المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صلاة الجمعة - النجم الوهاج في شرح المنهاج - جـ ٢

[الدميري]

الفصل: ‌باب صلاة الجمعة

‌بَابُ صَلَاةِ اَلْجُمُعَةِ

ــ

باب صلاة الجمعة

هي بضم الميم وإسكانها وفتحها، وجمعها: جمعات وجمع، سميت بذلك لاجتماع الناس لها، وقيل: لما جمع في يومها من الخير، وقيل: لأنه جمع فيه خلق أدم عليه الصلاة والسلام.

وكان يسمى في الجاهلية: يوم العروبة ومعناه: البين المعظم، وقيل: يوم الرحمة، قال الشاعر [من البسيط]:

نفس الفداء لأقوام هم خلطوا

يوم العروبة أورادًا بأوراد

وأول من سماها الجمعة كعب بن لؤي، وهو أول من جمع الناس بمكة وخطبهم وبشر بمبعث النبي صلي الله عليه وسلم وحض على إتباعه.

والأصل فلي وجوبها قبل الإجماع قوله تعالى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} أي: في يوم الجمعة {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: امضوا وبذلك قرأ عمر، وعمل الإنسان يسمى سعيًا قال تعالى:{وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلَاّ مَا سَعَى} .

وفي (صحيح مسلم)[652] من رواية ابن مسعود: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم).

ص: 443

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وفيه أيضًا: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين).

وروى أحمد [3/ 424] والأربعة، وابن حبان [2786] والحاكم [3/ 280] عن أبي الجعد الضمري قال البخاري: ولا أعرف له إلا هذا الحديث: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من ترك ثلاث جمع تهاونًا .. طبع الله على قلبه) أي: ختم عليه وغشاه ومنعه من الألطاف.

وروى البيهقي في (الشعب)[3006] عن ابن عباس: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر .. فقد نبذ الإسلام وراء ظهره).

وفرضت الجمعة والنبي صلي الله عليه وسلم بمكة ولم يصلها حينئذ بها؛ إما لأنه لم يكمل عددها عنده، أو لأن من شعارها الإظهار وكان النبي صلي الله عليه وسلم مستخفيًا.

وأول جمعة صليت بالمدينة في الإسلام جمعة أقامها أسعد بن زرارة في بني بياضة بنقيع الخضمات، و (كان النبي صلي الله عليه وسلم أنفذ مصعب بن عمير أميرًا على المدينة وأمره أن يقيم الجمعة، فنزل على أسعد وكان من النقباء الاثنى عشر، فأخبره بأمر الجمعة وأمره أن يتولى الصلاة بنفسه).

وفي (البخاري)[892] عن ابن عباس أن أول جمعة جمعت بعد جمعةٍ في مسجد النبي صلي الله عليه وسلم جمعة جواثني قرية من قرى البحرين.

والجديد: أنها صلاة على حيالها.

والقديم: أنها ظهر مقصورة بشرائط.

وهي أفضل الصلوات، ويومها أفضل أيام الأسبوع، وخير يوم طلعت فيه الشمس

ص: 444

إِنَّمَا تَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ ذَكَرٍ مُقِيمٍ بِلَا مَرَضٍ وَنَحْوِهِ

ــ

يعتق الله فيه ست مئة ألف عتيق من النار، من مات فيه .. كتب الله له أجر شهيد ووقي فتنة القبر.

قال: (إنما تتعين على كل مكلف حر ذكر مقيم بلا مرض ونحوه).

أما كونها فرض عين .. فبالإجماع، وشذ بعض الأصحاب فقال: إنها فرض كفاية. غير أنها لا تكون فرض عين إلا بشروط ذكرها المصنف.

والأصل في ذلك ما رواه طارق بن شهاب البجلي الكوفي أن النبي صلي الله ليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض) رواه أبو داود [1060] والدارقطني [2/ 3] بإسناد صحيح.

وطارق بن شهاب رأى النبي صلي الله عليه وسلم، وقال أبو داوود وغيره: لم يسمع منه، فإن صح ذلك .. فهو مرسل صحابي وهو حجة.

وخرج بـ (المكلف) الصبي والمجنون، فلا تجب عليهما كسائر الصلوات، لكن يستحب للصبي أن يحضرها ليتعود إقامتها ويتمرن عليها كما يؤمر بالصلاة، نص عليه في (الأم).

والمغمى عليه كالمجنون، بخلاف السكر فإنه يلزمه قضاؤها ظهرًا كغيرها، لأنه مكلف.

وخرج بـ (الحر) الرقيق؛ لأنه ممنوع من التصرف لحق السيد، فأشبه المحبوس لحق الغريم، ولا فرق بين القن والمدبر المكاتب، وفي المبغض خلاف ذكره المصنف بعد هذا.

والأفضل للعبد إذا أذن له سيده الحضور؛ ليحصل الفضيلة، وفي (الجيلي) وجه: أنها تلزمه حينئذ، وتقدم أنه: لا يجوز للسيد منع العبد من الجماعة إذا لم يكن له شغل.

وأما المرأة .. فلأنها مأمورة بالستر والانعزال، وحضور الجمعة ينافي ذلك، ولأنها لما سقطت بالرق وهو نقص يزول .. فأولى أن تسقط بالأنوثة وهو نقص

ص: 445

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

لا يزول، لكن يستحب للعجوز التي لا تشتهي حضورها إذا أذن زوجها.

ويكره للمشتهاة حضورها وحضور سائر الصلوات مع الرجال إلا العيدين، ويكره لوليها الإذن فيه.

والخنثى كالمرأة، لكن تستحب له، وقيل: تجب عليه احتياطًا؛ لاحتمال الذكورة، وتعبيره في (التصحيح) بالصواب مستدرك.

وخرج بقيد (الإقامة) المسافر، سواء كان السفر طويلاً أم قصيرًا إذا كان حلالاً؛ لما روى تميم الداري أنه قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: (الجمعة واجبة إلا على خمسة

)، وعد منهم المسافر، رواه البيهقي [3/ 183] وغيره، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم كان يكثر الأسفار ولمي نقل عنه أنه صلى الجمعة فيها أبدًا، فلو كانت واجبة .. لفعلها ولو مرة، هذا مذهب أكثر العلماء.

وأما المريض .. فلا جمعة عليه، فإن تكلف وحضر .. فهو أفضل.

قال الإمام: والمرض المسقط للجمعة أخف من المرض المسقط للقيام في الفريضة، وفي معنى المرض .. الأعذار لمرخصة في ترك الجماعة، وهذا مراد المصنف بقوله:(ونحوه).

ومما يلتحق به: من به إسهال لا يقدر معه على ضبط نفسه ويخشى من تلويث المسجد .. فإن دخول المسجد عليه محرم كما صرح به الرافعي في (الشهادات).

والاشتغال بتجهيز الميت عذر صرح به ابن عبد السلام، وكان لما ولى خطابه الجامع العتيق بمصر يصلي على الموتى قبل الخطبة ويفتي أهلها حمالها بأن لا جمعة عليهم، وسيأتي في أخر (صلاة الكسوف) أيضًا.

ولفظه: (ونحوه) زادها على (المحرر)، وقد بينا مراده بها، وقد يقال: لا يظهر لها فائدة؛ لأنها مفسرة بالمرض والزمانة وغيرهما من الأعذار، وهي داخلة في قوله:(ولا جمعة على معذور بمرخص في ترك الجماعة).

وإنما أهمل المصنف قيد الإسلام؛ لأنه صرح في أول (كتاب الصلاة) بأنها

ص: 446

وَلَا جُمُعَةَ عَلَى مَعْذُورٍ بِمُرَخِّصِ فِي تَرْكِ اَلْجَمَاعَةِ

ــ

لا تجب إلا على مسلم جمعة كانت أو غيرها، فلذلك لم يذكره هنا.

قال: (ولا جمعة على معذور بمرخص في ترك الجماعة)؛ لقوله صلي الله عليه وسلم: (من سمع النداء فلم يجب .. فلا جمعة له إلا من عذر) حديث صحيح.

وقد سبق بيان الأعذار في (صلاة الجماعة) وأن الخطابي قال: أكل الثوم والبصل ليس عذرًا في ترك الجماعة.

لكن الربح العاصفة لا تكون عذرًا في ترك الجماعة إلا ليلاً، فلا يمكن أ، تكون عذرًا في الجمعة.

وفي الوحل وجه: أنه عذر في الجماعة لتكررها في اليوم والليلة خمسًا دون الجمعة، وبه أفتى أثمة طبر ستان.

وقال القاضي حسين: إذا تقاطر الماء من سقف الأسواق .. جاز ترك الجمعة بسببه إذا الغالب نجاسة.

فرع:

المحبوس إذا قدر على الخلاص .. لزمته، وإلا .. فلا، وصرح البغوي بأنه لا يجب إطلاقه لفعلها، فلو أرسل المحبوس مع كفيل يصلي .. فلا بأس.

وفي (فتاوي الغزالي): إن رأي القاضي المصلحة في منعه .. منعه.

وحكى الصميري وجهًا: أنه يجب عليه استئذان غريمه فإن منعه .. سقط الوجوب.

فإن قيل: إذا اجتمع في الحبس أربعون، فالقياس: أنه لتزمهم الجمعة؛ لأن إقامتها في المسجد ليست بشرط، والتعدد يجوز عند عسر الاجتماع، فعند تعذره بالكلية أولى .. فأجاب الشيخ بأنه لا يجوز لهم ذلك، بل يصلون ظهرًا؛ لأنه لم يبلغنا أن أحدًا من السلف فعل ذلك، مع أنه كان في السجون أقوام من العلماء المتورعين

ص: 447

وَالْمُكَاتَبِ، وَكَذَاَ مَنْ بَعْضُهُ رَقِيقٌ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَنْ صَحَّتْ ظُهْرُهُ .. صَحَّتْ جُمُعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنَ الْجَامِعِ، إِلَاّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُ إِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ إِلَاّ أَنْ يَزِيدَ ضَرَرُهُ بِانْتِظَارِهِ

ــ

مع كثرة العدد. ولأن المقصود من الجمعة إقامة الشعار، والسجن ليس محلاً لذلك، فهي غير جائزة سواء ضاق البلد الذي فيه السجن أو اتسع، لكنهم يصلون ظهرًا جماعة على الأصح.

