الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الوقعة التي خلع فيها السلطان الملك الظاهر أبو سعيد تمربغا من الملك
ولما دخل الملك الظاهر تمربغا إلى الخرجة المقدم ذكرها وجلس بها سمع بالقصر بعض هرج بخارج القصر، فسأل عن الخبر، فقيل له ما معناه: الأجلاب بينهم كلام، فراب السلطان ذلك، فطلب خيربك الدّوادار، فدخل عليه، فأخذ السلطان يتكلم معه وهو يتبرّم من وجع رجليه على ما زعم، ولم يطل جلوسه عند السلطان، وخرج إلى خارج القصر، فعظم الهرج بالقصر، فأزعج السلطان ذلك، فقام وخرج إلى القصر، فلم يجلس به إلا يسيرا وأشار عليه بعض أصحابه بالدخول إلى الخرجة، فعاد إليها، وطلب الأمير خشكلدى البيسقى رأس نوبة النوب وسأله عن أمر هؤلاء، فذكر أنه لا يعرف ما هم فيه.
وقام السلطان وصلى العشاء داخل الخرجة، وهذا بخلاف العادة، وصلى خشكلدى معه، ثم خرج وقد عظم الهرج، وضرب أصحاب خيربك الأمير طرباى المحتسب أحد أصحاب كسباى الدّوادار ضربا مبرّحا أشفى منه على الهلاك، ونالوا من كسباى أيضا، وضربوه ضربا ليس بذاك، كل ذلك لدفع كسباى وطرباى المكروه عن السلطان.
وكان من الاتفاق الغريب أن الچراكسة أصحاب كسباى لم يطلع منهم في تلك الليلة إلا أناس قليلة، وطلع من أصحاب خيربك جنس أبزة خلائق باتفاق من خيربك، فلما وقع ذلك تحقّق الملك الظاهر تمربغا وقوع شىء، ولم يسعه إلا السكات.
وكان عند السلطان جماعة من خچداشيته الأمراء، والسلطان ومن عنده كالمأسورين في يد الأجلاب، ثم تفرقت الأجلاب إلى الأطباق بقلعة الجبل، ولبسوا آلة
الحرب وعادوا إلى القصر بقوّة زائدة وأمر كبير، وتوجه بعضهم لإحضار الخليفة، وتوجه بعضهم انهب الحريم السلطانى بداخل الدور، ثم أغلق باب الخرجة من قبل السلطان كأنه مخافة من هجوم بعض الأجلاب عليه.
ثم وقعت «1» أمور سمعناها بالزائد والناقص على قدر الروايات؛ فإننا لم نحضر شيئا من ذلك، وآل الأمر إلى الدخول على السلطان وإخراج خچداشيته من عنده، ثم أرادوا إخراج من بقى عنده من السقاة، فمنعهم السلطان من ذلك قليلا، ثم سكت، فأخرجوهم، وبقى السلطان في جماعة يسيرة من مماليكه وغيرهم.
ثم بعد ساعة دخل على السلطان ثلاثة أنفار من الجلبان ملبسة وهم ملثمون، وأرادوا منه أن يقوم وينزل إلى المخبأة التي تحت الخرجة، فامتنع قليلا، ثم قام معهم مخافة من الإخراق، وأخذوه وأنزلوه إلى المخبأة من غير إخراق ولا بهدلة، وأنزلوا فرشا ومقعدا، ونزل معه بعض مماليكه وبعض الأجلاب أيضا، وأغلقوا عليه الطابقة، وأخذوا النّمچة والدرقة والفوطة ودفعوهم إلى خيربك، بعد أن أطلقوا عليه اسم سلطان، وباس له الأرض جماعة من أعيان الأمراء، وقيل إنهم لقبوه بالملك العادل، كل ذلك بلا مبايعة ولا إجماع الكلمة على سلطنته، بل بفعل هذه الأجلاب الأوباش، غير أن خيربك لما أخذ النّمچة والدّرقة حدثته نفسه بالسلطنة، وقام وأبعد في تدبير أمره وتحصين القلعة.
وأما الملك الظاهر تمربغا لم يتمّ جلوسه بالمخبأة حتى أنزلوا عنده جماعة كبيرة من خچداشيته الأمراء واحدا بعد واحد حتى تكمل عدتهم ثمانية أو تسعة، وهم: الأمير تمر حاجب الحجاب، وبرقوق المشد، وبرسباى قرا الخازندار، وأزبك ناظر الخاص، وتغرى بردى ططرنائب القلعة، وقانى باى الساقى، وقانى بك، وقجماس، واثنان آخران «2» وقعد عندهم جماعة من الأجلاب كما تقدم ذكره.
