المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب بدء الخلق - الميسر في شرح مصابيح السنة للتوربشتي - جـ ٤

[التوربشتي]

فهرس الكتاب

- ‌ كتاب الفتن

- ‌ باب الملاحم

- ‌ باب أشراط الساعة

- ‌ باب العلامات بين يدي الساعة

- ‌ باب نزول عيسى ابن مريم عليه السلام

- ‌ باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته

- ‌ باب لا تقوم الساعة إلى على الشرار

- ‌ باب النفخ في الصور

- ‌ باب الحشر

- ‌ باب الحساب

- ‌ باب الحوض

- ‌ باب صفة الجنة

- ‌ باب رؤية الله سبحانه

- ‌ باب صفة النار وأهلها

- ‌ باب خلق الجنة والنار

- ‌ باب بدء الخلق

- ‌ باب: فضائل سيد المرسلين

- ‌ باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته

- ‌ باب: ما ذكر من أخلاقه وشمائله

- ‌ باب: المبعث وبدء الوحي

- ‌ باب علامات النبوة

- ‌ الفصل الذي في المعراج

- ‌ الفصل الذي في المعجزات

- ‌ باب الكرامات

- ‌ مناقب قريش وذكر القبائل

- ‌ باب مناقب الصحابة

- ‌ باب مناقب أبي بكر- رضي الله عنه

- ‌ مناقب عمر- رضي الله عنه

- ‌ باب مناقب الشيخين- رضي الله عنهما

- ‌ باب مناقب عثمان- رضي الله عنه

- ‌ باب مناقب علي- رضي الله عنه

- ‌ باب مناقب العشرة

- ‌ باب مناقب أهل البيت

- ‌ باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته

- ‌ باب جامع المناقب

- ‌ باب ذكر اليمن والشام

- ‌ باب ثواب هذه الأمة

الفصل: ‌ باب بدء الخلق

قلت: وأرى في الرجل احتمالاً أقوى مما ذكروا، وهو أن يكون الراوي روى الحديث بالمعنى، وظن أن الرجل يسد مسد القدم.

ومما يؤيد ذلك أن البخاري روى هذا الحديث في كتابه بإسناده عن أبي هريرة من طريقين، وفي أحدهما:(فيضع الرب قدمه عليها) وفي الآخر: (حتى يضع رجله) ورواه أيضاً بإسناده عن أنس، وفي رواية:(حتى يضع رجله) أو قال: (قدمه).

قلت: ويحتمل أن يكون وضع القدم والرجل من باب المجاز والاتساع، ولم يرد بهما أعيانهما، بل أراد بذلك ما يدفع شرتها ويسكن سورتها ويقطع مسألتها، ويدل عليه قوله:(فيضع الرب قدمه عليها) ولم يقل: (فيها) وفي حديث أنس لم يذكر ظرفاً، ثم إنه أتى بهما من غير إضافة إلى الله سبحانه. وقوله:(قط قط)، أي: كفى كفى، وقط، إذا كانت بمعنى حسب، فهي مفتوحة القاف ساكنة الطاء، وإذا أضيفت قلت: قطك هذا الشيء وقطني، وقطي، وقط، والذي يعتمد عليه من الرواية في هذا الحديث بسكون الطاء، ويحتمل الكسر، أي: حسبي حسبي، وفي سائر نسخ المصابيح انتهي بها إلى ثلاث، وهي إحدى الروايات في كتاب مسلم، وفيما سوى ذلك منه، وفي سائر طرقها من كتاب البخاري لم يتعد بها عن الثنتين، والله أعلم.

ومن‌

‌ باب بدء الخلق

(من الصحاح)

[4294]

قوله في حديث عمران بن حصين- رضي الله عنه: (كان الله ولم يكن قبله شيء وكان

ص: 1230

عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض) كان الله ولم يكن قبله شيء: فصل مستقل بنفسه لا بالفصل الثاني، وهو قوله:(وكان عرشه على الماء) لما بين الفصلين من المنافاة فإنك إذا جعلت: (وكان عرشه على الماء) من تمام القول الأول، فقد ناقضت الأول بالثاني: لأن القديم من لم يسبقه شيء، ولم يعارضه في الأولية، وقد أشار بقوله:(وكان عرشه على الماء)، إلى أنهما كانا مبدأ التكوين، وأنهما كانا مخلوقين قبل السموات والأرض، ولم يكن تحت العرش قبل السموات والأرض إلا الماء، وكيفما كان، فالله سبحانه خالق ذلك كله وممسكه بقوته وقدرته. وقوله:(وكتب في الذكر) أي: أثبت جميع ما هو كائن في اللوح المحفوظ.

