الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سلطنة الملك الظاهر خشقدم على مصر
هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم بن عبد الله الناصرى المؤيّدى، وهو السلطان الثامن والثلاثون من ملوك التّرك وأولادهم بالديار المصرية، والأوّل من الأروام بعد أن تسلطن من الچراكسة وأولادهم ثلاثة عشر ملكا، أعنى من أول دولة الظاهر برقوق وهو القائم بدولة الچراكسة ابتداء، وأما من سلف من ملوك التّرك الچراكسة والأروام ففيهم اختلاف كثير، لعدم ضبط المؤرخين هذا المعنى، والذي تحرّر منهم من دولة الملك الظاهر برقوق إلى يومنا هذا، فأوّل الچراكسة برقوق، وأول الأروام خشقدم، هذا وبينهما إحدى وثمانون سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما، لأن كلّا منهما تسلطن في تاسع عشر شهر رمضان، فذاك- أعنى برقوقا- فى سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وخشقدم هذا في سنة خمس وستين وثمانمائة، تسلطن يوم خلع الملك المؤيّد أبو الفتح أحمد ابن السلطان الملك الأشرف إينال الأجرود، فى يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان سنة خمس وستين وثمانمائة بعد الزوال، وهو يوم ملك القلعة من الملك المؤيّد أحمد.
فلما كان وقت الزّوال طلب الخليفة المستنجد بالله يوسف والقضاة والأعيان، وقد حضر جميع الأمراء في الإسطبل السلطانى بباب السّلسلة بالحرّاقة «1» ، وبويع بالسلطنة، وكان قد بويع بها من بكرة يوم السبت ثامن عشر شهر رمضان قبل قتال الملك المؤيّد أحمد حسبما تقدّم ذكره في ترجمة الملك المؤيّد أحمد، ولقب بالملك الظاهر، وكنى بأبى سعيد.
ولما تمّ له الأمر لبس خلعة السلطنة السّواد من مبيت الحرّاقة وركب فرس النوبة،
وطلع إلى القصر السلطانى «1» بشعار الملك «2» والأمراء والعساكر مشاة بين يديه، ماخلا الخليفة فإنه راكب معه، وقد حمل القبّة والطير على رأسه الأمير جرباش المحمدى الناصرى المعروف بكرد أمير سلاح، وجلس على تخت الملك، وقبّلت الأمراء والعساكر الأرض بين يديه، ودقّت البشائر في الوقت، فازدحمت الناس لتهنئته وتقبيل يديه إلى أن انتهى كلّ أحد، ونودى في الحال بسلطنته في شوارع القاهرة، وخلع على الخليفة المستنجد بالله يوسف فوقانيا حريرا بوجهين أبيص وأخضر بطرز زركش، وقدّم له فرسا بسرج ذهب وكنبوش زركش، ثم خلع على الأمير جرباش المحمدى أطلسين متمّرا وفوقانيا بوجهين بطرز زركش، وأنعم عليه بفرس بقماش ذهب، وهذه الخلعة لحمله القبّة والطير على رأس السلطان، وخلعة الأتابكيّة تكون بعد ذلك، غير أن جرباش المذكور علم أنه قد صار أتابكا لحمله القبّة والطير على رأس السلطان.
ثم خلع السلطان على الأمير قرقماس الأشرفى أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضا عن جرباش.
وكانت سلطنة الملك الظاهر خشقدم وجلوسه على تخت الملك وقت الظهر من يوم الأحد المقدم ذكره، «3» وكان الطالع وقت سلطنته وجلوسه على تخت الملك «4» .
واستمرّ جلوس السلطان الملك الظاهر خشقدم بالقصر السلطانى من قلعة الجبل إلى الخميس، وعنده جميع الأمراء على العادة، ثم أصبح السلطان في يوم الاثنين العشرين من شهر رمضان خلع على الأمير جرباش المحمدى خلعة الأتابكية، وهى كخلعته بالأمس.
