الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ:
تبْطُلُ بِالنُّطْقِ بِحَرْفَيْنِ
ــ
وقال أبو حنيفة: إن كانت النجاسة رطبة .. فالواجب إعادة صلاة واحدة، وإن كانت يابسة، فإن كان الزمان صيفًا .. يعيد صلاة، وإن كان شتاءً .. يعيد خمس صلوات.
قال: (فصل:
تبطل بالنطق) أجمعت الأمة على بطلان الصلاة بالكلام العمد الذي يطلح لخطاب الآدميين من غير عذر، إذا لم يكن من مصلحة الصلاة؛ لما روى مسلم [539] عن زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قنتين} ، فمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: ألا تكلموا في الصلاة) رواه أبو داوود [921] وغيره.
فإن قيل: روى الشيخان [خ482 - م573] عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر أو العصر فسلم من ركعتين، فخرج سرعان الناس وقالوا: قصرت الصلاة! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خشبة في المسجد كالمتفكر، فقال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ذلك لم يكن)، وفي القوم أبو بكر وعمر، فلما قالا كما قال ذو اليدين .. قام وأتم الصلاة، وسجد سجدتين. وهذا يدل على أن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها .. فالجواب: أن كلام ذي اليدين لم يبطل؛ لاعتقاده أن الصلاة قد قصرت، وجوابه صلى الله عليه وسلم؛ لاعتقاده تمام الصلاة، وكلام أبي بكر وعمر؛ إجابة لقوله صلى الله عليه وسلم وهي لا تبطل.
قال: (بحرفين) اتفقوا على ذلك.
وشمل قوله: (بحرفين) المهمل والمستعمل، والمفهم وغير المفهم.
قال في (شرح المهذب): لأن الكلام يقع على المفهم وغيره- عند اللغويين والفقهاء والأصوليين- وإن كان النحاة يقولون: إن الكلام لا يكون إلا مفهمًا.
أَوْ حَرْفٍ مُفْهِمٍ، وَكَذَا مَدَّةٌ بَعْدَ حَرْفٍ فِي الأَصَحِّ
ــ
ونازعه الشيخ بأن الأصوليين يشترطون فيه الوضع فالمهمل لا يسمى كلامًا عندهم. وأما الفقهاء .. فلا اصطلاح لهم في ذلك، وإنما المرجع في ذلك إلى اللغة، فكل ما سماه أهل اللغة كلامًا .. اندرج في عموم كلام الآدميين المنهي عنه، فإن الكلام إذا لم يكن له حقيقة في الشرع .. يجب الرجوع فيه إلى اللغة، والكلام فيها ينقسم إلى مفهم وغيره.
وفهم من بطلانها بحرفين: بطلانها بثلاثة فصاعدًا؛ لأن فيها نطقًا بحرفين، وعدم بطلانها بحرف واحد بالشرط الآتي:
قال: (أو حرف مفهم)، كقولك إذا أمرت بالوفاء والوقاية والوعي والوشي:(ف) و (ق) و (ع) و (ش)، وكذلك في الولاية (ل)، وفي الأمر بضرب الرئة (ر) ونحوها؛ لأنه كلام تام لغة وعرفًا وإن أخطأ بحذف هاء السكت.
وحكى صاحب (التعجيز) وجهًا: أنها لا تبطل؛ لأن أقل ما يحتاج إليه الكلام حرفان: حرف يبتدأ به، وحرف يوقف عليه.
واحترز عن غير المفهم فإنه لا يبطل؛ لأنه لا يسمى كلامًا.
قال: (وكذا مدة بعد حرف في الأصح)؛ لأن المد ألف أو ياء أو واو، وهي حروف مخصوصة، فضمها إلى الحروف كضم حرف إلى حرف.
وإن كان قبل الحرف همزة مثل آه .. بطلت سواء كان من خوف النار أو من غيره.
وقال المحاملي: إن كان من خوف النار .. لم تبطل. والمشهور الأول.
والوجه الثاني: لا تبطل بذلك؛ لأنها قد تتفق لإشباع الحركة ولا تعد حرفًا.
فروع:
يستثنى من بطلانها بالكلام ما إذا أنذر أعمى أو صغيرًا من بئر ونحوه على الأصح في (التحقيق)، وهو مقتضي ما في (شرح المهذب)، لكنه في (الروضة) تبع الرافعي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصحح البطلان؛ لأنه قد لا يقع فيما يخاف منه.
ويستثنى ما إذا تلفظ بنذر .. فالأصح في (شرح المهذب): أنهما لا تبطل به؛ لأنه مناجاة. ويجب أن يكون محل الخلاف فيما إذا قال: لله علي كذا. فلو علق كأن شفى الله زيدًا ونحوها من صيغ التعليق .. فلا وجه إلا البطلان.
ولو دعا النبي صلى الله عليه وسلم في عصره مصليًا .. وجبت إجابته على الأصح، ولا تبطل بذلك على الصحيح.
وفي نداء أحد الأبوين ثلاثة أوجه:
أصحهما: أن الإجابة لا تجب.
وثانيهما: تجب وتبطل الصلاة.
وثالثها: تجب ولا تبطل.
واختار الشيخ أن الصلاة إن كانت نفلًا .. قطعا وأجاب، وإن كانت فرضًا .. لا يقطعها ولا يجيب.
وروينا في (معجم ابن قانع) من حديث حوشب الفهري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كان جريج الراهب فقيهًا عالمًا لعلم .. أن إجابة أمة أفضل من عبادة ربه)؛ لأن الكلام الذي كان يحتاج إليه كان مباحًا ذلك الوقت، وكذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ.
وإشارة الأخرس المفهمة لا تبطلها على الأصح.
وقراءة الآية المنسوخة التلاوة في الصلاة تبطلها، وفي وجه: لا تبطل بآية الرجم حكاه الرافعي في (باب حد الزنا).
وفي (زيادات العبادي): لو قرأ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب النار، إن تعمد .. بطلت صلاته، وإلا .. فلا ويسجد للسهو. قال في (شرح المهذب): وفيما قاله نظر، ولم يبينه.
قال القفال في (الفتاوى): إن قال ذلك متعمدًا معتقدًا .. صار كافرًا، وإن قاله غير معتقد ولكن تعمد قراءته .. بطلت صلاته. وإن قرأها ساهيًا .. لم تبطل ويسجد للسهو.
وَالأَصّحُّ: أَنْ التَّنَحْنُحَ وَالضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ وَالأَنِينَ وَالنَّفْخَ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ .. بَطَلَتْ، وَإِلَاّ .. فَلَا
ــ
والقراءة بالشواذ تقدمت في (صفة الصلاة).
قال: (والأصح: أن التنحنح والضحك والبكاء والأنين والنفخ إن ظهر به حرفان .. بطلت)، كما لو أتى بحرفين على وجه آخر، (وإلا .. فلا)؛ لأنه لا يسمى كلامًا.
والثاني: لا تبطل مطلقًا- وحكي عن النص- لأنه ليس من جنس الكلام، ولا يكاد يتبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل، ولا فرق في النفخ بين الفم والأنف.
والثالث: قال القفال: إن كان فمه منطبقًا .. لم تبطل؛ لأنه لا يكون على هيئة الحروف، إنما هو كقرقرة في الجوف، وإن كان مفتوحًا .. بطلت.
قال الإمام: وليس بشيء؛ لأن الأصوات لا تختلف في السمع بذلك.