[4296]

ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً ..) الحديث. يحتمل أن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، ويكون معنى قوله:(فهو عنده) أي فعلم ذلك عنده. ويحتمل أن يكون المراد منه القضاء الذي قضاه. وعلى الوجهين، فإن قوله:(فهو عنده فوق العرش) تنبيه على كينونته مكنوناً عن سائر الخلائق، مرفوعاً عن حيز الإدراك، ولا تعلق لهذا القول بما يقع في النفوس من التصورات- تعالى الله عن صفات الحدثان، فإنه هو البائن عن جميع خلقه، المتسلط على كل شيء بقهره وقدرته.

قلت: وفي سبق الرحمة بيان أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، ألا يرى أنها تشمل الإنسان جنيناً ورضيعاً وفطيماً وناشئاً، من غير أن صدر منه طاعة استوجب بها ذلك، ولا يلحقه الغضب إلا بما يصدر عنه من المخالفات {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} فله الحمد على ما ساق إلينا من النعم قبل استحقاقها.

ص: 1231

[4298]

ومنه حديث أنس رضي الله عنه: (لما صور الله آدم في الجنة .. الحديث) أرى هذا الحديث مشكلاً جداً، فقد ثبت بالكتاب والسنة أن آدم خلق من أجزاء الأرض، فإن قيل: يحتمل أن طينته خمرت في الأرض، ثم حملت إلى الجنة، فصور فيها. قلنا: قد اشتهر في أخبار الأولين والآخرين أنه خلق من طين، ثم تركه حتى صار صلصالاً كالفخار، وأنه كان ملقى ببطن نعمان، وهو من أودية عرفات.

وفي حديث فضل يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها) وهو حديث صحيح، وقد دل على أنه أدخل الجنة وهو بشر حي، ويؤيده المفهوم من نص الكتاب:{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} ولو أخذنا بظاهر هذا الحديث لزم منه أنه خلق في الجنة، ثم أخرج منها، ثم أعيد إليها، ثم أخرج منها، وهذا قول يخالف نصوصاً كثيرة، فلا أرى الوجه فيه إلا احتمال أن يكون الكلمتان، أعني في الجنة، سهواً من بعض الرواه، أخطأ سمعه فيه، ولأن نقدر هذا التقدير أبر وأتقى من إحالة القول المتضاد على من عصمه الله من الخطأ فيما يخبر عنه صلى الله عليه وسلم أبد الآبدين ودهر الداهرين.

[4299]

ومنه حديثه الآخر- رضي الله عنه (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا خير البرية .. الحديث) قلت: لا يلزم من هذا أن يكون أحد من ولد آدم خيراً منه، لاحتمال أن يكون قوله هذا على سبيل التواضع وهضم النفس، ولاحتمال أن إبراهيم- عليه السلام كان يدعى بهذا النعت، أو خوطب به عن الله، اعتباراً بزمانه، فغن البرية على الحقيقة تطلق على من برأه الله قبل إبراهيم، أو في زمانه، أو على من لم يخلق بعد، ولابد لنا من القول بأحد الوجهين؛ لئلا يخالف النصوص الصحيحة [195/ب) التي وردت في فضل سيد المرسلين على سائر الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم أولاً وآخراً.

[4300]

ومنه حديثه الآخر: (اختتن إبراهيم النبي عليه السلام .. الحديث) القدوم- بتخفيف الدال- موضع بالشام، ومن المحدثين من يشدد، وهو خطأ، ومن الناس من يظن أنه اختتن بالقدوم الذي ينحت به، وهو غلط. وبالمدينة جبل يقال له: قدوم، ومنه الحديث:(بطرف القدوم) وأكبر ظني أن هذا بالتشديد.