وفيه رسم السلطان بإطلاق الأميرين من سجن الإسكندرية، الأمير تنم من عبد الرزّاق المؤيدى أمير سلاح كان، والأمير قانى باى الچاركسى الأمير آخور الكبير كان، وتوجههما إلى ثغر دمياط بطّالين.
وفي يوم الثلاثاء حادى عشرينه الثانية من النهار حمل الملك المؤيّد أحمد وأخوه محمد من قلعة الجبل إلى جهة الإسكندرية ليحبسا بها.
قلت: وقبل أن نشرع في ذكر الحوادث نبدأ بالتّعريف بأصل الملك الظاهر خشقدم هذا وسبب ترقّيه إلى السلطنة فنقول:
أصله رومىّ الجنس، جلبه خواجا ناصر الدين إلى الديار المصرية في حدود سنة خمس عشرة وثمانمائة، أو في أوائل سنة ست عشرة، هكذا أملى علىّ من لفظه بعد سلطنته، وسنّه يوم ذلك دون البلوغ، فاشتراه الملك المؤيّد شيخ، وجعله كتابيا سنين كثيرة، ثم أعتقه وجعله من جملة المماليك السلطانية، إلى أن مات الملك المؤيّد فصار خشقدم هذا خاصكيا في دولة ولده الملك المظفر أحمد بن شيخ، بسفارة أغاته الأمير تغرى بردى قريب قصروه، ودام خاصكيا مدة طويلة إلى أن صار ساقيا في أوائل دولة الملك الظاهر جقمق، ثم أمّره الملك الظاهر إمرة عشرة، وجعله من جملة رءوس النوب فى حدود سنة ست وأربعين، فدام على ذلك إلى سنة خمسين، فأنعم عليه الملك الظاهر أيضا بإمرة مائة وتقدمة ألف بدمشق، واستمرّ بدمشق إلى أن تغيّر خاطر الملك الظاهر جقمق على الأمير تنبك البردبكى حاجب الحجاب بسبب عبد قاسم الكاشف الذي نعتوه «1» الناس بالصلاح، ونفاه إلى ثغر دمياط بطّالا، فرسم السلطان الملك الظاهر جقمق بطلب خشقدم هذا من مدينة دمشق، ليكون عوضا عن تنبك المذكور فى حجوبية الحجاب، وعلى إقطاعه أيضا دفعة واحدة، وذلك في صفر سنة أربع وخمسين وثمانمائة، وكان مجىء خشقدم هذا إلى الديار المصرية بسفارة الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار الثانى، وقيل على البذل على يد أبى الخير النحاس، وأنعم السلطان بتقدمة خشقدم هذا التي بدمشق على الأمير علّان جلّق المؤيدى، فاستمرّ خشقدم المذكور على الحجوبية إلى أن تسلطن الملك الظاهر جقمق، فخلع عليه بإمرة سلاح عوضا عن الأمير تنبك البردبكى الذي كان أخذ عنه الحجوبية بعد أن وقع لتنبك المذكور دورات
وتنقلات، فدام على وظيفة إمرة سلاح إلى أن سافر مقدم العساكر السلطانية إلى بلاد ابن قرمان، ثم عاد واستمرّ على حاله إلى أن تسلطن الملك المؤيّد أحمد ابن الأشرف إينال، فخلع عليه باستقراره أتابك العساكر عوضا عن نفسه، وذلك في يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى سنة خمس وستين، فلم تطل أيّامه، وثار القوم بالملك المؤيّد أحمد وقاتلوه حتى خلعوه حسبما ذكرنا أمر الوقعة في تاريخنا «حوادث الدهور فى مدى الأيام والشهور» .
وتسلطن الملك الظاهر خشقدم هذا، ووقع في سلطنته نادرة غريبة، وهى أن الملك الظاهر برقوقا كان أول ملوك الچراكسة بالديار المصرية- إن كان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير غير چاركسى- وكانت سلطنة برقوق في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، ولقب بالملك الظاهر؛ وكانت سلطنة الملك الظاهر خشقدم هذا في يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان سنة خمس وستين وثمانمائة، فتوافقا في اللقب والشهرة والتاريخ والشهر، وذلك أوّل ملوك الچراكسة، وهذا أول دولة الأروام، فبينهما إحدى وثمانون سنة لا تزيد يوما ولا تنقص يوما، لأن كلا منهما تسلطن بعد أذان الظهر في تاسع عشر شهر رمضان- انتهى.