وإنما يصلون ظهرهم بعد فراغ جمعة البلد، وستأتي المسألة في (باب القضاء).

قال: (والمكاتب)؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم.

قال: (وكذا من بعضه رقيق على الصحيح)؛ لأن رق البعض مانع من الاستقلال.

والثاني: إن كان بنيه وبين سيده مهايأة، وصادف يوم نوبته يوم الجمعة .. لزمته، هذا هو المقابل لقول المصنف، وليس لنا قول باللزوم مطلقًا.

قال: (ومن صحت ظهره .. صحت جمعته) بالإجماع.

قال: (وله أن ينصرف من الجامع) أي: قبل أن تقام الصلاة، فإذا أقيمت .. لا يجوز له الانصراف مطلقًا.

قال: (إلا المريض ونحوه)، وكذا الأعمى الذي لا يجد قائدًا.

قال: (فيحرم انصرافه إن دخل الوقت) بلا خلاف؛ لزوال المشقة بالحضور.

قال: (إلا أن يزيد ضرره بانتظاره) هناك الاستثناء نقله الرافعي عن الإمام واستحسنه وقال: لا يبعد أن ينزل إطلاق المطلقين عليه، وجزم به في (المحرر).

ص: 448

وَتَلْزَمُ الشَّيْخَ الْهَرِمَ وَالزَّمِنَ إِنْ وَجَدَا مَرْكَبًا وَلَمْ يَشُقَّ الرُّكُوبُ، وَالأَعْمَى يَجِدُ قَائِدًا. وَأَهْلُ الْقَرْيَةِ إِنْ كَانَ فِيهِمْ جَمْعٌ تَصِحُّ بِهِ الْجُمُعَةُ، أَوْ بَلَغَهُمْ صَوْتٌ عَالٍ فِي هُدُوٍّ مِنْ طَرَفٍ يَلِيهِمْ لِبَلَدِ الْجُمُعَةِ .. لَزِمَتْهُمْ، وَإِلَاّ .. فَلَا

ــ

أما إذا وافق العيد يوم الجمعة .. فسيأتي في (تتمة صلاة العيدين).

قال: (وتلزم الشيخ الهرم والزمن إن وجدا مركبًا ولم يشق الركوب)؛ لانتفاء الضرر، وسواء كان المركب بملك، أو إجارة العوض، أو إعارة، أو آدميًا.

وعن القاضي حسين: من لا يستطيع المشي، إذا وجد أجرة من يحمله إلى المسجد .. لزمه.

و (الشيخ): من جاوز الأربعين- والمرأة شيخة- وتصغيره: شييخ وشييخ بضم الشين وكسرها، ولا يقال: شويخ وأجازه الكوفيون.

و (الهرم): أقصى الكبر.

و (الزمانة): الابتلاء والعاهة، وزمن فهو زمن.

قال: (والأعمى يجد قائدًا)؛ لأنه يتضرر معه عدمه، سواء كان القائد متبرعًا أو بأجرة يجدها كما يؤمر بالجماعة، وبهذا قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد والجمهور.

وقال أبو حنيفة: لا جمعة على الأعمى.

وقال القاضي والمتولي: إن كان يحسن المشي على العصا من غير قائد .. لزمته، وضعفه الشاشي والمصنف في (تعليقه) على (التنبيه).

قال: (وأهل القرية إن كان فيهم جمع تصح به الجمعة، أو بلغهم صوت عال في هدو من طرف يليهم لبلد الجمعة .. لزمتهم، وإلا .. فلا)، وكذلك أهل البساتين والخيام؛ لما روى أبو داوود [1049] عن عمرو بن العاصي: أن النبي صلى الله عليه والخيام؛ لما روى أبو داوود [1049] عن عمرو بن العاصي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة على من سمع النداء).

والمعتبر: سماع من أصغى إليه ولم يكن أصم، ولا جاوز سمعه حد العادة.

والمراد بـ (النداء): الأذان الذي يتعلق به وجوب حضور الجمعة.

ص: 449

وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَزِمَتْهُ السَّفَرُ بَعْدَ الْزَّوَالِ،

ــ

وإنما كان الاعتبار من الطرف الذي يلي السامع؛ لأن البلد قد يكون كبيرا لا يبلغ النداء، من وسط أطرافه، فاعتبر آخر موضع يصلح لإقامة الجمعة فيه؛ احتياطا للعبادة. وإذا سمع ذلك بعض أهل القرية .. وجب على جميع أهلها المكلفين بالجمعة.

وقيل: يعتبر السماع من وسطها.

وقيل: من المكان الذي تصلى فيه الجمعة.

وقيل: يشترط أن يكون المنادي في مكان عال كمنارة أو سور، والأكثرون على عدم اعتبار هذا إلا بطبرستان؛ فإنها بين أشجار وغياض تمنع بلوغ الأصوات.

ومقتضى كلام الكتاب و (المحرر) - وهو الأصح في (الشرح الصغير):- أن العبرة ببلوغ الصوت سواء ارتفعت القرية، أو موضع النداء، أو هما، أولا.

والمرجح في (الكبير) و (الروضة) و (شرح المهذب): أن العبرة بتقدير الاستواء، فلو سمعت العالية، ولو ساوت لم تسمع .. فلا جمعة عليها. ولو لم تسمع المنخفضة، ولو ساوت لسمعت النداء .. لزمها وهو الأصح، وإلا لزم أن تجب على البعيدة العالية دون القريبة المنخفضة وهو بعيد.

وحديث: (الجمعة على من سمع النداء) محمول على الغالب.

فرع:

إذا دخل أهل الفرية المصر فصلوها فيه .. سقط الفرض عنهم وكانوا آثمين؛ لتعطيلهم الجمعة في قريتهم، وفيه وجه: أنهم غير آثمين؛ للخروج من خلاف أبي حنيفة.

قال: (ويحرم على من لزمته السفر بعد الزوال)؛ لأن فرض الجمعة توجه عليه بدخول الوقت فلا يجوز تفويته بالسفر.

وروى الدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سافر من دار إقامته يوم الجمعة .. دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره، ولا يعان على حاجته).

ص: 450

إِلَاَّ أَنْ تُمْكِنَهُ الجُمُعَةُ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ يَتَضَرَّرَ بِتَخَلُّفِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ

ــ

وفي (الإحياء)] 1/ 88 [: أن (من سافر ليلة الجمعة .. دعا عليه ملكاه).

وكذلك صرح ابن أبي الصيف اليمني بكراهة السفر ليلة الجمعة، وأقره عليه الشيخ محب الدين الطبري.

وحيث منعناه السفر فسافر .. لا يجوز له الترخص حتى يخرج وقت الجمعة.

فإن قيل: إذا زالت الشمس لا تتعين إقامة الجمعة؛ فإن الصلاة تجب وجوبا موسعا .. فالجواب: أن الناس تبع للإمام في هذه الفريضة، فلو عجلها .. تعينت متابعته وسقطت خبرة الناس في التأخير، وإذا خالف وسافر .. لم يجز له الترخص ما دام وقت الجمعة باقيا.

قال: (إلا أن تمكنه الجمعة في طريقه)؛ لحصول المقصود. وفي معنى الطريق .. إدراكها في مقصده.

مهمة:

التعبير ب (الإمكان) ذكره الرافعي في (الشرح الكبير) و (المحرر)، والمصنف في (الروضة)، والتعبير به غير مستقيم؛ فإنه إذا غلب على الظن عدم الإدراك .. يحرم السفر.

وإن تردد على السواء .. فالمتجه: التحريم أيضا؛ ولهذا قالوا: إذا خشي المريض الغضب .. تضيق عليه الحج على الصحيح، وقالوا: تستحب البداءة بالفائتة إلا أن يخشى فوات الحاضرة .. فتجب البداءة بها.

وعبر الرافعي في (الشرح الصغير) بالتمكن فقال: إن تمكن منها .. جاز، وإن لم يتمكن .. لم يجز، وهو تعبير صحيح.

قال: (أو يتضرر بتخلفه عن الرفقة)، فلا يحرم عليه السفر حينئذ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).

ص: 451

وَقَبَلَ الزَّوَالِ كَبَعَدِهِ فِي الْجَدِيدِ إِنْ كَانَ سَفَراً مُبَاحاً، وَإِنْ كَانَ طَاعَةً .. جَازَ. قُلْتُ: الْأَصَحُّ: أَنَّ الطَّاعَةَ كَالمُبَاحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ــ

قال في (المهمات): اشتراط الضرر عند التخلف صرح به في (المحرر)، وفي (شرح المهذب)، وهو مقتضى كلام (الشرحين) و (الروضة).

والصواب: اعتبار مجرد الانقطاع لا وجود الضرر؛ لما في الانقطاع عن الرفقة من الوحشة، كما صرح به ابن الرفعة وغيره.

وصرحوا في (باب التيمم) بأن المسافر لا يجب عليه الذهاب إلى الماء في هذه الحالة، وعللوه بهذه العلة.

والظاهر: أنه لا عبرة بتخلفه عن الرفقة في سفر النزهة ونحوه من أسفار البطالين وإن شمله كلام الرافعي والمصنف.

وقيد شارح (التعجيز) المسألة بأن لا ينقص بسفره عدد البلد، وهو حسن.

قال: (وقبل الزوال كبعده في الجديد)؛ لأنه وقت لوجوب السعي على من كانت داره بعيدة، ولأن اليوم ينسب إليها.

والقديم ونص عليه في (حرملة): أنه لا يحرم؛ لقول عمر: (إن الجمعة لا تحبس مسافرا)، ولأن الوجوب بالزوال، فلا يحرم قبله كبيع النصاب قبل الحول من غير قصد الفرار.

وعلى هذا: قال القاضي حسين: يكره، وفيه نظر.

قال: (إن كان سفرا مباحا، وإن كان طاعة .. جاز) أي: القولان في المباح، أما الطاعة الواجبة أو المندوبة .. فلا تحرم قطعا.

وظاهر كلام الكتاب: التحريم بعد الزوال مطلقا طاعة كان أو مباحا، وهو كذلك بلا خلاف.