[4301]

ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات .. الحديث).

ص: 1232

قلت: إنما سماها كذبات وإن كانت من جملة المعاريض-لعلو شأنهم عن الكناية بالحق، فيقع ذلك موقع الكذب عن غيرهم، وكذلك حكاه عن إبراهيم عليه السلام فيما يقوله يوم يسأل الشفاعة: فيقول: إني قد كذبت ثلاث كذبات (نفسي نفسي) وقوله: (في ذات الله) أي: فيما يختص به ولم يكن لإبراهيم نفسه فيه أرب، وقد ذكرنا معنى الذات فيما تقدم من الكتاب.

وفيه: (إن علم أنك امرأتي يغلبني عليك) وجه هذا القول- والله أعلم- أن ذلك الجبار كان من أمره الذي يتدين به في أحكام السياسة، أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، يرى أنها إذا اختارت الزوج، فليس لها أن تمتنع من السلطان، بل يكون هو أحق بها من زوجها، فأما اللاتي لا أزواج لهن، فلا سبيل عليهم إلا إذا رضين. هذا هو الوجه الذي يقتضيه لفظ الحديث.

وفيه: (فغط حتى ركض برجله) الغط: الضغط الشديد وهو هاهنا بمعنى الخنق، أي: أخذ بمجاري نفسه، حتى سمع له غطيط.

وفيه: (إنما أتيتني بشيطان) أراد به المتمرد من الجن، وكانوا يهابون الجن ويعظمون أمرهم.

وفيه: (فأما بيده: مهيم) جعل لفظة مهيم مفسرة للإيماء، وليست بترجمة لقوله، فإن قيل: أولم يكن الكلام في الصلاة مباحاً في أول الإسلام، فما ينكر أن يكون في ملة إبراهيم على ما كان عليه من أول الإسلام؟

قلنا: لم نذهب إلى ما ذهبنا إليه اتكالاً على تحريم الكلام، فإنه شيء لم نطلع على حقيقة الأمر فيه، وإنما ذهبنا بمكن الإيماء باليد، ثم إنها لو كانت مفسرة لقوله، لكان من حقه أن يقال: فأومأ بيده، وقال: مهيم. فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون في الكلام حذف؟ قلنا: لا ضرورة [196/أ] بنا إلى هذا التقدير، وليس بنا حاجة بأن ندع ظاهر الكلام ونقدر ما ليس لنا به علم، و (مهيم) كلمة يمانية يستعملونها في الاستفهام، ومعناها: مالك، وما شأنك.

وفيه: (فتلك أمكم يا بني ماء السماء)، قال الخطابي: أراد بها العرب، لأنهم يبتغون مواقع القطر، ويتعيشون منها.

ص: 1233

قلت: ولا اختصاص للعرب بهذا، فإن جميع أصحاب الأموال يبتغون مواقع القطر، وغير العرب أحق بهذا النبز من العرب، إذ لا يوجد في سائرهم أقل ماء من العرب، ولا أصبر على فقدانه منهم. وأرى أنه خاطب بهذا القول الأنصار، فإن ماء السماء لقب عامر بن حارثة الأزدي، وهو أبو عمرو مزيقياء، وهو الذي خرج من اليمن لما أخبر بسيل العرم، وسمي ماء السماء، لأنه كان إذا أجدب قومه مائهم حتى يأتيهم الخصب، فقالوا: هو ماء السماء. وقيل لولده: بنو ماء السماء، ومن ولده الأنصار وملوك الشام.

ومن قيل بعض الأنصار:

أنا ابن مزيقيا عمرو، وجدي .... أبوه عامر ماء السماء

ويقال لملوك العراق أيضاً: بنو ماء السماء، نسبوا إلى أمهم أم المنذر بن امرئ القيس اللحمي، وهي: بنت عوف بن جشم، سميت بذلك لجمالها، وهذا مما لا مدخل له فيما نحن فيه، وإنما ذكرناه دفعاً للالتباس.