ثم في يوم الخميس ثالث عشرينه خلع السلطان على الأمير جانبك الظاهرى نائب جدّة باستقراره دوادارا كبيرا بعد موت الأمير يونس.
وخلع على الأمير جانبك من أمير الظريف الخازندار باستقراره دوادارا ثانيا عوضا عن بردبك الأشرفى بحكم القبض عليه، وولى الدّوادارية الثانية على تقدمة ألف ولم يقع ذلك لغيره، واستقرّ قانم طاز الأشرفى خازندارا عوضا عن جانبك من أمير.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه تواترت الأخبار بوصول الأمير جانم الأشرفى نائب الشام إلى منزلة الصالحية، وأشيع هذا الخبر إلى وقت صلاة الجمعة، فتحقق السلطان
الإشاعة، فحصل عليه من هذا الخبر أمر كبير، وعظم مجىء جانم على السلطان إلى الغابة؛ لأن جانم كان رشّح لسلطنة مصر قبل ذلك عند مجىء ولده يحيى بن جانم إلى مصر في دولة الملك المؤيد أحمد، وقد ذكرنا ذلك في وقته.
وخارت طباع الملك الظاهر خشقدم، وما ذلك إلا لعظم جانم في النفوس، وأيضا لكثرة خچداشيته الأشرفية، وزيادة على ذلك من كان كاتبه وأذعن لطاعته من أعيان الظاهرية الجقمقية.
ثم طلب السلطان الأمير جانبك الدّوادار، وكلمه بما سمعه من مجىء جانم، وكان جانبك قد استحال عن جانم، ومال بكليته إلى الملك الظاهر خشقدم، وصار من جهته ظاهرا وباطنا، فهوّن جانبك مجيئه على السلطان، وأخذ في التدبير وقام وخچداشيته بنصرة الملك الظاهر خشقدم، ووقع بسبب مجىء جانم أمور كثيرة وحكايات ذكرناها في تاريخنا «حوادث الدهور» ، ملخصها: أن جانم قام بالخانقاه أياما، وعاد إلى نيابة الشام ثانيا، بعد أن أمدّه السلطان بالأموال والخيول والقماش، حسبما يأتى ذكره يوم سفره.
وفي يوم السبت خامس عشرينه نودى بنفقة المماليك السلطانية، «1» فى يوم السبت الآتى «2» .
وفيه أيضا «3» ، أنعم السلطان على عدة من الأمراء بتقادم ألوف، وهم:
الأمير أزبك من ططخ الظاهرى، وبردبك الظاهرى الرأس نوبة الثانى، وجانبك من قجماس الأشرفى المشد زيادة على إقطاعه الأول ووظيفته.
وأنعم السلطان أيضا على جماعة من الخاصكية، لكل واحد إمرة عشرة باستحقاق وغير استحقاق، كما هى عادة أوائل الدول.
واستقرّ الأمير قايتباى المحمودى الظاهرى أمير طبلخاناه وشاد الشراب خاناه، عوضا عن جانبك الأشرفى.
وأما ما جدّده الملك الظاهر خشقدم من الوظائف مثل الدّوادارية والسقاة والسلحدارية فكثير جدا لا يدخل تحت حصر لعسر تحريره.
واستقرّ الأمير دولات باى النجمى مسفّر الأمير جانم نائب الشام، واستقر تمراز الأشرفى أحد مقدمى الألوف بدمشق في نيابة صفد بعد عزل خيربك النّوروزى عنها وتوجهه إلى دمشق مقدّم ألف، وأنعم السلطان أيضا على تمراز المذكور بمبلغ كبير من المال وغيره.