ونقل ابن المنذر الإجماع على بطلان الصلاة بالضحك، وحمله في (شرح المهذب) على ما إذا بان منه حرفان، لكن في (البحر) عن القاضي أبي الطيب: أن الضحك مبطل مطلقًا وإن قل؛ لما فيه من هتك الحرمة، وفي (التجريد) نحوه.
وفي (فتاوى القفال): إن ضحك عمدًا فعلا صوته .. بطلت صلاته ظهر منه حرفان أم لا.
والتبسم لا يبطل الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبسم فيها، فلما سلم قال:(مربي ميكائيل فضحك لي، فتبسمت له).
وأما البكاء والأنين والنفخ .. فالخلاف مرتب.
وقال الماسرجسي: إن كان البكاء لخشية الله تعالى .. لم تبطل، وإن كان حزنًا على ميت ونحوه .. بطلت.
وفي (الشامل) عن الشيخ أبي حامد: أنه إذا حزن في الصلاة ففاضت عيناه .. جازت صلاته؛ لقوله تعالى: {خروا سجدًا وبكيًا} .
وَيُعْذَرُ فِي يَسِيرِ الْكَلَامِ إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ، أَوْ نَسِيَ الصَّلَاةَ، أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَهُ إِنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالإِسْلَامِ،
ــ
وعن عبد الله بن الشخير قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داوود [900] والنسائي [3/ 13] والترمذي في (الشمائل)[322]، وصححه ابن حبان [753] والحاكم [1/ 264]، ووقع في (الإلمام) عزو هذا الحديث لمسلم وهو سهو.
وعد الرافعي في (الشهادات) الضحك في الصلاة من الصغائر، نقله عن صاحب (العدة) وأقره).
قال: (ويعذر في يسير الكلام إن سبق لسانه، أو نسي الصلاة، أو جهل تحريمه إن قرب عهده بالإسلام) لا خلاف عندنا في المسائل الثلاث.
أما الجاهل بالتحريم .. فلحديث معاوية بن الحكم قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني .. سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فبأبي هو وأمي؛ ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، إنما قال:(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم [537].
وجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، ومن سبق لسانه .. أولى.
ولو علم أن الكلام حرام، ولم يعلم أنه يبطل الصلاة .. لم يكن عذرًا. ولو لم
لَا كَثِيرِهِ فِي الأَصَحِّ
ــ
يعلم تحريم التنحنح ولا كونه مبطلًا وهو طويل العهد بالإسلام .. فالأصح: أنه يعذر؛ لأنه يخفى على العوام.
وأما الناسي للصلاة .. فلقصة ذي اليدين، فإنها متأخرة عن النهي عن الكلام في الصلاة؛ لأن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة؛ وقصة ذي اليدين حضرها أبو هريرة وغيره ممن لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة، فمن ادعى أنها منسوخة بـ (النهي عن الكلام) .. فهو غالط جاهل بالتاريخ.
وذو اليدين تأخرت وفاته إلى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذو الشمالين الذي مات ببدر غيره.
فإذا ثبت تأخر قصة ذي اليدين .. فالنهي محمول على العمد.
قال: (لا كثيره في الأصح) أي: لا يعذر في الكثير وإن سبق لسانه، أو نسي الصلاة، أو جهل التحريم وكان قريب العهد بالإسلام؛ لأنه يمكن الاحتراز منه؛ ولأنه يقطع نظم الصلاة والقليل يحتمل.
والثاني: يعذر فيه؛ لأنه لو أبطلها .. لأبطلها القليل كما في حالة العمد.
والفرق بين هذا وبين الصوم حيث لا يبطل بالأكل الكثير ناسًا- على ما صححه المصنف-: أن المصلي متلبس بهيئة مذكرة بالصلاة يبعد معها النسيان بخلاف الصائم.
وصحح الشيخ تبعًا للمتولي: أن الكلام الكثير نسيانًا لا يبطل؛ لقصة ذي اليدين.
ويرجع في القليل والكثير إلى العرف على الأصح.
وقيل: القليل: مثل ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين، وقيل: الكلمة والكلمتان ونحوهما، وفي قول: ما يسع زمانه ركعة، وفي وجه: ما لا تسعه تلك الصلاة.
وَفِي التَّنَحْنُحِ وَنَحْوِهِ لِلْغَلَبَةِ وَتَعَذُّرِ الْقِرَاءَةِ، لَا الْجَهْرِ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْكَلَامِ .. بَطَلَتْ فِي الأَظْهَرِ
ــ
قال: (وفي التنحنح ونحوه) أي: مما سبق في الضحك والبكاء والنفخ والعطاس.
و (التنحنح): صوت يردده الرجل في صدره.
قال: (للغلبة وتعذر القراءة)؛ لأنه معذور. والمراد: القراءة الواجبة وهي: (الفاتحة)، أو بدلها عند العجز عنها، وفي معنى ذلك التشهد الواجب، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسكت المصنف عن حكم المستحب.
والقياس: تخريجها على الخلاف في الجهر، والأصح فيه: أنه ليس بعذر.
وقيل: لا يعذر للقراءة، حكاه المحب الطبري.
أما السعال والعطاس .. فالصواب: عدم الإبطال بكثرتهما؛ لأنه لا يمكن الاحتراز من ذلك، ولا ينقطع به نظم الصلاة.
وما وقع للرافعي والمصنف في ذلك من الفرق بين القليل والكثير رده الشيخ وغيره.
فرع:
لو تنحنح إمامه .. لم تجب مفارقته على الأصح؛ لاحتمال الغلبة وغيرها من الأعذار، والأصل بقاء العبادة.
قال: (لا الجهر في الأصح)؛ لأنه سنة فلا حاجة لاحتمال التنحنح لأجله.
والثاني: أنه يعذر؛ إقامة لشعائر الصلاة.
وأما الجهر بأذكار الانتقالات عند الحاجة إلى سماع المأمومين .. فلا يبعد أن يكون عذرًا.
قال: (ولو أكره على الكلام .. بطلت في الأظهر)؛ لأنه أمر نادر، وقياسًا على ما لو أكره على الصلاة قاعدًا أو بلا وضوء .. فإن ذلك لا يكون عذرًا.
وَلَوْ نَطَقَ بِنِظْمِ الْقُرْآنِ بِقَصْدِ التَّفْهِيمِ كَـ {يَيَحيَى خُذِ الْكِتَابَ} إِنْ قَصَدَ مَعَهُ قِرَاءَةً .. لَمْ تَبْطُلْ، وَإِلَاّ .. بَطَلَتْ
ــ
والثاني: لا كالناسي.
قال: (ولو نطق بنظم القرآن بقصد التفهيم كـ {ييحيى خذ الكتاب})، ومثله:{ادخلوها بسلام ءامنين} ، ولم يمشي في نعليه:{فاخلع نعليك} .
واحترز (بنظم القرآن) عما لو أتى بكلمات مفرداتها في القرآن دون نظمها كقوله: يا قومنا، قوموا لله قانتين، فإن أتى به موصولًا .. بطلت صلاته، وإن فرق الكلام .. لم تبطل؛ لأن الجميع قرآن.
قال: (إن قصد مع قراءة .. لم تبطل)؛ لأن عليًا كان يصلي، فدخل رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله ورسوله، فتلا علي:{فاصبر إن وعد الله حق} ، وسيأتي الخبر بتمامه في (باب البغاة).
وفي وجه: تبطل في هذه الحالة؛ تغليبًا للإفهام.