[4304]

ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (نحن أحق من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموتى) أي: نحن أحق بهذا السؤال منه، أراد بذلك تفخيم أمره، وأن ذلك منه لم يكن لنقصان في يقينه، ونحن أحق بطلب تلك المنزلة لحصول الاطمئنان.

ورواه بعضهم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) يريد أن هذا السؤال منه لم يكن لشك، ونحن أحق بالشك منه، ولسنا نشك فيه، فكيف يجوز أن يشك هو فيه؟ والقصد في نفي الشك عن إبراهيم، لا إثبات الشك لنفسه أو لمن اتبعه. وأصح الطرق ما لم يذكر فيه الشك، وإنما حذفه واقتصر الكلام كراهة أن يجعل لنفسه مثل السوء، وكان من دأبه الكريم أن يعدل عن مثل هذه الألفاظ ويحتشم عنها.

وفيه: (يرحم الله لوطاً، فإنه كان يأوى إلى ركن شديد) كأنه استغرب منه هذا القول، وعده بادرة منه، إذ لا ركن أشد من الركن الذي كان يأوي إليه.

ص: 1234

وأما قوله في يوسف- عليه السلام فإنه منبئ عن إحماده صبر [196/ب] يوسف، وتركه الاستعجال بالخروج من السجن مع امتداد مدة الحبس عليه، وأراه محتملاً لوجه آخر، هو: أنه رأى الكمال في الاسترسال مع الله على ما يأتي به عبده، ويوسف- عليه السلام إنما لبث في السجن بضع سنين، لأنه ابتغى الفرج عما هو فيه باللجؤ إلى العبيد، وكان الأولى بحاله أن لا يشكون ضره إلا إلى مولاه، ولا يتلقى الفرج قبل مجيئه، بل ينتظره بالصبر، ولا يعارض ما تيسر من الغيب بأمر من عنده، فأشار إلى أنه لو كان هو مكانه لتلقى الدعوة من الغيب الإجابة، وهذا تأويل سلكت فيه مسلك علمائنا من الصوفية قدس الله أرواحهم- ثم إن في ضمن هذا الحديث تنبيه على أن الأنبياء- عليهم السلام وأن كانوا من الله بمكان لا ينازلهم فيه أحد، فإنهم بشر، يطرأ عليهم من الأحوال ما يطرأ على البشر، فلا تعدوا ذلك منقصة، ولا تحسبوه مسبة.

[4306]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (إن بالحجر لندباً) أي: أثراً، وهو بالتحريك، والأصل فيه أثر الجرح، إذ لم يرتفع عن الجلد. والندب أيضاً: الخطر.

[4307]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثه أيضاً: (لا تخيروني على موسى) أي: لا تفضلوني عليه. قول قاله على سبيل التواضع أولاً، ثم ليردع الأمة عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانياً، فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبية، فينتهز الشيطان منهم عند ذلك فرصة، فيدعوهم إلى الإفراط والتفريط، فيطرون الفاضل فوق حقه، ويبخسون المفضول حقه، فيقعون في مهواة الغي، ولهذا قال:(لا تخيروا بين الأنبياء)

ص: 1235

أي: لا تقدموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم بل بما أتاكم من الله من البيان، وعلى هذا النحو قوله صلى الله عليه وسلم:(ولا أقول: إن أحداً خير من يونس بن متى) أي: لا أقوله من تلقاء نفسي ولا أفضل أحداً عليه، من حيث النبوة والرسالة، فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل نقول: كل من أكرم بالنبوة، فإنهم سواء فيما جاءوا به عن الله، وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أكرم بالرسالة، وإليه وقعت الإشارة بقوله سبحانه {لا نفرق بين أحد من رسله} وإنما خص يونس بالذكر من بين الرسل؛ لما قص الله عليه في كتابه من أمر يونس وتوليه عن قومه، وضجرته عند تثبطهم في الإجابة، وقلة الاحتمال عنهم والاحتفال بهم، حين راموا التنصل، فقال -عز من قائل:{ولا تكن كصاحب الحوت} وقال: {وهو مليم} فلم يأمن صلى الله عليه وسلم أن يخامر بواطن الضعفاء من أمته ما يعود إلى نقيصة [196/أ] في حقه، فنبأهم أن ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله، وأنه مع ما كان من شأنه كسائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