وفي يوم الاثنين سابع عشرين رمضان استقرّ يشبك البجاسى أحد مقدّمى الألوف بمصر في حجوبية حلب، وأنعم بتقدمته على الأمير جانبك الإينالى الأشرفى المعروف بقلقسيز، انتقل إليها من إمرة عشرة بسفارة الأمير جانبك الدّوادار.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه توجّه القاضى محب الدين بن الشّحنة كاتب السّرّ إلى خانقاه سرياقوس لتحليف جانم نائب الشام المقدّم ذكره.
وسافر جانم في يوم الجمعة ثانى شوال إلى محل كفالته على أقبح وجه، وسافر بعده تمراز الذي استقرّ في نيابة صفد، كل ذلك بتدبير عظيم الدولة جانبك الدوادار، وقد انتهت إليه يوم ذلك رئاسة المماليك الظاهريّة بديار مصر.
وأما الملك الظاهر فإنه لما سافر جانم أخذ في مكافأة العسكر واستجلاب خواطرهم، ووجد عنده حاصلا كبيرا من الإقطاعات، ليس ذلك مما كان في ديوان السلطان، وإنما هو إقطاعات الأجلاب مماليك الأشرف إينال، وأضاف إلى ذلك شيئا كثيرا من الذخيرة السلطانية، ومن أوقاف الملك الأشرف إينال، وأوقاف حواشيه، حتى إنه صار يأخذ البلد العظيمة من ديوان المفرد وغيره وينعم بها على جماعة لكل واحد إمرة عشرة، وتارة ينعم بها على خمسين مملوكا من المماليك السلطانية، وأكثر وأقل، وقاسى الملك الظاهر
من طلب المماليك أمورا عظيمة وأهوالا، ولما قلّ ما عنده من الضياع بالديار المصرية مدّ يده إلى ضياع البلاد الشّامية، ففرّق منها على أمراء مصر وأجنادهم ما شاء الله أن يفرّق.
فلما كان يوم السبت ثالث شوال شرع السلطان في تفرقة نفقة المماليك السلطانية، ففرقت في كل يوم طبقة واحدة- لقلة متحصل الخزانة الشريفة- لكل واحد مائة دينار، ولمن يستخفّون به خمسون دينارا، وبالجملة إنها فرّقت أقبح تفرقة، لعجز ظاهر، وقلة موجود، ومصادرات الناس.
ولما كان يوم الاثنين خامس شوال أنعم السلطان بالخلع على جميع أمراء الألوف، وأنعم على كل واحد بفرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، ورسم لهم بالنّزول إلى دورهم، وكان لهم من يوم قدم جانم نائب الشام إلى خانقاه سرياقوس مقيمين بجامع القلعة، وكذلك القضاة، فنزل الجميع إلا الخليفة فإنه دام بقلعة الجبل إلى يوم تاريخه، وأظن ذلك صار عادة ممّن يلى الملك بعده.
وفي هذه الأيام استقرّ خيربك القصروى نائب قلعة الجبل في نيابة غزّة بعد عزل بردبك السيفى سودون من عبد الرحمن، ورسم السلطان أن يفرج عن الملك العزيز يوسف ابن الملك الأشرف برسباى، وعن الملك المنصور عثمان ابن الملك الظاهر جقمق من محبسهما ببرج الإسكندرية، ورسم لهما أن يسكنا بأى مكان اختارا بالثغر المذكور، ورسم أيضا بكسر قيد الملك المؤيّد أحمد ابن الأشرف إينال.
وفي يوم الأربعاء سابعه ماجت مماليك الأمراء، ووقفوا في جمع كبير بالرّميلة، يطلبون نفقات أستاذيهم، لينفق أستاذ كل واحد منهم في مماليكه، وكان السلطان أخّر نفقات الأمراء إلى أن تنتهى نفقة المماليك السلطانية، وكانت العادة تفرقة النفقة على الأمراء قبل المماليك، فلما بلغ السلطان ذلك شرع في إرسال النفقة إلى الأمراء، وقد ذكرنا قدر ما أرسل لكل واحد منهم في تاريخنا «الحوادث» .
