق من مرضه وسكره بمعنى؛ أي: لم أستفق مما أنا فيه من الغم حتى بلغت قرن الثعالب، والقرن: جبيل صغير، وقرن الثعالب جبل بعينه، بين مكة والطائف.