هذا قول جامع في بيان ما ورد في هذا الباب، فافهم ترشد إلى الأقوم. وأما ما ذكره في هذا الحديث من الصعقة، فهي بعد البعث، عند نفخة الفزع، فأما في البعث، فلا تقدم لأحد فيه على نبينا صلى الله عليه وسلم واختصاص موسى عليه السلام بهذه الفضيلة لا يوجب له تفضيلاً على من تقدمه بسوابق جمة، وفضائل كثيرة، والله المسئول أن يعرفنا حقوقهم، ويحيينا على محبتهم، ويميتنا على سنتهم، ويحشرنا على ما كانوا عليه.

[4310]

ومنه حديثه الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي الخضر؛ لأنه جلس على فروة بيضاء .. الحديث) أراد به الهشيم اليابس، شبهة بالفروة، وقوله:(خضراء) على زنة: حمراء ومنهم من رواه (خضراً) بالتنوين، أي: نباتاً أخضر ناعماً.

ص: 1236

وحديثه الآخر الذي يتلو هذا الحديث قد مر بيانه. وفيه: (فما توارت يدك) وصوابه (فما وارت يدك) وهذا غلط وقع عن بعض الرواة في كتاب مسلم. وفي كتاب البخاري: (فله بما غطت يده بكل شعرة سنة).

[4313]

ومنه حديث جابر- رضي الله عنه: (عرض على الأنبياء، فإذا موسى ضر من الرجال) يريد: أنه كوشف بما كانوا عليه من الصور والأشخاص، فوجد المذكورين منهم في هذا الحديث على ما نعتهم. و (الضرب): الرجل الخفيف اللحم. قال طرفة:

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه .... خشاش كرأس الحية المتوقد

و (الشنوءة): التباعد من الأدناس. ومنه (أزد شنوءة) وهم حي من اليمن.

قال ابن السكيت: وربما قالوا: شنوة- بالتشديد من غير همز. قال الشاعر:

نحن قريش، وهو شنوة .... بنا قريشا ختم النبوة

ص: 1237

[4314]

ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنه: (رأيت ليلة أسرى بي موسى رجلاً آدم طوالاً) الآدم من الناس: الأسمر والطوال بضم الطاء وتخفيف الواو: الطويل، وعليه الرواية. و (سبط الرأس) أي: شعر الرأس، وهو ضد الجعودة، يقال: شعر سبط وسبط، بكسر الباء وفتحها أي: مسترسل.

وفيه: (في آيات أراهن الله) هذا من قول الراوي، وجاء على وجه البيان، فأدرج في الحديث.

[4315]

ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه: (ليلة أسرى بي لقيت موسى) فنعته، (فإذا رجل مضطرب ..) الحديث. قد جاء ضرب اللحم على ما بينا في حديث جابر، فأما [المضطرب] بمعنى الضرب، فلم نجده ولم نعلم له مساغاً [197/ب] في الباب القياسي؛ لأن الأصل في اضطراب: افتعل؛ أبدلت التاء طاء، ولم يذكر من الضرب الذي هو خفيف اللحم فعل، فيرد منه افتعل، فإن لم يكن ذلك من بعض الرواة- ظناً منه أن المضطرب يسد مسد الضرب؛ فالوجه فيه أن يكون عبارة عن الحدة التي كان قد جبل عليها، فإن من شأن الحاد أن يكون متحركاً قلقاً.

وفيه: (ولقيت عيسى ربعة).

يقال: رجل ربعة بالتسكين؛ أي: مربوع الخلق لا طويل ولا قصير، وكذلك: امرأة ربعة.

وفيه (فأتيت بإناءين ..) الحديث.

العالم القدسي يصاغ فيه الصور من العالم الحسي، ليدرك بها المعاني، ولما كان اللبن في العالم الحسي من أول ما يحصل به التربية ويرشح به المولود، صيغ عنه مثال الفطرة التي تتم بها القوة الروحانية، وتنشأ عنها الخاصية الإنسانية.