وأما الأمير بردبك هجين الأمير آخور الكبير فإنه بلغه الخبر في أوائل الأمر فلم يكذب ما سمع، ونزل من الإسطبل السلطانى من وقته، وأرسل أعلم الأتابك قايتباى بما وقع، فركب الأتابك في الحال هو وأصحابه وخچداشيته وقد انضم عليه الأشرفية الكبار والأشرفية الصغار بعد أمور وقعت، فحضر الأتابك قايتباى إلى بيت قوصون الذي سدّ بابه من تجاه القلعة، فلم يكد جلوس السلطان الملك الظاهر تمربغا بالمخبأة إلا وقد انتشر أصحاب قايتباى بالرملة «1» ، ورآهم السلطان الملك الظاهر تمربغا من شباك المخبأة المطل على الرملة في جمع كثير، وذلك قبل نصف الليل، لأن إنزال الملك الظاهر تمربغا إلى المخبأة كان بالتقريب قبل ثلث الليل الأخير «2» ، والخبر الذي ورد على الأمير بردبك هجين كان بعد عشاء الآخرة.
وأما خيربك الدوادار الكبير فإنه لما أخذ النّمچة والدّرقة شرع في إصلاح أمره ليتم له ما أراد من ملك مصر، ونزل إلى الإسطبل السلطانى في جمع كبير من خچداشيته الأجلاب، ووقف بداخل باب السلسلة يترقّب من يجيء إليه من الرملة.
والذي بلغنى من غير ثقة أن جماعة من الطوائف المشهورة كانوا وافقوه على أن يفعل ما فعل، وأنهم معه على السراء والضراء وفي كل ما يرومه، فلما طال وقوف خيربك ولم يطلع إليه أحد، علم أنهم خذلوه وغرروا «3» به، فندم حيث لا ينفعه الندم ولم يسعه إلا إتمام ما فعل، فعاد خيربك إلى القلعة بعد أن أمر الأجلاب أن يصعدوا على سور القلعة ويقاتلوا من بالرّملة من أصحاب قايتباى، ففعلوا ذلك، وقاتلوا قتالا جرح فيه جماعة من الفريقين، وقتل جماعة، وطلع خيربك إلى القصر وقد علم أنّ أمره تلاشى وأدبرت سعادته، وبينما هو في ذلك فرّ عنه غالب أصحابه الكبار مثل خشكلدى ومغلباى وغيرهما، فعند ذلك لم يجد خيربك بدّا من الإفراج عن الملك
الظاهر تمربغا ومن معه من خچداشيته ومماليكه، فأخرجوهم ونزل خيربك على رجل الملك الظاهر تمربغا يقبلها، ويبكى ويسأله العفو عنه، وقد أبدى من التضرّع أنواعا كثيرة، فقبل السلطان عذره، هذا وقد جلس السلطان الملك الظاهر تمربغا موضع جلوس السلطان على عادته، وأخذ النّمچة والدّرقة وقد انهزم غالب الأجلاب، ونزلوا من القلعة لا يلوى أحد منهم على أحد، كل ذلك والأتابك قايتباى بمن معه من الأمراء بالرّملة.
فلما تمّ جلوس الملك الظاهر تمربغا بالقصر على عادته أمر من كان عنده من أكابر الأمراء بالنزول إلى الأتابك قايتباى لمساعدته، والذين أرسلهم هم: الأمير جانبك قلقسيز أمير سلاح، وسودون القصروى، وتنبك المعلّم، فهؤلاء الثلاثة وأمثالهم كانوا عند خيربك في وقت مسك الملك الظاهر تمربغا وفي قبضته، وقد أظهروا له الطاعة إما غصبا على ما زعموا، وإما رضى على ما زعم بعضهم.
ثم أرسل [السلطان]«1» بمن كان عنده ومحبوسا «2» معه مثل الأمير تمر حاجب الحجاب وبرقوق شاد الشراب خاناه وغيرهما، وكان إنزال هؤلاء الأمراء إلى الأتابك قايتباى هفوة من الملك الظاهر تمربغا، فإنه لو لم يكن نزولهم ما كان ينبرم للأتابك قايتباى في غيبتهم أمر.
كل ذلك والخلائق تطلع إلى الملك الظاهر تمربغا أفواجا أفواجا تهنئه بالنصر وبعوده إلى ملكه، والعساكر وقوف بين يديه.
وطلع السيفى تنم الأجرود الظاهرى الخاصكى إلى السلطان، فلما رأى خيربك الدّوادار واقفا بين يدى السلطان أراد قتله بالسّيف، فمنعه الملك الظاهر من ذلك، ثم أمر بحبسه داخل خزانة الخرجة فحبس بها.
ولما تم أمر الأتابك قايتباى من قتال الأجلاب وانتصر طلع بمن معه إلى باب
السّلسلة، وجلس بمقعد الإسطبل، وكان لهج بعض الأمراء عند طلوع قايتباى إلى الإسطبل بأن قال:«الله ينصر الملك الناصر قايتباى» ، وسمع بعض الناس ذلك.
ولما جلس الأتابك قايتباى بمقعد الحرّاقة بتلك العظمة الزائدة كلمه بعض الأمراء في السّلطنة، وحسّنوا له ذلك، فأخذ يمتنع امتناعا ليس بذاك، إلى أن قام بعضهم وقبّل الأرض له، وفعل غيره كذلك، فامتنع بعد ذلك أيضا، فقالوا:
«ما بقى يفيد الامتناع، وقد قبّلنا لك الأرض فإما تذعن وإما نسلطن غيرك» .