قال: (وإلا .. بطلت) أي: إذا قصد التفهيم وحده. وهذا لا خلاف فيه؛ لأنه كلام، ولهذا قال المصنف:(بنظم القرآن) ولم يقل: بالقرآن.
وقال في (الدقائق): يفهم من عبارته أربع مسائل: إحداها: إذا قصد القراءة.
والثانية: إذا قصد القراءة والإعلام. والثالثة: إذا قصد الإعلام فقط. والرابعة: أن لا يقصد شيئًا. ففي الأولى والثانية لا تبطل الصلاة فيهما، وفي الثالثة والرابعة تبطل فيهما.
قال: وتفهم الرابعة من قوله: (وإلا بطلت) كما تفهم منه الثالثة وهذه الرابعة لم يذكرها في (المحرر)، وهي نفيسة لا يستغنى عن بيانها، وسبق مثلها في قول (المنهاج):(وتحل أذكاره لا بقصد قرآن) اهـ
والصورة الرابعة لم يذكرها الرافعي ولا الماوردي ولا المتولي، وجزم الشيخ فيها بالبطلان، كما يحل للجنب ذكره؛ لأن مثل ذلك لا يصير قرآنًا إلا بالقصد، لكن ظاهر كلام (الحاوي الصغير) فيها عدم البطلان، وبه صرح القاضي شرف الدين البارزي، وجزم به الحموي شارح (الوسيط).
وَلَا تَبْطُلُ بِالذَكْرِ وَالدُّعَاءِ،
ــ
وإطلاق البطلان فيما تقدم محمول على ما إذا أتى به وحده، أما إذا كان قد انتهى في قراءته إليه .. فقال المصنف والشيخ: لا تبطل.
والاسترسال في القراءة قائم مقام القصد.
والأقسام الأربعة تأتي في الجنب كما أشار إليه، وفيمن حلف أن لا يكلمه، فأتى بآية فهم المحلوف عليه منها ما قصده الحالف.
تحقيق:
إذا أرتج على الإمام القراءة، ففتح عليه المأموم بقصد الرد .. لم تبطل صلاته بلا خلاف؛ لأن الفتح مندوب للإمام في هذه الحالة- كما سيأتي- ففي (الدارقطني)[1/ 400]، و (البيهقي)[3/ 212]، و (الحاكم) [1/ 276]- وقال: صحيح- عن أنس قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يلقن بعضهم بعضًا في الصلاة).
ولا يتخرج ذلك على هذه المسألة، كما صرح به الماوردي، والشيخ أبو إسحاق في (التذكرة) في الخلاف- وهو المنصوص- وكثيرًا ما يغلط في ذلك.
وهو في (الشرح) و (الروضة) في (كتاب الأيمان) حيث قالا: لو صلى الحالف: لا يكلم زيدًا خلف المحلوف عليه، ففتح عليه القراءة .. لم يحنث، ولو قرأ آية فهم منها مقصوده .. لا يحنث إن قصد القراءة، وإلا .. فيحنث.
قال: (ولا تبطل بالذكر والدعاء)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير
إِلَاّ أَنْ يُخَاطِبَ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: (يَرْحَمُكَ اللهُ)
ــ
من الدعاء ما شاء)، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مواضع من الصلاة بأدعية مختلفة، فدل على أنه لا حجر فيه.
كل هذا بشرط النطق بالعربية إن كان يحسنها، وبشرط أن لا يقصد به شيئًا آخر، فإن كان قصد كسبحان الله بقصد التنبيه، وتكبيرات الانتقالات من المبلغ بقصد التبليغ .. ففيه التفصيل السابق.
قال: (إلا أن يخاطب كقوله لعاطس: (يرحمك الله)) فتبطل بذلك؛ لحديث معاوية بن الحكم، وبالقياس على رد السلام.
على أن يونس بن عبد الأعلى روى عن الشافعي قولًا غريبًا: أن الصلاة لا تبطل بذلك؛ لأنه دعاء، واختاره الروياني.
وقيد الرافعي المسألة بغير خطاب الله تعالى، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأهمله المصنف؛ لأنه يؤخذ من التشهد.
ويؤخذ من كلامه أيضًا: أنها تبطل بخطاب ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فروع:
إذا سلم على المصلي .. لا يجب عليه الرد لا في الحال ولا بعد السلام؛ لأن
وَلَوْ سَكَتَ طَوِيلاً بِلَا غَرَضٍ .. لَمْ تَبْطُلْ فِي الأَصَحِّ
ــ
وجوبه منوط باستحباب السلام، والسلام عليه لا يستحب، بل نص الشافعي على كراهته على الخطيب، فعلى المصلي أولى، ليكن الأصح أنه يستحب له الرد بالإشارة ناطقًا كان المصلي أو أخرس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على الأنصار بيده حين سلموا وهو في الصلاة، ورد على صهيب فيها بإصبعه، رواه أبو داوود [922].
ولو عطس في صلاته .. حمد الله في نفسه ولا يحرك لسانه، قاله في (الإحياء)، لكن في (الروضة) في آخر (كتاب السير): أنه يسمع به نفسه.
ولو نطق بقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو قال الله كذا .. بطلت صلاته.
ولو قرأ الإمام: {إياك نعبد وإياك نستعين} ، فقال المأموم مثل ذلك غير قاصد التلاوة، أو قال: استعنا بالله أو نستعين بالله .. بطلت.
قال في (التحقيق): وقال الشيخ محب الدين الطبري: تصح؛ لأنه ثناء على الله. وقال الشيخ جمال الدين: إنه الحق، ويدل له قولهم في قنوت شهر رمضان: اللهم؛ إياك نعبد.
قال: (ولو سكت طويلًا بلا غرض) أي: عمدًا في ركن طويل (.. لم تبطل في الأصح)؛ لأن السكوت لا يخل بهيئة الصلاة.
والثاني: تبطل؛ لإشعاره بالإعراض عنها.
وَيُسَنُّ لِمَنْ نَابَهُ شَيْءٌ كَتَنْبِيهِ إِمَامِهِ، وَإِذْنِهِ لِدَاخِلٍ، وَإِنْذَارِهِ أَعْمَىً: أَنْ يُسَبِّحَ، وَتُصَفِّقَ الْمَرْأَةُ
ــ
واحترز بـ (الطويل) عن القصير، فإنه لا يضر قطعًا؛ لأنه مضرور إليه غالبًا. وبقوله:(بلا غرض) عما لو سكت لغرض، بأن نسي شيئًا فوقف ليتذكره .. فإنها لا تبطل على المذهب.
قال: (ويسن لمن نابه شيء كتنبيه إمامه) أي: إذا سها (وإذنه لداخل، وإنذاره أعمى) أي: يخشى وقوعه في هلكة (أن يسبح، وتصفق المرأة)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نابه شيء في صلاته .. فليسبح؛ فإنه سبح .. التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) متفق عليه [خ684 - م421]. وفي رواية [خ1218]: (من نابه شيء في صلاته .. فليقل: سبحان الله).
وإذا سبح .. ينبغي له أن يقصد الذكر والإعلام، فإن قصد الإعلام فقط .. لم تبطل؛ لأنه مأمور به.
فلو سبحت المرأة أو صفق الرجل .. لم تبطل في الأصح.
والخنثى كالمرأة كذا في (شرح المهذب)، وعبارة (الروضة) تقتضي: أنه يسبح.
