الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ما وقع من الحوادث سنة 862]
السنة السادسة من سلطنة الملك الأشرف إينال العلائى على مصر وهى سنة اثنتين وستين وثمانمائة:
فيها توفّى القاضى شهاب الدين أحمد بن يوسف الشيرجى «1» الشافعى أحد نوّاب الحكم بالدّيار المصرية في يوم الجمعة رابع عشر المحرم، ودفن من يومه بعد صلاة الجمعة، وقد أناف عن الثمانين، وكان حضر دروس السّراج البلقينى، وله إلمام بعلم الفرائض، وناب في الحكم سنين، وأفتى ودرّس، وكان غير محبب إلى أصحابه.
وتوفّى الأمير سيف الدين أزبك بن عبد الله الأشرفى البواب، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة، فى يوم الثلاثاء ثامن عشر المحرم، وأصله من مماليك الأشرف برسباى، ثم امتحن بعد موت أستاذه وحبس، ثم أطلق، وقدم القاهرة وتأمّر فى أول دولة الأشرف إينال خمسة، شريكا لأزبك الشّشمانى المقدم ذكر وفاته في السنة الخالية، فلما مات أزبك المذكور أنعم بنصيبه من الإقطاع على شريكه أزبك هذا لتتمّة إقطاعه إمرة عشرة، فعاش أزبك هذا بعد ذلك دون الشهر ومات، فكان حاله كالمثل السائر:«إلى أن يسعد المعثر فرغ عمره» .
وتوفّى القاضى علاء الدين على بن محمد بن آقبرس «2» الشافعى أحد نواب الحكم، فى يوم الأحد خامس عشر صفر بطالا، وهو في عشر السبعين، وكان مولده بالقاهرة، وبها نشأ، وتكسّب بعمل العنبر في حانوت بالعنبريين مدة سنين، ثم اشتغل بالعلم، وناب في الحكم، وصحب الملك الظاهر جقمق قبل سلطنته، فلما تسلطن قرّبه، أو هو قرّب نفسه، وولى نظر الأوقاف، ثم حسبة القاهرة «3» ، ثم نظر الأحباس، وتحرك له بعيض سعد،
إلا أنه تبهدل غير مرّة من السلطان لسوء سيرته، فإنه لما ولى ما ولى ما عفّ ولا كفّ، بل مدّ يدا للأخذ، إلى أن ساءت القالة فيه، وانحط قدره لذلك كثيرا، فلما مات الملك الظاهر امتحن وصودر، وتخومل، ولزم داره إلى أن مات، وكان له نظم أحسنه في الهجو، ومما هجا به عبد الرحمن ابن الدّيرى ناظر القدس [الطويل]
أقول لمن وافى إلى القدس زائرا
…
وصلت إلى الأقصى من الفضل والخير
تقرّب إلى مولاك فيه عبادة
…
وبع بيع الرهبان وابعد عن الدّيرى
وتوفّى عبد الكريم شيخ مقام الشيخ أحمد البدوى بظاهر القاهرة في صبيحة ثامن عشر صفر، وجد ميتا، وقد اختلفت الأقوال في موتته، فمنهم من قال: تردّى من سطح وهو ثمل، ومنهم من قال: دسّ عليه شيخ العرب حسن بن بغداد من قتله، وهو الأشهر، وأنا أقول: قتله سرّ الشيخ أحمد البدوى لانهماكه على المعاصى وسوء سيرته، فأراح الله الشيخ أحمد البدوى منه ولله الحمد- وتولى عوضه شيخ المقام صبىّ أقاربه دون البلوغ.
وتوفّى الشيخ العارف بالله القدوة المسلك «1» مدين الصوفى المالكى بزاويته بخط المقس «2» بظاهر القاهرة، فى يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الأول بزاويته، وكان له شهرة عظيمة، وللناس فيه اعتقاد ومحبة، لم يتفق لى مجالسته، غير أننى رأيته غير مرّة- رحمه الله ونفعنا ببركته.