ثم في يوم الخميس ثامن شوال استقر الأمير قانم المؤيّدى أمير مجلس عوضا عن قرقماس الأشرفى، بحكم انتقاله إلى إمرة سلاح قبل تاريخه، واستقرّ الأمير بيبرس
خال العزيز رأس نوبة عوضا عن قانم، واستقرّ يلباى الإينالى المؤيّدى حاجب الحجاب عوضا عن بيبرس المذكور، ولبس الأمير جانبك الدوادار خلعة الأنظار المتعلقة بوظيفته، ونزل في موكب هائل.
ثم في يوم الأحد حادى عشره وصل الأمير تمربغا الظاهرى الدّوادار الكبير- كان- من مكة المشرفة بطلب إلى القاهرة، وأظنه كان خرج من مكة قبل أن يأتيه الطلب، وطلع إلى القلعة، وقبّل الأرض، وخلع السلطان عليه كامليّة بمقلب سمّور، ونزل إلى داره التي بناها وجدّدها المعروفة قديما بدار منجك، وكان الأمير جانبك الدّوادار قبل مجىء الأمير تمربغا عظيم المماليك الظاهرية، فلما حضر تمربغا هذا وجلس فوق الأمير جانبك، لكونه كان أغاته بطبقة المستجدة أيام أستاذه، ولعظمته في النفوس وسبقه للرئاسة، صار هو عظيم المماليك الظاهرية، وركضت ريح جانبك قليلا، واستمر على ذلك.
وفي يوم الأربعاء رابع عشره تسحّب الأمير زين الدين عبد الرحمن بن الكويز ناظر الخاص الشريف بعد أن قام «1» بالكلف السلطانية أتمّ قيام، أعنى بذلك عن الخلع التي خلعها السلطان في أول سلطنته، وكانت خارجة عن الحد كثرة، ثم عقيب ذلك خلع عيد الفطر بتمامها وكمالها، وبينهما مسافة يسيرة من الأيام، ولم يظهر العجز في ذلك جميعه يوما واحدا إلى أن طلب منه السلطان من ثمن البهار مائة ألف دينار لأجل النفقة السلطانية، فعجز حينئذ وهرب.
واستقرّ عوضه في نظر الخاص القاضى شرف الدين الأنصارى، وباشر هو أيضا أحسن مباشرة، وقام بالنفقة السلطانية هو والأمير جانبك الدّوادار، وتنم رصاص أتمّ قيام، أعنى أنهم اجتهدوا في تحصيل المال من وجوه كثيرة.
هذا ما وقع للملك الظاهر خشقدم من يوم تسلطن إلى يوم تاريخه محررا.
ومن الآن نشرع في ذكر نوادر الحوادث إلى أن تنتهى ترجمته خوفا من الإطالة والملل فنقول:
ولما كان يوم الاثنين ثالث ذى القعدة استقرّ القاضى نجم الدين يحيى بن حجّى في نظر الجيش بعد أن صرف القاضى زين الدين بن مزهر عنها.
وفي يوم خامس عشر ذى القعدة عيّن السلطان تجريدة إلى قبرس نجدة لمن بها من العساكر الإسلامية، ثم بطل ذلك بعد أيام.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه استقرّ الصفوى جوهر التركمانى زماما وخازندارا عوضا عن لؤلؤ الأشرفى الرومى.
وفي يوم الخميس سادس عشرين ذى الحجة أمسك السلطان بالقصر السلطانى بالقلعة جماعة من أمراء الألوف وغيرهم من الأشرفية، وهم: بيبرس خال العزيز رأس نوبة النوب، وجانبك من أمير الظريف الدّوادار الثانى وأحد أمراء الألوف، وجانبك المشد أحد أمراء الألوف أيضا.
وأمسك من أمراء الطبلخانات والعشرات جماعة أيضا، مثل: قانم طاز الخازندار الكبير، ونوروز الإسحاقى، وبرسباى الأمير آخور، وكرتباى، ودولات باى سكسن، وأبرك البچمقدار، وكلّهم عشرات إلا قانم طاز [فإنه]«1» أمير طبلخاناه.