وإنذار الأعمى لا شك في وجوبه، ولكن السنة في كيفيته: ما ذكره في التفرقة بين الرجال والنساء، فإن كان التنبيه سنة .. كان التصفيق سنة، وإن كان مباحًا .. فمباح. وإذا لم يحصل الإنذار بالتسبيح ونحوه بل بالكلام .. وجب، والأصح: بطلان الصلاة به. وصحح في (التحقيق) عكسه كما تقدم قريبًا.
بِضَرْبِ الْيَمِينِ عَلَى ظَهْرِ الْيَسَارِ. وَلَوْ فَعَلَ فِي صَلَاتِهِ غَيْرَهَا، إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهَا .. بَطَلَتْ
ــ
وإذا لم يحصل إلا بالفعل الكثير .. فيتخرج على الخلاف في القول، فإذا لم نحكم ببطلان الصلاة .. فيتم صلاته في الموضع الذي انتهى إليه، قاله المحب الطبري.
قال الشيخ: وإطلاق المصنف الاستحباب .. لك أن تجعله راجعًا إلى الكيفية، فيكون على إطلاقه من الفرق بين الرجال والنساء، وإن جعلته عائدًا إلى التسبيح والتصفيق .. فإنما يكونان سنتين إذا كان التنبيه قربة، فإن كان مباحًا .. كانا مباحين، قاله الشيخ أبو حامد وغيره.
وقياس ذلك إذا كان التنبيه واجبًا، كإنذار الأعمى من الوقوع في بئر .. أن يكونا واجبين إذا تعين طريقًا في حصول المقصود.
قال: (بضرب اليمين) أي: بطنها (على ظهر اليسار)، ولا ينبغي أن تضرب بطنًا على بطن؛ فإن ذلك لعب. ولو فعلته على وجه اللعب عالمة بالتحريم .. بطلت صلاتها وإن قل كما قاله الرافعي.
وفي معنى الكيفية التي ذكرها المصنف .. أن تعكس فتضرب بطن الشمال على ظهر اليمين.
وقيل: تضرب إصبعين على ظهر الكف.
وقيل: تصفق كيف شاءت ولو بالباطن على الباطن.
قال: (ولو فعل في صلاته غيرها) أي: فعلًا غير أفعالها (إن كان من جنسها) كزيادة ركوع أو سجود أو قيام أو قعود لا على وجه المتابعة (.. بطلت) إذا كان عالمًا بالتحريم؛ لأنه متلاعب.
قال الإمام: ولا يشترط فيه أن يطمئن؛ لأنه يغير نظمها وإن لم يطمئن بخلاف الركن المعتد به؛ فإن مقصوده الخضوع ولا يحصل إلا بالمكث.
نعم؛ يشترط في القعود أن يكون طويلاً، لكن يستثنى من إطلاق المصنف ما إذا كان قائمًا فانتهى إلى حد الركوع لقتل حية أو عقرب .. فإن ذلك لا يضر كما صرح به في (الكافي)، وما إذا جلس قبل سجوده جلسة خفيفة .. فإنها لا تضر.
إِلَاّ أَنْ يَنْسَى، وَإِلَاّ .. فَتَبْطُلُ بِكَثِيرِهِ لَا قَلِيلِهِ،
ــ
واحترز بقوله: (فعل) عما إذا كرر الفاتحة أو التشهد .. فإن ذلك لا يضر على النص كما سيأتي.
قال: (إلا أن ينسى) .. فلا تبطل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسًا ولم يعد صلاته، بل سجد للسهو، متفق عليه [خ1226 - م572].
وسكت المصنف عن الجاهل، ولا شك في عذر من قرب عهده بالإسلام ونحوه.
وأطلق المصنف أن الجاهل بالتحريم في قليل الأكل كالناسي لا تبطل صلاته بلا خلاف، وفيه نظر؛ لأن الجهل ممن نشأ بين المسلمين تقصير؛ إذا التحرز منه ممكن بالتعلم بخلاف النسيان.
ويخرج من كلامه مسألة حسنة وهي: مسبوق أدرك الإمام في السجدة الأولى من صلب صلاته فسجدها معه، ثم رفع الإمام رأسه فأحدث وانصرف .. قال ابن أبي هريرة وابن كج: على المسبوق أن يأتي بالسجدة الثانية؛ لأنه صار في حكم من لزمه السجدتان.
ونقل القاضي أبو الطيب عن عامة الأصحاب: أنه لا يسجد؛ لأنه بحدث الإمام انفرد، فهي زيادة محضة بغير متابعة فكانت مبطلة.
قال: (وإلا) أي: وإن لم يكن من جنس أفعالها (.. فتبطل بكثيره) بالاتفاق؛ لأن الحاجة لا تدعو إليه.
قال: (لا قليله) بالاتفاق أيضًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خلع نعليه وضعهما على يساره، و (صلى وهو حامل أمامة بنت زينب) رواه الشيخان [خ516 - م543]، زاد مسلم:(وهو يؤم الناس في المسجد). وروى ابن جريج: (أنها كانت صلاة الصبح). وروى ابن إسحاق: (أنها كانت صلاة الظهر أو العصر).
وَالْكَثْرَةُ بِالْعُرْفِ، فَالْخَطْوَتَانِ أَوِ الضَّرْبَتَانِ .. قَلِيلٌ، وَالثَّلَاثُ كَثِيرٌ إِنْ تَوَالَتْ.
ــ
و (أمر بقتل الأسودين: الحية والعقرب في الصلاة)، صححه الترمذي [390]. و (أمر بدفع المار)، كما سيأتي. و (أدار ابن عباس من يساره إلى يمينه).
قال: (والكثرة بالعرف)، فلا يضر ما يعد قليلًا، كخلع النعل ولبس الثوب الخفيف، والإشارة برد السلام.
وقيل: القليل ما لا يحتاج إلى كلتا اليدين، كرفع العمامة وحل شوطة السراويل. والكثير: ما يحتاج إليهما، كالتعميم وعقد الإزار وتزرير الأزرار.
وقيل: ما لا يسع ركعة.
وقيل: ما يظن الناظر إليه أن فاعله ليس مصليًا، وضعف هذا بحمل الصبي وقتل الحية والعقرب وهو لا يضر قطعًا.
قال: (فالخطوتان) أي: المتوسطتان (أو الضربتان .. قليل)؛ لحديث خلع النعلين.
وقيل: هما كثير؛ لأن الفعل قد تكرر بخلاف لواحدة.
و (الخطوة) بفتح الخاء المرة الواحدة، وبالضم: اسم لما بين القدمين، وقيل: لغتان.
قال: (والثلاث كثير إن توالت) .. فتبطل. وادعى ابن الرفعة الاتفاق على ذلك، والخلاف ثابت في (الرافعي) كما تقدمت الإشارة إليه. فلو تفرقت .. لم يضر وإن كثرت.
وحده: أن يعد الثاني منقطعًا عن الأول. فإن تردد في فعل هل انتهى إلى حد الكثرة أو لا .. فأظهر الأوجه: لا يؤثر.
وَتَبْطُلُ بِالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ، لَا الْحَرَكَاتِ الْخَفِيفَةِ الُمْتَوَالِيَةِ، كَتَحْرِيكِ أَصَابِعِهِ فِي سُبْحَةٍ أَوْ حَكٍّ فِي الأَصَحِّ. وَسَهْوُ الْفِعْلِ كَعَمْدِهِ فِي الأَصَحِّ
ــ
فرع:
إذا شرع في الفعل ناويًا فعلًا كثيرًا، فاقتصر على القليل .. فإن الصلاة تبطل، قاله صاحب (البيان) و (الشامل) في آخر (صلاة الخوف)، وجزم به المحب الطبري في (ألغازه)، وكأنه أخذه من كلامه في نية قطع الفاتحة؛ فإنهم قالوا: إذا سكت سكوتًا يسيرًا ناويًا به قطعها .. بطلت صلاته في الأصح.