وتوفّى الأمير جانم بن عبد الله الأشرفى البهلوان، أحد أمراء العشرات ورأس نوبة في يوم الاثنين سادس شهر ربيع الآخر، ودفن من يومه، وهو في الكهولية، وكان من مماليك الملك الأشرف برسباى وخاصكيته، وتأمر بعد أمور في الدّولة الأشرفية إينال، وكان مليح الشكل مشهورا بالشجاعة والإقدام- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين طوخ بن عبد الله من تمراز الناصرى أمير مجلس بطّالا
بعد مرض طويل، فى ليلة الثلاثاء سابع شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد، وكان من مماليك الناصر فرج، وتأمر في أوّل الدولة الأشرفية برسباى عشرة، وصار من جملة رءوس النّوب «1» ، وكان يعرف بينى بازق، أى غليظ الرّقبة، وكان قليل الخير والشرّ مكفوفا عن الناس، ليس له كلمة في الدّولة، وكان السلطان أنعم بإقطاعه قبل موته على الأمير برسباى البجاسى حاجب الحجاب- ووظيفته إمرة مجلس- على الأمير جرباش المحمدى المعروف بكرد الأمير آخور.
وتوفّى القاضى شهاب الدين أحمد الدماصى «2» الحنفى قاضى بولاق، وكان يعرف بقرقماس، فى يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير سيف الدين سودون بن عبد الله النّوروزى المعروف بالسلاحدار، نائب قلعة الجبل بها، فى ليلة الأحد سادس عشرين شهر ربيع الآخر، ودفن من الغد، وله نحو سبعين سنه، وكان من مماليك نوروز الحافظى نائب الشام، وصار بعد موته سلاحدارا في الدولة الأشرفية برسباى، ثم تأمر عشرة في دولة الملك الظاهر جقمق، وصار من جملة رءوس النوب، ثم جعله الملك الأشرف إينال نائب قلعة الجبل بعد موت قانى باى الناصرى الأعمش، فدام في نيابة القلعة إلى أن مات، وكان لا بأس به، لولا إسراف كان فيه على نفسه- عفا الله عنه.
وتوفّى الأستاذ المادح المغنى ناصر الدين محمد المازونى «3» الأصل، المصرى، أحد الأفراد في إنشاد القصيد وعمل السماع، فى ليلة الجمعة ثامن جمادى الأولى، بعد أن ابتلى بمرض الفالج، وبطل نصفه وسكت حسه، وكان من عجائب الدنيا في
فنونه، كان صوته صوتا كاملا أوازاوئما «1» ، مع شجاوة ونداوة وحلاوة، كان رأسا فى إنشاد القصيد على الضروب والحدود، سافر غير مرة إلى الحجاز حاديا في خدمة الأكابر، وكان له تسبيح هائل على المآذن؛ ففى هذه الثلاثة كان إليه المنتهى، وكان يشارك في الموسيقى جيدا، ويعظ في عقود الأنكحة، وليس فيه بالماهر، وفي الجملة إنه لم يخلف بعد مثله، وفي شهرته ما يغنى عن الإطناب في ذكره.
وتوفّى الشرفى موسى ابن الجمالى يوسف بن الصفى الكركى ناظر جيش طرابلس بها، فى ليلة الأحد ثامن شهر رجب «2» ، وخلف مالا كثيرا وعدة أولاد، وكان من مساوئ الدهر دميم الخلق مذموم الخلق.
وتوفّى الشيخ الإمام العالم العلّامة شرف الدين يحيى [بن صالح بن على بن محمد ابن عقيل]«3» العجيسى المغربى الأصل والمولد والمنشأ، المصرى الدار والوفاة، المالكى، فى يوم الأحد سابع عشرين شعبان، ومولده في سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وكان إماما فى النحو والعربية ومعرفة تاريخ الصحابة، وله مشاركة في فنون كثيرة، مع حدة كانت فيه وسوء خلق- رحمه الله.