فلما سمعت خچداشيتهم بذلك ثاروا، ووافقهم المماليك الأشرفية الإينالية، وجماعة من الناصرية، وتوجهوا الجميع إلى الأمير الكبير جرباش المحمدى الناصرى، وهو مقيم يوم ذاك بتربة الملك الظاهر برقوق التي بالصحراء، وكان في التربة في مأتم ابنته التي ماقت قبل تاريخه بأيّام، واختفى جرباش المذكور منهم اختفاء ليس بذاك، فظفروا به وأخذوه، ومضوا به إلى بيت قوصون الذي سدّ بابه الآن من الرّميلة تجاه باب السلسلة، ومروا به من باب النصر من شارع القاهرة، وبين يديه جماعة من أمراء الأشرفية وغيرهم، وعليهم آلة الحرب، وقد لقبوه بالملك الناصر على لقب أستاذه الناصر فرج بن برقوق، ولما وصلوا إلى بيت قوصون أجلسوه بمقعد البيت.
وعند ما جلس بالمقعد ظهر على الأشرفية وغيرهم اختلال أمرهم لاختلاف كلمتهم من سوء آرائهم المفلوكة، ولعدم تدبيرهم، فإن الصّواب كان جلوسه بالتربة المذكورة، إلى أن يستفحل أمرهم، وأيضا إنهم لما أوصلوه إلى بيت قوصون ذهب غالبهم ليتجهز للقتال، وبقى جرباش في أناس قليلة.
وأما الملك الظاهر خشقدم فإنه لما بلغ الملك الظاهر والظاهرية أمرهم طلعوا بأجمعهم إلى القلعة، وانضم عليهم أيضا خلائق، لعظم شوكة السلطنة من خچداشية السلطان المؤيدية وغيرهم، وأخذوا السلطان ونزلوا به من القصر إلى مقعد الإسطبل السلطانى أعلى باب السلسلة، وعليهم السلاح، ودقت الكئوسات بالقلعة، وشرعوا في القتال.
وبينما هم في تناوش قتال جرباش، وقد رأى جرباش أن أمره لا ينتج منه شىء، تدارك فرطه، وقام من وقته، وركب وطلع إلى القلعة طائعا إلى السلطان، وقبّل الأرض واعتذر بالإكراه، فقبل السلطان منه عذره «1» ، وفي النفس من ذلك شىء، وانهزمت الأشرفية الكبار.
وهذا ذنب ثان للأشرفية عند السلطان- والذنب الأول قصة خچداشهم جانم والثانى هذا- وانهزم جميع من كان انضم على جرباش المذكور، وتوجّه كلّ منهم إلى حال سبيله، فتجاهل السلطان عليهم، وزعم أنه قبل أعذارهم إلى أن تمّ أمره، فمدّ يده يمسك وينفى، ويكتب إلى التجاريد والسّخر، إلى أن أبادهم.
ثم في يوم الجمعة سابع عشرين ذى الحجة المذكور أخذوا الأمراء الممسوكين، ونزلوا بهم إلى حبس الإسكندرية.
وفي يوم الاثنين سلخ ذى الحجة خلع السلطان على جميع أمراء الألوف، كل واحد كاملية بمقلب سمّور، وأنعم على الأمير تمربغا الظاهرى القادم من مكّة بإمرة مائة وتقدمة
ألف بالديار المصرية، عوضا عن جانبك المشد، بحكم حبسه، وخلع عليه باستقراره رأس نوبة النوب، عوضا عن بيبرس خال العزيز، وأنعم بإقطاع بيبرس على يلباى المؤيّدى الحاجب لكونه أكثر متحصلا من إقطاعه، وأنعم بإقطاع يلباى على خچداشه قانى بك المحمودى المؤيدى، أحد أمراء دمشق الألوف كان.
وفيه أيضا استقرّ الأمير جانبك الإسماعيلى المؤيدى المعروف بكوهيّة دوادارا ثانيا، عوضا عن جانبك الظريف على إمرة عشرة، وكان جانبك الظريف وليها على تقدمة ألف.