فأجاب عند ذلك.
فقال بعض الظّرفاء: «جلوسه بالمقعد والملك الظاهر تمربغا بالقصر كان ذلك إجابة منه، وإلا لو لم يكن له غرض في ذلك كان طلع إلى القصر عند السلطان دفعة واحدة» .
فلما تمّ أمر الأتابك قايتباى في السلطنة طلع الأمير يشبك من مهدى الظاهرى الكاشف بالوجه القبلى إلى الملك الظاهر تمربغا، وعرّفه بسلطنة قايتباى، وأخذه ودخل به إلى خزانة الخرجة الصغيرة، وقد حبس بها خيربك قبل ذلك كما تقدم.
ولما استقرّ الملك الظاهر تمربغا بالخزانة المذكورة كلّمه يشبك من مهدى في أنه يتوجه إلى البحرة أو هو أراد، فقبل أن يقوم من مجلسه تناول يشبك من يده النّمچة والدّرقة ودفعهما إلى تمراز الأشرفى، فأخذهما تمراز وتوجّه إلى الأتابك قايتباى، وقام الملك الظاهر تمربغا وتوجّه في الحال إلى البحرة مكرما مبجلا، وبين يديه يشبك من مهدى المذكور وغيره، وسار إلى البحرة من داخل الحريم السلطانى، وجلس بالبحرة.
وتمّ أمر قايتباى في السلطنة حسبما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
واستمرّ جلوس الملك الظاهر تمربغا بالبحرة وأصحابه وحواشيه تتردّد إليه من غير مانع يمنعهم من ذلك، والملك الأشرف قايتباى يظهر تعظيمه وإكرامه بكل ما تصل قدرته إليه.
فلما كان ليلة الأربعاء ثامن شهر رجب المذكور رسم السلطان الملك الأشرف بسفره إلى ثغر دمياط برغبة الملك الظاهر تمربغا في ذلك، فلما كان بين العشاءين من ليلة الأربعاء خرج الملك الظاهر تمربغا من قاعة البحرة وفي خدمته الخدّام وغيرهم، وسار من الحوش السلطانى إلى داخل الحريم، وعرف الملك الأشرف قايتباى وقت خروجه من البحرة، فقام من خرجة القصر مسرعا في مشيه إلى أن وافى الملك الظاهر تمربغا بدهليز الدّور السلطانية عند الشيخ البردينى، فبادره السلطان الملك الأشرف قايتباى بالسّلام، فاعتنقه وأهوى إلى يده ليقبلها، فمنعه الملك الظاهر تمربغا من ذلك، ثم أخذ الأشرف في الاعتذار له مما وقع منه، والملك الظاهر يقبل منه عذره «1» ، ويظهر له الفرح التام بسلطنته، لأنه خچداشه، وآمن على نفسه في دولته، هذا والملك الأشرف مستمرّ على إكرامه وتعظيمه إلى غاية ما يكون، ثم تكلّم معه سرّا في خلوة؛ لأن السلطان كان حضر معه الأتابك جانبك قلقسيز، ويشبك من مهدى، وتمر حاجب الحجاب، وجماعة أخر من خواصّ الملكين وخچداشيتهما، وطال الوقوف بينهما ساعة جيدة، ثم تعانقا وتباكيا، وافترقا على أحسن وجه وأجمل حال.
ثم نزل الملك الظاهر تمربغا وركب فرسا كعادته من خيله الجياد بعد أن ودعه أيضا الأمراء الذين كانوا جاءوا مع الملك الأشرف، ولما قبّل الأمير يشبك من مهدى يد الملك الظاهر تمربغا دفع له ألفى دينار، وقنطارى سكر مكرر، وغير ذلك.
وسار الملك الظاهر تمربغا من القلعة إلى ساحل النيل وهو في غاية الحشمة في مسيره من غير أوجاقى يركب خلفه بالسكين كما هى عادة الأمراء ولا غير ذلك، والذين ساروا معه غالبهم كالمودعين له، فلما وصل إلى المركب نزل إليها بعد أن ودعه من كان وصل معه إلى البحر من أعيان خچداشيته الأمراء، وسافر من وقته من غير
أن يتوجه معه مسفّر من الأمراء ولا غيرهم، بل سار هو بنفسه كما يسافر الشخص إلى جهة تعلقه، وهذا بعد أن رسم له الملك الأشرف بالركوب بثغر دمياط إلى حيث أراد من سائر الجهات برّا وبحرا، وأشياء كثيرة من هذه المقولة حتى سيّر معه السلطان فرسا في المواكب.
وسافر الملك الظاهر تمربغا حتى وصل إلى ثغر دمياط ونزلها، وسكن بأحسن دورها ومعه حشمه وخدمه وبعض حرمه، ودام بالثغر إلى «1»
…