وتوفّى الخليفة أمير المؤمنين القائم بأمر الله أبو البقاء حمزة ابن المتوكل على الله أبى عبد الله محمد العباسى المصرى «4» بثغر الإسكندرية مخلوعا من الخلافة، فى سابع عشر شوال، وقد مرّ ذكر نسبه في تراجم أسلافه في عدة مواطن من مصنفاتنا، مثل «مورد اللطافة فى ذكر من ولى السلطنة والخلافة» وغيره، وكان القائم بأمر الله هذا ولى الخلافة بعد موت أخيه المستكفى سليمان بغير عهد- اختاره الملك الظاهر جقمق- فدام في الخلافة إلى أن خرج
الأتابك إينال العلائى صاحب الترجمة على الملك المنصور عثمان بن الملك الظاهر جقمق، فقام الخليفة هذا مع إينال على الملك المنصور عثمان أشد قيام، فلما تسلطن إينال عرف له ذلك، ورفع قدره ومحله إلى الغاية، ونال في أيامه من الحرمة والوجاهة ما لا يقاربه أحد الخلفاء من أسلافه، فاتفق بعد ذلك ركوب جماعة من صغار المماليك الظاهرية على الأشرف إينال، وطلبوه فحضر عندهم، ووافاهم أفضل موافاة، فلم ينتج أمرهم، وسكنت الفتنة في الحال، وقد ذكرناها في أصل هذه الترجمة مفصلة، فلما سكن الأمر طلبه السلطان إلى القلعة، ووبخه على فعله وحبسه بالبحرة بقلعة الجبل، وخلعه من الخلافة بأخيه المستنجد يوسف، ثم أرسله إلى سجن الإسكندرية فحبس به مدة ثم أطلق من السجن، ورسم له بأن يسكن حيث شاء من الثغر، فسكن به إلى أن مات- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الحاج خليل المدعو قانى باى اليوسفى المهمندار محتسب القاهرة بها، فى عشرين شوال، وهو مناهز السبعين «1» ، وكان أصله من مماليك قرايوسف بن قرامحمد، صاحب بغداد على ما زعم، ثم قدم القاهرة في دولة الأشرف برسباى، وسأله الأشرف عن أصله وجنسه فقال: أنا من مماليك قرايوسف، جنسى چاركسى، واسمى الأصلى قانى باى، فمشى ما قاله على الأشرف؛ لضعف نقده، وعدم معرفته، وسماه قانى باى اليوسفى، وجعله خاصكيا؛ ثم امتحن بعد موت الأشرف برسباى، وحبس إلى أن عاد إلى رتبته في الدولة الأشرفية إينال، وجعله مهمندارا، ثم محتسبا إلى أن مات.
وتوفّى يار على بن نصر الله العجمى الخراسانى الطويل «2» ، محتسب القاهرة بطالا، بعد مرض طويل، فى سادس عشرين ذى القعدة، ودفن من الغد، وسنه نيف على الثمانين، وكان هو يدّعى أكثر من ذلك، وليس بصحيح، وكان أصله فقيرا مكديا على عادة فقراء العجم، وخدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام لما كان
هاربا من الملك المؤيّد شيخ بالعراق، فلما عاد سودون إلى رتبته بالديار المصرية، وصار دوادارا كبيرا في دولة الأشرف برسباى، قدم عليه يار عليه هذا ماشيا على قدميه من بلاد العجم، فأحسن إليه سودون، ولما عمّر مدرسته بخانقاه سرياقوس جعله شيخا، ودام على ذلك وقد حسنت حاله، وركب فرسا بحسب الحال، إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، فتحرك سعده لا لأمر أوجب ذلك بل هى حظوظ وأرزاق، تصل لكل أحد «1» .
ولا زال جقمق يرقّيه حتى ولّاه حسبة القاهرة غير مرّة، ثم نكبه وصادره، وأمر بنفيه؛ لسوء سيرته، ولقبيح سريرته، فإنه لما ولى حسبة القاهرة سار فيها أقبح سيرة، وفتح له أبواب الظلم والأخذ، فما عفّ ولا كفّ، وجدّد في الحسبة مظالم تذكر به، وإثمها وإثم من يعلم بها عليه إلى يوم القيامة، وصار يأخذ من هذه المظالم ويخدم الملوك بها، فانظر إلى حال هذا المسكين «2» الذي ظلم نفسه، وظلم الناس لغيره، فلا قوّة إلا بالله، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عن سواك.
وتوفّى الشيخ المعتقد المجذوب إبراهيم الزيات «3» بحيث هو إقامته بقنطرة قديدار «4» ، ودفن من يومه، وهو اليوم الذي مات فيه الشيخ على المحتسب المقدّم ذكره، وكان للناس فيه اعتقاد، ويقصد للزيارة، وكانت جذبته مطبقة، لا يصحو، ويكثر من أكل الموز- رحمه الله تعالى.
وتوفّى الأمير الكبير سيف الدين تنبك [بن عبد الله]«5» البردبكى
[الظاهرى]«1» أتابك العساكر بالديار المصرية، فى يوم الاثنين رابع عشرين ذى القعدة، ودفن من الغد، وقد ناهز التسعين من العمر، لأنه كان من مماليك الظاهر برقوق، وتزوج في أيامه، وكان من إنيات الوالد، وترقّى في أوائل دولة الأشرف برسباى إلى أن صار أمير عشرة- أو في أيام دولة الملك المظفر أحمد- ومن جملة رءوس النوب، ثم صار في سنة سبع وعشرين نائب قلعة الجبل بعد تغرى برمش البهسنى «2» التركمانى، بحكم انتقاله إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية، وأنعم على تنبك بإمرة طبلخاناه عوضا عن تغرى برمش المذكور أيضا، فدام على ذلك مدة طويلة إلى أن نقل إلى إمرة مائة وتقدمة ألف بالديار المصرية في أواخر الدولة الأشرفية.