قال: (قلت: الأصح: أن الطاعة كالمباح والله أعلم) فيكون على القولين، والأصح عند المصنف: التحريم.

ص: 452

وَمَنْ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ .. تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِي ظُهْرِهِم فِي الْأَصَحِّ، وَيُخْفُونَهَا إِنْ خَفِيَ عُذْرُهُمْ

ــ

وقيل: يجوز قطعا، وبه جزم في (المحرر)؛ لان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه تخلف عن جيش جهزه النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لو أنفقت ما في الأرض جميعا .. ما أدركت غدوتهم)، لكن ضعفه الترمذي] 527 [.

قاعدة:

الناس في الجمعة ستة أقسام:

الأول: من تلزمه وتنعقد به، وهو: من اجتمعت فيه الصفات المعتبرة.

الثاني: تنعقد به ولا تلزمه، وهو: من له عذر على الأصح.

الثالث: لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وهو: المجنون والمغمى عليه والكافر الأصلي.

الرابع: لا تلزمه ولا تنعقد به لكن تصح منه، وهو: الصبي المميز والعبد والمسافر والمرأة والخنثى.

الخامس: تلزمه ولا تصح منه، وهو: المرتد.

السادس: تلزمه وتصح منه وفي انعقادها به خلاف، وهو: المقيم غير المستوطن.

قال: (ومن لا جمعة عليهم .. تسن الجماعة في ظهرهم في الأصح)؛ لعموم الأدلة على طلب الجماعة.

والثاني: لا؛ لأن الجماعة في هذا اليوم شعار الجمعة.

والخلاف في المعذورين في البلد، أما لو كانوا في غيرها .. فالجماعة تستحب في ظهرهم إجماعا.

قال: (ويخفونها إن خفي عذرهم)؛ لئلا يتهموا في دينهم.

ص: 453

وَيُنْدَبُ لِمَنْ أَمْكَنَ زَوَالُ عُذْرهِ: تَاخِيرُ ظُهْرِهِ إِلَى الْيَاسِ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَلِغَيْرِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالزَّمِنِ: تَعْجِيلُهَا

ــ

وقيل: يخفونها مطلقا؛ لأنه قد لا يتفطن للعذر الظاهر، وقد يتهم صاحبه مع العلم بعذره.

قال: (ويندب لمن أمكن زوال عذره: تأخير ظهره إلى اليأس من الجمعة)، فقد يزول العذر ويتمكن من فرض الكاملين كالعبد والمريض يرجو العتق والشفاء، ويحصل اليأس برفع الإمام رأسه من ركوع الثانية على الصحيح.

وقال في (تعليقه) على (التنبيه): ليس هذا على إطلاقه؛ فإن الإمام لو أخر الجمعة إلى أن يبقى من وقتها أربع ركعات .. لا تؤخر بعد ذلك الظهر.

ويرد على إطلاق المصنف هنا: ما إذا كان منزله بعيدا وانتهى الوقت إلى حد لو أخذ في السعي لم يدرك الجمعة .. فإن اليأس قد حصل، ومع ذلك لا يستحب له فعل الظهر إلا بعد رفع الرأس على الصحيح.

قال: (ولغيره كالمرأة والزمن: تعجيلها)؛ محافظة على أول الوقت.

وقيل: هو كالمعذور نظرا إلى أن الجمعة صلاة الكاملين، فينبغي أن تكون المقدمة.

قال في (الروضة): الأول اختيار الخراسانيين، والثاني اختيار العراقيين.

و (الاختيار): التوسط.

فإن جزم بأنه لا يحضر الجمعة ولو تمكن منها .. ندب التقديم، وإلا .. فالتأخير.

والمذهب المنصوص في (الأم): ما قاله العراقيون.

فرع:

إذا صلى المعذور الظهر، ثم زال عذره وتمكن من حضورها .. لم تلزمه، إلا الخنثى إذا بان رجلا.

قال ابن الحداد: وإلا الصبي إذا بلغ بعد فعل الظهر وتمكن من الجمعة، وخالفه الجمهور.

ص: 454

وَلِصِحَّتِهَا- مَعَ شَرْطِ غَيْرِهَا- شُرُوطٌ: أَحَدُهَا: وَقْتُ الظُّهْرِ فَلَا تُفْضَى جُمُعَةً،

ــ

أما غيرهما من ذوي الأعذار .. فيستحب لهم حضورها بعد زوال عذرهم، فإن فعلوا .. ففرضهم الظهر على الأظهر.

وعلى الثاني: يحتسب الله أيتهما شاء.

وإن زال العذر في أثناء فعلهم .. قال القفال: هو كرؤية الماء في أثناء الصلاة، والمذهب: استمرار صحة ظهرهم. أ. هـ.

وإذا عتق العبد قبل فعله الظهر، ففعلها جاهلا بالعتق ثم علم به قبل فوات الجمعة وما أشبه هذا .. فالظاهر: أنه يلزمه حضور الجمعة.

وفي (فتاوى البغوي): أن المريض إذا شفي بعد صلاة الظهر وأمكنه حضور الجمعة .. لزمه.

قال: (ولصحتها – مع شرط غيرها- شروط) أي: زائدة على شروط باقي الصلوات.

وهي ستة كما ذكر، لكنه أدرج السادس وهو: العدد في الرابع وهو: الجماعة.

وبعضهم أضاف إليها سابعا وهي: نية الإمامة ونية الخطبة.

ويمكن أن يضاف ثامن وهو: إذن السلطان أو حضوره، فإن القديم اشتراطه.

قال: (أحدها: وقت الظهر)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس، رواه البخاري عن أنس] 904 [، وجرى على ذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولأنهما صلاتا وقت واحد، فلم يختلف وقتهما كصلاة الحضر، وصلاة السفر، وبهذا قال جمهور العلماء.

وقال أحمد: يجوز أن تفعل قبل الزوال.

قال: (فلا تقضى جمعة) - بالإجماع- وهو ب (الواو) لا ب (الفاء)؛ لأن عدم القضاء لا يؤخذ من اشتراط وقت الظهر؛ لأن بينهما واسطة وهو القضاء في وقت الظهر من يوم آخر.

ص: 455

فَلَوْ ضَاقَ عَنْهَا .. صَلَّوْا ظُهْراً، وَلَوْ خَرَجَ وَهُمْ فِيهَا .. وَجَبَ الْظُّهْرُ بِنَاءٌ، وَفِي قَوْلٍ: اسْتِئْنَافاً. وَالمَسْبُوقُ كَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: يُتِمُّهَا جُمُعَةٌ

ــ

و (جمعة) بالنصب.

قال: (فلو ضاق عنها) بأن لم يبق من الوقت ما يسع خطبتين وركعتين (.... صلوا ظهرا)، كما لو فات شرط القصر .. رجع إلى الإتمام.

قال: (ولو خرج وهم فيها .. وجب الظهر)؛ إلحاقا للدوام بالابتداء.

والمراد ب (خروج الوقت): أنهم علموا ذلك، فلو شكوا فيه .. أتموها جمعة على الصحيح.

فلو وقعت التسليمة الثانية بعد الوقت .. لم تبطل؛ لأنها غير معدودة من الصلاة كذا قال الرافعي هنا، وتقدم في (صفة الصلاة) خلاف ذلك.

قال: (بناء) أي: تنقلب الجمعة ظهرا ويبنون على ما مضى وجوبا؛ لأنهما صلاتا وقت فجاز- بناء أطولهما على أقصرهما، كصلاة الحضر مع السفر.

قال: (وفي قول: استئنافا) أي: يبطلون الجمعة ويستأنفون الظهر.

قال الرافعي: وهما مبنيان على أنهما ظهر مقصورة أم لا؟ فعلى الأول .. يبني، وعلى الثاني .. يستأنف.

وقضية هذا البناء: ترجيح الثاني؛ لأن الأصح كما تقدم في (أول الباب): أنها صلاة على حيالها، وأن الظهر بدل عنها.

قال: (والمسبوق كغيره)، فإذا خرج الوقت بعد أن قام إلى تدارك الثانية .. أتمها ظهرا في الأصح وجمعة في الثاني.

وعلى هذا: فالقياس: أنه يجب عليه أن يفارق الإمام في التشهد، ويقتصر على الفرائض إذا لم يمكنه إدراك الجمعة إلا بذلك.

قال: (وقيل: يتمها جمعة)؛ لأنه تابع للقوم وقد صحت جمعتهم.

ص: 456

الثَّانِي: أَنْ تُقَامَ فِي خِطَّةِ أَبْنِيِةِ أَوْطَانِ الْمُجَمِّعِينَ

ــ

قال: (الثاني: أن تقام في خطة أبنية أوطان المجمعين) - وهم: عدد تنعقد بهم الجمعة فصاعدا- أي: تشترط إقامتها في بقعة معدودة من بلد، وتلك البلد، وطن للذين يقيمون الجمعة، فلا تكفي إقامتها في الصحراء؛ لأنها لم تقم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده إلا كذلك، ولو جازت في غيرها .. لفعلت ولو مرة، ولو فعلت .. لنقلت.

ولا فرق بين القرية والمصر، وهو في المصر إجماع، وفي القرية دليله ما تقدم من قول ابن عباس:(أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جمعة بجوائى)، وذلك لا يفعل إلا بأمره صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا جمعة إلا في مصر) .. فقال به الشافعي في القديم، لكنه لم يصح رفعه، بل هو موقوف على علي، وقد خالفه عثمان، فلذلك لم يقل به في الجديد.

و (الخطة) بكسر الخاء: محل الأبنية وما بينها، وهذا هو المراد بخطة الأبنية.

وقوله: (في خطة أبنية) أي: من الأبنية، فشمل المساجد والرحاب المسقفة والساحات. وسواء كانت الأبنية من خشب أو حجر أو لبن أو سعف أو جريد؛ لأنها للاستيطان، ولأن معظم قرى الحجاز من سعف وجريد وقصب.

وما ذكره المصنف مثال؛ لأن الأسراب المستوطنة والغيران كالأبنية.

ولو كانت الأبنية متفرقة لا تعد بلدا واحدا .. لم تجز إقامة الجمعة بها، إلا أن يبلغ أهل دار أربعين رجلا بالصفات .. فتلزمهم ويكونون بالنسبة إلى من قرب منهم كبلد الجمعة.