قال: (وتبطل بالوثبة الفاحشة)؛ لمنافاتها الصلاة.
و (الوثبة): الطفرة.
قال: (لا الحركات الخفيفة المتوالية، كتحريك أصابعه في سبحة أو حك في الأصح)، لأنها لا تخل بهيئة الخشوع، فهي مع الكثرة كالفعل القليل، ولهذا قال الشافعي: لا يضر عد الآيات عقدًا باليد، وإن كان الأولى تركه، كذا في (شرح المهذب) و (الروضة)، وجزم في (التحقيق) بكراهته.
وكذلك المداومة على تحريك الأجفان.
والثاني: تبطل؛ لأنها أفعال متعددة متوالية فأشبهت الخطوات.
وأشار المصنف (بالأصابع) إلى أن صورة المسألة: أن يضع يده في محل واحد ويحرك أصابعه ويمر ذاهبًا وآيبًا.
فإن حرك كفه ثلاثًا .. أبطل، إلا أن يكون به جرب لا يقدر معه على عدم الحك قاله في (الكافي)، وهو مأخوذ من قول القاضي حسين في (الفتاوى): إنه لو أكثر من حك جسده مرارًا متوالية مختارًا .. بطلت صلاته، فإن كان لجرب لا يمكنه الصبر عنه .. لم تبطل انتهى. وعلى هذا يحمل إطلاق البغوي: أن الحك ثلاثًا مبطل.
ومر اليد وجذبها حكة واحدة. وكذا رفع اليد عن الصدر ووضعها في محل الحك.
قال: (وسهو الفعل كعمده في الأصح)، فيبطل كثيره وإن كان سهوًا؛ لأنه يقطع نظم الصلاة- بخلاف الكلام حيث فرقنا في قليله بين العمد والسهو- ولأن الفعل
وَتَبْطُلُ بِقَلِيلِ الأَكْلِ. قُلْتُ: إِلَاّ أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً تَحْرِيمَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. فَلَوْ كَانَ بِفَمِهِ سُكَّرَةٌ فَبَلَعَ ذَوْبَهَا .. بَطَلَتْ فِي الأَصَحِّ
ــ
أقوى من القول، ولذلك ينفذ إحبال المجنون دون إعتاقه، ويجب القصاص على المكره على القتل على الصحيح ولا يقع عليه طلاق. وإنما احتمل الفعل القليل؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه.
والثاني: لا يبطل كثيره وصححه المتولي؛ لقصة ذي اليدين، فإن سرعان الناس لم يؤمروا بالإعادة. واختار هذا في (التحقيق)، ووافقه الشيخ وإن كان مخالفًا للجمهور. وفي الجواب عن قصة ذي اليدين تكلف.
قال: (وتبطل بقليل الأكل)؛ لشدة منافاته هيئة الخشوع، ولأنه يبطل الصوم الذي لا يبطل بالأفعال، فالصلاة أولى.
ويرجع في القلة والكثرة إلى العرف، وهل الإبطال به لما فيه من العمل أو لوصول المفطر جوفه؟ وجهان ينبني عليهما بلغ ذوب السكرة، لكن صرح الرافعي والبغوي وغيرهما بأن مجرد المضغ إذا كثر .. يبطل وإن لم يصل بسببه شيء إلى الجوف بالكلية، فبطريق الأولى مع حصول شيء.
وتعبير المصنف يقتضي: أن النظر إلى الفعل لا إلى المأكول، وهو كذلك.
قال: (قلت: إلا أن يكون ناسيًا أو جاهلًا تحريمه والله أعلم)، فلا تبطل بقليله قطعًا كالصوم، أما الكثير .. فيبطل عمده وسهوه على الأصح كالكلام الكثير، وليس كسائر الأفعال التي يشق الاحتراز عنها.
قال: (فلو كان بفمه سكرة فبلغ ذوبها .. بطلت في الأصح)؛ لأن الإمساك عن المفطرات شرط فيها.
فعلى هذا: تبطل بكل ما يبطل به الصوم.
والثاني: لا؛ لأنه لم يوجد منه مضغ وازدراد، وهذا ذهاب إلى أن الإبطال بالأكل لما فيه من العمل.
وَيُسَنُّ لِلْمُصَلِّي إِلَى جِدَارٍ، أَوْ سَارِيَةٍ، أَوْ عَصَاً مَغْرُوزَةٍ، أَوْ بَسَطَ مُصَلَّىً، أَوْ خَطَّ قُبَالَتَهُ: دَفْعُ الْمَارِّ،
ــ
وقال الدارمي: إن بلع شيئًا يسيرًا يجري به ريقه .. لم تبطل، وإن مضغه وازدرده .. بطلت.
قال في (الدقائق): بلع بكسر اللام، وحكى الفتح أيضًا في (تهذيبه)، وهما لغتان شهيرتان.
وإثبات الميم في فيه: لغة فاشية نثرًا ونظمًا، ففي الحديث:(لخلوف فم الصائم)، وزعم أبو علي وابن عصفور: أنها لا تثبت إلا في الشعر نحو قول الشاعر [من الرجز]:
كالحوت لا يلهيه شيء يلهمه .... يصبح ظمآن وفي البحر فمه
و (السكر): فارسي معرب، الواحدة: سكرة.
قال: (ويسن للمصلي إلى جدار، أو سارية، أو عصا مغروزة، أو بسط مصلي، أو خط قبالته: دفع المار) اتفقوا على أنه: يستحب أن يكون بين يدي المصلي سترة كحائط ونحوه. وحكمتها: كف البصر عما وراءها، ومنع من يجتاز بين يديه.
ويسن أن لا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع، فإن لم يكن حائط ونحوه .. غرز عصًا أو نحوها، أو جمع متاعه أو رحله.
ويكون ارتفاع العصا ونحوها ثلثي ذراع، وهي: قدر مؤخرة الرحل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل .. فليصل ولا يبال بما مر وراء ذلك) رواه مسلم [499]. وقيل: قدر ذراع اليد.
ولا ضابط لعرضها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (استتروا في صلاتكم ولو بسهم)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
رواه الحاكم [1/ 382] وقال: على شرط مسلم. وفي (الصحيحين)[خ376 - م501]: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى عنزته)، و (العنزة): الحربة.
قال في (البويطي): ولا يستتر بامرأة ولا دابة.
وفي (الصحيحين)[خ507 - م502]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى راحلته)، وكان ابن عمر يفعله. وقد أوصى الشافعي بالعمل بالحديث الصحيح وهذا منه، فهو مذهبه.
فإن لم يجد ساترًا .. استحب أن يخط بين يديه خطًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم .. فليجعل أمام وجهه شيئًا، فإن لم يجد .. فلينصب عصًا .. فإن لم يكن معه عصًا .. فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه) رواه أبو داوود [689] بسند يعمل به في فضائل الأعمال، وهذا منها.
واختلف في صورة الخط:
فقيل: مقوس كالهلال، وقيل: بالطول من قدميه إلى القبلة وهو الأصح، وقيل: من اليمين إلى الشمال.