ثم ولى نيابة قلعة الجبل ثانيا في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، وهو أمير مائة ومقدم ألف، ثم صار أمير حاج المحمل، ثم ولى حجوبية الحجاب بالديار المصرية، ودام على ذلك سنين كثيرة، وحجّ أمير حاج المحمل غير مرّة، إلى أن أمسكه السلطان الظاهر ونفاه إلى ثغر دمياط، وأنعم بإقطاعه وحجوبيته على الأمير خشقدم الناصرى المؤيّدى، أحد أمراء الألوف بدمشق، فأقام بدمياط مدّة.
ثم طلبه الملك الظاهر إلى الديار المصرية، ورسم له بالمشى في الخدمة السلطانية، فمشى في الخدمة أياما كثيرة من غير إقطاع، إلى أن مات الشهابى أحمد بن على بن إينال أحد مقدمى الألوف بالديار المصرية، فأنعم بإقطاعه على تنبك هذا، ثم صار أمير مجلس في دولة الملك المنصور عثمان بعد انتقال تنم المؤيدى إلى إمرة سلاح، بعد جرباش الكريمى بحكم لزومه بيته لكبر سنه وضعف بدنه، فلم تطل أيامه.
واستقرّ أمير سلاح في ثانى يوم من سلطنة الملك الأشرف إينال، عوضا عن تنم المذكور، بحكم القبض عليه وحبسه بسجن الإسكندرية، فلم يتمّ له ذلك غير يوم واحد وأصبح استقر أتابك العساكر لما كثرت القالة في تولية الشهابى أحمد ابن الملك الأشرف
إينال أتابك العساكر عوضا عن أبيه، فعزله وجعله من جملة أمراء الألوف واستقر تنبك هذا عوضه؛ فدام في الأتابكية مدة طويلة إلى أن مات في التاريخ المذكور، وتولّى المقام الشهابى أحمد عنه الأتابكية ثانيا.
وكان أمر تنبك هذا في ولايته الأتابكية غريبة، وهو أن الذي أخذ عنه ولّى عنه، ولعل هذا لم يقع لأحد أبدا، وكان تنبك المذكور رجلا ديّنا خيرا، هيّنا ليّنا، سليم الفطرة، شحيحا «1» ، لا يتجمل في بركه ولا حواشيه- رحمه الله تعالى.
وتوفّى عظيم الدّولة الصاحب جمال الدين أبو المحاسن يوسف- مدبر المملكة، وصاحب وظيفتى نظر الجيش والخاص معا- ابن الرئيس كريم الدين عبد الكريم ناظر الخاص ابن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، فى ليلة الخميس- وقت التسبيح- الثامن عشر من ذى الحجة، ودفن من الغد بالصحراء في تربته التي أنشأها، وكانت جنازته مشهودة إلى الغاية، وحضر المقام الشهابى أحمد أتابك العساكر الصلاة عليه بمصلاة باب النصر، وحضر دفنه أيضا، ومات وسنه زيادة على أربعين سنة؛ لأن مولده في سنة تسع عشرة وثمانمائة، هكذا كتب لى بخطه- رحمه الله.
ومات ولم يخلف بعده مثله رئاسة وسؤددا بلا مدافعة، وهو آخر من أدركنا من رؤساء الديار المصرية؛ لأنه كان فردا في معناه، لعظم ما ناله من السعادة والوجاهة ووفور الحرمة، ونفوذ الكلمة والعظمة الزائدة، وكثرة ترداد الناس إليه، وأعيان الدولة وأكابرها إلى بابه، بل الوقوف في خدمته، وهذا شىء لم ينله غيره في الدولة التركية، مع علمى بمنزلة كريم الدين الكبير عند الناصر محمد بن قلاوون، وبما ناله سعد الدين إبراهيم بن غراب في الدولة الناصرية فرج، ثم بعظمة جمال الدين يوسف البيرى الأستادار في دولة الناصر فرج أيضا، ثم بخصوصية عبد الباسط بن خليل الدمشقى في دولة الأشرف برسباى، ومع هذا كله ليس فيهم أحد وصل إلى ما وصل إليه جمال
الدين هذا «1» ، وقد برهنّا عما قلناه في تاريخنا «حوادث الدهور» ، وأيضا في تاريخنا «المنهل الصافى» ، فلينظر هناك، وليس هذا الموطن محل إطناب- رحمه الله تعالى.
أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.