و (المجمعون) بتشديد الميم: مصلو الجمعة الذين تنعقد بهم.

ص: 457

وَلَوْ لَازَمَ أَهْلُ الخِيامِ الصَّحْراءَ أَبَداً .. فَلَا جُمُعَةَ فِي الأَظْهَرِ، الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَسْبِقَهَا وَلَا يُقَارِنَهَا جُمُعَةٌ فِي بَلْدَتِهَا

ــ

قال: (ولو لازم أهل الخيام الصحراء أبدا .. فلا جمعة في الأظهر)؛ لأن قبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة وكانوا لا يصلونها، ولا أمرهم بها الشارع؛ لأنهم على هيئة المستوفزين.

والثاني: تلزمهم الجمعة ويقيمونها في ذلك الموضع؛ لأنهم استوطنوه.

وموضوع القولين إذا لازموا ذلك المكان كما أشار إليه المصنف، فإن كانوا ينتقلون عنه في الشتاء أو غيره .. لم تصح فيه جزما.

وقوله: (فلا جمعة) أي: لازمة ولا صحيحة.

وتقدم في (صلاة المسافر) الكلام على لفظ الخيمة وجمعها.

فرع:

نص الشافعي على أنه: لو خربت البلد أو القرية وأقام أهلها على عمارتها .. لزمتهم الجمعة فيها، سواء كانوا في سقائف ومظال أم لا؛ لأنه محل الاستيطان. ولا تتصور جمعة عند الشافعي في غير بناء إلا هذه.

وهذا بخلاف ما لو نزلوا هناك ابتداء وأرادوا إحداث قرية .. فإنها لا تصح؛ استصحابا للحال فيهما، نص عليه الشافعي رضي الله عنه.

قال: (الثالث: أن لا يسبقها ولا يقارنها جمعة في بلدتها) ولو عظمت؛ ليظهر شعار الاجتماع واتفاق كلمة الإسلام، ولأنها لم تفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الخلفاء الراشدين إلا في موضع واحد.

قال الشافعي: ولأنها لو جاز فعلها في مسجدين .. لجاز في مسجد العشائر، وهو لا يجوز إجماعا. أهـ.

و (العشائر): القبائل، و (العشيرة): القبيلة وهم: أبناء أب واحد، والجمع: قبائل.

ص: 458

إِلَّا إِذَا كَبُرَتْ وَعَسُرَ اجْتِمَاعُهُم فِي مَكَانٍ، وَقِيلَ: لَا تُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ، وَقِيلَ: إَنْ حَالَ نَهْرٌ عَظِيمٌ بَيْنَ شِقَّيْهَا، كَانَا كَبَلَدَيْنِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَت قُرَى فَاتَّصَلَتْ .. تَعَدَّدّتِ الجُمُعَةُ بِعَدَدِهَا

ــ

قال: (إلا إذا كبرت وعسر اجتماعهم في مكان) .. فتجوز الزيادة بحسب الحاجة لا مطلقا، فإذا اكتفى بجمعتين .. لم تجز ثالثة، وبه أفتى المزني بمصر لما ازدحم الناس في الجامع العتيق.

قال: (وقيل: لا تستثنى هذه الصورة) وهو ظاهر النص، وعليه اقتصر الشيخ أبو حامد وطبقته.

قال الشيخ: وهو الصحيح مذهبا ودليلا، وقول أكثر العلماء، وأنكر نسبة الاستثناء إلى الأكثرين، وتمسك بما درج عليه الصدر الأول، وأنه لا يحفظ عن صحابي ولا تابعي تجويز ذلك.

قال: وتحريم الإذن في اجتماع جمعتين في بلد مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة.

قال: (وقيل: إن حال نهر عظيم بين شقيها .. كانا كبلدين، وقيل: إن كانت قرى فاتصلت .. تعددت الجمعة بعددها) وسبب هذا الاختلاف: أن الشافعي دخل بغداد وهم يقيمون الجمعة في موضعين فلم ينكر عليهم، فاختلف أصحابه في ذلك على أوجه:

أصحها: أن السبب مشقة الاجتماع في مكان واحد.

والثاني: أن سببه النهر الحائل بين جانبيها.

الثالث: أنها كانت قرى متفرقة فاتصلت الأبنية.

والرابع: أن الزيادة لا تجوز بحال؛ لأن المسألة اجتهادية والمجتهد لا ينكر على مجتهد آخر.

وقيل: لم يقدر على الإنكار.

وسئل أبو إسحاق المروزي عن إقامة أهل مرو جمعتين مع تمكنهم من الاقتصار

ص: 459

فَلَوْ سَبَقَهَا جُمُعَةٌ .. فالصَّحيحَةُ السَّابِقَةُ، وَفِي قَوْلٍ: إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ مَعَ الثَّانِيَةِ .. فَهِيَ الصَّحِيحَةُ. وَالْمُعْتَبَرُ: سَبْقُ التَّحَرُّمِ، وَقِيلَ: الْتَّحَلُّلِ، وَقِيلَ: بِأَوَّلِ الْخُطْبَةِ. فَلَوْ وَقَعَتَا مَعاً أَوْ شَكَّ .. اسْتُؤنِفَتْ الجُمُعَةٌ. وَإِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ تَتَعَيَّنْ، أَوْ تَعَيَّنَتْ وَنُسِيتْ .. صَلَّوْا ظُهْرا،

ــ

على واحدة، فقال: لأن أبا مسلم دخلها وغصب دورا جعلها جامعا، فتورع الزهاد والمحدثون عن الصلاة فيه فأقاموا جمعة في غيره.

قال: (فلو سبقها جمعة .. فالصحيحة السابقة) هذا تفريع على عدم جواز التعدد لاجتماع الشرائط فيها، واللاحقة باطلة.

قال: (وفي قول: إن كان السلطان مع الثانية .. فهي الصحيحة)؛ لأن في تصحيح غير جمعته افتتانا عليه وتفويتا لها على غالب الناس؛ لأن غالبهم يكونون مع الإمام.

قال الشيخ: ويظهر أن كل خطيب ولاه السلطان قائم مقام الإمام في ذلك، وأنه مراد الأصحاب.

وقد صرح المحاملي في (المقنع) بأن إحداهما إذا كانت بإذنه .. فهي الصحيحة.

قال: (والمعتبر: سبق التحرم)؛ لأن به الانعقاد. فالتي سبق تحرمها هي الصحيحة، والاعتبار بآخر التكبير لا بأوله على الصحيح.

قال: (وقيل: التحلل)، فالتي سبق تحللها هي الصحيحة؛ لأن به يؤمن من عروض الفساد، بخلاف ما قبل التحلل، فكان الاعتبار به أولى.

قال: (وقيل: بأول الخطبة)؛ بناء على: أن الخطبتين يدل على ركعتين.

قال: (فلو وقعتا معا أو شك .. استؤنفت الجمعة) أي: إن اتسع الوقت لتدافعهما في المعية، واحتمال ذلك عند الشك.

قال: (وإن سبقت إحداهما ولم تتعين، أو تعينت ونسيت .. صلوا ظهرا)؛ لأن الجمعة صحت، فلا يجوز عقد جمعة أخرى بعدها.

ص: 460

وَفِي قَوْلِ: جُمْعَةٌ. الْرَابِعُ: الْجَمَاعَةُ، وَشَرْطُهَا: كَغَيْرِهَا. وَأَنْ تُقَامَ بِأَرْبَعِينَ

ــ

قال: (وفي قول: جمعة)؛ لأن الأولى لم تحصل بها البراءة، فهي كجمعة فاسدة لفوات بعض شروطها أو أركانها، ورجحه في (الوسيط).

وقال المزني: برئت زمتهم ولا يلزمهم شيء.

قال: (الرابع: الجماعة)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم ينقل عنهم ولا عن غيرهم أنهم فعلوها فرادى.

وفي (فتاوى القاضي حسين): أن من لا تنعقد به الجمعة .. لا يصح إحرامه بها إلا بعد إحرام أربعين من أهل الوجوب؛ فإنهم تبع لهم فلا يتقدمون. وينبغي لأهل الكمال المبادرة بالتحرم لحيازة الفضيلة، وتيسير عقد الجمعة لغيرهم.

قال: (وشرطها: كغيرها) أي: من الجماعات، لكن تستثنى نية الإمامة؛ فإنها تجب هنا لا هناك على الأصح فيهما.

ولا يشترط حضور السلطان ولا إذنه فيها، خلافا لأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين.

لنا: ما روى مالك والشافعي عن علي أنه أقام الجمعة وعثمان محصور، وبالقياس على سائر العبادات.

قال: (وأن تقام بأربعين)؛ لما روى أبو داوود] 1062 [عن كعب بن مالك قال: (أول من صلى بنا الجمعة في نفيع الخضمات أسعد بن زرارة وكنا أربعين) صححه ابن حبان] 7013 [والبيهقي] 3/ 176 [والحاكم] 1/ 281 [وقال: على شرط مسلم، ولأن

ص: 461

مُكَلَّفاً حُرّاً ذَكَرَاً مُسْتَوْطِناً لَا يَظْعَنُ شِتَاءً وَلَا صَيْفَاً إِلَّا لِحَاجَةٍ

ــ

الغالب على الجمعة التعبد، والأربعون أقل ما ورد.

و (النقيع) بالنون، و (الخضمات) بالخاء والضاد المعجمتين.

وأما حديث: (انقضاضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا اثنا عشر رجلا) وهو في (الصحيحين)] خ 936 - م863 [عن جابر، وفيهم نزلت:} وإذا رأوا تجارة أو لهوا {الآية، فلذلك كان في الخطبة، ولعلهم عادوا فحضروا الأركان والصلاة.

وحكى صاحب (التلخيص) - عن القديم- انعقادها بثلاثة، وغلطه الأصحاب.

وقد تقدم: أن هذا في الحقيقة شرط سادس، لكنه أدرجه في الرابع؛ لأنه صفة للجماعة.

قال: (مكلفا)، فلا تنعقد بالصبي، ولا يصح الاحتراز عن المجنون ونحوه؛ لأن الكلام في شرائط الجمعة بخصوصها، والعقل شرط في سائر الصلوات كما تقدم.