والاكتفاء بالخط هو الأصح، وحكمه حكم الشاخص في منع المرور وجواز الدفع، وقيل: إن الشافعي خط عليه في الجديد.
وعبارة المصنف تقتضي: التخيير فيما ذكره وليس كذلك؛ فقد قال في (التحقيق): فإن عجز عن سترة .. بسط مصلًى، فإن عجز .. خط خطًا على المذهب. وذكر في (شرح مسلم) مثله، وزاد فقال نقلًا عن الأصحاب: فإن لم يجد عصًا ونحوها .. جمع أحجارًا أو ترابًا، وإلا .. فليبسط مصلًى، وإلا .. فليخط خطًا طولًا من قدميه إلى القبلة.
وَالصَّحِيحُ: تَحْرِيمُ الْمُرُورِ حِينَئِذٍ
ــ
ويستحب أن يجعل السترة عن يمينه أو شماله، ولا يصمد إليها أي: يجعلها تلقاء وجهه.
ومحل الدفع: إذا أراد المرور بينه وبين سترته.
وهل يسن الدفع لغير المصلي أو يباح أو يحرم؟ فيه نظر:
فإن لم تكن سترة، أو كانت ولكن تباعد عنها أكثر من ثلاثة أذرع .. لم يكن له الدفع في الأصح لتقصيره، لكن المرور في هذه الحالة خلاف الأولى. وقال في (شرح مسلم) و (التحقيق): إنه مكروه.
وقال ابن المنذر رحمه الله: كان مالك رحمه الله يصلي متباعدًا عن السترة، فمر به رجلًا لا يعرفه فقال له: أيها المصلي؛ ادن من سترتك! فجعل يتقدم ويقول: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا} .
و (الجدار) والجدر: الحائط، وجمعه: جدر، وجمع الجدر: جدران.
و (السارية): الأسطوانة.
و (العصا) مؤنثة وجمعها: عصي وعصي.
وفي المثل: العصا من العصية، أي: بعض الأمر من بعض.
قال الفراء: وأول لحن سمع بالعراق: هذه عصاتي، وإنما الصواب كما قال الله تعالى:{هي عصاي} .
قال: (والصحيح: تحريم المرور حينئذ)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه .. لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه) متفق عليه [خ510 - م507]. وفي رواية للبخاري: (ماذا عليه من الإثم). وفي (مسند البزار)[3782]: (أربعين خريفًا). وفي (مصنف ابن أبي شيبة): (مئة عام).
والثاني: يكره؛ لما روى ابن ماجه [948] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يصلي، فمرت زينب بنت أم سلمة فقال بيده هكذا .. مشيرًا للرجوع فمضت، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته .. قال:(هن أغلب). وزينب هذه دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فنضح في وجهها، فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى كبرت وعجزت.
وعلى الوجهين .. للمصلي دفعه ومنعه من المرور وإن أدى إلى قتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه .. فليدفعه، فإن أبى .. فليقاتله؛ فإنما هو شيطان) رواه مسلم [505]. والمراد: معه شيطان، وقيل: هو من شياطين الإنس.
وعن صاحب (المحيط): أن دفع المار بالأسهل مستحب، وجزم به في (التحقيق). وقال في (شرح المهذب): ظاهر الحديث يقتضي: وجوبه، لكن لا أعلم أحدًا من العلماء قال به، ثم دفعه بالأسهل فالأسهل كالصائل، فإن انتهى إلى قتله .. كان هدرًا.
لكن يستثنى من تحريم المرور إذا كان في الصف المتقدم فرجة .. فله أن يمر بين يدي من خلفه ليسدها.
ثم جميع ما تقدم إذا وجد المار سبيلًا سوى الذي بين يدي المصلي، فإن لم يجد وازدحم الناس .. فلا نهي عن المرور ولا يشرع الدفع، كذا قاله الإمام والغزالي، وأكثر الكتب ساكتة عن هذا القيد. وفي (صحيح البخاري) ما يدفعه.
قال في (الروضة): والصواب أنه لا فرق.
قُلْتُ: يُكْرَهُ الاِلْتِفَاتُ
ــ
وقال في (الكفاية): هذا إذا لم يكن المصلي منسوبًا إلى تقصير بالصلاة في المكان، فإن كان مقصرًا كما إذا وقف في قارعة الطريق .. فلا كراهة جزمًا، وحينئذ فلا دفع بطريق الأولى.
قلت: لم يفصل أصحابنا بين المصلي في المطاف وغيره، وفي (مسند أحمد) أحاديث صحيحة مصرحة بجواز المرور بين يديه.
ولا تبطل الصلاة بمرور كلب ولا غيره، خلافًا لأحمد في الكلب الأسود.
وفي (مسلم)[510] عن أبي ذر: (تقطع الصلاة المرأة، والحمار، والكلب الأسود).
وأجاب الشافعي وغيره بأن المراد القطع عن الخشوع.
وادعى بعض أصحابنا نسخه بحديث ابن عباس في مرور الأتان (ترتع بين يدي الصف)، وكان ذلك في حجة الوداع.
وادعى في (الكفاية) نسخه بحديث أبي سعيد الخدري المرفوع: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم) رواه أبو داوود [719].
قال: (قلت: يكره الالتفات) أي: يمينًا وشمالاً إذا لم يحول صدره؛ لما روى البخاري [751] عن عائشة أنها سألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد).
وفي (التتمة): أنه حرام.
وفي (أبي داوود)[906] و (النسائي)[3/ 8] من حديث أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله مقبلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت .. انصرف عنه).
لَا لِحَاجَةٍ. وَرَفْعُ بَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَكَفُّ شَعْرِهِ أَوْ ثَوْبِهِ
ــ
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المصلي من يناجي .. ما التفت يمينًا ولا شمالًا).
والمراد: الالتفات بالوجه، فلو حول صدره عن القبلة .. بطلت صلاته كما تقدم في استقبال القبلة.
قال: (لا لحاجة)؛ لما روى مسلم [3/ 4] عن جابر قال: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، فالتفت إلينا فرآنا قيامًا، فأشار إلينا فقعدنا) وفي (أبي داوود) و (الترمذي)[587]: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلحظ في الصلاة).
قال: ورفع بصره إلى السماء)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم) متفق عليه [خ750 - م428].
وهذا مجمع عليه في الصلاة، وأما رفع البصر إلى السماء في غير الصلاة في الدعاء .. فاختلفوا في كراهته:
فكرهه شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون، قالوا: لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فلا ينكر رفع البصر إليها كما لا ينكر رفع اليد، قال الله تعالى:{وفي السماء رزقكم وما توعدون} .
وقد تقدم في (الوضوء): أن الغزالي قال في (الإحياء): يستحب أن يرمق ببصره إلى السماء في الدعاء بعد الوضوء.
قال: (وكف شعره أو ثوبه)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن لا أكفت الشعر، ولا الثياب) رواه الشيخان [خ809 - م490].
و (الكفت) بالتاء المثناة في آخره: الجمع، قال الله تعالى:{ألم نجعل الأرض كفاتا (25) أحياءً وأمواتا} أي: جامعة لهم.
وَوَضْعُ يَدِهِ عَلَى فَمِهِ بِلَا حَاجَةٍ. وَالْقِيَامُ عَلَى رِجْلٍ. وَالصَّلَاةُ حَاقِنًا أَوْ حَاقِبًا،
ــ
وعبر المصنف عنه بـ (الكف) الذي هو: نقيض الإرسال وهو صحيح.