[4316]

ومنه حديث ابن عباس- رضي الله عنهما (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق

)

ص: 1238

الحديث.

وادي الأزرق موضع بين الحرمين، ولعله منسوب إلى رجل بعينه كان يحل به، أو سمي بذلك لزرقة مائه أو لغير ذلك.

وفيه: (وله جؤار أي تضرع).

ومنه قوله سبحانه {فإليه تجارون} أي: تتضرعون.

وفيه: (قالوا هرشى أو لفت).

هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر، ويقال لها أيضاً: لفت، وقيل: إنما سميت [198/أ] هرشى لمهارشة كانت بينهم هنالك. ولهرشى طريقان في أيهما أخذ السالك كان مصيباً، وبها يضرب المثل، وفيها يقول الشاعر:

خذي أنف هرشى أو قفاها فإنه .... كلا جانبي هرشى لهن طريق

وفيه: (حطام ناقته خلبة)، أي: زمامها ليف.

[4317]

ومنه حديثه الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم (خفف على داود القرآن) الحديث.

يريد بالقرآن: الزبور، وإنما قال القرآن؛ لأنه قصد به إعجازه من طريق القراءة وقد دل الحديث على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن شاء من عباده، كما يطوي المكان لهم، وهذا باب لا سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني.

ص: 1239

[4319]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثه أيضاً: (وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).

الأصل في (أيم الله): (أيمن الله، حذف منه النون، وهو اسم وضع للقسم هكذا بضم الميم والنون، وألفه ألف وصل عند أكثر النحويين، ولم يجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها، وتقديره: أيمن الله قسمي وإذ حذف عنه النون قيل: أيم الله، وايم الله بكسر الهمزة أيضاً.

و (أجمعون) تأكيد، ومنهم من يرويه:(أجمعين) على الحال، والرواية المعتد بها:(أجمعون) بالرفع.

[4321]

ومنه حديث أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم) الحديث.

بين وجه الأولوية بالأخوة التي بين الأنبياء، ثم بقرب زمانه من زمانه، واتصال دعوته بدعوته وجعل ذلك كالنسب الذي هو أقرب الأسباب.

وبنو العلات: هم أولاد الرجل من نسوة شتى سميت بذلك؛ لأن الرجل الذي تزوجها على أولى قد كانت قبلها تأهل ثم عل من هذه؛ فلهذا يقال لها: علة.

وقوله: (ودينهم واحد) يريد به ما يدعون إليه من التوحيد والطاعة، وليس اختلاف شرائعهم من ذلك في شيء. ثم إن الشرائع- وإن اختلفت بحسب مصالح العباد- فإن أصولها متفقة، ومرجع الكل إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله.

(ومن الحسان)

ص: 1240

[4324]

حديث أبي رزين العقيلي- رضي الله عنه: قال: (قلتك يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض) الحديث.

ذهب بعض أهل العلم فيه إلى أن التقدير: أين كان عرش ربنا؟ قال: ويدل عليه قوله: (وخلق عرشه على الماء).

و (العماء) ممدوداً: هو السحاب. قال أبو عبيد: ولا ندري كيف كان ذلك العماء.

قلت: وقد نقل عن أبي زيد أنه قال: العماء شبه الدخان يركب رءوس الجبال.

وعن أبي الهيثم: أنه عمى مقصور، وفسره فقال: هو كل أمر لا يدركه عقول بني آدم، ولا يبلغ كنهه الوصف، ولا يدركه الفطن.

فإن قيل: إن الرواية صحت بأنه العماء ممدوداً قلنا: أيا ما كان فلا افتراق بين الروايتين من حيث المعنى، لأن المراد عن الممدود أيضاً ما احتجب الله به عن العقول، وحال دون ما استأثر به من الأمر المكنون فعبر بالعماء عن الحجاب، والله أعلم.

[4326]

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه: (وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب) إذا علمنا أن الكيفية عن الله- سبحانه- وعن صفاته منفية، لم يكن لنا أن نحمل أمثال هذا الحديث إلا على تقدير عظمة الله وجلاله.

ص: 1241

=====

ص: 1242