قال: (حرا ذكرا مستوطنا لا يظعن شتاء ولا صيفا إلا لحاجة)، فلا تنعقد بالأرقاء، ولا بمن بعضه رقيق، ولا بالنساء والخناثى؛ لنقصانهم، ولا بغير المستوطنين كالمسافرين، ومن يقيم شتاء لا صيفا أو بالعكس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم الجمعة في حجة الوداع، وقد وافق يوم عرفة يوم الجمعة، مع عزمه على الإقامة أياما.

وقوله: (لا يظعن

) إلى آخره بيان لقوله: (مستوطنا).

فإن قيل: لا حاجة لقوله: (مستوطنا)؛ لأن الاستيطان فهم من قوله: (أوطان المجمعين) .. قلنا: لا؛ فإن ذلك شرط في المكان، وهذا في الأشخاص، حتى لو أقامها في محل الاستيطان أربعون غير مستوطنين .. لم تنعقد بهم.

والمراد: مستوطنا في مكان الجمعة؛ ليخرج ما إذا تقاربت قريتان في كل منهما

ص: 462

وَالّصَّحِيحُ: انْعِقَادُهَا بِالْمَرْضَى، وَأَنَّ الإِمَامَ لَا يَشْتَرَطُ كَوْنُهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ. وَلَوِ انْفَضَّ الأَرْبَعُونَ أَوْ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ .. لَمْ يُحْسَبِ الْمَفْعُولُ فِي غَيْبَتِهِمْ، وَيَجُوزُ البِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى إِنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الفَصْلِ،

ــ

دون الأربعين بصفة الكمال، ولو اجتمعوا لبلغوا أربعين؛ فإنها لا تنعقد بهم وإن سمعت كل منهما نداء الأخرى؛ لأن الأربعين غير مقيمين في موضع الجمعة.

وينبغي أن يزاد: مميزا: فإن السكران مكلف ولا تنعقد به الجمعة. وأن يزاد: سميعا؛ لما سيأتي.

وقال ابن القطان: لو كان في القرية أربعون أخرس .. ففي انعقاد جمعتهم وجهان.

قال: (والصحيح: انعقادها بالمرضى)؛ لكمالهم، وإنما لم تجل عليهم تخفيفا.

والثاني: لا تنعقد بهم كما لا تنعقد بالمسافرين. والخلاف قولان فكان الصواب: التعبير بالمشهور.

قال: (وأن الإمام لا يشترط كونه فوق أربعين)؛ لإطلاق الحديث المتقدم.

والثاني: ونقل عن القديم اشتراط ذلك؛ لأن الغالب على الجمعة .. التعبد، فلا ينتقل من الظهر إليها إلا بيقين.

قال: (ولو انفض الأربعون أو بعضهم في الخطبة .. لم يحسب المفعول في غيبتهم) بلا خلاف؛ لأن مقصود الخطبة إسماع أربعين، فإذا انفضوا .. بطل حكم الخطبة، ولأنه ذكر واجب، فاشترط حضور العدد فيه كتكبيرة الإحرام.

ولا بد أن يسمع الأربعون أركان الخطبة، والفرق بينها وبين الصلاة حيث جرى فيها: الخلاف في الانقضاض فيها أن كل واحد يصلي لنفسه ولا يخطب لنفسه.

والمراد بـ (الأربعين): العدد المعتبر في الانعقاد، وقد تقدم أن الإمام لا يشترط كونه زائدا على الأصح، وحينئذ يكون المعتبر: سماع تسعة وثلاثين، فلو كان مع الإمام أربعون وانفض واحد منهم .. لم يضر.

قال: (ويجوز البناء على ما مضى إن عادوا قبل طول الفصل)؛ لأنه ليس بأكثر من الصلاتين المجموعتين، والفصل اليسير لا يمنع الجمع، فكذلك لا يمنع الجمع

ص: 463

وَكَذَا بِنَاءُ الْصَلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ إِنْ انْفَضُّوا بَيْنَهُمَا. فَإِنْ عَادُوا بَعْدَ طُولِهِ .. وَجَبَ الاِسْتِئْنَافُ فَي الأَظْهَرِ، وَإِنْ انْفَضُّوا فِي الصَّلَاةِ .. بَطَلَتْ، وَفِي قَوْلٍ: لَا، إِنْ بَقِيَ اثْنَانِ

ــ

بين الخطبة والصلاة، وكما يجوز البناء إذا سلم ثم تذكر قبل طول الفصل.

وقد ذكر المصنف هاهنا (طول الفصل) ولم يبين مقداره اكتفاء بالعرف.

قال: (وكذا بناء الصلاة على الخطبة إن انفضوا بينهما) أي: وعادوا قريبا.

قال: (فإن عادوا بعد طوله .. وجب الاستئناف في الأظهر) أي: في المسألتين وهما: بناء بعض أركان الخطبة على بعض، وبناء الصلاة على الخطبة، سواء كان بعذر أم لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه ذلك إلا متواليا، وكذلك الأئمة بعده، ولأن الموالاة لها موقع في استمالة النفس.

والثاني: لا يجب؛ لأن الغرض من التذكير والصلاة حاصل مع التفريق.

واحترز بقوله: (عادوا) عما إذا عاد بدلهم .. فلا بد من استئناف الخطبة طال الفصل أم لا.

قال: (وإن انفضوا في الصلاة .. بطلت) فيتمونها ظهرا؛ لأن العدد شرط في الابتداء، فيكون شرطا في الانتهاء كالوقت.

قال: (وفي قول: لا إن بقي اثنان) أي: مع الإمام؛ لما تقدم من حديث جابر: (أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا)، فدل على أن الأربعين لا تشترط في دوام الصلاة؛ فإنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. وغنما اشترطنا بقاء اثنين مع الإمام؛ ليبقى أقل الجمع.

ولنا قول قديم: إنه يكفي بقاء واحد معه؛ لوجود اسم الجمع.

وفي قول رابع مخرج: لا تبطل ولو بقي وحده.

وفي قول خامس مخرج أيضا: إن كان الانفضاض في الركعة الأولى .. بطلت، وإلا .. فلا.

ص: 464

وَتَصِحُّ خَلْفَ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمُسَافِرِ فِي الأَظْهَرِ إِذَا تَمَّ الْعَدَدُ بِغَيْرِهِ. وَلَوْ بَانَ الإِمَامُ جُنُباً أَوْ مُحْدِثاً .. صَحَّتُ جُمُعَتُهُمْ فِي الْأَظْهَرِ إِنْ تَمَّ العَدَدُ بِغَيرِهِ، وَإِلَّا فَلَا

ــ

قال: (وتصح خلف العبد والصبي والمسافر في الأظهر إذا تم العدد بغيره)؛ لأن الجمعة تصح من الثلاثة، والعدد قد وجد بصفة الكمال، والاقتداء في صلاة من لا تجب عليه تلك الصلاة صحيح.

والثاني: لا تصح؛ لأن الإمام ركن في صحة هذه الصلاة، فيشترط فيه الكمال كالأربعين بل أولى.

ولو كان الإمام متنفلا .. ففيه القولان.

والخلاف في العبد وجهان لا قولان، وكان الصواب التعبير: بـ (غيرهم) بضمير الجمع لأجل العطف بـ (الواو).

قال: (ولو بان الإمام جنبا أو محدثا .. صحت جمعتهم في الأظهر إن تم العدد بغيره، وإلا .. فلا) تقدم في (صلاة الجماعة): أن المأموم إذا بان إمامه جنبا أو ذا نجاسة خفية .. لا إعادة عليه، وتقدم: أن الأصح: أن الصلاة خلف من تبين حدثه جماعة.

فعلى هذا: تصح هنا الجمعة إن تم العدد بغيره، فإن تم به .. لم تصح جزما.

وإن قلنا: إن الصلاة خلفه فرادى .. لم تصح الجمعة أيضا؛ لأن الجماعة شرط فيها.

والثاني: لا تصح؛ لأن الجماعة شرط في الجمعة، والجماعة تقوم بالإمام والمأموم، وإذا بان محدثا

بان أن لا جمعة له ولا جماعة، بخلاف غيرها.

وإذا قلنا بالصحة فبان حدث المأمومين دون الإمام

قال صاحب (البيان): صحت صلاة الإمام، وأقره عليه الشيخان.

واعترض ابن الرفعة بأن الخلاف مخصوص بما إذا كان الإمام زائدا على الأربعين،

ص: 465

وَمَنْ لَحِقَ الإِمَامَ الْمُحْدِثَ رَاكِعاً .. لَمْ تُحْسَبْ رَكْعَتُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. الخَامِسُ: خُطْبَتَانِ قَبْلَ الْصَّلَاة، وَأَرْكَانُهُمَا خَمْسَةٌ: حَمْدُ اللهِ تَعَالَى

ــ

وإلا: لزم انعقاد الجمعة بما دون ذلك، وعلى هذا: يستحيل القول بحصولها للإمام؛ لانتفاء العدد المشروط.

قال: (ومن لحق الإمام المحدث راكعا .. لم تحسب ركعته على الصحيح)؛ لأن المحدث ليس أهلا للتحمل وإن حكمنا بصحة الصلاة والجماعة خلفه.

والثاني- وصححه الرافعي في (صلاة المسافرين) -: أنه يكون مدركا للركعة، كما تصح الصلاة خلف المحدث وإن لم تكن تلك الصلاة محسوبة للإمام.

وتعبيره بـ (الصحيح) يقتضي: ضعف الخلاف، والصواب: التعبير بالأصح كما في (الروضة).

قال: (الخامس: خطبتان)؛ للاتباع، ففي (الصحيحين)] خ 928 - م861 [عن ابن عمر:(أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة إلا بخطبتين).

وقال أبو حنيفة: تجزئ واحدة.

قال: (قبل الصلاة) بالإجماع، ولا أثر لمخالفة الحسن البصري في ذلك؛ لأنه مسبوق بالإجماع. وهذا بخلاف صلاة العيد؛ لأن خطبة الجمعة شرط لصحة الصلاة، وشأن الشرط أن يتقدم على مشروطه.

قال: (وأركانهما خمسة: حمد الله تعالى)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة .. حمد الله تعالى وأثنى عليه، رواه مسلم] 867 [وغيره.