والحكمة في النهي عنه: أن ذلك يسجد معه، فمن ذلك كره أن يعقص شعره، أو يرده تحت عمامته، أو يشمر ثوبه أو كمه، أو يشد وسطه، أو يغرز عذبته.
ونص الشافعي على كراهة الصلاة وفي إبهامه الجلدة التي يجر بها وتر القوس، قال: لأني آمره أن يفضي ببطون كفيه إلى الأرض.
قال: (ووضع يده على فمه)؛ لما روى أبو داوود [643] وابن حبان [2353] والحاكم [1/ 253] عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه في الصلاة).
قال: (بلا حاجة)، فإن كان لحاجة .. لم يكره، كما إذا تثاءب .. فإنه يستحب وضعها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا تثاءب أحدكم في الصلاة .. فليكظم ما استطاع) وفي رواية: (وليمسك على فيه؛ فإن الشيطان يدخل) رواه مسلم [2995].
قال: (والقيام على رجل) أي: لغير حاجة؛ لأنه ينافي الخشوع، ويسمى ذلك: الصفن، ومنه:{الصفنت الجياد} .
قال في (الإحياء): (وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصفن والصفد في الصلاة)، وعزاه رزين إلى الترمذي وليس فيه، وإنما ذكره أصحاب الغريب كابن الأثير.
وروى سعيد بن منصور أن ابن مسعود رأى رجلًا صافنًا فقال: (أخطأ هذا السنة).
و (الصفد): أن يقرن بين قدميه معًا كأنهما في قيد، فإن كان معذورًا .. لم يكره.
قال: (والصلاة حاقنًا أو حاقبًا) الأول .. للبول، والثاني .. للغائط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) رواه مسلم
أَوْ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ يَتُوقُ إِلَيْهِ
ــ
و (الأخبثان): البول والغائط.
وتكره أيضًا مع مدافعة الريح، وهو: الحازق.
وقال الشيخ أبو حامد والمحاملي والغزالي: (الحازق): صاحب الخف.
وعن أبي زيد المروزي والقاضي حسين: إذا انتهى به مدافعة الأخبثين إلى أن ذهب خشوعه .. لم تصح صلاته، والصحيح: خلافه.
قال: (أو بحضرة طعام يتوق إليه)؛ للحديث المتقدم، ولأن تناول ذلك قبل الصلاة أجمع للبه وأخشع لقلبه، وفي (صحيح مسلم) [558]:(إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة .. فابدؤوا بالعشاء قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم). وفي التقييد بالمغرب فائدتان:
إحداهما: أن وقتها ضيق، فإذا أمر به فيها .. ففي غيرها أولى.
الثانية: أنه ربما يكون صائمًا.
وهو الذي تتوق نفسه إليه غالبًا، وكذلك الشراب أيضًا قاله الرافعي في (صلاة الجماعة)، وكذا لو تاقت نفسه إليه وهو غائب عنه قاله في (الكفاية)، وسواء أكان جائعًا أم لا، فيتناول ما يزول به التوقان فقط كذا في (الشرح) و (الروضة) وغيرهما، والصواب في (شرح مسلم) [5/ 46]: أنه يأكل حاجته بكمالها.
و (الحضرة) مثلثة الحاء.
و (التوقان) بالمثناة: الاشتياق إلى الشيء.
فإن قيل: المصنف كرر هذه المسألة والتي قبلها في (صلاة الجماعة) فقال: (وجوع وعطش ظاهرين ومدافعة حدث) .. فالجواب: أنه هنا نصر على الكارهة، وهناك على أنه مسقط لطلب الجماعة، والمسقط للطلب لا يلزم منه الكراهة.
فرع:
لو خاف من زوال هذه العوارض الثلاثة فوت الوقت .. فالأصح: أنه يصلي مع العارض؛ لحرمة الوقت.
وَأَنْ يَبْصُقَ قِبَلَ وَجْهِهِ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ
ــ
وقيل: الأولى أن يزيل العارض فيتوضأ ويأكل وإن خرج الوقت، ثم يقضيها.
قال: (وأن يبصق قبل وجهه أو عن يمينه)؛ فإن عن يمينه ملكًا، بل يبصق عن يساره. فإن كان في المسجد .. بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض. وإن كان في غيره .. فعن يساره أو تحت قدمه؛ لما روى الشيخان [خ405 - م551] عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إذا كان أحدكم في صلاته .. فإنه يناجي ربه، فلا يبزق بين يديه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه) وفي رواية لهما [خ408 - م548]: (عن شماله تحت قدمه) وفي أخرى لهما [خ1214 - م551] أيضًا من حديث أبي سعيد: (ولكن عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى.
قال الخطابي: في الحديث دليل على طهارة البصاق، ولا أعلم خلافًا في ذلك إلا عن إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه الإمام، فإنه قال بنجاسته.
وروى ابن عساكر [58/ 440] عن عبادة بن الصامت عن معاذ بن جبل قال: (ما بزقت عن يميني منذ أسلمت).
قلت: ينبغي أن يستثنى من كراهة البصاق عن اليمين إذا كان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، فإن بصاقه عن يمينه أولى؛ لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره.
و (البصاق) بالسين والصاد والزاي.
والمشهور في كتب المذهب: أنه يكره في المسجد، وممن صرح بذلك المحاملي وسليم والجرجاني والروياني والعمراني وآخرون.
وحزم في (شرح المهذب) و (التحقيق) بتحريمه ووجوب الإنكار على فاعله.
وَوَضْعُ يَدِهِ عَلَى خَاصِرَتِهِ. وَالْمُبَالَغَةُ فِي خَفْضِ الرَّاسِ فِي رُكُوعِهِ
ــ
فإن خالف .. فكفارته دفنه في ترابه. وقيل: إخراجه من المسجد، فإن أهمله .. فليدفنه غيره.
ويندب تطييب محله، أما البصاق في غير المسجد وغير الصلاة عن اليمين وقبالة الوجه .. فلا يكره مطلقًا؛ حملًا لمطلق الروايات على مقيدها.
ويحتمل أن يقال: إنما يحمل المطلق على المقيد في الأمر لا في النهي.
قال: (ووضع يده على خاصرته)؛ لأنه فعل اليهود، وقيل: فعل الشيطان؛ لأن إبليس نزل من الجنة كذلك حكاه في (شرح مسلم)، وقيل: لأنه فعل المتكبرين.
وفي (صحيح ابن حبان)[2286]: (الاختصار في الصلاة راحة أهل النار)، قال ابن حبان: يعني فعل اليهود والنصارى وهم أهل النار.
وروى الشيخان [خ1220 - م545] عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل مختصرًا). وفي رواية: (نهى عن الاختصار في الصلاة).
والصحيح: أن هذا معناه، وقيل: أن يختصر السورة فيقرأ بعضها، وقيل: أن يختصر من الصلاة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها.
وقال المحب الطبري: هو أن يقتصر على الآيات التي فيها السجدات ليسجدها، وأن يختصر السجدة التي انتهى في قراءته إليها فلا يسجدها.
قال: (والمبالغة في خفض الرأس في ركوعه)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التدبيح في الصلاة، وهو بالدال المهملة، لكن الحديث ضعيف.
قال الشيخ: وتقييده بالمبالغة يقتضي: عدم الكراهة عند عدمها، وهو خلاف ما دل عليه كلام الشافعي والأصحاب.