ص: 466

وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَفْظُهُمَا مُتَعَيِّنٌ. وَالوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى،

ــ

قال: (والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله .. افتكرت إلى ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالأذان والصلاة.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا اسم الله تعالى فيه، ولم يصلوا على نبيه .. إلا كان عليهم ترة، فإن شاء .. عذبهم، وإن شاء

غفر لهم).

و (الترة): الحسرة، وقيل: التبعة، وقيل: المطالبة.

والحديث حسنه الترمذي] 3380 [، وقال الحاكم] 1/ 550 [: صحيح على شرط البخاري، وترجم عليه البيهقي] 3/ 210 [(باب: ما يستدل به على وجوب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة).

وفي (دلائل النبوة) للبيهقي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: وجعلت أمتك لا تجوز عليهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي).

وقيل: إن الشافعي تفرد بذلك، وحبذا هذا التفرد.

قال: (ولفظهما متعين)؛ اقتداء بالسلف الصالح، فلو قال: لا إله إلا الله .. لم يكف خلافا لأبي حنيفة ومالك، وكذا: الحمد للرحمن، أو الشكر لله.

قال في (نكت التنبيه): لا خلاف في ذلك بين أصحابنا.

ولو قال: والصلاة على محمد أو على النبي أو الرسول .. كفى، ولو قال: اللهم؛ ارحم محمدا .. لم يكف.

والظاهر: أن كل ما كفى في التشهد .. كفى هنا.

فلو قال: صلى الله عليه وسلم .. لم يكف؛ لأنه لم يصرح باسمه صلى الله عليه وسلم. وكثيرا ما يسهو الخطباء في ذلك.

ولم يذكر الرافعي الصلاة على الآل هنا ولا شك في استحبابها.

قال: (والوصية بالتقوى) وهي: امتثال أمر الله واجتناب نهيه؛ لأن المقصود

ص: 467

وَلَا يَتَعَيَّن لَفْظُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَرْكَانٌ فِي الخُطْبَتَيْنِ

ــ

بالخطبة: الوعظ والتحذير، و (قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على الوصية بالتقوى في خطبه) رواه مسلم] 885 [.

وفيه] 867 [عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة .. احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش ويقول:(بعثت أنا والساعة كهاتين)، ويقرن بين أصابعه: السبابة والوسطى، ويقول:(أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة).

وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته: (الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا).

وهذا الفرض هو مقصود الخطبة، ولا يكفي الاقتصار على التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، بل لا بد من الحض على الطاعة والمنع من المعاصي.

قال: (ولا يتعين لفظها على الصحيح) أي: لفظ الوصية؛ لانتفاء الدليل على تعينها، وحصول المقصود بدونها، فيكفي ما دل على الموعظة طويلا كان، أو قصيرا كقوله: أطيعوا الله.

وقال الإمام: لا يكفي اللفظ القصير، بل لا بد من فصل يهز السامع كما جرى عليه الأولون.

والثاني: أنها تتعين قياسا على الحمد والصلاة.

قال: (وهذه الثلاثة أركان في الخطبتين).

أما الحمد .. فلما تقدم عن (صحيح مسلم)] 867 [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمد في خطبته).

وأما الصلاة .. فلقوله تعالى:} ورفعنا لك ذكرك {ومعناه: لا أذكر إلا وتذكر معي كما ورد في (صحيح ابن حبان)] 3382 [.

وأما الوصية بالتقوى .. فلأنها المقصود الأعظم من الخطبة ..

ص: 468

وَالرَّابِعُ: قِرَاءَة آيَةٍ فِي إِحْدَاهُمَا، وَقِيلَ: فِي الأُولَى،

ــ

قال: (والرابع: قراءة آية) سواء تضمنت وعدا أو وعيدا أو حكما أو قصة أو وصية؛ لحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطبتان، يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس) رواه مسلم] 862 [.

وفيه] 871 [وفي (البخاري)] 3230 [عن يعلي بن أمية قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: (} ونادوا يا مالك {) وفي رواية: (يا مال) على الترخيم.

قال ابن مسعود والحسن البصري: ما كان أغناهم عن الترخيم!!.

قال ابن جنى والزمخشري: ضعفت قواهم عن تكميل الكلمة فرخموا.

فإن قلت: كيف ينادي المبلس الساكت؟! قيل: النداء قبل ذلك فإذا قيل لهم:} إنكم ماكثون {.. أبلسوا.

وأقل ما يجب قراءة آية، وقال الإمام: لا يبعد أن يكتفي ببعض آية طويلة.

قال: ولو قال:} ثم نظر {.. لم يكف بلا شك وإن عدت آية، بل يشترط أن تفهم.

وإطلاقهم يقتضي: الاكتفاء بمنسوخ الحكم، وعدم الاكتفاء بمنسوخ التلاوة، ويظهر تخريجه على الخلاف في تحريمه على المحدث والجنب.

قال: (في إحداهما) - نص عليه في (الأم)؛ لإطلاق الأدلة- وهذا صريح في أنه لا بد من اشتمال إحداهما على قراءتها، لكن في (الحاوي) عن النص: أنه لو قرأ في الأولى، أو الثانية، أو بين ظهراني ذلك .. أجزأه، قال: وكذا لو قرأ قبل الخطبة أو بعد فراغها .. أجزأه.

قال: (وقيل: في الأولى)؛ لأنها أحق بالطول، ولأنه في مقابلة الدعاء في الثانية، وهذا ظاهر نص (المختصر).

وعلى هذا: لا تجزئ في الثانية.

ص: 469

وَقِيلَ: فِيهِمَا، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ. وَالْخَامِسُ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ دُعَاءٍ لِلْمُؤمِنِينَ

ــ

قال: (وقيل: فيهما) كالتحميد، ولأن الخطبتين قامتا مقام ركعتين فوجب فيهما القراءة كالركعتين.

والذي يظهر على هذا: أنه يجب في كل منهما آية، لا أنه يقسم الآية فيهما.

قال: (وقيل: لا تجب)؛ لأن مقصود الخطبة بعد ذكر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام الوعظ.

ويستحب أن يقرأ في الخطبة سورة (ق) - قال الدارمي: في الأولى- لما روي في (صحيح مسلم)] 873 [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بها في كل جمعة).

قال البندنيجي: فإن لم يفعل .. ندب:} يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا {.

ولو قرأ مكان كل ركن آية مشتملة على المعنى المطلوب .. لم يكف؛ فإنه لا يسمى خطبة، ولأن القراءة فرض والوصية فرض، والشيء الواحد لا يؤدى به فرضان.

ولو قرأ آية فيها سجدة .. نزل وسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر فعلاه.

فلو كان المنبر عاليا ولو نزل لطال الفصل .. لم ينزل، لكن يسجد عليه إن أمكنه، وإلا .. يترك السجود.

قال: (والخامس: ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين)؛ لنقل الخلف عن السلف.\

قال الإمام: واجب أن يكون متعلقا بالآخرة.

وعبارته تفهم: أنه لا يجب للمؤمنات، ولفظ (المختصر) يفهم إيجابه، وبه قال القاضي والفوراني والإمام والروياني، وصرح به في (الانتصار).

ص: 470

فِي الْثَانِيَةِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ

ــ

وقال ابن عطيه في تفسير (سورة القتال): واجب على كل مسلم أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ فإنها صدقة.

قال الشيخ: إن أراد بالوجوب الاستحباب المؤكد .. فصحيح، وإن أراد الوجوب .. فغريب لم أر من صرح به ولا بخلافه، ويمكن الاستدلال له بأن ظاهر الأمر الوجوب، وأن ما ثبت في حقه .. ثبت في حق أمته إلا ما خصه الدليل.

قال: (في الثانية)؛ لأن ذلك لائق بحاله. وليس على ركنيته دليل، ولا على تخصيصه بالثانية، بل نقل الشيخ أبو حامد- شيخ العراقيين- الإجماع على عدم وجوبه، و: ليس في خطب النبي صلى الله عليه وسلم المنقولة إلينا ذلك.

قال: (وقيل: لا يجب)، كما لا يجب في غير الخطبة.

فروع:

قال في (شرح المهذب): المختار أنه لا بأس بالدعاء لسلطان بعينه إذا لم يكن في وصفه مجازفة.

وقال ابن عبد السلام: لا يجوز وصفه بالصفات الكاذبة إلا لضرورة.

ويستحب الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح، والإعانة على الحق، والقيام بالعدل، وللمحبوسين بالخلاص.

ومن عطش في حال الخطبة .. لا بأس أن يشرب، ويكره أن يشرب تلذذا.

وقال الأوزاعي: إذا شرب .. بطلت جمعته.

ويستحب إذا خطب الإمام .. أن يحول الناس وجوههم إليه، وذلك هو الاستماع المأمور به.

وإذا جاء والموضع ضيق .. يقول: تفسحوا وتوسعوا. ويكره أن يتكئ، وأن يمد رجليه، أو يلقي يديه من خلفه، إلا أن تكون به علة، وأن يجلس حبوا في حال الخطبة؛ لأن ذلك يجلب النعاس.

ص: 471

وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهَا عَرَبِيَّةً مُرَتَّبَةَ الأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الأُوَلِ. وَبَعْدَ الزَّوَالِ. وَالْقِيَامُ فِيهِمَا إِنْ قَدَرَ

ــ

وإذا أحدث شخص .. (أخذ بأنفه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ويشترط كونها عربية)؛ لأنها ذكر مفروض فاشترط فيها ذلك كتكبيرة الإحرام.

وفي وجه ضعيف: لا يشترط؛ لأن المقصود الوعظ وهو حاصل بكل اللغات.

فعلى الصحيح: لو لم يكن فيهم من يحسن العربية .. خطب لغيرها، ويجب أن يتعلم كل واحد منهم الخطبة العربية كالعاجز عن التكبير بالعربية، فغن مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلموا .. عصوا كلهم ولا جمعة لهم.

قال: (مرتبة الأركان الثلاثة الأول)، فيبدأ بالحمد، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بالوصية بالتقوى؛ لان ذلك هو المعهود من فعلها.

ولا ترتيب بين القراءة والدعاء، ولا بينهما وبين غيرهما.

ونفى صاحب (العدة) وآخرون وجوب الترتيب في ألفاظها أصلا، وقالوا: الأفضل رعايته. وسيأتي تصحيح المصنف خلاله.

قال: (وبعد الزوال)؛ لأنها كذلك فعلت، و (كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على ذلك). قال الرافعي: ولو جاز التقديم .. لقدمها تخفيفا على المبكرين، وإيقاعا لها في أول الوقت.

وفي (البخاري)] 904 [عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة بعد الزوال).

وخالف في ذلك مالك وأحمد فجوزا تقديمها معا على الزوال.

قال: (والقيام فيهما إن قدر)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يخطبوا إلا من قيام، وقال تعالى:} وتركوك قائما {، وروى مسلم] 863 [:(أن الترك كان وهو قائم يخطب). فإن عجز عن القيام .. فالأولى أن يستنيب.

ص: 472

وَالْجُلُوسُ بَيْنَهُمَا

ــ

ولو خطب قاعدا أو مضطجعا .. جاز كالصلاة، ويفصل بينهما بسكتة على الأصح.

وإن خطب قاعدا وجهل حاله .. حمل على أنه عاجز وجاز الاقتداء به، فغن تبين بعد ذلك أنه قادر .. فكالاقتداء بالمحدث.

فإن قيل: لم عددتم القيام والقعود هنا من الشروط، وفي الصلاة من الأركان؟ .. قال الإمام: الأمر فيه قريب ولا حجر في عدهما ركنين في الموضعين أو شرطين.

وفرق بعضهم بأن المطلوب بالصلاة: الخدمة بالقيام والقعود، فعدا ركنين، والخطبة المقصود منها: الوعظ، ولا مدخل للقيام والقعود فيه، فكانا بالشروط فيه أشبه.

قال: (والجلوس بينهما)؛ لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده على ذلك.

وروى جابر بن سمرة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، قال: فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا .. فقد كذب، والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة).

وفي رواية أبي داود] 1088 [: (كان يخطب قائما، ثم يقعد قعدة فلا يتكلم ....) وساق الحديث.

والمخالف في ذلك الأئمة الثلاثة.

وقيل: لا يجب الجلوس بل يفصل بسكتة خفيفة، وقيل: يفصل بسكوت أو جلوس أو كلام غير ما هو فيه.

ص: 473

وَإِسْمَاعُ أَرْبَعِينَ كَامِلِينَ. وَالْجَدِيدُ: أَنَّهُ لَا يَحْرُمٌ عَلَيْهِمُ الْكَلَامُ، وَيُسَنُّ الإِنْصَاتُ

ــ

قال: (وإسماع أربعين كاملين)؛ لأنه لا فائدة في حضور من غير سماع.

والمراد: إسماعهم الأركان فقط لا الخطبة، فإن الزائد لا يشترط ذكره فضلا عن إسماعه.

فلو خطب سرا بحيث لم يسمع غيره .. لم تحسب كالأذان.

وعن أبي حنيفة: أنها تجزئ، وهو وجه عندنا.

فلو رفع الصوت قدر ما يبلغهم، لكن كانوا أو بعضهم صما .. ففيه وجهان: أصحهما: لا تجزئ كما لو لم يسمع شهود النكاح.

والثاني: تجزئ كما لو حلف لا يكلم فلانا، وكلمه بحيث يسمع لكنه كان أصم، وكما لو سمعوا الخطبة ولم يفهموا معناها .. لا يضر.

والمراد بـ (الكاملين): من اجتمعت فيهم شرائط الوجوب.

واعتبار الأربعين وقع كذلك في (المحرر) و (الشرح) وفيه تساهل؛ لأن الأصح: أن الإمام من الأربعين فإن أراد أن يسمع نفسه أيضا فلا يجوز أن يكون أصم، ولكن المراد: إسماع عدد تنعقد به الجمعة.

قال: (والجديد: أنه لا يحرم عليهم الكلام، ويسن الإنصات)؛ لأن رجلا دخل والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن أسكت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند الثالثة:(ما أعددت لها؟) قال: حب الله ورسوله، قال:(أنت مع من أحببت) رواه النسائي] سك 5843 [والبيهقي] 3/ 221 [بإسناد صحيح.

والقديم- وهو منصوص (الإملاء) أيضا وقال به الأئمة الثلاثة-: يحرم الكلام، ويجب الإنصات؛ لقوله تعالى:} فاستمعوا له وأنصتوا {.

ص: 474

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قال الإمام: من أنكر وجوب الاستماع .. فليس معه من حقيقة هذه المسألة شيء، فيجب القطع بالوجوب على مذهب الشافعي؛ لأنه بنى مذهبه في الخطبة على الاتباع، ولو جاز الكلام .. لما كان في حضور أربعين كاملين فائدة.

تنبيهات:

أحدها: في تحريم الكلام على الخطيب طريقان أصحهما: القطع بأنه لا يحرم؛ لما روى الشيخان] خ 930 - م 875 [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم سليكا الغطفاني وهو يخطب). وفي رواية لمسلم] 875/ 59 [: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس فقال له:(يا سليك قم فاركع ركعتين، وتجوز فيهما)، ثم قال:(إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب .. فليركع ركعتين وليتجوز فيهما).

وروى البيهقي] 3/ 221 [وأصحاب المغازي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم قتلة ابن أبي الحقيق، وسألهم عن كيفية قتله في الخطبة).

والمذكور هو: أبو رافع اليهودي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه جماعة من أصحابه ليقتلوه بخيبر، فقتلوه ورجعوا والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فسألهم عنه فأخبروه بقتله.

وذكره الغزالي في (الوسيط) و (الوجيز) على غير وجهه.

الثاني: كلام المصنف مخصوص بكلام لا يتعلق به غرض مهم ناجز، فأما إذا رأى أعمى يقع في بئر أو عقربا يدب على إنسان فأنذره، أو علم شيئا من الخير أو نهى عن منكر .. فهذا لا يحرم قولا واحدا، والأولى أن يقتصر على الإشارة ما أمكن الاستغناء عنه.

الثالث: لا خلاف أنه لا يحرم الكلام قبل الخطبة، ولا بعدها قبل الصلاة.

ص: 475

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولا على من دخل ما لم يأخذ لنفسه مكانا، فكلام المصنف محمول على الحاضرين، والضمير راجع إلى الأربعين.

وعلى القديم .. يحرم رد السلام باللفظ، وكذا تشميت العاطس في الأصح؛ لأن المسلم سلم في غير موضعه فلم يرد عليه، وتشميت العاطس سنة فلا يترك له الإنصات الواجب.

ومن أصحابنا من قال: لا يرد السلام ويشمت العاطس؛ لأن المسلم مفرط بخلاف العاطس.

وصرح في (شرح المهذب) بكراهة السلام للداخل.

أما البعيد .. فهو بالخيار بين الذكر والتلاوة والإنصات.

ويستحب إذا قال الخطيب:} إن الله وملائكته يصلون على النبي {صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه المستمع ويرفع بها صوته.

الرابع: قال الرافعي- وتبعه صاحب (الحاوي الصغير) -: يكره للحاضر في المسجد إذا صعد الخطيب المنبر أن يتنفل. والمعروف التحريك كما صرح به في (شرح المهذب)؛ لأنه إعراض عن الإمام بالكلية، بل نقل الماوردي فيه الإجماع.

وتطويله كإنشائه يحرم أيضا، ولا يستثنى من ذلك إلا التحية للقادم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(إذا دخل أحدكم المسجد .. فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).

ص: 476

قُلْتُ: الأَصَحُّ: أَنَّ تَرْتِيبَ الأَرْكَانِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاللهُ أَعَلَمُ. وَالْأَظْهَرُ: اشْتِرَاطُ المُوَالَاةِ. وَطَهَارَةِ الْحَدَثِ والْخَبَثِ. وَالسَّتْرِ

ــ

وله أن يصلي السنة وتحصل بها التحية ولا يزيد على ذلك.

قال: (قلت: الأصح أن ترتيب الأركان ليس بشرط والله أعلم)؛ لأن المقصود الوعظ وهو حاصل، ولم يرد نص في اشتراط الترتيب.

قال: (والأظهر: اشتراط الموالاة)؛ للاتباع.

والفرق بين هذا وبين الوضوء: أن للموالاة أثرا ظاهرا في استمالة القلوب الذي هو المقصود من الخطبة، والوضوء لا يفوت مقصوده بترك الموالاة.

والثاني: لا تشترط الموالاة كالوضوء، ولأن غرض الوعظ والتذكير يحصل مع تفريق الكلمات، وهذه المسألة مكررة تقدمت عند ذكر الانفضاض.

قال: (وطهارة الحدث والخبث، والستر)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل، وقال:(صلوا كما رأيتموني أصلي).

والثاني: لا يشترط كما لا يشترط استقبال القبلة.

ولا فرق على الصحيح بين الحدث الأكبر والأصغر، وقيل: الخلاف في الحدث الأصغر، فأما الأكبر .. فلا تحسب معه الخطبة قولا واحدا.

واشتراط (الستر) من زياداته على (المحرر)، وبقي من شروط الخطبة: اشتراط نيتها- على رأي- وفرضيتها؛ اشترطه القاضي حسين.

فرع:

لو شك بعد الفراغ من الخطبتين في ترك شيء من فرائضها .. قال الروياني: ليس له الشروع في الصلاة، وعليه إعادة خطبة واحدة إذا كان المشكوك فيه فرضا واحدا ولم يعلم عينه.

ص: 477

وَتُسَنُّ عَلَى مِنْبَرٍ

ــ

قال: (وتسن على منبر) بالإجماع، وفي (الصحيحين)] خ 917 - م 544 [:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب عليه)، ولفظ البخاري:(أنه كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه)، وفي رواية له:(فمسحه)] 3583 [، وفي أخرى] 918: [(فسمعنا له مثل أصوات العشار).

وفي (صحيح مسلم)] 544 [وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة أن: (مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها)، فعملت هذه الثلاث درجات فكان يخطب عليها.

و (كان منبره صلى الله عليه وسلم ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح).