وَالصَّلَاةُ فِي الْحَمَّامِ وَالطَّرِيقِ
ــ
قال: (والصلاة في الحمام)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الأرض كلها مسجد إلى المقبرة والحمام) رواه الشافعي [1/ 20] وأبو داوود [493] والترمذي [317] وابن ماجه [745] من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان [2321] والحاكم [1/ 251].
والصحيح في سبب النهي: أنه مأوى الشيطان؛ لما يكشف فيه من العورات.
وقيل: لغلبة النجاسة فيه.
فلو صلى في موضع تحقق طهارته أو في المسلخ .. فإنه يكره على الأول دون الثاني.
و (الحمام) مذكر اللفظ بلا خلاف، يقال: حمام مبارك، وجمعه: حمامات، مشتق من الحميم وهو: الماء الحار.
قال: (والطريق)؛ لما روى الترمذي [346] عن ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله العتيق).
و (قارعة الطريق): وسطه، وقيل: أعلاه.
والمراد هنا، نفس الطريق، ولذلك عبر بها المصنف.
والمعنى فيه: تأذي المارة، وتأذي المصلي بمرورهم وقلة خشوعه.
وَالْمَزْبَلَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَعَطَنِ الإِبِلِ
ــ
وقيل: لأن الغالب عليها النجاسة.
فعلى الأول .. لا يكره في الطريق في البرية، وعلى الثاني .. يكره مطلقًا.
وخص الكراهة في (التحقيق) بالبنيان دون البرية في الأصح.
قال: (والمزبلة)؛ للحديث المتقدم. وعلة الكراهة: النجاسة.
وصورة المسألة: إذا بسط طاهرًا وصلى عليه، فإن لم يفعل .. لم تصح صلاته.
و (المزبلة) بفتح الباء وضمها: موضع الزبل.
وقال القاضي أبو الطيب وغيره: وتكره الصلاة وبين يديه نجاسة كما تكره عليها.
قال: (والكنيسة)؛ لأنها مأوى الشياطين. ونقله ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس ومالك.
وكذلك حكم البيعة وجميع أمكنة الكفر والمكس والخمر والحانة.
واختار ابن المنذر عدم الكراهة في ذلك؛ إذ لم يثبت فيه نهي مخصوص.
و (الكنيسة) بفتح الكاف: متعبد النصارى، و (البيعة) بكسر الباء: لليهود.
قال: (وعطن الإبل)؛ لما روى مسلم [360] عن جابر بن سمرة أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: (نعم)، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: (لا). وروى ابن ماجه [769] وابن حبان [1702] عن عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل).
و (المرابض) بالضاد المعجمة: المراقد.
و (العطن): الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاربة ليشرب غيرها، فإذا اجتمعت .. سيقت إلى المرعى.
وقيل: الموضع الذي تنحى إليه إذا شربت الشربة الأولى، ثم تعاد من عطنها إلى
وَالْمَقْبَرَةِ الطَّاهِرَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ
ــ
الحوض لتشرب الشربة الثانية وهي: العلل.
وقيل: العطن ما حول الحوض.
قال المصنف: والكراهة في مأواها ليلًا أخف من العطن.
واتفقوا على أن العلة فيه: ما يخشى من نفارها وتشويشها على المصلي، وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام:(إنها خلقت من الجن)، ولو كانت العلة النجاسة .. لكانت هي ومرابض الغنم سواء.
وقد روى البيهقي [2/ 450] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكرموا المعزى وامسحوا عنها الأذى؛ فإنها من دواب الجنة. وصلوا في مراحها). وعلل ببركتها وكون كل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رعاها.
ولا يخفى أن الكلام إذا كان خاليين عن البول، وإلا .. لم تصح فيهما مع عدم الحائل الطاهر، ومعه تصح مع الكراهة.
أما موضع البقر .. ففي (مسند أحمد): إلحاقها بعطن الإبل، وهو ظاهر.
وقال ابن المنذر: إنه كمراح الغنم، ونقله عن مالك وعطاء، ويدل له ما روى عبد الله بن وهب في (مسنده):(أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في معاطن الإبل، وأمر أن يصلى في مراح الغنم والبقر)، لكن في إسناده رجل مجهول.
قال: (والمقبرة الطاهرة والله أعلم)؛ للحديث السابق، ولقوله صلى الله عليه وسلم:(لعن الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا، وقال صلى الله عليه وسلم:(صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا) فدل على أن المقابر لا يصلى فيها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وسبب الكراهة عند العراقيين: ما تحت مصلاه من النجاسة، وبذلك عللها الشافعي.
وكلام القاضي يدل على أن سببها: حرمة الموتى.
وكذلك يكره في المقبرة النجسة- وهي المحققة النبش- إذا بسط شيئًا وصلى عليه، فإن لم يبسط شيئًا .. لم تصح.
وأما المشكوك في نبشها .. فالأصح: صحة الصلاة فيها بغير حائل والتيمم بترابها؛ لأن الأصل عدم النبش.
و (المقبرة) بثليث الباء حكاه ابن مالك، ولم يحك الجوهري الكسر.
قال ابن الرفعة: ولا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر أو بجانبه- قال- ومنه تؤخذ كراهة الصلاة إلى جانب النجاسة وخلفها، وفيما قاله نظر.
أما الصلاة على القبر .. فكالجلوس عليه، وهو حرام على الأصح.
تتمة:
يكره استقبال القبر إلا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يحرم التوجه إلى رأسه كما جزم به المصنف في (التحقيق)، ونقله في (شرح المهذب) عن المتولي.
ويستثنى من المقبرة مقابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلا كراهة في الصلاة فيها؛ لأنهم في قبورهم أحياء يصلون صلوات الله عليهم.
* * *
خاتمة
اختلف في نبش قبور الكفار لطالب المال المدفون معهم:
فكرهه مالك؛ لأنها مواضع العذاب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا باكين؛ خشية أن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يصيبكم ما أصابهم). وأجازه أصحابه؛ لأن الصحابة نبشت قبر أبي رغال لذلك.
ومقتضى مذهبنا .. جواز النبش إن كان القبر دارسًا، أو كان جديدًا وعلمنا أن فيه مالًا لحربي.
وأجمع المسلمون إلا الشيعة: على جواز الصلاة على الصوف وفيه، ولا كراهة في الصلاة على شيء من ذلك إلا عند مالك، فإنه كره الصلاة عليه تنزيهًا.
وقالت الشيعة: لا يجوز ذلك؛ لأنه ليس من نبات الأرض.
وقال في (الإحياء): تكره الصلاة في الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد- قال- وكان بعض الصحابة يضرب الناس، ويقيمهم في الرحاب.
وتكره الصلاة في (الوادي الذي نام فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلق الرافعي تبعًا للإمام والغزالي الكراهة في بطون الأودية مطلقًا، وعللوه باحتمال السيل المذهب للخشوع، فإن أمن فهل تكره؟ نظرًا لظاهر اللفظ فيه احتمالان للرافعي.
وفي (سنن أبي داوود)[491] عن علي قال: (نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل؛ فإنها ملعونة).
قال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم أحدًا من العلماء حرم الصلاة فيها، ويحتمل إن ثبت .. أن يكون نهاه عن اتخاذها وطنًا ومقامًا؛ فإنه إذا أقام بها .. كانت صلاته فيها.
ولعل النهي له خاصة؛ إنذارًا منه بما لقي من المحنة بالكوفة وهي من أرض بابل، فإنها الصقع المعروف بالعراق.
* * *