ويستحب أن يقف على التي تليها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: روي أن أبا بكر نزل عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم درجة، وعمر درجة أخرى، وعثمان أخرى، ثم وقف علي على موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قلنا: كل منهم له قصد صحيح، وليس فعل بعضهم حجة على بعض.

والمختار موافقة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعموم الأمر بالاقتداء به.

ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب- وهي جهة يمين المصلي- لأن منبره صلى الله عليه وسلم كان كذلك، فإن خطب على الأرض .. فليقف هناك.

ويكره المنبر الكبير الذي يضيق على المصلين كمنبر مكة الآن. وكان الشيخ رحمه الله تعالى يقول: الخطابة بمكة على منبر بدعة، وإنما السنة:(أن يخطب على الباب كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح)، ولا يقال: إن تلك قضية خاصة فعلت للضرورة.

ص: 478

أَوْ مُرْتَفِعٍ. وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عِنْدَ الْمِنْبَرِ. وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ إِذَا صَعِدَ،

ــ

جوابه: أن الخلفاء الراشدين أقروا الأمر على ذلك وهم الذين يقتدى بهم، وإنما أحدث ذلك بمكة معاوية بن أبي سفيان.

و (المنبر) بكسر الميم مشتق من النبر وهو: الارتفاع.

قال: (أو مرتفع)؛ لأنه أبلغ في الإعلام. وظاهر عبارة المصنف التسوية، والذي في (الشرحين) و (الروضة): أن المستحب المنبر، فإن لم يكن .. فالموضع العالي، فإن تعذر

استند إلى خشبة ونحوها.

مهمة:

أنكر في زيادات (الروضة) الدق على المنبر، وأفتى الغزالي باستحبابه، والشيخ عماد الدين بن يونس بأنه لا بأس به، وقال: فيه تفخيم للخطبة وتحريك لهمم السامعين وإن كان بدعة، وأنكر الدعاء إذا انتهى صعود الخطيب المنبر قبل أن يجلس، وصرح أبو بكر الفارسي في كتاب (التبصرة) باستحبابه، بل قال: يستحب أن يقف على كل مرقاة وقفة خفيفة يسأل الله تعالى فيها المعونة والتسديد، كذا نقله عنه ابن الصلاح، وصحح أن الخطيب لا يصلي تحية المسجد، بل تسقط بالاشتغال بالخطبة، كما تسقط تحية المسجد الحرام بالطواف، والمعروف نقلا وبحثا استحبابها، كما صرح به البندنيجي والجرجاني وصاحبا (العدة) و (البيان)، ولذلك كان الشيخ عز الدين يصليها قبل صعود المنبر لما خطب بجامع مصر.

قال: (ويسلم على من عند المنبر)؛ لما روى البيهقي] 3/ 205 [عن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة .. سلم على من عنده من الجلوس).

وعبارة (شرح المهذب): إذا دخل المسجد .. سلم على الحاضرين فيه على عادة الداخلين، فإن انتهى إلى المنبر .. سلم على الذي عنده سلام المفارقة.

قال: (وأن يقبل عليهم إذا صعد)، ففي (سنن ابن ماجة)] 1136 [و (الترمذي)] 509 [:(أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب .. استقبل الناس واستقبلوه).

ص: 479

وَيُسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَيَجْلِسَ ثُمَّ يُؤَذَّنُ

ــ

قال: (ويسلم عليهم)؛ لما روى الضياء المقدسي في (أحكامه) وابن عدي في (كامله)] 5/ 253 [عن جابر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر .. استقبل الناس بوجهه، ثم سلم)، لكن في رجاله ابن لهيعة ولا يضره ذلك.

والحكمة فيه: أن يسمعه من لم يسمع الأول، ولأنه في صعوده كالمفارق لهم وكان الصحابة يسلم بعضهم على بعض إذا حال بينهم شجرة.

وقال الأئمة الثلاثة: هذا السلام الثاني مكروه.

قال: (ويجلس ثم يؤذن)؛ لما روى أبو داوود] 1085 [: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد المنبر .. جلس حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب).

وفي (البخاري)] 912 [عن السائب بن يزيد قال: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر حين يجلس الإمام على المنبر، فلما كثر الناس في خلافة عثمان .. أمر الناس بأذان آخر على الزوراء.

وقال عطاء: إن الذي أحدثه هو معاوية.

قال الشافعي رضي الله عنه: وفعله صلى الله عليه وسلم أحب إلي.

وإذا جلس .. يستقبل الناس ويستدبر القبلة.

وقوله: (ثم يؤذن) ينبغي أن يقرأ بكسر الذال ليوافق ما في (المحرر) من كون الأذان المذكور يستحب أن يكون من واحد، لا من جماعة كما استحبه أبو علي الطبري وغيره.

ولفظ الشافعي في ذلك: وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على المنبر، لا جماعة المؤذنين، لأنه لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد، فإن أذنوا جماعة .. كرهت ذلك، ولا يفسد شيء منه الصلاة؛ لأن الأذان ليس من الصلاة، وإنما هو دعاء إليها.

وقول (الوسيط): ويؤذن المؤذنون بين يديه، أنكره عليه ابن الصلاح وغيره.

ص: 480

وَأَنْ تَكُونَ بَلِيغَةً مَفْهُومَةٌ قَصِيرَةً

ــ

قال: (وان تكون بليغة) أي: فصيحة جزلة؛ لتقع موقعا من القلب.

وتكره الألفاظ المشتركة والبعيدة عن الأفهام، وما تنكره عقول الحاضرين.

وقال الشافعي: يكون كلامه مسترسلا مبينا معربا، من غير تغن ولا تمطيط.

قال: (مفهومة)؛ لقول علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!) رواه البخاري آخر (كتاب العلم)] 127 [.

ورواه في (البحر) عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: لا تقولوا ما تقصر عنه الأفهام؛ فيكذبوا الله ورسوله لذلك.

قال: (قصيرة)؛ لأن خطب النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصدا، رواه مسلم] 866 [.

و (كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم).

وقال عمار بن ياسر: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخطب)، وقال صلى الله عليه وسلم:(قصر الخطبة وطول الصلاة مئنة من فقه الرجل) رواه مسلم] 869 [.

و (المئنة): العلامة.

هذا في خطبة الجمعة، أما في غيرها

فلا؛ ففي (صحيح مسلم)] 2892 [عن أبي زيد عمرو بن أخطب قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل وصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فاخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا).

وفي استحباب التقصير مع قولهم: يقرأ في الأولى (ق) إشكال ظاهر.

ص: 481

وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِيناً وَشِمَالاً فِي شَيْء مِنْهَا. وَيَعْتَمِدُ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصَا وَنَحْوِهِ وَيَكُونُ جُلُوسُهُ بَيْنَهُمَا قَدْرَ (سُورَةِ الإِخْلَاصِ)

ــ

وقال ابن عبد السلام: من أقبح البدع أن يذكر في الخطبة شعرا.

لكن روى البيهقي في (شرح الأسماء والصفات)] 419 [عن ابن مسعود: أن عمر كان يكثر أن يقول في خطبه على المنبر] من المتقارب [:

فخفض عليك فإن الأمور .... بكف الإله مقاديرها.

فليس بآتيك منهيها .... ولا قاصر عنك مأمورها.

قال: (ولا يلتفت يمينا وشمالا في شيء منها)؛ لقول البراء بن عازب: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطبنا .. استقبلنا بوجهه ونستقبله بوجوهنا).

ولو عبر بقوله: يمينا ولا شمالا بزيادة (لا) كما عبر في (الروضة) تبعا ل (الشرح) .. كان أولى، ولو حذفهما .. كان أعم وأصوب.

قال: (ويعتمد على سيف أو عصا ونحوه) كالعنزة؛ ففي (سنن أبي داوود)] 1089 [بإسناد حسن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قام متوكئا على قوس أو عصا)، ويقبض ذلك بيده اليسرى كما هو عادة من يريد الضرب بالسيف والرمي بالقوس، ويشغل يده اليمنى بحرف المنبر، فإن لم يجد شيئا .. سكن يديه بجعل اليمنى على اليسرى، أو يرسلهما.

و (السيف) جمعه: أسياف وسيوف، وله خمس مئة اسم.

قال: (ويكون جلوسه بينهما قدر (سورة الإخلاص))؛ لأنه المأثور من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أكملها.

وفي (البحر): أنه أقلها، والمشهور: أن أقلها أن يطمئن كما بين السجدتين.

وهل يكون فيها ساكتا أو يقرأ؟ .. لم يصرحوا به، لكن في (كتاب ابن حبان)

ص: 482

وَإِذَا فَرَغَ .. شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإقَامَةِ، وَبَادَرَ الْإِمَامُ لَيَبْلُغَ الْمِحْرَابَ مَعَ فَرَاغِهِ. وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى (الْجُمُعَةَ)، وَفِي الْثَّانِيِةِ (الْمُنَافِقِينَ)

ــ

] 2803 [: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في جلوسه من كتاب الله)، وقال القاضي حسين: الدعاء فيه مستجاب.

قال: (وإذا فرغ

شرع المؤذن في الإقامة، وبادر الإمام ليبلغ المحراب مع فراغه) تحقيقا للموالاة، وتخفيفا على الحاضرين، ويستحب أن يختم الخطبة بالاستغفار.

قال: (ويقرأ في الأولى (الجمعة)، وفي الثانية (المنافقين)) رواه مسلم] 877 [من حديث ابن عباس وأبي هريرة وفيه: أن عليا وأبا هريرة فعلا ذلك، وفي بعض طرفه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على ذلك).

وفيه] 878 [أيضا عن النعمان بن بشير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين والجمعة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية).

قال الشافعي: فلو قرأ بذلك .. كان حسنا. وجعل ذلك بعضهم قولا قديما وجعل المسألة على قولين، وليس كذلك بل كل منهما سنة، فلو قرأ سورة (المنافقون) في الأولى .. قرأ (الجمعة) في الثانية.

قال الشيخ عز الدين: وقراءة سورة كاملة أفضل من بعض (الجمعة) و (المنافقون)، وقراءة بعضهما أفضل من قراءة مثلهما من غيرهما، إلا أن يكون غيرهما مشتملا على الثناء كآية الكرسي وأول سورة (الحديد) وآخر سورة (الحشر).

ص: 483